لماذا نستخدم ملوّنات الطعام؟

لماذا نستخدم  ملوّنات الطعام؟

في أول إشارة إلى أهمية مظهر الطعام في الذوق البشري، ذُكرت في مجموعة الطبخ الرومانية التي تعود إلى القرن الأول الميلادي، والتي تحمل عنوان أبكيوس، العبارة التي تقول إن الناس «يأكلون بأعينهم». وهذا ما أكدته بالفعل مجموعة من الدراسات الحديثة التي وجدت أنه، على عكس المنطق الظاهر الذي يفترض أن الفم المليء بالمستقبلات الذوقية، الذي تدور فيه عمليات القضم والمضغ والبلع هو الذي يحدد مذاق الطعام وينقل المعلومات إلى الدماغ، فإن ثمانين في المئة من جميع الانطباعات المتعلقة بجودة الطعام وطبيعة مذاقه تتم بواسطة البصر، أي أن أعيننا هي التي تقود الطريق وألسنتنا هي التي تتبعها.

 

 يقول أستاذ علم النفس التجريبي في جامعة أكسفورد، تشارلز سبينس، إنه «عادة ما يهيمن على تصوّر الناس ما تراه أعينهم». وفيما يتعلق بالطعام عندما يرى الشخص طعامًا معيّنًا، تنطلق الخلايا العصبية على الفور في منطقة ما تحت المهاد (وهي منطقة صغيرة تقع في وسط الدماغ بين الغدة النخامية والمهاد، وتلعب دورًا مهمًا في إنتاج الهرمونات وتحفيز العديد من العمليات الحيوية في الجسم) وتبدأ سلسلة من الإفرازات الهرمونية التي تتحكم بعملية تذوق الطعام. 

أهم مميز 
وفيما يخص مظهر الطعام، فإضافة إلى الملمس والشكل والحجم، يعتبر اللون من أهم المميزات الخارجية التي تميز الأطعمة المختلفة.
ويشير الخبراء إلى أن الألوان عادة ما تحدد لنا ما يجب علينا أن نتذوقه، وفي هذا الإطار يقول أستاذ الفيزياء في جامعة بريستول بيتر بارهام إنه «إذا ما رأى أي شخص مشروبًا برتقاليًا فاتحًا، فمن المحتمل جدًا أن يعتقد أنه سيكون طعمه كالبرتقال، بشرط أن يكون مذاقه حلوًا إلى حد ما، ويتخلله قدر قليل من الحموضة، حتى لو كان ملونًا أو ماء محلّى أو حتى عصير تفاح».
 وفي دراسة أجريت عام 1980، عُصبت أعين مجموعة من الأشخاص وطُلب منهم معرفة ما إذا كان المشروب الذي كانوا يشربونه بنكهة برتقالية، وكانت النتيجة أن واحدًا فقط من أصل خمسة أشخاص استطاع التعرف إلى طبيعة المشروب بالفعل، لكن عندما سُمح لهم برؤية ما يشربونه تمكّنوا جميعهم من تحديد نكهة البرتقال. 
وعندما تم تلوين شراب الليمون الحامض باللون البرتقالي، اعتقد ما يقرب من نصف المستجيبين أنه كان بنكهة البرتقال، بينما لم يذكر أي منهم نكهة البرتقال عندما تم تلوين الشراب باللون الأخضر.
لكن ما الذي يحدث بالضبط عندما يخطئ شخص ما في التعرُّف إلى نكهة مشروب بلون غير متوقع؟ هل هو أن المشاركين ببساطة لا يستطيعون تمييز ماهية تلك النكهة بالفعل، وبالتالي يعتمدون على الإشارات البصرية للمساعدة في اتخاذ قرارهم؟ أم أن اللون يغيّر بالفعل تجربة التذوق؟ يكمن مفتاح الإجابة عن تلك الأسئلة في تأثير اللون على التوقع.
 يقول د. سبنس «إن قشرة الدماغ المسؤولة عن حاسة التذوق هي إحدى المحطات الأولى بعد اللسان، وهناك يتم تعديل النشاط الذي يحدث فيها وفقًا لتوقعاتنا». 
وبينما كان الاعتقاد السائد بأن أي معلومات تأتي إلينا من خلال عيوننا وآذاننا وألسنتنا تشق طريقها من الخارج إلى الداخل عبر التسلسل الهرمي القشري، حيث يتم تكثيفها في كل مرحلة من المراحل، اتضح أن هناك المزيد من المسارات من الداخل إلى الخارج، «فالدماغ يعمل كمحرك للتنبؤ، وعلى سبيل المثال، لأن أي قطعة من الفاكهة ذات اللون الأحمر الداكن عادة ما تكون أكثر حلاوة من غيرها، نجد أنه في كل مرة نأكل فيها فاكهة حمراء داكنة سنتوقع أنها ستكون حلوة المذاق، وذلك من خلال «إسقاط خلفي» من الداخل إلى الخارج الذي يفعّل النشاط في العصب من الدماغ إلى العيون واللسان. 

الملونات والجهات المصنّعة
لمّا كانت ألوان الأطعمة بهذه الأهمية، ولما كان بالإمكان اعتبار العيون أنها أهم عضو في عملية التذوق، راحت الشركات والجهات المنتجة تعلّق أهمية كبرى على ألوان منتجاتها الغذائية، ولم تكتفِ فقط بالحرص على المحافظة على ألوان الأطعمة الطبيعية، بل لجأت إلى تعديلها من خلال استخدام الملونات الطبيعية منها والاصطناعية. وهذه التعديلات على الألوان تتم لأسباب مختلفة، فعلى سبيل المثال، يمكن إضافة الألوان على بعض الأطعمة لتعويض فقدان لونها من جراء تعرُّضها للضوء والهواء أو أي عوامل أخرى. 
 كما يتم اللجوء إلى الملوّنات لتغيير الاختلافات الطبيعية في ألوان بعض المنتجات، إذ غالبًا ما تعتبر الأطعمة التي لا يبدو أنها ملونة بشكل صحيح ذات جودة منخفضة من قبل المستهلك. 
وفي حالات معيّنة تتم إضافة الملونات لإعطاء بعض الأطعمة هوية جذّابة، فعلى سبيل المثال، إذا تُرك الآيس كريم بالفراولة بشكله المصنّع الطبيعي سيكون عديم اللون تقريبًا، ومن أجل ذلك تتم إضافة اللون الوردي إليه لزيادة جاذبيته، كما يتم تلوين العديد من أنواع الحلوى للسبب نفسه.
  وهناك سبب آخر هو أن اللون يؤدي دورًا مهمًا للغاية في تقبّل المستهلك لطعام معيّن، فمَن منّا سيشتري شريحة لحم ليست حمراء زاهية أو برتقالة خضراء؟ وذلك على الرغم من أنه في كثير من الأحيان لا يكون اللون بالضرورة مؤشرًا على الجودة أو النضارة. إضافة إلى كل ذلك، قد تلوّن الأطعمة بسبب الاحتيال الغذائي، حيث حدث مرات عدة، وفي بلدان مختلفة، أنه عندما كان الدقيق باهظ الثمن، استخدمت الطباشير لتقليد لون الدقيق الحقيقي، وتم تلوين كميات من القهوة والشاي القديمة بشكل مصطنع، لإمكان بيعها على أنها منتجات طازجة. 

تاريخ طويل
يُذكر هنا أن استخدام ملونات الطعام يعود إلى قرون مضت، إذ يعتقد علماء الآثار أن ألوان الطعام ظهرت على الأرجح حوالي عام 1500 قبل الميلاد، مع استخدام الزعفران ملوّنًا للطعام، وهو مذكور في إلياذة هوميروس، كما كانت النخبة الثرية في اليابان والهند القديمة تزيّن طعامها بالذهب الصالح للأكل، وكذلك فعل العرب، حيث ذُكر أن الصليبيين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر كانوا مفتونين
بـ «الطعام الذهبي» العربي، الذي كان مصبوغًا بالذهب ومزخرفًا بأوراق ذهبية، والذي كان يقدّم كذلك على أطباق ذهبية.
 وقد عددت مؤرخة الطعام إليز فليمنج، التي بحثت في كتب الطبخ التي يعود تاريخها إلى عام 1390 بعد الميلاد، قائمة مثيرة للاهتمام من المضافات الغذائية المستخدمة منذ مئات السنين في العصور القديمة، حيث كانت تستخدم المكونات الطبيعية، مثل مستخلصات النباتات والأعشاب وبعض الخضراوات والفاكهة، لإضافة لون غني إلى الأطعمة مثل الجزر، والرمان، والعنب، والتوت، والشمندر، والبقدونس، والسبانخ وغيرها.
 لكن الملونات الغذائية غير الطبيعية لم تبدأ في الظهور إلا في القرن التاسع عشر، حيث اكتشف الكيميائي البريطاني وليام بيركين في وقت مبكر من عام 1856، أول صبغة عضوية اصطناعية تسمى الموفين تستخدم لتلوين الأطعمة والأدوية ومستحضرات التجميل. ومن بعدها ظهرت سلسلة من المركبات الاصطناعية لتلوين الطعام، مثل كبريتات النحاس، وكبريتيد الزئبق، وكربونات النحاس، والزرنيخ النحاسي، والقرمزي، والرصاص الأسود.

خاصية اللون الأزرق
في مقالته التي تحمل عنوان «لوحة أذواقنا... تاريخ موجز لتلوين الطعام وتنظيمه»، التي نشرت عام 2009 بمجلة «مراجعات شاملة في علوم الأغذية وسلامة الأغذية»، أشار المتخصص في علوم التغذية آدم باروز أنه بالنسبة للقسم الأكبر من الناس يتم تقبّل المنتجات الغذائية بالألوان الأخضر والبني والأحمر عمومًا، التي غالبًا ما تكون موجودة في الطبيعة، في حين يتم الابتعاد عن الأطعمة باللونين الأزرق والأسود. ويلاحظ باروز أن ردود الفعل على مظهر الطعام غالبًا ما تكون غريزية، لكونها ترسّخت في البشر عبر آلاف السنين، وذلك عندما كان البشر الأوائل يبحثون عن الطعام، حيث تعلّموا تجنّب الأطعمة السامة أو الفاسدة من خلال ألوانها التي غالبًا ما تكون إما زرقاء أو سوداء.
 ومن هنا أصبح من المعروف أن الأزرق هو أحد أقل الألوان فاتحًا للشهية، وقد أظهرت الدراسات بالفعل أن الناس يفقدون شهيتهم عند إطعامهم طعامًا مصبوغًا باللون الأزرق، لذلك نجد أن العديد من مصنّعي المواد الغذائية قد أخذوا بعين الاعتبار هذه الحقيقة عند تصنيع منتجاتهم، فأبقوا اللون الأزرق بعيدًا عن مختلف الأطعمة، واكتفوا بإدخاله في عالم «المرح»، أي في بعض أنواع الحلوى والـ «كورن فليكس» والمشروبات الرياضية. 

ضوء أزرق
لأن اللون الأزرق هو مثبّط للشهية، توصي العديد من خطط إنقاص الوزن باستخدام الأطباق الزرقاء لتناول الطعام، مما يؤدي إلى تناول كميات أقل بسبب طبيعة اللون، إضافة إلى وضع ضوء أزرق داخل الثلاجة الذي يؤثر على اختيار ما سيتناوله الأشخاص من داخلها، ويدفعهم إلى الابتعاد عن الوجبات السريعة والأطعمة الدسمة. 
وهكذا نرى أن اللون يتحكم بشكل كبير في طريقة استقبالنا للأطعمة المختلفة، حيث يفعّل أكثر من مجرد تنبيهنا إلى التغيرات الفيزيائية أو الكيميائية فيها، بل يؤثر أيضًا على طريقة تذوّقنا لها، لدرجة أن هذا التأثير يمكن أن يتجاوز ما تخبرنا به حواسّنا الأخرى، مما يجعلنا نتذوق حلاوة غير موجودة فعلًا، ونختبر نكهات لا أثر لها، ونقبل أطعمة أو نرفضها ببساطة على أساس درجة لونها. 
ومن هنا يمكننا إدراك الأهمية التي يعلّقها مصنّعو المواد الغذائية على ألوان منتجاتهم حتى لو تطلّب الأمر تلوينها بمضافات قد تكون سامة في بعض الأحيان، لذلك ينبغي علينا الحذر وتجنّب الوقوع في مخاطر صحية محتملة ■