المحَرَّق في الأزرق

المحَرَّق في الأزرق

كونها‭ ‬عاصمة‭ ‬سابقة‭ ‬للبحرين‭ ‬لا‭ ‬يمنحها‭ ‬خصوصيةَ‭ ‬اعتبارها‭ ‬مكانًا‭ ‬روحيًّا‭ ‬للبشر‭. ‬فخصوصية‭ ‬المحرق‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬نَمَتْ،‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬ابنة‭ ‬البحر‭ ‬بامتياز‭. ‬فهي،‭ ‬منذ‭ ‬وعيتُها،‭ ‬موجودة‭ ‬بخيلاء‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬زرقةٍ‭ ‬تضاهي‭ ‬السماء،‭ ‬وتبزّ‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭. ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬المحرق،‭ ‬لفرط‭ ‬زرقة‭ ‬سريرتها،‭ ‬هي‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬الأصل‭.‬

2

كانت‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬في‭ ‬بحرٍ‭ ‬نراه‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬في‭ ‬النهار‭ ‬والليل،‭ ‬بحرٌ‭ ‬ينام‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وفي‭ ‬الأحلام‭.‬

حتى‭ ‬أن‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬الطفولة،‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬لكي‭ ‬يرى‭ ‬الزرقة‭ ‬أمامه‭. ‬بحرٌ‭ ‬قريبٌ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭. ‬ويندر‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬علينا‭ ‬نهارٌ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬الأزرق‭ ‬الكريم‭.‬

الآن،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬طويلًا‭ ‬لكي‭ ‬ترى‭ ‬البحر‭. ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬بعيدًا،‭ ‬ويكاد‭ ‬يكون‭ ‬حلمًا‭.‬

 

3

حسب‭ ‬علمي،‭ ‬آنذاك،‭ ‬كان‭ ‬البحر‭ ‬يزخر‭ ‬بالأسماك‭ ‬بصورة‭ ‬مدهشة،‭ ‬مكتنزًا‭ ‬بالسمك‭ ‬وكريمًا‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬وجبة‭ ‬تخلو‭ ‬منه‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬السمك‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬فحسب‭. ‬السمك‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والأسواق‭ ‬والبيوت‭ ‬وسطوح‭ ‬المنازل‭ ‬وطعام‭ ‬العائلة‭ ‬ولعب‭ ‬الأطفال‭ ‬ودفاتر‭ ‬الدرس‭. ‬كان‭ ‬السمك‭ ‬هو‭ ‬خير‭ ‬البحر‭ ‬العميم‭ ‬وثروة‭ ‬الناس‭ ‬الكثيرة‭. ‬وعندما‭ ‬يبدأ‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬تعلُّم‭ ‬الرسم‭ ‬يخطّون‭ ‬ذلك‭ ‬المثلث‭ ‬المستطيل،‭ ‬بالعين‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬والزعنفة‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬والذيل‭ ‬الذليل‭ ‬من‭ ‬هنالك‭. ‬وحينما‭ ‬يُحسن‭ ‬الطفل‭ ‬فعل‭ ‬ذلك،‭ ‬يهرول‭ ‬راكضًا‭ ‬نحو‭ ‬أمه،‭ ‬لكي‭ ‬يريها‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬يرسم‭ ‬السمكة‭ ‬التي‭ ‬يصطادها،‭ ‬ويأكلها‭.‬

 

4

يمكنني‭ ‬الزعم‭ ‬بأنني‭ ‬أتذكر‭ ‬المحرّق،‭ ‬يوم‭ ‬كانت‭ ‬سفنها‭ ‬وقواربها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬السيارات‭ ‬في‭ ‬طرقها‭ ‬المتربة‭.‬

وأتذكر‭ ‬كم‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬تستخدم‭ ‬السفن‭ ‬والقوارب،‭ ‬للتنقل‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬والانتقال‭ ‬منها‭. ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬يوم‭ ‬استقبلوا‭ ‬الحافلات‭ ‬الخشبية‭ ‬القديمة،‭ ‬اعتبروها‭ ‬من‭ ‬كائنات‭ ‬‮«‬الغابة‮»‬،‭ ‬فأطلقوا‭ ‬على‭ ‬الحافلة‭ ‬الخشبية‭ ‬القديمة‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬چنكلي‮»‬‭. ‬ربما‭ ‬لإحساسهم‭ ‬بوحشيتها،‭ ‬قياسًا‭ ‬لتآلفهم‭ ‬مع‭ ‬وسائط‭ ‬التنقل‭ ‬البحرية‭ ‬البسيطة‭.‬

ولولا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحافلات‭ ‬قد‭ ‬صُنعت‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬الخشب،‭ ‬المتصل‭ ‬بذاكرة‭ ‬البحر،‭ ‬لما‭ ‬اعتادوها‭ ‬ودجّنوا‭ ‬وحشيتها،‭ ‬معتبرين‭ ‬خطورة‭ ‬استخدامها‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬الخدش‭ ‬البغيض‭ ‬لحياتهم‭ ‬الآمنة‭. ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬عندما‭ ‬انتقلوا‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬البرّ،‭ ‬في‭ ‬مهنة‭ ‬استخراج‭ ‬النفط،‭ ‬وجاؤوا‭ ‬لهم‭ ‬بالحافلات‭ ‬الضخمة‭ ‬لنقلهم‭ ‬من‭ ‬المحرق‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬العمل‭ ‬البعيدة،‭ ‬أطلقوا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الحافلات،‭ ‬المخصصة‭ ‬لنقل‭ ‬العمال،‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬سالم‭ ‬الخطر‮»‬،‭ ‬تهوينًا‭ ‬لمغامرة‭ ‬ركوب‭ ‬تلك‭ ‬الحافلات‭ ‬المعدنية،‭ ‬بعرباتها‭ ‬الطويلة‭ ‬وكابينة‭ ‬قيادتها‭ ‬المنفصلة‭.‬

اعتاد‭ ‬أهل‭ ‬المحرق،‭ ‬آنذاك،‭ ‬استخدام‭ ‬الخشب‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬وظلوا‭ ‬يحتاجون‭ ‬بحرًا‭ ‬لانتقالاتهم‭.‬

 

5

الآن،‭ ‬ربما‭ ‬يتفهم‭ ‬البعض‭ ‬حتمية‭ ‬التغيرات‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬الطبوغرافية‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬البشريّ،‭ ‬لكن‭ ‬الجميع‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ذريعة‭ ‬لغفران‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭.‬

وعندما‭ ‬شحَ‭ ‬الماء‭ ‬العذب‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة،‭ ‬مثلما‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬البلد،‭ ‬رحنا‭ ‬نتذاكر‭ ‬خيرات‭ ‬تلك‭ ‬العيون‭ ‬الارتوازية‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬من‭ ‬جنوبها‭ ‬حتى‭ ‬شمالها،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬منابع‭ ‬يهدر‭ ‬فيها‭ ‬الماءُ‭ ‬العذبُ‭ ‬ليلًا‭ ‬ونهارًا،‭ ‬يبترد‭ ‬فيها‭ ‬الناس‭ ‬بالاستحمام‭ ‬في‭ ‬قيظهم‭ ‬والاغتسال‭ ‬فيها،‭ ‬والأهم‭ ‬كان‭ ‬تزويد‭ ‬البيوت‭ ‬بالماء‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬العيون،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬السقاؤون،‭ ‬رجالًا‭ ‬ونساء،‭ ‬ينقلون‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬البيوت،‭ ‬بمقابل‭ ‬الزهيد‭ ‬من‭ ‬نقود‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭.‬

أقول،‭ ‬عندما‭ ‬شحَّ‭ ‬ذلك‭ ‬الماء‭ ‬العذب،‭ ‬استذكرنا‭ ‬ذلك‭ ‬الهدر‭ ‬المتواصل‭ ‬بلا‭ ‬ضوابط‭ ‬وبلا‭ ‬حساب،‭ ‬وإدمان‭ ‬الناس‭ ‬الاستخدام‭ ‬غير‭ ‬الرشيد‭ ‬لتلك‭ ‬الثروة‭.‬

ثم‭ ‬جاءت‭ ‬أساليب‭ ‬التعمير‭ ‬الحديث‭ ‬غير‭ ‬المتبصر،‭ ‬ليحدث‭ ‬العطب‭ ‬في‭ ‬مخازن‭ ‬المياه‭ ‬الجوفية،‭ ‬فأدت‭ ‬تلك‭ ‬المشاريع‭ ‬العمرانية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬المتسارعة،‭ ‬إلى‭ ‬تخريب‭ ‬مخازن‭ ‬بحيرات‭ ‬المياه‭ ‬العذبة،‭ ‬حتى‭ ‬أدت‭ ‬بحياتنا‭ ‬إلى‭ ‬التخبط،‭ ‬مثل‭ ‬أسماكٍ‭ ‬في‭ ‬‮«‬أحواض‭ ‬جافة‮»‬‭.‬

لكأننا‭ ‬الضحيةُ‭ ‬المستدامة‭ ‬للجهلوت‭ ‬العارم‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬بثرواتنا‭ ‬المائية‭ ‬إلى‭ ‬تهلكة‭ ‬تشرف‭ ‬بِنَا‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬لا‭ ‬يُشرب‭ ‬ولا‭ ‬يستعاد‭.‬

دون‭ ‬أن‭ ‬يشغلنا‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬التحولات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والحاجات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فيما‭ ‬تتفاقم‭ ‬حاجة‭ ‬الناس،‭ ‬فيما‭ ‬يتزايد‭ ‬نسلهم‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬للمعيش‭ ‬والسكن،‭ ‬رجاة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬اليابسة‭ ‬التي‭ ‬تتسع‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬رحمة‭ ‬لحاجة‭ ‬الناس‭ ‬وأبنائهم‭ ‬وهم‭ ‬ينزحون‭ ‬إلى‭ ‬مستقبلهم‭.‬

 

6

ابنة‭ ‬البحر‭ ‬الآن‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬الثواكل‭ ‬والأرامل،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬صارت‭ ‬يتيمة‭ ‬البحر‭. ‬فقد‭ ‬أخذ‭ ‬التغيّر‭ ‬الطبوغرافي‭ ‬منها‭ ‬مأخذه،‭ ‬ونال‭ ‬منها‭ ‬الجشعُ‭ ‬كبير‭ ‬المنكعين،‭ ‬مثل‭ ‬فقدٍ‭ ‬مقدّر،‭ ‬وباتَ‭ ‬الماءُ‭ ‬الأزرق‭ ‬مردومًا‭ ‬برمل‭ ‬الأعماق،‭ ‬حتى‭ ‬يبست‭ ‬الأرضُ‭ ‬الحديثة،‭ ‬واتسعت‭ ‬لمن‭ ‬يضع‭ ‬عليها‭ ‬الكلكل‭ ‬الثقيل‭ ‬كله،‭ ‬مخافة‭ ‬أن‭ ‬تضيق‭ ‬على‭ ‬غيره،‭ ‬فيتعرّض‭ ‬البحر‭ ‬لفقدين؛‭ ‬فقد‭ ‬الماء‭ ‬وفقد‭ ‬الأسماك،‭ ‬تعالوا‭ ‬انظروا‭ ‬الغياب‭ ‬في‭ ‬الأسماك‭. ‬فمثلما‭ ‬شحّ‭ ‬عذبُ‭ ‬الماء،‭ ‬شحَّ‭ ‬الغذاء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ناسُ‭ ‬المحرق‭ ‬يطولونه‭ ‬بمدّ‭ ‬اليد‭ ‬في‭ ‬كَرَم‭ ‬البحر‭.‬

 

7

في‭ ‬المحرق،‭ ‬عدا‭ ‬بيت‭ ‬العائلة،‭ ‬‮«‬البيت‭ ‬العود‮»‬،‭ ‬سكنتُ‭ ‬في‭ ‬بيتين‭ ‬مختلفين،‭ ‬فبعد‭ ‬الزواج‭ ‬استأجرتُ‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬بيتًا‭ ‬بالمنطقة‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬‮«‬بوحجي‮»‬‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬المحرق،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬آخر‭ ‬بالمنطقة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬محطة‭ ‬السيارات‭ ‬القديمة‭ ‬‮«‬ستيشن‮»‬‭ ‬وحيّ‭ ‬‮«‬الحياك‮»‬‭. ‬وطوال‭ ‬الوقت‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬‮«‬البيت‭ ‬العود‮»‬،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬السلوك‭ ‬استجابةً‭ ‬لا‭ ‬شعورية‭ ‬لدفء‭ ‬العائلة‭. ‬غير‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬البيتين‭ ‬الآخرين‭ ‬كنت‭ ‬أتعرف‭ ‬مجددًا‭ ‬إلى‭ ‬المحرق‭ ‬وأكتشف‭ ‬تلافيفها‭ ‬وأستأنس‭ ‬جمال‭ ‬أهلها‭. ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬كنت‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أشعر‭ ‬بحميميتهم‭ ‬وأتناول‭ ‬معهم‭ ‬طعامهم،‭ ‬فيما‭ ‬يشربون‭ ‬من‭ ‬زرقة‭ ‬قلبي‭.‬

 

8

لعلنا‭ ‬لم‭ ‬نقرأ‭ ‬بعد‭ ‬مدينتنا‭ ‬بطريقة‭ ‬تحيط‭ ‬بها،‭ ‬ففيها،‭ ‬وهي‭ ‬تنقرض،‭ ‬ما‭ ‬يفيض‭ ‬به‭ ‬القلب‭.‬

ترى،‭ ‬هل‭ ‬نعرف‭ ‬مدينتنا‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لنا‭ ‬الزعم؟

ففي‭ ‬المحرق‭ ‬يتمثّل‭ ‬النموذجُ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نكترث‭ ‬به،‭ ‬برغم‭ ‬طاقة‭ ‬الحضارة‭ ‬فيه‭. ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬عدم‭ ‬الاكتراث‭ ‬المذهبي‭ ‬حدّ‭ ‬التماهي‭.‬

 

9‭ ‬

في‭ ‬المحرق،‭ ‬ليس‭ ‬سهلًا‭ ‬معرفة‭ ‬الشيعي‭ ‬من‭ ‬السنّي،‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬اللهجة‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬المحرق‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬اليومي‭ ‬والتداخل‭ ‬الثقافي‭ ‬والعلاقات‭ ‬الحياتية،‭ ‬فذلك‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬جعل‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المهن،‭ ‬منذ‭ ‬لحظة‭ ‬الغوص‭ ‬على‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬وتجربة‭ ‬احتمال‭ ‬الاسترقاق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعتمده‭ ‬نظام‭ ‬الغوص،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬شعور‭ ‬الجميع،‭ ‬تحت‭ ‬سماءٍ‭ ‬واحدة‭ ‬وفي‭ ‬بحرٍ‭ ‬واحد،‭ ‬شديد‭ ‬العصف‭ ‬والتحولات،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬هي‭ ‬الطريق‭ ‬الوحيدة‭ ‬إلى‭ ‬الموت،‭ ‬واكتشاف‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬الذهاب‭ ‬الجماعي‭ ‬إلى‭ ‬الموت،‭ ‬هو‭ ‬تعبيرٌ‭ ‬صارمٌ‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬الاكتراث‭ ‬الفطري‭ ‬بمذاهبَ‭ ‬تذهبُ‭ ‬جُفاء‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬المحرق‭ ‬الاختزال‭ ‬النوعي‭ ‬لبلادٍ‭ ‬برمّتها،‭ ‬تتماثل‭ ‬كلما‭ ‬تحركت‭ ‬الجراحُ‭ ‬لها‭.‬

 

10‭ ‬

الآن،‭ ‬أزعم‭ ‬القول‭ ‬بأنني،‭ ‬فجأة،‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬أن‭ ‬شيعيتي‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬مثلبة‭ ‬وعبئًا‭ ‬غير‭ ‬محمود‭ ‬على‭ ‬حياتي،‭ ‬بل‭ ‬وحياة‭ ‬الأبناء‭ ‬والأحفاد‭.‬

أنا‭ ‬الذي،‭ ‬عندما‭ ‬تزوجت‭ (‬عام‭ ‬1970‭) ‬لم‭ ‬أصادف‭ ‬مشكلًا‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬الزواج‭ ‬بمن‭ ‬أحببت،‭ ‬وكانت،‭ ‬بمحض‭ ‬المصادفة،‭ ‬سُنيّة،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬ذلك‭ ‬طويلًا،‭ ‬رغم‭ ‬الانتباهة‭ ‬العابرة‭ ‬للبعض‭ ‬في‭ ‬العائلتين،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشكّل‭ ‬ذلك‭ ‬موقفًا‭ ‬صارمًا‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬المذاهب‭.‬

ولنقل‭ ‬إن‭ ‬الوعي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬العائلتين،‭ ‬في‭ ‬‮«‬المحرق‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬أم‭ ‬الحصم‮»‬،‭ ‬وهما‭ ‬منطقتان‭ ‬ساحليتان،‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬سهّلت‭ ‬علينا‭ ‬تفادي‭ ‬الأوهام‭. ‬ومجددًا‭ ‬سوف‭ ‬أعتبر‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬المزاج‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬المنطقتين‭ ‬قد‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬صقل‭ ‬الحواس‭ ‬بالمحبة‭ ‬لدى‭ ‬الجميع‭.‬

11

بقيَ‭ ‬أن‭ ‬أستطرد‭ ‬بالقول‭ ‬بأن‭ ‬شرارة‭ ‬الحب‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬ذلك‭ ‬الولد‭ ‬وتلك‭ ‬البنت‭ ‬قد‭ ‬انطلقتْ‭ ‬في‭ ‬هواء‭ ‬المحرق،‭ ‬تحت‭ ‬سمائها‭ ‬وفي‭ ‬زرقة‭ ‬بحرها،‭ ‬عام‭ ‬1965‭.‬

 

12

ولكي‭ ‬تكتمل‭ ‬أسطورة‭ ‬المحرق،‭ ‬ابنة‭ ‬البحر‭ ‬وهبته،‭ ‬ولكي‭ ‬تقوى‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬على‭ ‬اختزال‭ ‬الجزيرة‭ ‬الأم،‭ ‬برمزية‭ ‬بالغة‭ ‬الدلالة،‭ ‬رأيتُ‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬شعبية‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬معاناة‭ ‬الواقع‭ ‬وجماليات‭ ‬الخيال،‭ ‬تلك‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬تضع‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬الحضاري‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬حركية‭ ‬العمل‭ ‬وطبيعة‭ ‬الإنتاج‭ ‬الاجتماعي‭.‬

فقد‭ ‬نشأ‭ ‬جيلنا‭ ‬يسمع،‭ ‬ضمن‭ ‬الأهازيج‭ ‬الشعبية،‭ ‬أهزوجة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬خور‭ ‬المدّعي‮»‬‭.  ‬ومن‭ ‬المصادفات‭ ‬التي‭ ‬أحببتها،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬المحرق‭ ‬والاتصال‭ ‬العاطفي‭ ‬بأم‭ ‬الحصم،‭ ‬التي‭ ‬تزوجتُ‭ ‬إحدى‭ ‬فتياتها،‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأهزوجة‭ ‬البسيطة‭ ‬الغامضة‭ ‬تتكلم‭ ‬عن‭ ‬‮«‬موزة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تزوجتها‭. (‬يا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مصادفة‭ ‬فاتنة‭).‬

لكنّ‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية،‭ ‬تلك‭ ‬الدلالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الباهرة‭ ‬لدور‭ ‬المرأة‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭.‬

بالطبع،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬القبول‭ ‬المتنوع‭ ‬للمواد‭ ‬التراثية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬تعدد‭ ‬الدلالات‭ ‬الرمزية،‭ ‬سوف‭ ‬يجري‭ ‬تفسير‭ ‬وتأويل‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬موزة‮»‬‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬اتجاه‭ ‬وبمختلف‭ ‬المفاهيم‭ ‬والحساسيات‭ ‬الاجتماعية‭.‬

 

13

تقول‭ ‬الأهزوجة‭: (‬يا‭ ‬خور‭ ‬المدّعي‭/ ‬بالك‭ ‬تغرّق‭ ‬موزة‭/ ‬موزة‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬أبوها‭ ‬تبيع‭ ‬وتشتري‭/ ‬يا‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬اعملي‭)‬

تقول‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬البحار‭ ‬كان‭ ‬يمتهن‭ ‬صيد‭ ‬السمك،‭ ‬معتمدًا‭ ‬على‭ ‬‮«‬حضرة‮»‬‭ ‬للصيد،‭ ‬و»الحضرة‮»‬‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬صيد‭ ‬السمك‭ ‬التقليدية،‭ ‬حيث‭ ‬تُنصَب‭ ‬على‭ ‬السواحل،‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬البدائية‭ ‬القديمة،‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬مثلث‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬جريد‭ ‬النخيل،‭ ‬أعوادًا‭ ‬مغروسةً‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الساحل،‭ ‬المثلث‭ ‬مفتوح‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الأرض‭ ‬ورأسه‭ ‬المقوسة‭ ‬أو‭ ‬المثلثة‭ ‬ناحية‭ ‬البحر،‭ ‬بطريقة‭ ‬هندسية‭ ‬تمنع‭ ‬الأسماك‭ ‬عن‭ ‬العودة‭ ‬عندما‭ ‬يتراجع‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الجزر،‭ ‬فيأتي‭ ‬راعي‭ ‬‮«‬الحضرة‮»‬‭ ‬ليأخذ‭ ‬الأسماك‭ ‬المتجمعة‭ ‬في‭ (‬حوش‭/ ‬حضن‭) ‬الحضرة‭. ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬توضع‭ ‬الحضرة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬قليلًا،‭ ‬بحيث‭ ‬يحتاج‭ ‬راعي‭ ‬الحضرة‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬القارب‭ ‬الصغير‭ ‬لجمع‭ ‬الصيد‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحضرة‮»‬‭.‬

تقول‭ ‬الحكاية؛‭ ‬عن‭ ‬وفاة‭ ‬صاحب‭ ‬إحدى‭ ‬‮«‬الحضور‮»‬‭ (‬جمع‭ ‬حضرة‭)‬،‭ ‬وبسبب‭ ‬فقر‭ ‬العائلة،‭ ‬تضطر‭ ‬ابنته‭ ‬‮«‬موزة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مواصلة‭ ‬العمل‭ ‬بعده،‭ ‬وتواصل‭ ‬دخول‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬قاربها‭ ‬لجني‭ ‬محصول‭ ‬عمل‭ ‬والدها،‭ ‬مواصلةً‭ ‬الحياة‭ ‬بالمهنة‭ ‬نفسها‭. ‬

 

14

تقول‭ ‬الحكاية؛‭ ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬كانت‭ ‬الأمثولة‭ ‬التي‭ ‬أدهشتْ‭ ‬الأهالي،‭ ‬لكنها‭ ‬أثارتْ‭ ‬بعض‭ ‬الطامعين‭ ‬في‭ ‬نهب‭ ‬جهد‭ ‬الرجل‭ ‬وخيره،‭ ‬لكونها‭ ‬مصدر‭ ‬عيش‭ ‬متاحًا‭. ‬

تضيف‭ ‬الحكاية؛‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬أعلن‭ ‬سلطته‭ ‬في‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬الحضرة،‭ ‬وادّعاء‭ ‬ملكية‭ ‬الحضرة‭ ‬بدينٍ‭ ‬قديمٍ‭ ‬على‭ ‬صاحبها،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬سند‭ ‬مقنع‭. ‬وبدأ‭ ‬الأهالي‭ ‬يدعمون‭ ‬‮«‬موزة‮»‬‭ ‬ضد‭ ‬ادّعاء‭ ‬النهب‭ ‬الكاذب‭.‬

فتأتي‭ ‬السليقة‭ ‬الشعبية‭ ‬لتروي‭ ‬الحكاية‭ ‬وتنشدها‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬اجتماعية‭ ‬مختلفة،‭ ‬طالبة‭ ‬من‭ ‬الرأفة‭ ‬‮«‬الخور‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬خليجٍ‭ ‬صغير‭ ‬عميقٍ‭ ‬داخل‭ ‬البلد،‭ ‬ويكون‭ ‬عادة‭ ‬صالحًا‭ ‬للصيد،‭ ‬وعطفًا‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬الحميمة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬أهل‭ ‬المحرق‭/ ‬البحرين،‭ ‬سيجوز‭ ‬لهم‭ ‬مكالمة‭ ‬البحر‭ ‬والعتب‭ ‬عليه‭ ‬وزجره‭ ‬أيضًا،‭ ‬بل‭ ‬وكيّه‭ ‬بالنار‭ ‬أحيانًا‭.‬

وحين‭ ‬نتذكر‭ ‬أهزوجة‭ ‬نساء‭ ‬الخليج‭ ‬وهنَّ‭ ‬يطلبن‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬رجالهن‭ ‬سالمين،‭ ‬كلما‭ ‬تأخرتْ‭ ‬عودتهم‭ ‬من‭ ‬الغوص،‭ ‬مرددات‭ ‬الأهزوجة‭ ‬المشهورة‭ ‬‭(‬توب‭ ‬توب‭ ‬يا‭ ‬بحر‭)‬،‭ ‬ستزجر‭ ‬النساءُ‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ (‬خور‭ ‬المدعي‭)‬،‭ ‬‮«‬بالك‭ ‬تغرّك‭ ‬موزة‮»‬‭. ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذكرنَ‭ ‬شخص‭ ‬‮«‬المدّعي‮»‬‭.‬

 

15

بقيتْ‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حكاية‭ ‬دخول‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬لرعاية‭ ‬‮«‬حضرتها‮»‬،‭ ‬ذكرتْ‭ ‬الرواياتُ‭ ‬أنها‭ ‬حدثتْ‭ ‬في‭ ‬المحرق،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬‮«‬الحد‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أصدقاء‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحد‮»‬‭ ‬أكدوا‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬دخول‭ ‬النساء‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬مبارات‮»‬‭ / ‬رعاية‭ ‬‮«‬حضور‮»‬‭ ‬السمك،‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬حتى‭ ‬سنوات‭ ‬قريبة‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬‮«‬الحد‮»‬‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬زعم‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬شخصيًّا‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحد‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬بذلك‭ ‬العمل‭ ‬كمصدر‭ ‬عيش‭ ‬لعائلتها،‭ ‬حتى‭ ‬أوائل‭ ‬السبعينيات‭.‬

بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬يتأكد‭ ‬لنا‭ ‬كم‭ ‬أنّ‭ ‬المحرق‭ ‬ستحمل‭ ‬عبء‭ ‬تمثيلها‭ ‬الرمزي‭ ‬لعموم‭ ‬مناطق‭ ‬البحرين‭. ‬

وهنا‭ ‬سيكون‭ ‬للمرأة‭ ‬الموقع‭ ‬الحضاري‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬الحياة‭ ‬وصقلها‭ ‬بالعمل‭ ‬بجانب‭ ‬الرجل‭ ‬حاضرًا‭ ‬أو‭ ‬غائبًا‭.‬

 

16

وربما‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬لنا‭ ‬ظاهرة‭ ‬تحوّل‭ ‬بيوت‭ ‬المحرق،‭ ‬بعد‭ ‬ذهاب‭ ‬الرجال‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬للغوص،‭ ‬إلى‭ ‬ورش‭ ‬عمل‭ ‬متنوعة‭ ‬المهن،‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬كأسباب‭ ‬لتوفير‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭. ‬فإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تربية‭ ‬الدواجن‭ ‬والحيوانات‭ ‬الأليفة،‭ ‬ثمة‭ ‬الخياطة‭ ‬وصناعة‭ ‬البهارات‭ ‬وغسل‭ ‬ملابس‭ ‬أفراد‭ ‬العائلات‭ ‬المقتدرة‭. ‬بل‭ ‬أعرف‭ ‬عائلات‭ ‬فقيرة‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬نساؤها‭ ‬يعملن‭ ‬خادمات‭ ‬عند‭ ‬الأسر‭ ‬الغنية‭.‬

وهذا‭ ‬أمر‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬يؤخذ‭ ‬في‭ ‬الحسبان،‭ ‬عندما‭ ‬يجري‭ ‬درس‭ ‬تجربة‭ ‬التاريخ‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬البحرين‭.‬

ففي‭ ‬المحرق‭ ‬النموذج‭ ‬الأكثر‭ ‬وضوحًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬نحن‭ ‬تأملنا‭ ‬كيف‭ ‬اشتهرت‭ ‬بعض‭ ‬العائلات‭ ‬المتخصصة‭ ‬ببعض‭ ‬المهن،‭ ‬واتخذت‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬الحرفة‭ ‬لقبًا‭ ‬أو‭ ‬كنية‭ ‬تميزها‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ربما‭ ‬سنجد‭ ‬بعض‭ ‬نساء‭ ‬تلك‭ ‬العائلات‭ ‬تُحسِنَّ‭ ‬الحرفة‭ ‬نفسها‭ ‬بشكلٍ‭ ‬ما‭.‬

 

17

لستُ‭ ‬ممن‭ ‬يحنّون‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭. ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬الماضي‭ ‬إلا‭ ‬بوصفه‭ ‬تاريخًا‭ ‬مضى،‭ ‬وأحب‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يمضي‭ ‬دائمًا،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬الذهاب‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الآخر‭... ‬المستقبل‭. ‬

هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬شديدة‭ ‬الغموض‭ ‬والباعثة‭ ‬على‭ ‬الوجل،‭ ‬لئلا‭ ‬أقول‭ ‬الخوف‭: ‬المستقبل،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬إليه،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭.‬

 

18

المحرق‭ ‬هي‭ ‬الجزء‭ ‬الأكثر‭ ‬توغلًا‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬والكتابة‭ ‬عنها‭ ‬ليست‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬استعادتها،‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬أحب‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬مكانها‭ ‬هناك،‭ ‬مكانها‭ ‬المناسب،‭ ‬الرصين‭ ‬والمحترم،‭ ‬رجاةَ‭ ‬ألا‭ ‬يعبث‭ ‬بها‭ ‬سكانها‭ ‬الجدد‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬سكانها‭ ‬السابقين‭ ‬يتركونها،‭ ‬هجرة‭ ‬أو‭ ‬انقراضًا،‭ ‬فمن‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬أن‭ ‬يقطنها‭ ‬سكان‭ ‬آخرون،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف،‭ ‬فمن‭ ‬يبقى‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الأحفاد‭ ‬أقل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الغرباء‭.‬

لكنّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الغرباء‭ ‬بشر‭ ‬أيضًا،‭ ‬كائنات‭ ‬إنسانية‭ ‬مثلنا،‭ ‬غير‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬يأتون‭ ‬إليها‭ ‬بغير‭ ‬رغبتهم‭ ‬لا‭ ‬باختيارهم‭.‬

المحرق،‭ ‬إذن،‭ ‬هي‭ ‬ضربٌ‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭ ‬الناس،‭ ‬ومنها‭ ‬ينشأ‭ ‬التاريخ‭ ‬وتتشكل‭ ‬الجغرافيا‭ ‬البشرية‭. ‬وأرى‭ ‬في‭ ‬التشبث‭ ‬بما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي،‭ ‬عمرانًا‭ ‬وهندسة‭ ‬ومقتنيات،‭ ‬بتثبيتها‭ ‬لمواصلة‭ ‬صقل‭ ‬الذاكرة‭ ‬بها،‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬مبتكرات‭ ‬الإنسان‭ ‬لجعل‭ ‬مدينة‭ ‬المحرق‭ ‬أطول‭ ‬عمرًا‭ ‬وأبطأ‭ ‬انقراضًا‭.‬

أذكر‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬كلمة‭ ‬أحبُ‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬المحرق‭ ‬فينا‭. ‬ففي‭ ‬أحد‭ ‬كتبه،‭ ‬قال‭ ‬عبدالصبور‭: ‬‮«‬اثنان‭ ‬لا‭ ‬يقوى‭ ‬عليهما‭ ‬الموت،‭ ‬الكلمة‭ ‬والحجر،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬الحجر‭ ‬أقدر‭ ‬من‭ ‬الكلمة‭ ‬على‭ ‬البقاء‮»‬‭.‬

 

19

لا‭ ‬أعرف‭ ‬تمامًا‭ ‬كيف‭ ‬ستساعدني‭ ‬الجغرافيا‭ ‬وعلماؤها،‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬إحساسي‭ ‬الغامض‭ ‬بالحجم‭ ‬الحقيقي‭ ‬بالمحرق‭ ‬كمدينة،‭ ‬فالنقائض‭ ‬التي‭ ‬تنتابني‭ ‬فيما‭ ‬أذرع‭ ‬المحرق‭ ‬من‭ ‬شمالها‭ ‬إلى‭ ‬جنوبها‭ ‬ماشيًا،‭ ‬معتقدًا‭ ‬أنني‭ ‬أقطع‭ ‬نصف‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬تقريبًا،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتعب،‭ ‬فأنا‭ ‬فعليًّا‭ ‬لا‭ ‬أسير‭ ‬سوى‭ ‬بضعة‭ ‬كيلومترات،‭ ‬أجتاز‭ ‬فيها‭ ‬الخريطة‭ ‬كاملة‭. ‬غير‭ ‬أنني،‭ ‬لفرط‭ ‬العوالم‭ ‬الكثيفة‭ ‬التي‭ ‬تهصرني‭ ‬روحيًّا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسافة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬أشعر‭ ‬بالمسافة‭ ‬وهي‭ ‬تتضاعف‭ ‬كلما‭ ‬مررتُ‭ ‬بأحد‭ ‬أحياء‭ ‬المحرق‭ ‬القديمة‭.‬

هل‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تعلّمتُ‭ ‬فيها‭ ‬الحياة،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تمعن‭ ‬في‭ ‬تجريعي‭ ‬الدروس‭ ‬بلا‭ ‬هوادة؟

لا‭ ‬أعرف،

وأظن‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يساعدني‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬لي‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭.‬

 

20

لكأن‭ ‬المحرق‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬وأصغر‭ ‬من‭ ‬بلد‭.‬

وهي‭ ‬إنما،‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬أصغر‭ ‬بلدٍ‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬ويمكنك‭ ‬أن‭ ‬تذرع‭ ‬المحرق،‭ ‬من‭ ‬شمالها‭ ‬حتى‭ ‬جنوبها‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ساعة‭. ‬أية‭ ‬مدينة‭ ‬هذه،‭ ‬إذا‭ ‬عطستَ‭ ‬فيها‭ ‬يعرف‭ ‬الجميع‭ ‬أنكَ‭ ‬هنا؟‭!‬

صغيرة‭ ‬لدرجة‭ ‬أننا‭ ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬نلعب‭ ‬‮«‬الصعگير‮»‬،‭ ‬ونتراكض‭ ‬متسابقين‭ ‬للاختفاء‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬بعضنا،‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬اخترقنا‭ ‬منتصفيّ‭ ‬المدينة،‭ ‬وصرنا‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الشمالي،‭ ‬أو‭ ‬الجنوبي،‭ ‬من‭ ‬المحرق‭. ‬فنحن‭ ‬نقطن‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬تقريبًا‭.‬

لعلنا‭ ‬نستطيع‭ ‬اعتبار‭ ‬المحرق‭ ‬أصغر‭ ‬المدن‭ ‬قاطبة،‭ ‬نحن‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬نستعظم‭ ‬الحجوم‭ ‬والمسافات،‭ ‬لولا‭ ‬حرصنا‭ ‬الفطري‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬إخفاء‭ ‬مدينتنا‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬عندما‭ ‬نريد‭.‬

حتى‭ ‬أن‭ ‬مباهاة‭ ‬الكبار‭ ‬بكون‭ ‬المحرق‭ ‬عاصمة‭ ‬سابقة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تستهوينا،‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬مدعاة‭ ‬لمشاركة‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬نحب‭.‬

بعض‭ ‬المدن‭ ‬يمكن‭ ‬التعرف‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬طبقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وثقافية‭ ‬مختلفة،‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬هذه‭ ‬الطبقات،‭ ‬ربما‭ ‬تصادف‭ ‬بعض‭ ‬هذا،‭ ‬وأكثر،‭ ‬في‭ ‬المنامة‭ (‬العاصمة‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬يصعب‭ ‬التعثّر‭ ‬بطبقات‭ ‬ظاهرة‭. ‬وظني‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬محو‭ ‬الملامح‭ ‬الواضحة‭ ‬بتخوم‭ ‬الطبقات،‭ ‬ذلك‭ ‬الانتقال‭ ‬السريع‭ ‬لعلية‭ ‬القوم،‭ ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬العائلة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬المحرق،‭ ‬وتحوّل‭ ‬العاصمة‭ ‬بمظاهرها‭ ‬المؤسساتية‭ ‬إلى‭ ‬المنامة‭.‬

 

21

حتى‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬كنت‭ ‬أواجه‭ ‬صعوبات‭ ‬ذاتية‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬طويلًا‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬البلد‭. ‬سابقًا،‭ ‬كنت‭ ‬أعتبر‭ ‬البلد‭ ‬هو‭ ‬المحرق،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬صرتُ‭ ‬أعتبر‭ ‬البلد‭ ‬هو‭ ‬البيت‭ ‬فحسب‭.‬

تلك‭ ‬كانت‭ ‬مشاعر‭ ‬غامضة‭ ‬فعلًا،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مَنْ‭ ‬وُلدَ‭ ‬ونشأ‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬يدرك‭ ‬هذه‭ ‬المشاعر‭. ‬أحيانًا‭ ‬ينتابني‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الغياب‭ ‬عن‭ ‬المحرق،‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬ولا‭ ‬أجدها‭. ‬ربما‭ ‬لفرط‭ ‬شعورنا‭ ‬بأن‭ ‬ثمة‭ ‬تهديدًا‭ ‬مستمرًّا‭ ‬يجعل‭ ‬مدينتنا،‭ ‬لمجرد‭ ‬أنها‭ ‬مدينتنا‭ ‬فحسب،‭ ‬هي‭ ‬عرضة‭ ‬للفقد‭.‬

لكأن‭ ‬العالم‭ ‬الوحشي‭ ‬بالمرصاد‭ ‬لاصطياد‭ ‬هذه‭ ‬الغزالة‭ ‬المتاحة،‭ ‬كلما‭ ‬غاب‭ ‬عنها‭ ‬رعاتها‭ (‬لعل‭ ‬عقدة‭ ‬‮«‬حضرة‮»‬‭ ‬السمك‭ ‬لا‭ ‬تزال‭). ‬وكل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬جيلنا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬راعيًا‭ ‬لهذه‭ ‬الغزالة‭.‬

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬تلك‭ ‬الأسطورة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬قد‭ ‬رواها‭ ‬لي‭ ‬مرات‭ ‬عديدة،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬حقيقة‭. ‬يقول‭ ‬والدي‭ ‬إن‭ ‬رجالًا‭ ‬كانوا‭ ‬عائدين‭ ‬ذات‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬سفنٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬البعض‭ ‬قال‭ ‬تسعًا‭ ‬من‭ ‬السفن‭ ‬الكبار،‭ ‬مشحونة‭ ‬بالرجال‭ ‬وبالصيد‭ ‬الوفير،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬النواخذة‭ ‬كان‭ ‬يحتفظ‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الحصباة‮»‬‭ (‬اللؤلؤة‭ ‬الكبيرة‭) ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬صيد‭ ‬ذلك‭ ‬العام،‭ ‬وكان‭ ‬الجميع‭ ‬متأججي‭ ‬المشاعر‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬تلك‭ ‬العودة،‭ ‬يتقافزون‭ ‬على‭ ‬سطوح‭ ‬السفن‭ ‬مثل‭ ‬أطفال‭ ‬يهرعون‭ ‬ساعة‭ ‬انتهاء‭ ‬الدرس‭. ‬ويواصل‭ ‬أبي‭: ‬ما‭ ‬إن‭ ‬اقتربت‭ ‬السفن‭ ‬من‭ ‬الساحل،‭ ‬حتى‭ ‬تسمّرت‭ ‬أبصار‭ ‬الرجال،‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬على‭ ‬خط‭ ‬الساحل،‭ ‬لكنهم‭ ‬افتقدوا‭ ‬جموع‭ ‬الأهالي‭ ‬المنتظرة‭ ‬عادة‭ ‬عند‭ ‬حدّ‭ ‬البحر‭.‬

يقول‭ ‬والدي‭: ‬أصابت‭ ‬الرجال‭ ‬الرجفة‭ ‬العظيمة،‭ ‬رجفة‭ ‬الفقد‭ ‬الأول،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬العادة‭ ‬أن‭ ‬يقبلوا‭ ‬على‭ ‬‮«‬الديرة‮»‬‭ (‬البلد‭) ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تستقبلهم‭ ‬وتغمر‭ ‬أرواحهم‭ ‬جموع‭ ‬الأهالي‭ ‬بموسيقى‭ ‬وأهازيج‭ ‬الفرح‭. ‬فتشبثوا‭ ‬بقوة‭ ‬الله‭ ‬وهم‭ ‬يقتربون‭ ‬من‭ ‬الساحل،‭ ‬ولشدة‭ ‬الذعر،‭ ‬قفز‭ ‬معظم‭ ‬الرجال‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬يسبحون‭ ‬متسابقين‭ ‬مع‭ ‬السفن‭ ‬ناحية‭ ‬اليابسة‭. ‬وخرجوا‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬مسرعين‭ ‬ناحية‭ ‬أحياء‭ ‬المحرق،‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الأهالي‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أخّرهم‭ ‬عن‭ ‬الخروج‭ ‬لاستقبال‭ ‬الرجال‭.‬

وكانت‭ ‬الصدمة‭ ‬الكبيرة‭ ‬باكتشاف‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬أحد،‭ ‬لا‭ ‬البيوت‭ ‬ولا‭ ‬النساء‭ ‬ولا‭ ‬الأطفال‭ ‬ولا‭ ‬الأهالي‭ ‬ولا‭ ‬الأحياء‭. ‬المحرق‭ ‬برمتها‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬اختفت‭ ‬في‭ ‬نوعٍ‭ ‬غامض‭ ‬من‭ ‬الغياب،‭ ‬غيابٌ‭ ‬لا‭ ‬تفسير‭ ‬له‭.‬

ولم‭ ‬يجدوا‭ ‬أحدًا‭ ‬يسألونه‭: ‬أين‭ ‬المحرق؟‭ ‬ووقع‭ ‬جميع‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬ذهول‭ ‬كاد‭ ‬يفتك‭ ‬بهم،‭ ‬وتناثر‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬عاجزين‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭.‬

وتقول‭ ‬الأسطورة،‭ ‬حسب‭ ‬والدي،‭ ‬إن‭ ‬صدمة‭ ‬الفقد‭ ‬الصاعق‭ ‬والوقوع‭ ‬في‭ ‬العجز،‭ ‬أديّا‭ ‬بالجميع‭ ‬إلى‭ ‬فقد‭ ‬الوعي‭ ‬عندما‭ ‬أدركهم‭ ‬ظلام‭ ‬الليل،‭ ‬وناموا‭.‬

وعندما‭ ‬ظهرت‭ ‬عليهم‭ ‬شمس‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬والتفتوا‭ ‬ناحية‭ ‬المدينة،‭ ‬شاهدوا‭ ‬البيوت‭ ‬تفتح‭ ‬أبوابها‭ ‬والأهالي‭ ‬يخرجون‭ ‬يستقبلون‭ ‬رجالهم‭.‬

عاد‭ ‬الجميع‭ ‬بالمحرق‭.‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬تأكيد‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة،‭ ‬ولم‭ ‬أصادف‭ ‬من‭ ‬يردد‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬ينقل‭ ‬لها‭ ‬تفسيرًا‭ ‬مفاده‭ ‬نهيُ‭ ‬أهل‭ ‬المحرق‭ ‬عن‭ ‬مغادرة‭ ‬مدينتهم،‭ ‬أو‭ ‬الغياب‭ ‬عنها‭ ‬طويلًا‭. ‬فإنهم‭ ‬لن‭ ‬يجدوها‭ ‬إذا‭ ‬عادوا‭.‬

 

22

كان‭ ‬شبابًا‭ ‬عارمًا‭.‬

نعم،‭ ‬إنه‭ ‬التعبير‭ ‬الأنسب‭ ‬لوصف‭ ‬الفتيان‭ ‬نحيلي‭ ‬الأجسام‭ ‬المسمَرّة‭ ‬أقوياء‭ ‬الشكيمة،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يجوبون‭ ‬أزقة‭ ‬المحرق‭ ‬في‭ ‬أماسيّ‭ ‬الصيف‭ ‬اللاهبة‭. ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬اخترعت‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬خصيصًا‭ ‬لوصف‭ ‬شباب‭ ‬المحرق‭ ‬الجامح‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

ففي‭ ‬ليالي‭ ‬رمضان‭ ‬بالذات‭ ‬ستصادف‭ ‬مجموعات‭ ‬عديدة‭ ‬تذرع‭ ‬ذلك‭ ‬الليل،‭ ‬بعضها‭ ‬يصطحب‭ ‬عددًا‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الكلاب،‭ ‬ليست‭ ‬أليفة‭ ‬المعشر،‭ ‬لا‭ ‬تطيع‭ ‬سوى‭ ‬راعيها‭. ‬مجموعات‭ ‬الفتية‭ ‬أولئك‭ ‬ليست‭ ‬عدائية،‭ ‬لا‭ ‬تنوي‭ ‬شرًّا‭ ‬بأحد،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬بما‭ ‬يكدّر‭ ‬صفو‭ ‬أهالي‭ ‬المحرق‭ ‬قاطبة‭ ‬أو‭ ‬يقلق‭ ‬سكينة‭ ‬مجرى‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬وإذا‭ ‬هي‭ ‬صادفت‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬من‭ ‬يزعج‭ ‬الناس‭ ‬سوف‭ ‬تلقنه‭ ‬درسًا‭ ‬لا‭ ‬ينساه‭. ‬وبمسيرها‭ ‬الليلي‭ ‬الرتيب‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬لترهب‭ ‬الغريب‭ ‬ومَن‭ ‬تسوّل‭ ‬له‭ ‬نفسه‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬سكينة‭ ‬الناس‭ ‬وأحلامهم‭.‬

مجموعات‭ ‬الفتوة‭ ‬تلك،‭ ‬تدب‭ ‬بأقدام‭ ‬صارمة‭ ‬بين‭ ‬الأحياء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المحرق،‭ ‬محدثةً‭ ‬تيارًا‭ ‬لطيفًا‭ ‬من‭ ‬الهواء،‭ ‬يمتزج‭ ‬فيه‭ ‬الارتياح‭ ‬والهيبة‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬وربما‭ ‬شعرتَ‭ ‬بمرورهم‭ ‬اللطيف‭ ‬في‭ ‬الزقاق‭ ‬خارج‭ ‬بيتك،‭ ‬وأنت‭ ‬جالسٌ‭ ‬داخل‭ ‬الدار‭. ‬فلوقع‭ ‬أقدامهم‭ ‬دبيبٌ‭ ‬يشي‭ ‬بالاطمئنان‭.‬

علينا‭ ‬أن‭ ‬نشحذ‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬نحن‭ ‬ذلك‭ ‬الجيل،‭ ‬لنتذكر ‭)‬السِعد‭(‬و‭)‬السِعدين) .

المحرق‭ - ‬أرشيف‭ ‬العربي‭ (‬1970‭)‬