تساؤلات حول «التعليم عن بُعد»

تساؤلات  حول «التعليم عن بُعد»

   ما انعكاساتُ «التعليم عن بُعد» على الطلبة نفسيًا وتربويًا؟ سؤال يبدو بدَهيًا في ظل تداعيات جائحة كورونا، وانعكاس تأثيرِها على مختلف جوانب الحياة، لكن التركيز على التعليم تحديدًا له أسبابُه، التي من أهمها أنّه يمسّ شريحة واسعة من المجتمع؛ فئةَ المتعلمين في مختلف المراحل، بدءًا بالروضة وانتهاء بالطالب الجامعي. لا نسعى إلى تناول موضوع التعليم عن بُعد وما يعتريه من إشكاليات ومعيقات؛ فالحاجة إليه جاءت ملحّة في ظل الجائحة التي اجتاحت العالم دون تمييز، وهذا جانب تركّز عليه وزارات التربية والتعليم باعتباره تحديًا جديًا وواجبًا ومسؤولية عظيمة، إنّما نتناول الجانب الآخر الذي لا يبدو في دائرة الاهتمام، وهو انعكاسات التعليم عن بُعد على الطلبة نفسيًا وتربويًا.

 

الحجر الصحي الذي فرضَ نفسَه على الحياة وأصبح واقعًا لا يمكن الفكاك منه له تداعياتُه العميقة على العلاقات الاجتماعية وطرائق التواصل بين البشر، وخلق حالة من التأزم العاطفي والتورم الاجتماعي الذي يشبه الدمامل في النفس البشرية التواقة إلى التواصل دونما حواجز وشاشات، وإلى حرية الحركة والعمل وممارسة الأنشطة الحياتية، مثل التسوق والتزاور والمشاركة في الأفراح والأتراح بعيدًا عن اشتراطات الوقاية والتباعد الاجتماعي المستحدثة بسبب «كورونا»، وبعد انقضاء الجائحة - في القريب بإذن الله - لا بدّ من التعاطي مع تأثيراتها على الصحة النفسية والاجتماعية للفرد المعاصر من مختلف الفئات العمرية، مما يمكن أن نطلق عليه «جوائح ما بعد كورونا»!
     روت لي إحدى الأمهات أنها، بعد فترة من الحجر الصحي امتدت لأشهر، وأثناء زيارتها لإحدى القريبات، افترضت أن يقوم ابنها باللعب مع الأطفال الموجودين المتقاربين معه في الفئة العمرية؛ لكنه ظلَّ ملاصقًا لها ومحتميًا بوجوده قربها، حتى أنه بدا خائفًا من مخالطة الغرباء حتى من الأطفال.
    تبدو القصة في ظاهرها بسيطة، لكن لها دلائل ومؤشرات غاية في الأهمية؛ فهي تدل على أنَّ الحجر الصحي وما يلازمه من العزلة والتقوقع على الذات قد تكون مفهومة ومبررة لدى الناضجين، رغم وجود انعكاسات نفسية واجتماعية على صحتهم النفسية والعاطفية، لكنها بالنسبة للأطفال تشكل تجربة لا يمكن نسيانها، لكونها معتمة وغامضة، ويغلب عليها الألم والمعاناة وتصاعد التساؤلات التي لا تلقى الإجابة الشافية، كما لا يمكننا إغفال تأثيرها على البنية النفسية والتربية الاجتماعية، خصوصًا حين تتحول بسبب قلة التواصل وافتقار العلاقة الدافئة أحيانًا بين الأهل وأطفالهم إلى تجربة قاسية بمختلف الوجوه. 

رسالة مغلوطة
  ألا يمكن استغلال فترة الحجر في التقرب من أطفالنا ومد جسور التواصل معهم ومحاولة تفسير ما يعنيه «الفيروس» وتبسيط فكرة الحجر الصحي بما يتناسب مع مداركه بإيصال معلومة صحيحة بطريقة بسيطة دون مبالغة أو تهويل؟!
  إحدى المعلمات رفضت السماح لطالبة في يومها الدراسي الأول بالصف الأول الأساسي بالخروج إلى الحمّام، رغم تكرر طلبها، متذرّعةً بالحرص على سلامة وصحة الطلبة بقولها بلهجة تحذيرية «ممنوع! في كورونا بتيجيكِ برّة الصف»!
  مثل هذا الموقف يحمل رسالة مغلوطة تربويًا ونفسيًا، وقد يمتد أثرها في ذاكرة الطفلة وصفحة عقلها البيضاء المشرعة على الحياة؛ ففيه إنكار حاجة طبيعية، وقمع لفكرة الاستئذان التي تعتبر سلوكًا مهذبًا على الفرد تعلّمه والتدرب عليه، وتوصل معلومة غير صحيحة عن الفيروس كأنه وحش متربص بالأطفال يفتك بهم خارج الغرفة الصفية!، كان الأولى تقديم المعلومة عن المرض بصورة مبسطة، وضرورة السماح للطفلة بالخروج لقضاء حاجتها، مع التنبيه على تعقيم وغسل يديها جيدًا بالماء والصابون، حرصًا على سلامتها من فيروس لا يُرى بالعين المجردة.
   الأجواء المتوترة الناجمة عن الحجر الصحي والمتخمة بالقلق والخوف من العدوى، إضافة إلى الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية وحالات التأزم العاطفي والاكتئاب تشكل سحابةً داكنة في سماء طفل في طور نموه العقلي والاجتماعي، ولمّا يزل يبني المنظومة القيمية الخاصة به، ويرسم صورة العالم من حوله بألوان تجاربه اليومية.

تنافس غير عادل
    من المعروف أنَّ التعليم بالنسبة للطالب في صورته التقليدية وظروفه المتاحة غالبًا ما يشكل عبئًا عليه، بسبب ازدحام الغرف الصفية، والاستراتيجيات التقليدية المتبعة، والحاجة إلى تدريب الكادر التعليمي وتحسين ظروفهم في العمل والمعيشة، كي ينعكس ذلك إيجابيًا على عطائهم في الغرفة الصفية، إضافة إلى زخم المناهج والتركيز فيها على الكم أكثر من النوع، وبُعد ما يقدَّم من معلومات عن حياة المتعلّم الواقعية، وفي ظل التنافس غير العادل بين السبورة الجامدة في الغرفة الصفية والشاشة الساحرة والآسرة التي تلتمع في متناول يده التي توصله للعالم باللون والصوت والصورة والمعلومات المحدثة، وبسيلٍ ملوّنٍ لا ينتهي من المعرفة والخبرات والتجارب، والتي يمتزج فيها الغث مع السمين، والتي لا تعرف حدودًا ولا رقابة.
  تخيّلوا نفسية الطفل الذي يجدُ في الذهاب للمدرسة وتلقي التعليم المباشر متنفسًا في الخروج من المنزل والمشي أو ركوب وسائل النقل، والبعد عن الجو العائلي وجدران البيت وفي الفرصة وحصص الفراغ أو الإشغال والاختلاط مع أقرانه، قد أصبح تعليمًا عن بُعد عن طريق الشاشة المرتبطة بالحاجة إلى شبكة إنترنت سريعة وكافية كي لا تكون الخدمة متقطعة وضعيفة، وبوجود السلطة الأبوية التي تميل عادة إلى التجهّم والفرض، والإلحاح على المثالية، وضرورة منافسة الأقران من أبناء المعارف أو الأقارب، بغية التباهي، ومع وجود الأم التي تختنق وتعاني تحمُّل مسؤوليات جديدة مضاعفة برعاية العائلة المتذمرة من ملازمة البيت وظروف الحجر، واضطرارها إلى تأجيل متابعة واجباتها البيتية التي لا تنتهي باجتماع العائلة، وذلك لمتابعة طفلها مع جدول التعليم عن بُعد، وملازمته وجعله يلتزم بالحصص ويؤدي الواجبات ويتتبّع ما يقوله المعلم و... تخيلوا ما تتحمله نفسية الطفل الغضة من وخزات وتجارب غير سارة يوميًا بسبب واقع التعليم عن بُعد؟!

خطط علاج مكثفة
   ماذا يقدم التعليم عن بُعد أكاديميًا وتربويًا؟ ما هي حصيلة تجربة التعليم عن بُعد بالنسبة للطالب في المراحل التأسيسية؟ هل الحصاد وفير وجدير أم مجرد فتات لسدّ الرمق؟ وهل ثمة بدائل وحلول ناجعة في ظل تصاعد الجائحة، مع تأكيدنا على أهمية الصحة باعتبارها أولوية قبل كلّ شيء؟ ماذا علينا أن نسعى إلى تحقيقه في هذه المرحلة الحرجة غير توعية أولياء الأمور حول كيفية التعامل مع واقع الحاجة إلى التعلم عن بُعد، والسعي لتوفير الموارد وتدريب الكادر التعليمي، والتهيئة النفسية للطلبة ولأهاليهم، وجعل المناهج مطواعة لهذا النوع من التعليم، وربط المادة المتعلّمة مع الحياة، والتنويع في الاستراتيجيات واستحداث الأجدى منها مع ما يفرضه الواقع الجديد. 
   هل تنتهي جائحة كورونا بالتوصل إلى طعوم ولقاحات ضد الفيروس وعودة الحياة تدريجيًا إلى وتيرتها السابقة؟ ألا تشبه الجائحة صخرة ضخمة سقطت في بحر الحياة وما زالت تردداتها وتداعياتها تتسللُ محدثةً التغيير، وفارضة واقعًا متقلبًا ومشرعًا على احتمالات لا يمكن حصرها؟! 
ثمة جوائح اقتصادية واجتماعية ونفسية تتفاقم في الخفاء والعلن، ثمة حالات متزايدة من الاكتئاب، والأكثر خطورة ثمة حاجة ملحة إلى خطط علاج مكثفة لمعالجة الثغرات الناتجة عن الوضع الاستثنائي للجائحة في البنية النفسية والتربوية للأطفال تحديدًا، نحتاج أن نلوّن لهم العالم مجددًا بالتفاؤل والقدرة على تجاوز المرحلة.

ضحايا حرب غير مُعلنة
   أطفالنا ما بعد «كورونا» المنقضية، باعتبارها جائحة اجتاحت العالم وشلّت عجلة التطور والاقتصاد، وأعادت ترتيب الأولويات في حياة، الفرد المعاصر، وأثرت في كل مناحي الحياة، أصبحوا يشبهون ضحايا حرب غير معلنة لم يسمعوا خلالها صوت انفجارات ورصاص، ولم يروا أنقاض بيوت، لكنّ العالم تكسّر من حولهم، وسمعوا صوت الصمت والفراغ والجمود الذي احتل مفاصل الحياة من حولهم، قرأوا في عيون آبائهم القلق، ورصدوا التوتر والخوف، وسمعوا الأخبار وتصاعد أرقام المصابين والضحايا، هم يخزّنون كلَّ هذه الصور في ذاكراتهم الخصبة، تستقبل عقولهم المعلومات من أكثر من مصدر، وعِوَض أن يكون الوقت فرصة تنمية وتعليم واكتساب مهارات، يتم هدر وقتهم واستنزاف فرصهم بالخوف والقلق من شيء مجهول يخيف حتى سقف العالم في مخيلتهم وهم الآباء!
   يمكن تأجيل المعلومة واستدراك خطة التعلم بصورة مكثفة لاحقًا، الخسارة الحقيقية هنا ليست في تعثّر تعلّمهم أو قلة جودته مقارنة بالنمط التقليدي في الغرفة الصفية، فالأصعب معالجة الجرح النفسي والعقدة المتكونة فترة الحجر من التعلم لدى طلبتنا صغارًا وكبارًا، كلّنا اليومَ ضحايا حرب غير تقليدية بحاجة إلى إعادة التوازن لنفوسنا ما بعد الجائحة؛ فإن كنا - أقصد الآباء - نقدر على رسم خطة لإعادة الحياة لمجراها والسيطرة في قيادة دفة المركبة؛ فلا يصح افتراض أنّ أطفالنا في المركب ذاتها، يمتلكون الاستعداد ذاته لتجاوز فترة معايشة الجائحة بأقل الخسائر، التأثير في نفوسهم الغضّة أكثر عمقًا، والثغرة في فرصتهم وحقهم في التعليم بمختلف المراحل أكبر مما نظن، كما أنّ التجارب التي مرّوا بها تترك أثرها على صفحة نفوسهم وعقولهم البيضاء، ويصعب طمسها أو محوها، فهم بحاجة إلى تفسير وإعادة توجيه كي لا تتحول إلى تشوّه يصعب ترميمه لاحقًا.

طوق نجاة
   لن ينال التعليم عن بُعد درجة الاستحقاق والتميز بتوفير المتطلبات المادية وتوفير الكوادر البشرية المدرّبة فحسب، لأنّ هذا يشبه أساسًا لبناء مخطط لإنشائه، لكنّه يبدأ بتبوؤ منزلة الجدارة حين يتم التركز على الطالب محور العملية التعليمية التعلمية، بأن نهيئ - بتضافر الجهود بين المعلمين وأولياء الأمور - الطالب ليكون موجّها بصورة صحيحة، ومحوطًا ببيئة أسرية صحية قدر المستطاع، ومزودًا بمعلومات مقنعة تجعله يقدّر تلك الحاجة الملحة لتبني خيار التعليم عن بُعد، لكونه طوق نجاة زمن الوباء والإمكانية المتاحة لتحقيق الأهداف، وتنمية المهارات المعرفية لتشرع له نافذةً للحياة، ولا تمثّل له عبئًا ورعبًا وواجبًا ثقيلًا أو عقابًا له، لكونه في مرحلة التعلم!
   

كثيرًا ما تستوقفني العبارات والطرائف التي تتطرق إلى كيفية تعاطي الأسرة العربية مع التعليم عن بُعد، بعضُها يتناول القضية التربوية المهمة باعتبارها مهزلة؛ فكأنَّ الكلمة ليست رسالةً وأمانةً، وعلى من يقولها أن يعي أبعادها وتأثيرها على المتلقي، كيف يتقبّل الطفل الموضوع وهو يسمع شكوى والدته وتذمّرها المتكرر من صعوبة الأمر وتعقيده، والتحسر على أيام ذهاب أبنائها إلى مدارسهم، والشكوى من المعلمين والمناهج وضعف الإنترنت وظروف الحجْر والفراغ والملل والأعباء الاقتصادية وغيرها الكثير؟
هو يسمع ما لا ذنب له فيه، ويعيش ويعايش واقعًا يوميًا مأزومًا وملوثًا بالخوف والتوتر والقلق، وتنكسر نفسُه الغضة أمامَ العالم الذي تكوّر على ذاته مثل قط خائف دفاعًا عن الحياة؛ فكيف نرمم ما كسرته الجائحة في نفوسِنا أولًا لنكون قادرين على ترميم ما تشوه في تطور أطفالنا نفسيًا وتربويًا؟ هل ستعود الحياة بعد الجائحة كما كانت؟ ربما نعم وربما لا؛ لكن ما هو مؤكد أنّ حياة أطفالنا - براعم المستقبل - قد مسّها الضرر، وهي بحاجة إلى خطط علاج لجوائح ما بعد «كورونا»! ■