المحَرَّق في الأزرق
كونها عاصمة سابقة للبحرين لا يمنحها خصوصيةَ اعتبارها مكانًا روحيًّا للبشر. فخصوصية المحرق كانت قد نَمَتْ، قبل ذلك، من كونها ابنة البحر بامتياز. فهي، منذ وعيتُها، موجودة بخيلاء المرأة في زرقةٍ تضاهي السماء، وتبزّ السماء في معظم الأحيان. وربما كانت المحرق، لفرط زرقة سريرتها، هي السماء في الأصل.
2
كانت قريبة من البحر، بل كانت في البحر، في بحرٍ نراه طوال الوقت، في النهار والليل، بحرٌ ينام معنا في الواقع وفي الأحلام.
حتى أن المرء في الطفولة، لا يحتاج إلا أن يخرج من بيته لكي يرى الزرقة أمامه. بحرٌ قريبٌ إلى هذا الحد. ويندر أن يمرّ علينا نهارٌ دون أن نرى الأزرق الكريم.
الآن، عليك أن تسير طويلًا لكي ترى البحر. فقد أصبح بعيدًا، ويكاد يكون حلمًا.
3
حسب علمي، آنذاك، كان البحر يزخر بالأسماك بصورة مدهشة، مكتنزًا بالسمك وكريمًا بها إلى حدّ لا تكاد وجبة تخلو منه. لم يكن السمك في البحر فحسب. السمك في الشوارع والأسواق والبيوت وسطوح المنازل وطعام العائلة ولعب الأطفال ودفاتر الدرس. كان السمك هو خير البحر العميم وثروة الناس الكثيرة. وعندما يبدأ الأطفال في تعلُّم الرسم يخطّون ذلك المثلث المستطيل، بالعين من هنا والزعنفة من هناك والذيل الذليل من هنالك. وحينما يُحسن الطفل فعل ذلك، يهرول راكضًا نحو أمه، لكي يريها كيف أنه صار يرسم السمكة التي يصطادها، ويأكلها.
4
يمكنني الزعم بأنني أتذكر المحرّق، يوم كانت سفنها وقواربها أكثر من عدد السيارات في طرقها المتربة.
وأتذكر كم أن الناس لم تزل تستخدم السفن والقوارب، للتنقل في المحرق والانتقال منها. حتى أنهم يوم استقبلوا الحافلات الخشبية القديمة، اعتبروها من كائنات «الغابة»، فأطلقوا على الحافلة الخشبية القديمة اسم «چنكلي». ربما لإحساسهم بوحشيتها، قياسًا لتآلفهم مع وسائط التنقل البحرية البسيطة.
ولولا أن تلك الحافلات قد صُنعت لهم من الخشب، المتصل بذاكرة البحر، لما اعتادوها ودجّنوا وحشيتها، معتبرين خطورة استخدامها ضربًا من الخدش البغيض لحياتهم الآمنة. حتى أنهم عندما انتقلوا من عمل البحر إلى عمل البرّ، في مهنة استخراج النفط، وجاؤوا لهم بالحافلات الضخمة لنقلهم من المحرق إلى مناطق العمل البعيدة، أطلقوا على تلك الحافلات، المخصصة لنقل العمال، اسم «سالم الخطر»، تهوينًا لمغامرة ركوب تلك الحافلات المعدنية، بعرباتها الطويلة وكابينة قيادتها المنفصلة.
اعتاد أهل المحرق، آنذاك، استخدام الخشب في البحر، وظلوا يحتاجون بحرًا لانتقالاتهم.
5
الآن، ربما يتفهم البعض حتمية التغيرات في الطبيعة الطبوغرافية في المكان البشريّ، لكن الجميع قد لا يجد في ذلك ذريعة لغفران هذه التحولات.
وعندما شحَ الماء العذب في المدينة القديمة، مثلما في عموم البلد، رحنا نتذاكر خيرات تلك العيون الارتوازية المنتشرة في المحرق من جنوبها حتى شمالها، حيث كانت هناك منابع يهدر فيها الماءُ العذبُ ليلًا ونهارًا، يبترد فيها الناس بالاستحمام في قيظهم والاغتسال فيها، والأهم كان تزويد البيوت بالماء من تلك العيون، حيث كان السقاؤون، رجالًا ونساء، ينقلون الماء إلى البيوت، بمقابل الزهيد من نقود ذلك الزمان.
أقول، عندما شحَّ ذلك الماء العذب، استذكرنا ذلك الهدر المتواصل بلا ضوابط وبلا حساب، وإدمان الناس الاستخدام غير الرشيد لتلك الثروة.
ثم جاءت أساليب التعمير الحديث غير المتبصر، ليحدث العطب في مخازن المياه الجوفية، فأدت تلك المشاريع العمرانية الكبيرة، المتسارعة، إلى تخريب مخازن بحيرات المياه العذبة، حتى أدت بحياتنا إلى التخبط، مثل أسماكٍ في «أحواض جافة».
لكأننا الضحيةُ المستدامة للجهلوت العارم الذي أخذ بثرواتنا المائية إلى تهلكة تشرف بِنَا على بحر لا يُشرب ولا يستعاد.
دون أن يشغلنا ذلك عن طبيعة التحولات الاجتماعية، والحاجات الإنسانية، فيما تتفاقم حاجة الناس، فيما يتزايد نسلهم للمزيد من الأرض للمعيش والسكن، رجاة أن تكون تلك الأرض اليابسة التي تتسع كل يوم، رحمة لحاجة الناس وأبنائهم وهم ينزحون إلى مستقبلهم.
6
ابنة البحر الآن تكاد تكون من الثواكل والأرامل، بل إنها صارت يتيمة البحر. فقد أخذ التغيّر الطبوغرافي منها مأخذه، ونال منها الجشعُ كبير المنكعين، مثل فقدٍ مقدّر، وباتَ الماءُ الأزرق مردومًا برمل الأعماق، حتى يبست الأرضُ الحديثة، واتسعت لمن يضع عليها الكلكل الثقيل كله، مخافة أن تضيق على غيره، فيتعرّض البحر لفقدين؛ فقد الماء وفقد الأسماك، تعالوا انظروا الغياب في الأسماك. فمثلما شحّ عذبُ الماء، شحَّ الغذاء الذي كان ناسُ المحرق يطولونه بمدّ اليد في كَرَم البحر.
7
في المحرق، عدا بيت العائلة، «البيت العود»، سكنتُ في بيتين مختلفين، فبعد الزواج استأجرتُ مع زوجتي بيتًا بالمنطقة القديمة في حيّ «بوحجي» جنوب شرق المحرق، ثم في بيت آخر بالمنطقة الواقعة بين محطة السيارات القديمة «ستيشن» وحيّ «الحياك». وطوال الوقت كنتُ في حدود قريبة من «البيت العود»، ربما كان ذلك السلوك استجابةً لا شعورية لدفء العائلة. غير أنني في البيتين الآخرين كنت أتعرف مجددًا إلى المحرق وأكتشف تلافيفها وأستأنس جمال أهلها. هؤلاء الذين كنت سرعان ما أشعر بحميميتهم وأتناول معهم طعامهم، فيما يشربون من زرقة قلبي.
8
لعلنا لم نقرأ بعد مدينتنا بطريقة تحيط بها، ففيها، وهي تنقرض، ما يفيض به القلب.
ترى، هل نعرف مدينتنا كما يحلو لنا الزعم؟
ففي المحرق يتمثّل النموذجُ الذي لم نكترث به، برغم طاقة الحضارة فيه. ذلك هو نموذج عدم الاكتراث المذهبي حدّ التماهي.
9
في المحرق، ليس سهلًا معرفة الشيعي من السنّي، ليس بسبب اللهجة المشتركة بين أهل المحرق فحسب، ولكن خصوصًا في السلوك اليومي والتداخل الثقافي والعلاقات الحياتية، فذلك أن الوعي الاجتماعي جعل العمل في المهن، منذ لحظة الغوص على اللؤلؤ، وتجربة احتمال الاسترقاق الذي كان يعتمده نظام الغوص، أدى إلى شعور الجميع، تحت سماءٍ واحدة وفي بحرٍ واحد، شديد العصف والتحولات، إلى أن الحياة هي الطريق الوحيدة إلى الموت، واكتشاف الجميع أن الذهاب الجماعي إلى الموت، هو تعبيرٌ صارمٌ عن عدم الاكتراث الفطري بمذاهبَ تذهبُ جُفاء. لقد كانت المحرق الاختزال النوعي لبلادٍ برمّتها، تتماثل كلما تحركت الجراحُ لها.
10
الآن، أزعم القول بأنني، فجأة، اكتشفتُ أن شيعيتي تكاد تكون مثلبة وعبئًا غير محمود على حياتي، بل وحياة الأبناء والأحفاد.
أنا الذي، عندما تزوجت (عام 1970) لم أصادف مشكلًا يحول دون الزواج بمن أحببت، وكانت، بمحض المصادفة، سُنيّة، حيث لم نتوقف عند ذلك طويلًا، رغم الانتباهة العابرة للبعض في العائلتين، لكن دون أن يشكّل ذلك موقفًا صارمًا من اختلاف المذاهب.
ولنقل إن الوعي الاجتماعي في العائلتين، في «المحرق» وفي «أم الحصم»، وهما منطقتان ساحليتان، كان هو من بين أبرز الأسباب التي سهّلت علينا تفادي الأوهام. ومجددًا سوف أعتبر أن دور البحر في المزاج الإنساني في المنطقتين قد ساعد على صقل الحواس بالمحبة لدى الجميع.
11
بقيَ أن أستطرد بالقول بأن شرارة الحب الأولى بين ذلك الولد وتلك البنت قد انطلقتْ في هواء المحرق، تحت سمائها وفي زرقة بحرها، عام 1965.
12
ولكي تكتمل أسطورة المحرق، ابنة البحر وهبته، ولكي تقوى الجزيرة الصغيرة على اختزال الجزيرة الأم، برمزية بالغة الدلالة، رأيتُ في حكاية شعبية تتراوح بين معاناة الواقع وجماليات الخيال، تلك الحكاية التي تضع المرأة في سياقها الحضاري من حيث دورها في حركية العمل وطبيعة الإنتاج الاجتماعي.
فقد نشأ جيلنا يسمع، ضمن الأهازيج الشعبية، أهزوجة «يا خور المدّعي». ومن المصادفات التي أحببتها، في سياق الكلام عن المحرق والاتصال العاطفي بأم الحصم، التي تزوجتُ إحدى فتياتها، أن تلك الأهزوجة البسيطة الغامضة تتكلم عن «موزة»، وهو اسم المرأة التي تزوجتها. (يا لها من مصادفة فاتنة).
لكنّ أهم ما في هذه الحكاية، تلك الدلالة الاجتماعية الباهرة لدور المرأة التاريخي في مجتمعات هذه المنطقة.
بالطبع، كما هي حال القبول المتنوع للمواد التراثية، من ناحية تعدد الدلالات الرمزية، سوف يجري تفسير وتأويل حكاية «موزة» بأكثر من اتجاه وبمختلف المفاهيم والحساسيات الاجتماعية.
13
تقول الأهزوجة: (يا خور المدّعي/ بالك تغرّق موزة/ موزة من خير أبوها تبيع وتشتري/ يا الله يا اعملي)
تقول الحكاية الشعبية إن أحد رجال البحار كان يمتهن صيد السمك، معتمدًا على «حضرة» للصيد، و»الحضرة» واحدة من أشكال صيد السمك التقليدية، حيث تُنصَب على السواحل، في صورتها البدائية القديمة، على شكل مثلث كبير من جريد النخيل، أعوادًا مغروسةً في أرض الساحل، المثلث مفتوح في اتجاه الأرض ورأسه المقوسة أو المثلثة ناحية البحر، بطريقة هندسية تمنع الأسماك عن العودة عندما يتراجع البحر في حالة الجزر، فيأتي راعي «الحضرة» ليأخذ الأسماك المتجمعة في (حوش/ حضن) الحضرة. وفي بعض الحالات توضع الحضرة في عمق من البحر قليلًا، بحيث يحتاج راعي الحضرة إلى استخدام القارب الصغير لجمع الصيد من «الحضرة».
تقول الحكاية؛ عن وفاة صاحب إحدى «الحضور» (جمع حضرة)، وبسبب فقر العائلة، تضطر ابنته «موزة» إلى مواصلة العمل بعده، وتواصل دخول البحر في قاربها لجني محصول عمل والدها، مواصلةً الحياة بالمهنة نفسها.
14
تقول الحكاية؛ إن تلك الحالة كانت الأمثولة التي أدهشتْ الأهالي، لكنها أثارتْ بعض الطامعين في نهب جهد الرجل وخيره، لكونها مصدر عيش متاحًا.
تضيف الحكاية؛ أن بعضهم أعلن سلطته في الاستيلاء على الحضرة، وادّعاء ملكية الحضرة بدينٍ قديمٍ على صاحبها، لكن دون سند مقنع. وبدأ الأهالي يدعمون «موزة» ضد ادّعاء النهب الكاذب.
فتأتي السليقة الشعبية لتروي الحكاية وتنشدها في مناسبات اجتماعية مختلفة، طالبة من الرأفة «الخور»، وهو عبارة عن خليجٍ صغير عميقٍ داخل البلد، ويكون عادة صالحًا للصيد، وعطفًا على العلاقة الحميمة التي تجمع أهل المحرق/ البحرين، سيجوز لهم مكالمة البحر والعتب عليه وزجره أيضًا، بل وكيّه بالنار أحيانًا.
وحين نتذكر أهزوجة نساء الخليج وهنَّ يطلبن من البحر أن يعيد رجالهن سالمين، كلما تأخرتْ عودتهم من الغوص، مرددات الأهزوجة المشهورة (توب توب يا بحر)، ستزجر النساءُ هذه المرة (خور المدعي)، «بالك تغرّك موزة». دون أن يذكرنَ شخص «المدّعي».
15
بقيتْ الإشارة إلى أن حكاية دخول المرأة في البحر لرعاية «حضرتها»، ذكرتْ الرواياتُ أنها حدثتْ في المحرق، أو أنها حدثت في منطقة «الحد»، غير أن أصدقاء لي من «الحد» أكدوا لي أن ظاهرة دخول النساء لـ «مبارات» / رعاية «حضور» السمك، كانت موجودة حتى سنوات قريبة في بحر «الحد». بل إن أحد الأصدقاء زعم لي أنه يعرف شخصيًّا امرأة في «الحد» كانت تقوم بذلك العمل كمصدر عيش لعائلتها، حتى أوائل السبعينيات.
بهذا المعنى، يتأكد لنا كم أنّ المحرق ستحمل عبء تمثيلها الرمزي لعموم مناطق البحرين.
وهنا سيكون للمرأة الموقع الحضاري في إنتاج الحياة وصقلها بالعمل بجانب الرجل حاضرًا أو غائبًا.
16
وربما هذا ما يفسّر لنا ظاهرة تحوّل بيوت المحرق، بعد ذهاب الرجال إلى البحر للغوص، إلى ورش عمل متنوعة المهن، حيث تبدأ النساء في أشكال مختلفة من الأعمال كأسباب لتوفير لقمة العيش. فإضافة إلى تربية الدواجن والحيوانات الأليفة، ثمة الخياطة وصناعة البهارات وغسل ملابس أفراد العائلات المقتدرة. بل أعرف عائلات فقيرة كثيرًا ما كانت نساؤها يعملن خادمات عند الأسر الغنية.
وهذا أمر نادرًا ما يؤخذ في الحسبان، عندما يجري درس تجربة التاريخ الاجتماعي في البحرين.
ففي المحرق النموذج الأكثر وضوحًا، خصوصًا إذا نحن تأملنا كيف اشتهرت بعض العائلات المتخصصة ببعض المهن، واتخذت من اسم الحرفة لقبًا أو كنية تميزها. ومن ذلك ربما سنجد بعض نساء تلك العائلات تُحسِنَّ الحرفة نفسها بشكلٍ ما.
17
لستُ ممن يحنّون إلى الماضي. لا أذكر الماضي إلا بوصفه تاريخًا مضى، وأحب له أن يمضي دائمًا، على أن نكون قادرين على الذهاب في الاتجاه الآخر... المستقبل.
هذه الكلمة شديدة الغموض والباعثة على الوجل، لئلا أقول الخوف: المستقبل، علينا أن نذهب إليه، فهو لا يأتي إلى أحد.
18
المحرق هي الجزء الأكثر توغلًا في التاريخ، والكتابة عنها ليست رغبة في استعادتها، على العكس، أحب لها أن تأخذ مكانها هناك، مكانها المناسب، الرصين والمحترم، رجاةَ ألا يعبث بها سكانها الجدد. وبما أن سكانها السابقين يتركونها، هجرة أو انقراضًا، فمن طبيعة الحياة أن يقطنها سكان آخرون، ومع الأسف، فمن يبقى فيها من الأحفاد أقل كثيرًا من الغرباء.
لكنّ هؤلاء الغرباء بشر أيضًا، كائنات إنسانية مثلنا، غير أنهم لا يدركون أي مدينة هذه التي يأتون إليها بغير رغبتهم لا باختيارهم.
المحرق، إذن، هي ضربٌ من ذكريات الناس، ومنها ينشأ التاريخ وتتشكل الجغرافيا البشرية. وأرى في التشبث بما تبقى من ذلك الماضي، عمرانًا وهندسة ومقتنيات، بتثبيتها لمواصلة صقل الذاكرة بها، نوعًا من مبتكرات الإنسان لجعل مدينة المحرق أطول عمرًا وأبطأ انقراضًا.
أذكر للشاعر المصري صلاح عبدالصبور كلمة أحبُ أن أرى منها ما تفعله المحرق فينا. ففي أحد كتبه، قال عبدالصبور: «اثنان لا يقوى عليهما الموت، الكلمة والحجر، وربما كان الحجر أقدر من الكلمة على البقاء».
19
لا أعرف تمامًا كيف ستساعدني الجغرافيا وعلماؤها، في تفسير إحساسي الغامض بالحجم الحقيقي بالمحرق كمدينة، فالنقائض التي تنتابني فيما أذرع المحرق من شمالها إلى جنوبها ماشيًا، معتقدًا أنني أقطع نصف الكرة الأرضية تقريبًا، لكن دون أن أتعب، فأنا فعليًّا لا أسير سوى بضعة كيلومترات، أجتاز فيها الخريطة كاملة. غير أنني، لفرط العوالم الكثيفة التي تهصرني روحيًّا في هذه المسافة الصغيرة، أشعر بالمسافة وهي تتضاعف كلما مررتُ بأحد أحياء المحرق القديمة.
هل هذه هي المدينة التي تعلّمتُ فيها الحياة، لا تزال تمعن في تجريعي الدروس بلا هوادة؟
لا أعرف،
وأظن أنني لا أزال بحاجة إلى من يساعدني على فهم ما يحدث لي مع هذه المدينة.
20
لكأن المحرق أكبر من مدينة وأصغر من بلد.
وهي إنما، بطبيعة الحال، أصغر من أصغر بلدٍ على الإطلاق. ويمكنك أن تذرع المحرق، من شمالها حتى جنوبها في أقل من ساعة. أية مدينة هذه، إذا عطستَ فيها يعرف الجميع أنكَ هنا؟!
صغيرة لدرجة أننا عندما كنا نلعب «الصعگير»، ونتراكض متسابقين للاختفاء بعيدًا عن بعضنا، نكون قد اخترقنا منتصفيّ المدينة، وصرنا في الجانب الشمالي، أو الجنوبي، من المحرق. فنحن نقطن في وسط المدينة تقريبًا.
لعلنا نستطيع اعتبار المحرق أصغر المدن قاطبة، نحن الأطفال الذين نستعظم الحجوم والمسافات، لولا حرصنا الفطري على قدرة إخفاء مدينتنا عن العالم عندما نريد.
حتى أن مباهاة الكبار بكون المحرق عاصمة سابقة، لم تكن تستهوينا، خشية أن يكون في ذلك الأمر مدعاة لمشاركة الآخرين في المكان الذي نحب.
بعض المدن يمكن التعرف فيها على طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة، في المحرق لن تجد هذه الطبقات، ربما تصادف بعض هذا، وأكثر، في المنامة (العاصمة)، لكن في المحرق يصعب التعثّر بطبقات ظاهرة. وظني أن الذي ساهم في محو الملامح الواضحة بتخوم الطبقات، ذلك الانتقال السريع لعلية القوم، متمثلة في العائلة الحاكمة، إلى خارج المحرق، وتحوّل العاصمة بمظاهرها المؤسساتية إلى المنامة.
21
حتى منتصف الثمانينيات، كنت أواجه صعوبات ذاتية كثيرة في البقاء طويلًا بعيدًا عن البلد. سابقًا، كنت أعتبر البلد هو المحرق، بعد ذلك صرتُ أعتبر البلد هو البيت فحسب.
تلك كانت مشاعر غامضة فعلًا، غير أن مَنْ وُلدَ ونشأ في المحرق يدرك هذه المشاعر. أحيانًا ينتابني الخوف من الغياب عن المحرق، خشية أن أعود ولا أجدها. ربما لفرط شعورنا بأن ثمة تهديدًا مستمرًّا يجعل مدينتنا، لمجرد أنها مدينتنا فحسب، هي عرضة للفقد.
لكأن العالم الوحشي بالمرصاد لاصطياد هذه الغزالة المتاحة، كلما غاب عنها رعاتها (لعل عقدة «حضرة» السمك لا تزال). وكل واحد من جيلنا يرى في نفسه راعيًا لهذه الغزالة.
ولا أزال أذكر تلك الأسطورة التي كان والدي قد رواها لي مرات عديدة، كما لو أنها حقيقة. يقول والدي إن رجالًا كانوا عائدين ذات سنة من الغوص في سفنٍ كثيرة، البعض قال تسعًا من السفن الكبار، مشحونة بالرجال وبالصيد الوفير، حتى أن أحد النواخذة كان يحتفظ بـ «الحصباة» (اللؤلؤة الكبيرة) الوحيدة في صيد ذلك العام، وكان الجميع متأججي المشاعر في لحظات تلك العودة، يتقافزون على سطوح السفن مثل أطفال يهرعون ساعة انتهاء الدرس. ويواصل أبي: ما إن اقتربت السفن من الساحل، حتى تسمّرت أبصار الرجال، في الأفق، على خط الساحل، لكنهم افتقدوا جموع الأهالي المنتظرة عادة عند حدّ البحر.
يقول والدي: أصابت الرجال الرجفة العظيمة، رجفة الفقد الأول، فليس من العادة أن يقبلوا على «الديرة» (البلد) من دون أن تستقبلهم وتغمر أرواحهم جموع الأهالي بموسيقى وأهازيج الفرح. فتشبثوا بقوة الله وهم يقتربون من الساحل، ولشدة الذعر، قفز معظم الرجال إلى البحر يسبحون متسابقين مع السفن ناحية اليابسة. وخرجوا من الماء مسرعين ناحية أحياء المحرق، يبحثون عن الأهالي لمعرفة ما الذي أخّرهم عن الخروج لاستقبال الرجال.
وكانت الصدمة الكبيرة باكتشاف عدم وجود أحد، لا البيوت ولا النساء ولا الأطفال ولا الأهالي ولا الأحياء. المحرق برمتها كانت قد اختفت في نوعٍ غامض من الغياب، غيابٌ لا تفسير له.
ولم يجدوا أحدًا يسألونه: أين المحرق؟ ووقع جميع الرجال في ذهول كاد يفتك بهم، وتناثر الجميع على أطراف الجزيرة الصغيرة عاجزين عن إدراك ما الذي يحدث.
وتقول الأسطورة، حسب والدي، إن صدمة الفقد الصاعق والوقوع في العجز، أديّا بالجميع إلى فقد الوعي عندما أدركهم ظلام الليل، وناموا.
وعندما ظهرت عليهم شمس اليوم التالي، والتفتوا ناحية المدينة، شاهدوا البيوت تفتح أبوابها والأهالي يخرجون يستقبلون رجالهم.
عاد الجميع بالمحرق.
لا أحد يستطيع تأكيد هذه الأسطورة، ولم أصادف من يردد هذه الرواية. غير أن البعض ينقل لها تفسيرًا مفاده نهيُ أهل المحرق عن مغادرة مدينتهم، أو الغياب عنها طويلًا. فإنهم لن يجدوها إذا عادوا.
22
كان شبابًا عارمًا.
نعم، إنه التعبير الأنسب لوصف الفتيان نحيلي الأجسام المسمَرّة أقوياء الشكيمة، الذين كانوا يجوبون أزقة المحرق في أماسيّ الصيف اللاهبة. بل ربما اخترعت هذه الكلمة خصيصًا لوصف شباب المحرق الجامح في ستينيات القرن الماضي.
ففي ليالي رمضان بالذات ستصادف مجموعات عديدة تذرع ذلك الليل، بعضها يصطحب عددًا لا بأس به من الكلاب، ليست أليفة المعشر، لا تطيع سوى راعيها. مجموعات الفتية أولئك ليست عدائية، لا تنوي شرًّا بأحد، لكنها لا تقبل بما يكدّر صفو أهالي المحرق قاطبة أو يقلق سكينة مجرى حياتهم اليومية، وإذا هي صادفت في طريقها من يزعج الناس سوف تلقنه درسًا لا ينساه. وبمسيرها الليلي الرتيب إنما هي لترهب الغريب ومَن تسوّل له نفسه الاعتداء على سكينة الناس وأحلامهم.
مجموعات الفتوة تلك، تدب بأقدام صارمة بين الأحياء في كل المحرق، محدثةً تيارًا لطيفًا من الهواء، يمتزج فيه الارتياح والهيبة في آن، وربما شعرتَ بمرورهم اللطيف في الزقاق خارج بيتك، وأنت جالسٌ داخل الدار. فلوقع أقدامهم دبيبٌ يشي بالاطمئنان.
علينا أن نشحذ ذاكرتنا، نحن ذلك الجيل، لنتذكر )السِعد(و)السِعدين) .
المحرق - أرشيف العربي (1970)