المديح والمدّاحون أصوات من السماء

أن تلمس أناملك النار أو يخترق البرد عظامك، أو أن يتوقف ولد العين ذعرًا في المحجر، أي أن يضطرب القلب وترتعش الجوانح وينفطر الفؤاد وتتحلل الدماء، أو أن تذوب في السحيم بخارًا في الأفق، أو أن تتسامي هالة حول القمر أو ضبابًا في الشفق، أو تتجمع كنقطة ندى على حافة زهرة، أن تتجول وتسافر وتصعد وتضطرب وتصمت وتتوغل داخل كيانك وتاريخك وعقيدتك، فهذا ما يفعله المديح، ذلك الذي يجعلك تتفتت وتذوب وتتكون وتتألق وتتجمع من خلال أبياته ومفرداته وموسيقاه التي تغلّف كل هذا القلق الإنساني، والتي تجعلك تتعلّم كيف تترك الضجيج والديون والمعارك وطلبات الأسرة، لتتلقى أول شعاع للشمس، أو تنتبه لتودع آخر شعاع شاحب للقمر.
بعد كل ذلك؛ كيف لصوت أن يجذبك من أعماق قلبك كي يحولك من شخص لآخر؟ وكيف لتنهيدة صدر أن تحيلك إلى إنسان لم تكن تتوقعه؟ وكيف لجملة شعرية تجعلك تلقي كل ملابسك وتترك كل أمجادك، وتتوقف لحظة أمام شيء لا تستطيع أن تقبض عليه، لكنه ينبع من داخلك، يزلزلك ويفتّتك، ثم يقوم بجمعك مرة أخرى، وبإنجابك من جديد؟ أصوات المدّاحين تفعل كل ذلك.
المديح
إذا كان المديح، كما يقول العلّامة زكي مبارك في كتابه «المدائح النبوية في الأدب العربي»، «فن من فنون الشعر التي أذاعها التصوف»، فهو لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع، لأنه لا يصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص.
لذا فإن أهم مميزات المديح النبوي، الصبغة الروحانية لقصائد الشعر الصوفي، مع تعشيقها بالسيرة المحمدية العطرة، من خلال ذكر تاريخ الدعوة وأسسها، وإظهار الصفات النبوية المتفردة، وذكر معجزات النبي ([) وكثير من مواقفه الحياتية المقدسة، وأسفاره والأماكن التي تباركت بزيارته، وذلك من خلال الإنشاد الديني والمواويل الشعبية، والموشحات والابتهالات الدينية، التي تصبح المعبّر الأدائي لخصوصية المديح النبوي، الذي ينطلق من إخلاص المشاعر وصدق الأحاسيس ورهافة الوجدان وحب النبي ([) طمعًا بشفاعته في الآخرة.
إلا أن بعض الأصوات هي التي جعلت المديح يمتد ويصبح بهذا الوهج النبوي والرباني داخل نفوسنا الضعيفة، أصوات جعلتنا للحظات عندما نسمعها، في حالة من العذوبة والشفافية، بل وأقرب ما نكون لإله الكون ورب السماوات والأرض، من حيث الصفاء والطاعة، ومن حيث الحب النبوي الذي نعشقه ونبحث عنه.
أصوات المدّاحين هي نوافذ ومنح ربانية لقلوبنا المغلقة والمكبلة بالأعباء الحياتية الصارمة، وتستطيع هذه الأصوات أن تفكّ أسرنا من كل تلك التشابكات التي نحياها، ولو لدقائق أو لحظات في أعمارنا القصيرة.
من عمق الدعوة النبوية
جميعنا ننتظر شهر رمضان بشغف، بطقوسه الدينية، وطعامه، وصومه، لكنْ يظلّ جزءًا أساسيًّا منه هذه الأصوات الشجية، التي أصبحت طقسًا مميزًا من طقوسه، فالمديح والمدّاحون، ضاربون في جذور الدعوة المحمدية، وفي عمق تاريخها، بل ويساهمون في انتشارها.
ومن عمق التاريخ النبوي والدعوة الإسلامية، تأتي أسماء حملت هذا الحسّ الشفيف، ووضعت بصمتها على أذن وقلب التاريخ الإسلامي، حيث رافقوا الدعوة والفتوحات الإسلامية، فنجد في حياة النبي محمد ([) وسلم عمّه العباس بن عبدالمطلب، وهو من أوائل من نظم شعر المديح النبوي في حياة الرسول الكريم، فمدحه قائلًا: «يا رسول الله؟ أريد أن أمتدحك، فقال
الرسول (): قل، لا يفضض الله فاك». فأنشأ يقول:
من قبلها طبتَ في الظّلال وفي
مستودعٍ، حيث يُخصَف الورقُ
ثم هبطتَ البلاد لا بشـرٌ
أنت ولا مضغة ولا علَقُ
ومن الصحابة نجد حسان بن ثابت الملقب
بـ «شاعر الرسول»، الذي كان يُنصب له منبرٌ يلقي فيه الشعر والمديح، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، وكعب بن زهير، الذي مدح النبي ([) عندما كساه ببردته، فأنشد قصيدته المشهورة، التي عرفت بـ «البُردة»، والتي أوّلها:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ
متيّم إثرها لم يُفدَ مكبول
وفي العصر الأموي، نجد الشاعر همام بن غالب، الشهير بالفرزدق، المتوفى في 110 هـ، ينشد قصيدته في مدح النبي الكريم، عندما أنكر خليفة المسلمين حفيد رسول الله، سيدنا علي بن الحسين بن علي زين العابدين، فقال:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِم
هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
وفي القرن السادس الهجري نرى أبا حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، الشهير بـ «ابن الفارض»، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، وكان أغلب أشعاره في العشق الإلهي، حتى أنه لقب بـ «سلطان العاشقين»، يقول في مدح النبي:
وجاء بأسرار الجميع مفيضها
علينا، لهم ختمًا على حين فترة
وقال:
فعالمنا منهم نبيّ ومن دعا
إلى الحقّ منّا قام بالرّسليّة
وفي القرن السابع الهجري، جاء شرف الدين البوصيري المتوفى في 695هـ، والذي يعد، وفق كثير من المؤرخين، من أهم شعراء المديح النبوي، كما تأتي قصيدته الشهيرة بـ «البُردة» أو «الكواكب الدريَّة في مدح خير البريّة»، والتي مطلعها:
أمِن تذكّر جيرانٍ بِذي سَلَم
مزجتُ دمعًا جرى من مُقلة بدم
أم هبّتِ الرّيحُ من تلقاءِ كاظمةٍ
وأومضَ البرقُ في الظلماء من إضمِ
مدّاحو العصر الحديث
نصر الدين طوبار... الكروان
مريح القلوب، الذي يعزف على أوتارها بنبراته الروحية، الابتهالات بصوته تتغلغل داخل الفؤاد حتى يهدأ ويستكين.
إنه كروان المنشدين، وملك الابتهالات الدينية، والصوت الذي يرفعنا إلى الآفاق العلا، يرافقنا خلال أيام شهر رمضان، فنمتلئ بالروحانيات والهدوء والسكينة الإيمانية، إنه المبتهل الشيخ نصرالدين طوبار، الذي ولد في محافظة الدقهلية بمصر عام 1920 ورحل عام 1986.
طبقات صوته ونبراته في شهر رمضان تخترق قلوبنا وتزلزل مشاعرنا، بتلك الابتهالات التي نحفظها ونرددها وكأنها تخرج من قلوبنا نحن، فلا ننسى صوته وهو ينشد: «جلّ المنادي»، و«يا مالك الملك»، و«مجيب السائلين»، و«يا ليلة القدر»، و«رمضان أشرق».
النقشبندي... الأيقونة
صوت السماء العميق، وإمام المدّاحين قديمًا وحديثًا، وأحد أعذب وأقوى وأوسع الأصوات مساحة في تاريخ المديح والابتهالات الدينية، صوت من نور، وكأنه يشقّ السماء بنفحات ربانية قادمة إلى قلوبنا.
إنه الشيخ سيد النقشبندي، الذي ولد بمحافظة الدقهلية أيضًا عام 1920 ورحل في عام 1976، والذي كان صوته في رمضان ذا مذاق خاص، تصاحبنا تواشيحه ومدائحه ببحّة صوته العذبة وكأنه يفطّرنا. فلا نستطيع أن ننسى أذان الفجر، أو ونحن نبدأ إفطارنا إلا ويرافقنا صوتُه منشدًا: «مولاي إني ببابك قد بسطتُ يدي»، و«سبحانك ربي سبحانك».
ويعتبر النقشبندي صاحب مدرسة متفردة في الابتهالات، وأحد أشهر المنشدين والمبتهلين والمدّاحين في تاريخ الإنشاد الديني على الإطلاق، بل إن صوته علامة متفردة بالإنشاد الديني في العالمين العربي والإسلامي، وعلامة مميزة في المديح وخاصة في شهر رمضان.
محمد الكحلاوي... مدّاح الرسول
مداح الرسول، كما كان يحب أن يُنادى، وصاحب الملحمة النبوية، صوته وإنشاده يجعلان الجسد يهتز ويدخل في ذبذبة وحسّ صوفي في عالم آخر غير ما نعيشه.
إنه محمد الكحلاوي، من محافظة الشرقية (1 أكتوبر 1912 - 5 أكتوبر 1982)، صاحب الصوت ذي الدرجات المتعددة ما بين العمق البدوي الصافي، والزخم الشعبي الجميل، والأداء الديني المتميز، الذي لم يتكرر.
ورغم أنه بدأ حياته ممثلاً ومطربًا، فإنه تركهما وسلك طريق الإنشاد الديني والمواويل الشعبية، وبدا اهتمامه بالمديح النبوي والغناء الشعبي، ومن أشهر مدائحه: «لاجل النبي»، و«يا قلبي صلّ على النبي»، «وخليك مع الله»، و«نور النبي».
أحمد التوني... ساقي الأرواح
نقرات على كأس زجاجية ومسبحة، وبعدها، حتمًا سوف يتمايل جسدك، وحتمًا ستسمو روحك، وقد تغادر جسدك لتمرح من النسمات، وتصعد لأعلى السماوات، قبل أن تعود صافية لجسدك مرة أخرى.
إذا حدث لك هذا، فمن المؤكد أنك تنصت لصوت الشيخ أحمد التوني، المولود في قرية الحواتكة التابعة لمركز منفلوط بأسيوط، في عشرينيات القرن الماضي، والذي رحل عام 2014.
لقبّه مريدوه بـ «ساقي الأرواح»، وآخرون لقبوه
بـ «سلطان المداحين»، ويعد من أشهر منشدي الصعيد المصري، وقد استطاع بأدائه المتميز الخروج بالغناء الصوفي من المحلية إلى العالمية، وكان يهدف من خلال المدائح النبوية والإنشاد الديني وموسيقاه الشجية المميزة إلى إيصال رسالة المديح العربي والسيرة النبوية العطرة إلى العالم كله.
ويتميز المديح لديه بأنه يعتمد على الكلمة وقوّتها لا اللحن، حيث جعل من اللحن خلفية مرافقة وليس أساسًا ينطلق منه، أي لا يغلّف الكلام إلا عندما يريد، كما أنه لا يحفظ القصائد، فمديحه يعتمد على الإنشاد الفطري القائم بصورة أساسية على الارتجال، مما يحفظه من أشعار كبار أئمة التصوف، مثل ابن الفارض والحلّاج، وكان يتبعه فريق بسيط يتكون من تخت شرقي مؤلف من الرّق والناي والكمان.
ياسين التهامي... شيخ المدّاحين
بحر أصوات متّسع، وفيضان نبرات صوتية لا يهدأ، ومحيط إنشاد ديني وشعبي لا ينفد، صاحب الأسلوب المميز بين اللهجتين الدارجة والعامية، مع تطعيمها بألوان الشعر الصوفي الفصيح لكبار الشعراء والمدّاحين.
لأكثر من ربع قرن، يقود صوت الشيخ ياسين التهامي، المولود عام 1949 بقرية الحواتكة بأسيوط أيضًا، المديح المصري والعربي، حتى لقّب بـ «شيخ المداحين». وبسبب المديح سافر وأحيا كثيرًا من حفلات المديح والإنشاد الديني في أوربا وكثير من دول العالم.
بل إن هذا جعله - بسبب نبرات صوته وتنوّعه الصوفي - يأتي على رأس المدّاحين الذين يتبعهم مئات الآلاف في رحلاتهم لسماع إنشادهم في حب الرسول الكريم، خاصة في مولد سيدنا الحسين بالقاهرة، وساحة السيدة زينب في شهر رمضان المعظم.
عبدالنبي الرنان... مدّاح الكف
جلجلة ورنين بطبقات مختلفة، وإيقاع الطبلة، وتصفيق كفّ صعيدي، لنجد في الختام، مديحًا ذا طعم خاص، وعملاً فنيًّا فريدًا، لن تجده أو تسمعه إلا من الشيخ عبدالنبي الرنان، الذي لُقِّبَ بـ «مداح بالكف».
وقد اشتهر الرنان، المولود بقرية الدير التابعة لمركز إسنا بمحافظة الأقصر في صعيد مصر عام 1950، بـ «الكف الصعيدي»، حيث أصبح وسيلته في تلحين مدحه، فعن طريق التصفيق بشكل معيّن بالكف، تصدر موسيقى اتّخذ منها لحنًا لمدحه واشتهر بها.
وقد تعلّم تلك الطريقة التي يلقي بها مدائحه النبوية من والده عبدالعال محمدين، وكان من مشاهير فن الكفّ بالصعيد، وقد لقب بـ «الرنان»، بسبب رنين صوته المميز بليالي المدح، واستعان بعد ذلك بالطبلة - التي صنعها بنفسه - كآلة موسيقية، وارتبط بها وعزف عليها جميع مدائحه وابتهالاته، ولم يتركها في أي ليلة مدح، حتى توفي في عام 2009.
وبعد، يوجد بالطبع كثير من المداحين، ولكل منهم مذاقه الخاص، إلا أن أهم ما يميزهم، حب الرسول ([)، فمن خلال حناجرهم يتغنون بسيرته العطرة وفضائله، وتظلّ أصواتهم حاضرة خلال أيام شهر رمضان المباركة، تلك الأصوات التي هي تراث شعبي عربي مميز لهويتنا العربية الإسلامية، ترافقهم أيقونة المديح «بردة البوصيري»، التي تقول بعض أبياتها:
محمدٌ سيد الكونين والثقليـن
والفريقين من عرب ومن عَجمِ
نبينا الآمرُ الناهي، فلا أحدٌ
أبرّ في قولِ لا منهُ ولا نعم
هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتُه
لكلّ هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبلٍ غيرِ منفصم
فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كَرم .