الرواية العربية الأولى

الرواية العربية الأولى

سبق أن كتبتُ عن هذا الموضوع في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 17/11/2004، وهأنذا أعاود الكتابة عنه لانشغالي بأهمية دراسة تاريخ السرديات العربية قديمًا وحديثًا. 
وكلنا يعرف أهمية هذا النوع من الكتابة، وكم أود أن أتفرّغ تفرغًا كاملا لأكتب عن هذه السرديات العربية في تاريخها الخصب الذي لا يزال دفين المصادر والدوريات القديمة، ولكني أختار هذه المرة صفحة من صفحات هذا التاريخ، وهي صفحة خاصة بالحديث عن الرواية الأولى في تاريخ أدبنا العربي الحديث، وهي صفحة يختلف فيها الباحثون، وتتباعد آراؤُهُم كما تتقارب، وكلها تدور حول موضوع واحد هو: «تحديد ماهية الرواية العربية الحديثة الأولى».

 

يمكن‭ ‬مناقشة‭ ‬الرأي‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصفحة‭ ‬بذكر‭ ‬ما‭ ‬انتهى‭ ‬إليه‭ ‬الأستاذ‭ ‬حلمي‭ ‬النمنم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الرائدة‭ ‬المجهولة‭...  ‬زينب‭ ‬فواز ‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬(1998‭) ‬من‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬فواز‭ ‬‮«‬حُسْن‭ ‬العواقب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬غادة‭ ‬الزاهرة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى،‭ ‬وأن‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬هي‭ ‬الرائدة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬وليس‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل‭ ‬أو‭ ‬محمود‭ ‬طاهر‭ ‬لاشين،‭ ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬يحيى‭ ‬حقي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فجر‭ ‬الرواية‭ ‬المصرية‮»‬‭ ‬والذين‭ ‬تابعوه،‭ ‬جاعلين‭ ‬من‭ ‬‮«‬فجر‭ ‬الرواية‭ ‬المصرية‮»‬‭ ‬فجر‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭.‬

وقد‭ ‬نسيتُ‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬صديقي‭ ‬النمنم‭ ‬عندما‭ ‬صدرت‭ ‬طبعة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬فرانسيس‭ ‬فتح‭ ‬الله‭ ‬المراش‭  (‬1835‭ - ‬1874‭) ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭  ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬سنة‭  1865،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬ما‭ ‬سبقني‭ ‬إليه‭ ‬غير‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الذين‭ ‬ذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬المراش‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى،‭ ‬وأقدمهم‭- ‬فيما‭ ‬أظن‭ - ‬جورجى‭ ‬زيـــــدان‭  (‬1861‭ - ‬1914‭)  ‬الذي‭ ‬ذهب‭ - ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬آداب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭  ‬(1911‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬رواد‭ ‬الفن‭ ‬القصصي‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬المحدثين‭ ‬أنتجوه‭ ‬تقليدًا‭ ‬للإفرنج،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬المشتغلين‭ ‬بهذا‭ ‬الفن‭ ‬فرنسيس‭ ‬المراش،‭ ‬ثم‭ ‬سليم‭ ‬بطرس‭ ‬البستاني‭ (‬1819‭ - ‬1883‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬ألَّف‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التاريخية،‭ ‬نشرها‭ ‬مُسلسلة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الجنان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وأضاف‭ ‬زيدان‭ ‬إلى‭ ‬الاثنين‭ ‬كتابته‭ ‬هو‭ ‬للرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬صدر‭ ‬منها‭ - ‬إلى‭ ‬وقــــت‭ ‬فراغه‭ ‬مــــن‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬آداب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‮»‬‭ - ‬سبع‭ ‬عشرة‭ ‬رواية‭. ‬

وقد‭ ‬ذهب‭ ‬مارون‭ ‬عبود‭ (‬1886‭ - ‬1962‭) ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬زيدان،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬حظ‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬والشعر‭ ‬القصصي‭ ‬قليل،‭ ‬وأن‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬اقتُبِس‭ ‬عن‭ ‬الأجانب‭ ‬الذين‭ ‬جعلوا‭ ‬له‭ ‬شأنًا‭ ‬عظيمًا،‭ ‬فاقتبسها‭ ‬العرب‭ ‬عنهم‭ ‬بقواعدها،‭ ‬ومناهجها،‭ ‬وبعض‭ ‬موضوعاتها‭. ‬والأسبقون‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬الشاميون‭ ‬لِمُخالطتهم‭ ‬الأوربيين‭ ‬والأخذ‭ ‬عنهم،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬فرنسيس‭ ‬المراش‭ ‬الحلبي،‭ ‬وسليم‭ ‬البستاني،‭ ‬وجورجي‭ ‬زيدان،‭ ‬وفرح‭ ‬أنطون‭. ‬

 

دراسات‭ ‬عديدة

وقد‭ ‬مضت‭ ‬دراسات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬شاكر‭ ‬مصطــــفى‭ ‬فــي‭ ‬‮«‬محاضــرات‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬حتى‭ ‬الحـــرب‭ ‬العالمـــية‭ ‬الثانية‮»‬‭ ‬معهد‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬سنة‭ ‬(1985‭) ‬وأحمد‭ ‬طاهر‭ ‬حسنــين‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دور‭ ‬الشاميين‭ ‬المهاجرين‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬النهضـــة‭ ‬الأدبية‭ ‬الحديثــــة ‭: ‬1718‭ - ‬1919،‭ ‬دار‭ ‬الوثبة،‭ ‬دمشق‭  1983،‭ ‬وآخرهم‭ ‬حمدي‭ ‬السكوت‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬المطبعة‭ ‬المارونية‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬(1865‭) ‬أولى‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بها‭ ‬ببليوجرافيته‭ ‬التاريخية‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬العربية‭: ‬1965‭ - ‬1980‮»‬‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬أنها‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬نشرها‭ ‬هو‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬يستهل‭ ‬تاريخ‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭. 

ومرَّت‭ ‬السنوات،‭ ‬وأصدر‭ ‬حلمي‭ ‬النمنم‭ ‬طبعة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬‮«‬حُسن‭ ‬العواقب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬غادة‭ ‬الزاهرة‮»‬‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬غادة‭ ‬الزاهرة‮»‬‭. ‬وتحتها‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬أول‭ ‬رواية‭ ‬عربية‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬يبرز‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬للمؤلف‭ ‬تأكيده‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬الرائدة‭ ‬المجهولة‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التأكيد‭ ‬في‭ ‬الدراسة،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬تقديمي‭ ‬لرواية‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬الرواية‭ ‬الأسبق‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬بحكم‭ ‬تاريخ‭ ‬نشرها‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬سنة‭ ‬1865‭. ‬ويضيف‭ ‬النمنم‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬غابة‭ ‬الحق‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى،‭ ‬فإن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حسن‭ ‬العواقب‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬رواية‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬تكتبها‭ ‬امرأة‭ ‬عربية،‭ ‬مع‭ ‬فارق‭ ‬بين‭ ‬العملين،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬غابة‭ ‬الحق‭ ‬قدّمها‭ ‬صاحبها‭ ‬باعتبارها‭ ‬‮«‬كتاب‮»‬‭ (‬كذا‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬لديه‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬تقول‭ ‬بأن‭ ‬عمله‭ ‬رواية،‭ ‬ففي‭ ‬تقديمه‭ ‬لها‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬يقدم‭ ‬خواطره‭ ‬وتأملاته‭ ‬وخيالاته،‭ ‬أما‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬فتتحدث‭ ‬صراحة‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬عملها‭ ‬هو‭ ‬رواية،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الغلاف‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬العنوان‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬رواية‮»‬،‭ ‬وتتحدث‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الرواية‮»‬‭. ‬

 

مناقشة‭ ‬هادئة

وقد‭ ‬حرصتُ‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬عبارات‭ ‬النمنم‭ ‬كما‭ ‬هي،‭ ‬لأنها‭ ‬تتعرض‭ - ‬في‭ ‬تقديري‭ - ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬قضية،‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مناقشة‭ ‬هادئة‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الأوَّلية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬ما‭ ‬عملًا‭ ‬أوَّلًا‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬التأريخ‭ ‬لنوعه‭.  ‬ولنبدأ‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬صح‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬المراش‭ ‬هي‭ ‬الأولى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬كُثر،‭ ‬فإن‭ ‬رواية‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬هي‭ ‬‮«‬أول‭ ‬رواية‭ ‬تكتبها‭ ‬امرأة‭ ‬عربية‮»‬‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬قول‭ ‬غير‭ ‬دقيق‭ ‬لا‭ ‬يتطابق‭ ‬مع‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية،‭ ‬فعائشة‭ ‬التيمورية‭ (‬1840‭ - ‬1902‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬صديقة‭ ‬لزينب‭ ‬فواز،‭ ‬وتحدثت‭ ‬عنها‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬كتابها‭: ‬‮«‬الدُّر‭ ‬المنثور‭ ‬في‭ ‬طبقات‭ ‬ربات‭ ‬الخدور‮»‬‭ (‬1893‭)  ‬حديث‭ ‬الإعجاب‭ ‬والتقدير،‭ ‬أصدرت‭ ‬روايتها‭: ‬‮«‬نتائج‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬الأقوال‭ ‬والأفعال‮»‬‭  ‬سنة‭ ‬1885،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬الشعراء‭ ‬والشاعرات‭ ‬إلى‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬الواعد،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬مع‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ (‬1868‭ - ‬1932‭)  ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬‮«‬عذراء‭ ‬الهند‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1897،‭ ‬و«لادياس‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1898،‭ ‬و«دل‭ ‬وتيمان‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1899،‭ ‬وهي‭ ‬سنة‭ ‬نشر‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬روايتها‭.‬

وكانت‭ ‬رواية‭ ‬عائشة‭ ‬التيمورية‭ ‬التي‭ ‬أُعيد‭ ‬نشرها‭ - ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ - ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ (‬منها‭ ‬الطبعة‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة‭ ‬بتقديم‭ ‬عفاف‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬ذاكرة‭ ‬الكتابة،‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬2002،‭ ‬وطبعة‭ ‬المجلس‭ ‬القومي‭ ‬للمرأة‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬بتقديم‭ ‬مرفت‭ ‬حاتم‭ ‬سنة‭ ‬2003‭ ‬هي‭ ‬طليعة‭ ‬إسهام‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تجذب‭ ‬إليها‭ ‬الطليعة‭ ‬النسائية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬أدبي‭ ‬مقترن‭ ‬بالوعى‭ ‬المديني‭ ‬الذي‭ ‬يصوغ‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬لوضع‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬

 

أليس‭ ‬البستاني

مضت‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬محاولة‭ ‬عائشة‭ ‬التيمورية،‭ ‬أليس‭ ‬بطرس‭ ‬البستاني،‭ ‬ابنة‭ ‬بطرس‭ ‬البستاني‭ (‬1819‭ - ‬1883‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬المرأة،‭ ‬وأخت‭ ‬سليم‭ ‬بطرس‭ ‬البستاني‭ (‬1848‭ - ‬1884‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬رواياته‭ ‬في‭ ‬‮«‬الجنان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬والده‭ ‬سنة‭ ‬1870،‭ ‬وهي‭ ‬المجلة‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬بالقَصص‭ ‬اهتمامًا‭ ‬واضحًا،‭ ‬وأفردت‭ ‬له‭ ‬بابًا‭ ‬خاصًّا‭ ‬به،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أستاذنا‭ ‬محمد‭ ‬يوسف‭ ‬نجم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الرائد‭ ‬‮«‬القصة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العــــربي‭ ‬الحديث‭: ‬1870‭ - ‬1914‭ ‬،‭ (‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬1952‭ . ‬

وكان‭ ‬من‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬نشر‭ ‬سليم‭ ‬البستاني‭ ‬لرواياته‭: ‬‮«‬الهيام‭ ‬في‭ ‬جنان‭ ‬الشام‮»‬‭ (‬1870‭)‬،‭ ‬و«أسماء‮»‬‭ (‬1873‭)‬،‭ ‬و«بنت‭ ‬العصر‮»‬‭ (‬1875‭)‬،‭ ‬و«فاتنة‮»‬‭ (‬1877‭)‬،‭ ‬و«سلمى‮»‬‭ (‬1878‭ - ‬1879‭)‬،‭ ‬و«سامية‮»‬‭ (‬1882‭ - ‬1883‭ - ‬1884‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬استوحى‭ ‬حوادثها‭ ‬وشخصياتها‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬اللبنانية‭ ‬التي‭ ‬وُلِد‭ ‬فيها‭ ‬ولازمها‭ ‬وتمرَّس‭ ‬بمُشكلاتها‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تنجذب‭ ‬الأخت‭ ‬أليس‭ ‬إلى‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬انجذب‭ ‬إليه‭ ‬أخوها‭ ‬الكبير،‭ ‬فسارت‭ ‬على‭ ‬دربه،‭ ‬وأصدرت‭ ‬روايتها‭: ‬‮«‬صائبة ‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1891‭ ‬ ،‭ ‬التي‭ ‬عالجت‭ ‬فيها‭ ‬قضية‭ ‬نسائية‭ ‬هي‭ ‬أقدر‭ ‬على‭ ‬فهمها‭ ‬والكتابة‭ ‬فيها‭. ‬

ويلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬أليس‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬امرأة‭ ‬لها‭ ‬عنوانًا،‭ ‬متابِعة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أخاها‭ ‬في‭ ‬رواياته‭: ‬‮«‬فاتنة‮»‬‭ ‬و«سلمى‮»‬‭ ‬و«سامية‮»‬‭ ‬وغيرها‭. ‬وهي‭ ‬مُتابَعة‭ ‬تُغري‭ ‬بالمقارنة‭ ‬التفصيلية‭ ‬بين‭ ‬كتابة‭ ‬المرأة‭ ‬وكتابة‭ ‬الرجل‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المرأة‮»‬‭. ‬

ولا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا‭ ‬توقفت‭ ‬أليس‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬بعد‭ ‬روايتها‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬استهل‭ ‬فيها‭ ‬جورجي‭ ‬زيدان‭ (‬1861‭ - ‬1914‭) ‬رواياته‭ ‬التاريخية‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬المملوك‭ ‬الشارد‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أصدرها‭ ‬سنة‭ ‬1891،‭ ‬واستمر‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬رواية‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬تقريبًا‭: ‬‮«‬أسير‭ ‬المتمهدي‮»‬‭ (‬1892‭) ‬و«استبداد‭ ‬المماليك‮»‬‭ (‬1893‭) ‬و«انتصار‭ ‬المحبين‮»‬‭ (‬1895‭) ‬و«أرمانوسه‭ ‬المصرية‮»‬‭ (‬1896‭) ‬و«فتاة‭ ‬غسان‮»‬‭ (‬1897‭) ‬و«عذراء‭ ‬قريش‮»‬‭ (‬1898‭)... ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬بقية‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬استمر‭ ‬صدورها‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭  1914‭ ‬التي‭ ‬توفي‭ ‬فيها‭ ‬جورجي‭ ‬زيدان،‭ ‬كما‭ ‬توفيت‭ ‬فيها‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬نفسها،‭ ‬في‭ ‬منزلها‭ ‬رقم‭ ‬14‭ ‬بشارع‭ ‬الكومي‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬السيدة‭ ‬زينب‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬النمنم‭. 

 

أول‭ ‬رواية

يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حسن‭ ‬العواقب‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬‮«‬أول‭ ‬رواية‮»‬‭ ‬تكتبها‭ ‬امرأة،‭ ‬فقد‭ ‬سبقتها‭ ‬صديقتها‭ ‬عائشة‭ ‬التيمورية،‭ ‬التي‭ ‬أتصورُ‭ ‬أن‭ ‬روايتها‭ ‬‮«‬نتائج‭ ‬الأحوال‮»‬‭ ‬جذبت‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬القصصية‭ ‬التي‭ ‬استهلتها‭ ‬برواية‭: ‬‮«‬حسن‭ ‬العواقب‮»‬،‭ ‬وأتبعتها‭ ‬بغيرها‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬أُذكر‭ ‬منها‭ ‬رواية‭: ‬‮«‬الملك‭ ‬كورش‭ ‬أول‭ ‬ملوك‭ ‬الفرس‮»‬،‭ ‬و«هي‭ ‬رواية‭ ‬أدبية‭ ‬غرامية‭ ‬تاريخية‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬‮«‬مطبعة‭ ‬هندية‭ ‬بشارع‭ ‬المهدي‭ ‬بالأزبكـية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬سنة‭ ‬1323هـ‭ / ‬1905م‮»‬‭. ‬

وأتصور‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬لبنانية‭ ‬مثلها‭ ‬رواية،‭ ‬أعني‭ ‬أليس‭ ‬البستاني،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬إيجابي‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬الحضور‭ ‬الثقافي‭ ‬والإبداعي‭ ‬للمرأة‭ ‬دالًّا‭ ‬بإنجازاته‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬مجالًا‭ ‬للكتابة‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬المجلات‭ ‬النسائية‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الفتاة‮»‬‭ ‬الشهرية‭ ‬التي‭ ‬أسستها‭ ‬هند‭ ‬نوفل‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ ‬سنة‭ ‬1892،‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬صدور‭ ‬رواية‭ ‬أليس‭ ‬البستاني،‭ ‬ومجلة‭ ‬‮«‬مرآة‭ ‬الحسناء‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أسستها‭ ‬مريم‭ ‬مظهر‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬1896،‭ ‬و«أنيس‭ ‬الجليس‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬ألكسندرا‭ ‬إفرينو‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ ‬سنة‭ ‬1898‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬إصدار‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬روايتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬‮«‬أول‭ ‬رواية‭ ‬عربية‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭. ‬

أما‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬النمنم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬قدَّمها‭ ‬صاحبها‭ ‬بوصفها‭ ‬كتابًا‭ ‬لا‭ ‬رواية،‭ ‬مقابل‭ ‬زينب‭ ‬فواز‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬صراحة‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬عملها‭ ‬هو‭ ‬رواية،‭ ‬مؤكدة‭ ‬أهمية‭ ‬الرواية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬ذِكر‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬رواية‮»‬‭ ‬في‭ ‬العنوان،‭ ‬فمحاجّة‭ ‬شكلية‭ ‬لا‭ ‬تثبت‭ ‬أن‭ ‬‮«‬حسن‭ ‬العواقب‮»‬‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى،‭ ‬ولا‭ ‬تنفي‭ ‬أوَّلية‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬عن‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬،‭ ‬فكلمة‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬الموجودة‭ ‬فوق‭ ‬العنوان‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬طبعتها‭ ‬مطبعة‭ ‬القديس‭ ‬جاورجيوس‭ ‬للروم‭ ‬الأرثوذكس‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬سنة‭ ‬1881‭ ‬موجودة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تنصرف‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬كتابًا‭ ‬في‭ ‬النهاية‭. ‬

 

الروايات‭ ‬والروائيون

لنتذكر‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬تشكيل‭ ‬الاصطلاح،‭ ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬رواية‮»‬‭ ‬تطلق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يقابل‭ ‬‮«‬Novel‮»‬‭ ‬ومسرحية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ودارسو‭ ‬تاريخ‭ ‬الفنّينِ‭ ‬يعرفون‭ - ‬مثلًا‭ - ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬سليم‭ ‬الخوري،‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الضياء‭ ‬عدد‭ ‬15‭ ‬أبريل‭ ‬1899،‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬الروايات‭ ‬والروائيون‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مقال‭ ‬يشبه‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم‭ ‬‮«‬الرواية‮»‬‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬المسرحية‭ ‬و«القصة‮»‬‭ ‬الطويلة‭. ‬

ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬جورجي‭ ‬زيدان‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬آداب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬1911،‭ ‬حيث‭ ‬يستخدم‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الرواية‮»‬‭ ‬دالًّا‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬شكسبير‭ ‬وهوجو‭ ‬ودوماس‭ ‬وموليير‭ ‬وشاتوبريان‭ ‬وفينلون‭. ‬وظل‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬من‭ ‬الخلط‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استقر‭ ‬الاصطلاح،‭ ‬بعد‭ ‬الرُّبع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وربما‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وأصبحت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الرواية‮»‬‭ ‬دالّة‭ ‬على‭ ‬معناها‭ ‬الحالي‭. ‬

ويؤكد‭ ‬لنا‭ ‬الواقع‭ ‬التاريخي‭ ‬أن‭ ‬كُتَّاب‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يجدون‭ ‬حرجًا‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الرواية‭ ‬بأنها‭ ‬كتاب‭. ‬ودليل‭ ‬ذلك‭ ‬مبذول‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬التي‭ ‬يقدم‭ ‬بها‭ ‬فرح‭ ‬أنطون‭ (‬1874‭ - ‬1922‭) ‬روايته‭: ‬‮«‬الدين‭ ‬والعلم‭ ‬والمال‮»‬‭ (‬1903‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يبدأ‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬فن‭ ‬الروايات‭ ‬الذي‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬ينشأ‭ ‬للتفكُّه‭ ‬والتسلية،‭ ‬ومنه‭ ‬ما‭ ‬ينشأ‭ ‬للإفادة‭ ‬ونشر‭ ‬المبادئ‭ ‬والأفكار‭. ‬

ويضع‭ ‬في‭ ‬النوع‭ ‬الثاني‭ ‬كتَّابًا‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬تولستوي‭ ‬وزولا‭ ‬وكيبلينج‭ ‬وغيرهم‭. ‬

ويمضي‭ -  ‬بعد‭ ‬ذلك‭ - ‬متحدثًا‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬الرواية‭ ‬وإقباله‭ ‬عليها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬هجره‭ ‬المقالات،‭ ‬وذلك‭ ‬لما‭ ‬رآه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬أجمع‭ ‬وأوعى‭ ‬وأشد‭ ‬تأثيرًا‭ ‬وأحسن‭ ‬وقعًا،‭ ‬فقرر‭ ‬التفرغ‭ ‬لكتابة‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬مجالًا‭ ‬لإبراز‭ ‬المبادئ‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬يؤمن‭ ‬بها،‭ ‬مقدمًا‭ ‬هذه‭ ‬المبادئ‭ ‬والأفكار‭ ‬على‭ ‬الحوادث‭ ‬والأخبار،‭ ‬لكن‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يتناقض‭ ‬وما‭ ‬تقتضيه‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬من‭ ‬تصوير‭ ‬العواطف‭ ‬والحوادث‭ ‬تصويرًا‭ ‬طبيعيًّا،‭ ‬‮«‬لأن‭ ‬فن‭ ‬الروايات‭ ‬فن‭ ‬بسيكولوجي‭ ‬جماله‭ ‬وتأثيره‭ ‬متوقفان‭ ‬على‭ ‬حُسن‭ ‬سَبكه‭ ‬ولُطف‭ ‬أسلوبه‭ ‬ودرس‭ ‬باطن‭ ‬الإنسان‮»‬‭.‬

‭ ‬ويختم‭ ‬فرح‭ ‬أنطون‭ ‬تقديمه‭ ‬بعبارات‭ ‬حاسمة‭ ‬الدلالة‭ ‬فيما‭ ‬أنا‭ ‬بصدده‭: ‬‮«‬وهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬الدين‭ ‬والعلم‭ ‬والمال‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭. ‬وموضوعه‭ ‬معروف‭ ‬من‭ ‬عنوانه‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬عبارات‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬دلالة‭ ‬التسوية‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬و«الرواية‮»‬‭ ‬لا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬ينفي‭ ‬فنية‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬حضورها‭ ‬الإبداعي،‭ ‬وإنما‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬يقصد‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬كتاب‭ ‬يضم‭ ‬صفحات‭ ‬روائية‭. ‬

 

مهمة‭ ‬قومية

هكذا،‭ ‬تظل‭ ‬رواية‭ ‬فرنسيس‭ ‬المراش‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ - ‬مؤقتًا‭ - ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬حملت‭ ‬صفحة‭ ‬غلاف‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬كتاب‮»‬‭. ‬ولذلك‭ ‬وصف‭ ‬عبدالمسيح‭ ‬الأنطاكي‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬أصدر‭ ‬طبعتها‭ ‬الثالثة‭ ‬سنة‭ ‬1922‭ ‬بأنها‭ ‬رواية‭ ‬موضوعة‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬‮«‬جحيم‭ ‬دانتي‭ ‬التلياني‮»‬‭ ‬بقالب‭ ‬خيالي‭ ‬نزع‭ ‬فيه‭ ‬المؤلف‭ ‬إلى‭ ‬إيقاظ‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬غفلتهم‭. ‬

وقد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬توقفتُ‭ ‬عند‭ ‬عبارات‭ ‬الأنطاكي‭ ‬في‭ ‬الطبعة‭ ‬التي‭ ‬أشرفتُ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬وطُبعت‭ ‬مرتين‭ (‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬2000،‭ ‬والثانية‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬سنة‭ ‬2001‭). ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يعنيني‭ - ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ - ‬هو‭ ‬تأكيد‭ ‬أهمية‭ ‬عمل‭ ‬المراش‭ ‬وربطه‭ ‬بمهمة‭ ‬قومية‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وإبراز‭ ‬قيمته‭ ‬مقارنة‭ ‬بغيره‭ ‬من‭ ‬روائع‭ ‬الإبداع‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬وتكرار‭ ‬طبعه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخيرة‭. ‬وفى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬ما‭ ‬يصلح‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬مدخلًا‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬معنى‭ ‬الأوَّلية‭ ‬التي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تقترن‭ ‬بالتأثير‭ ‬في‭ ‬مجالها‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وبالاعتراف‭ ‬بهذا‭ ‬التأثير‭ ‬من‭ ‬المعاصرين‭ ‬الذين‭ ‬يُقبلون‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬طبع‭ ‬العمل‭ ‬مرات‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬وانتقال‭ ‬هذا‭ ‬الاعتراف‭ ‬عبر‭ ‬الأجيال‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثالثة،‭ ‬وانطواء‭ ‬الرواية‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬مضمون‭ ‬متقدم‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬عصرها‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخيرة‭. ‬

وأتصور‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التحديد‭ ‬لا‭ ‬يحسم‭ ‬الأمر‭ ‬فيما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬أستاذنا‭ ‬محمد‭ ‬يوسف‭ ‬نجم‭ ‬من‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ (‬1836‭ - ‬1907‭) ‬صاحب‭ ‬‮«‬جريدة‭ ‬الأخبار‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬سنة‭ ‬1858،‭ ‬مهتمة‭ ‬بنشر‭ ‬القصص‭ ‬المترجمة‭ ‬التي‭ ‬أضاف‭ ‬إليها‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬من‭ ‬تأليفه‭ ‬قصته‭ ‬الاجتماعية‭: ‬‮«‬ويْ‭... ‬إذن‭ ‬لست‭ ‬بأفرنجي‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬جمعها‭ ‬فيها‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وطبعها‭ ‬بالمطبعة‭ ‬السورية‭ ‬سنة‭ ‬1860‭.  ‬وقد‭ ‬تعلّق‭ ‬صديقنا‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬بهذه‭ ‬المعلومة،‭ ‬ورجع‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬الخوري،‭ ‬ودرسها،‭ ‬منتهيًا‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭: ‬‮«‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬سنة‭ ‬2003‭.‬

 

اجتهاد‭ ‬مخالف

مع‭ ‬كل‭ ‬تقديري‭ ‬لحماسة‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬اكتشافه‭ ‬محمد‭ ‬يوسف‭ ‬نجم،‭ ‬وما‭ ‬انتهى‭ ‬إليه‭ ‬ضمنًا‭ ‬من‭ ‬إغفال‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الخورى‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬سليم‭ ‬وسعيد‭ ‬وأليس‭ ‬البستاني‭ ‬وجورجي‭ ‬زيدان‭ ‬وزينب‭ ‬فواز‭ ‬العاملية‭ ‬وغيرهم،‭ ‬فإن‭ ‬رواية‭ ‬الخوري‭ ‬يمكن‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬الابتداء‭ ‬الأول،‭ ‬فالراحلة‭ ‬رضوى‭ ‬عاشور‭ ‬لها‭ ‬اجتهاد‭ ‬مخالف،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭: ‬‮«‬الساق‭ ‬على‭ ‬الساق‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬الفارياق‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬طُبِع‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬سنة‭ ‬1885،‭ ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬الأول‭.‬

والكتاب‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬محاولة‭ ‬لكتابة‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬قصصي‭ ‬لحياة‭ ‬صاحبه‭ ‬أحمد‭ ‬فارس‭ ‬الشدياق،‭ ‬لكن‭ ‬الكتاب‭ ‬ليس‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬بالمعنى‭ ‬المعروف‭ ‬الذي‭ ‬نفهمه‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬سيرة‭ ‬ذاتية‮»‬‭ ‬الآن،‭ ‬وإنما‭ ‬محاولة‭ ‬سردية‭ ‬تنبني‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬مقامات‭ ‬متتابعة،‭ ‬تعرض‭ ‬كلها‭ ‬للأحداث‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬حياة‭ ‬الشدياق‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬زمني‭ ‬محدد،‭ ‬وفي‭ ‬طرائق‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬السرد،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تبدو‭ ‬معه‭ ‬الفصول‭ ‬أشبه‭ ‬بمقامات‭ ‬من‭ ‬مقامات‭ ‬الهمذاني‭ ‬أو‭ ‬الحريري،‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬من‭ ‬كُتّاب‭ ‬المقامة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭.‬

لكن‭ ‬الطريف‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬الشدياق‭ ‬أنه‭ ‬يحاول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬قالب‭ ‬المقامة‭ ‬اللغوي،‭ ‬والتمرد‭ ‬على‭ ‬طرائق‭ ‬كتابتها‭ ‬التي‭ ‬تلتزم‭ ‬بلوازم‭ ‬السجع‭ ‬والبديع‭ ‬وحُسن‭ ‬التقسيم،‭ ‬مستبدلًا‭ ‬بالقالب‭ ‬القديم‭ ‬للمقامة‭ ‬قالبًا‭ ‬سرديًّا‭ ‬حديثًا،‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬التدفق‭ ‬المرسل‭ ‬للغة‭ ‬عبر‭ ‬حوارات‭ ‬طبيعية‭ ‬تلقائية،‭ ‬وهي‭ ‬حوارات‭ ‬واسترسالات‭ ‬يردفها‭ ‬الشدياق‭ ‬بهجوم‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬فن‭ ‬المقامة‭ ‬القديم،‭ ‬مُعيبًا‭ ‬عليه‭ ‬التزامه‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬الالتزام‭ ‬به،‭ ‬ومُدافعًا‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬التدفق‭ ‬التلقائي‭ ‬للكلمات،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬معنى‭ ‬جديدًا‭ ‬لبلاغة‭ ‬السرد‭ ‬التي‭ ‬تتحرر‭ ‬من‭ ‬السجع‭ ‬لكى‭ ‬تنطلق‭ ‬متدفقة‭ ‬بلا‭ ‬عوائق،‭ ‬متضافرة‭ ‬مع‭ ‬الاسترسال‭ ‬التلقائي‭ ‬لعواطف‭ ‬الأبطال‭ ‬ومشاعرهم‭ ‬التلقائية‭.‬

 

حقيقة‭ ‬مؤكدة

والحق‭ ‬أن‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الراحلة‭ ‬عاشور‭ ‬يمكن‭ ‬تقديرها‭ ‬والاهتمام‭ ‬بها،‭ ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرتُ‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬عن‭: ‬‮«‬الرواية‭ ‬والاستنارة‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬أن‭ ‬عملاً‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬الساق‭ ‬على‭ ‬الساق‮»‬‭ ‬مثلًا‭ ‬قد‭ ‬نشر‭ ‬سنة‭ ‬1855،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬نُشِر‭ ‬فيها‭ ‬كتاب‭ ‬عائشة‭ ‬التيمورية‭: ‬‮«‬نتائج‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬الأقوال‭ ‬والأفعال‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬طُبِع‭ ‬بمصر‭ ‬وتونس‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

لكن‭ ‬تبقى‭ ‬الحقيقة‭ ‬المؤكدة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬صدور‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬سنتين‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأعمال،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬بداية‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التقريب،‭ ‬وذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬مجموعة‭ ‬متضافرة‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬أهمها؛‭ ‬ازدهار‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬واكتمال‭ ‬نظامها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ظهور‭ ‬نتائج‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬التعليمية‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬محمد‭ ‬علي،‭ ‬ورأينا‭ ‬ثماره‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الخديوي‭ ‬إسماعيل‭.‬

ولذلك‭ ‬سنجد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ (‬التاسع‭ ‬عشر‭) ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البدايات‭ ‬المهمة‭ ‬والمؤثرة‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬تعرفها‭ ‬بمعناها‭ ‬الحديث،‭ ‬وأخصُّ‭ ‬منها‭ ‬فنَّي‭ ‬المسرح‭ ‬والرواية‭.‬

فالمؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذين‭ ‬الفنينِ‭ ‬بأشكالهما‭ ‬الحديثة،‭ ‬هما‭ ‬فنانِ‭ ‬واردانِ‭ ‬من‭ ‬الخارج‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬لهما‭ ‬جذورهما‭ ‬التراثية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدعم‭ ‬حضورهما‭ ‬الجديد،‭ ‬فتسهم‭ ‬في‭ ‬تأصيل‭ ‬تجذرهما‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬والمساعدة‭ ‬على‭ ‬نقائهما‭ ‬وازدهارهما،‭ ‬لكن‭ ‬الاكتمال‭ ‬الأوَّلي‭ ‬والبدايات‭ ‬الحقيقية‭ ‬شهدها‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬هو‭ ‬القرن‭ ‬الذي‭ ‬أُسّست‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أُسميه‭ ‬محاولة‭ ‬‮«‬التأصيل‮»‬‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬فنون‭ ‬جديدة‭ ‬شهدها‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬حديثة،‭ ‬أشهرها‭ ‬بالطبع‭ ‬فنّا‭ ‬الرواية‭ ‬والمسرحية‭. ‬

وأعتقدُ‭ ‬أن‭ ‬دراسة‭ ‬هذا‭ ‬القرن،‭ ‬أعني‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬تفصيلًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صحفه‭ ‬ومجلاته‭ ‬أو‭ ‬دورياته‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬لها‭ ‬أهمية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬كله‭ ‬وإلقاء‭ ‬الأضواء‭ ‬التاريخية‭ ‬على‭ ‬بداياته‭. ‬

هذه‭ ‬البدايات‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬جذورها‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وهي‭ ‬جذور‭ ‬لا‭ ‬تكشف‭ ‬عنها‭ ‬المراجع‭ ‬المألوفة‭ ‬أو‭ ‬المعتادة،‭ ‬وإنما‭ ‬تكشف‭ ‬عنها‭ ‬الدوريات‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬صحف‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬ومجلاته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تحتوي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬المصادر‭ ‬الأولى‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بجوانب‭ ‬تاريخنا‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وبدايات‭ ‬تأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬حلم‭ ‬بها‭ ‬وبدأ‭ ‬بناءها‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا،‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬إصلاحاته‭ ‬الحديثة‭ ‬سنة‭ ‬1815‭ ‬