الكويت..و (جمهورية أفلاطون)!

حلم الفيلسوف الإغريقي العظيم أفلاطون ذات يوم، بأن يقيم جمهورية مثالية تقوم على أساس العدل، والقانون، واحترام إنسانية الإنسان، وحقه في التعبير.

جمهورية لا تعترف برجال السياسة، ولا برجال الميليشات ولا بتجار السلاح، ولا بتجار الشعارات، والأيديولوجيات الكاذبة.

جمهورية لا تعترف حتى بالشعراء، ولا بمن يتبعونهم من الغاوين، والمصفقين، والمنافقين.

لكن الجمهورية العتيدة بقيت مجرد حلم جميل في مخيلة أفلاطون، وظل اليونانيون كما هم إلى يومنا هذا.

وبعدما انتصر الحلفاء في حرب عاصفة الصحراء، وحرروا الكويت من الاحتلال العراقي، تذكروا فجأة (جمهورية أفلاطون) وطلبوا من أهل الكويت أن يقيموا هذه الجمهورية السعيدة، بعدما فشل أهل أثينا في إقامتها.

وهكذا أصبح الكويتيون، الذين خرجوا من تحت الجزمة العراقية - بدون نعال، وبدون دشداشات، وبدون مصروفهم اليومي - مسئولين عن تصحيح هذا العالم، وعن إقامة المؤسسات الديمقراطية في النظام العالمي الجديد.

***

منذ أن تحررت الكويت حتى اليوم، والعالم يتفرج بلذة سادية على شنق الكويتيين على أعمدة الصحافة العربية والعالمية.

كأنما قدر للكويتيين أن يخرجوا من حفلة شنق همجية، ليدخلوا في حفلة شنق دولية.

الضربات تأتي من كل مكان، سواء من هؤلاء الذين صفقوا لاحتلال الكويت، أو من أولئك الذين اشتركوا في تحريرها.

الذين لبسوا عمائم الأنبياء، والفقهاء، والواعظين، وبدأوا يقرأون علينا دروسا في الأخلاق السياسية، وحسن السيرة والسلوك..
أمريكا.. تريدنا أن نكون أمريكيين!

وبريطانيا تريدنا أن تكون بريطانيين!

والأنظمة التي لا ديمقراطية فيها، تطالبنا باحترام الديمقراطية! والأنظمة اللادستورية، تطالبنا بالعمل بأحكام الدستور!

والأنظمة التوتالية، ذات الحزب الواحد، والزعيم الواحد، والقائمة على حكم الأجهزة والمباحث، تتهمنا بالإرهاب والقمع!

والأنظمة اللاشعبية التي جاءت إلى الحكم على ظهر دبابة، تطالبنا بأن نحترم إرادة الشعب!

والإسلاميون الذين يتخذون من الإسلام (قميص عثمان) يريدون منا أن نتوب إلى ربنا، ونمشي على الصراط المستقيم.

والسلطويون في العراق الذين هم أصل البلاء، وسبب خراب الديرة، يتهموننا بالانفصالية والقطرية، والتفرقة العنصرية، لأننا رفضنا أن نصلي خلف إمامهم ميشيل عفلق.

كل واحد يريد منا أن نكون على شاكلته، وأن نلبس الثوب الذي يفصله لنا، واللغة التي نتكلم بها، وجواز السفر الذي نسافر به.

لا أحد، مع الأسف، يعترف لنا بأن نكون (كويتيين) كما تعترف الطبيعة للسنبلة أن تكون سنبلة، وللنخلة أن تكون نخلة، وللعصفور أن يكون عصفورا، وللأرنب أن يكون أرنبا، وللسمكة أن تكون سمكة.

نقيق يتساقط على رأس الكويت من كل الجبهات.
نقيق من الشمال، ونقيق من الجنوب.
نقيق من المتحضرين، ونقيق من المتخلفين.
نقيق من الثوريين، ونقيق من محترفي الثورية.
نقيق من المثقفين، ونقيق من أنصاف المثقفين.
نقيق من صحافة العرض والطلب.
ونقيق ممن يبيعون ويشترون في (سوبر ماركت) العروبة.
ونقيق من أجل النقيق.!

***

ولو أن الذين (ينقون) على طريقة الضفادع النهرية، هم من الأنقياء، الأتقياء الراسخين في فقه الديمقراطية، لقلنا سمعا وطاعة.

ولكنهم بكل أسف، آخر من يعطي الدروس، وآخر من يقدم المواعظ حول الديمقراطية لأن سجلهم العدلي ليس نظيفا ولا مشرفا.

ويوم يقدم التاريخ شهادته، وتفتح الملفات، فسوف يدخل إلى السجن هؤلاء الذين طالبوا بمحاكمة الكويت، وتخرج الكويت من سجنها بريئة ناصعة الحسن.

ولا نجد ما نقوله لمن يرجمون الكويت بحجارة الكراهية، سوى ما قاله السيد المسيح لأهل أورشليم: (من كان منكم أكثر ديمقراطية من الكويت، فليرجمها بحجر..) منذ أن خرجت الكويت من (هولوكوست) الاحتلال العراقي، وهي محطمة نازفة مشوهة الملامح، فاقدة الوعي. والدعاوى مقامة عليها بالجملة والمفرق.. بتهمة الخروج عن قواعد الديمقراطية ومخالفة مبادئ حقوق الإنسان.

كيف تستطيع الكويت أن تذهب إلى المحكمة، ورأسها ملفوف بالضمادات وقدماها موضوعتان بالجبس، وأنابيب المصل مربوطة بذراعيها؟

كيف تستطيع الكويت أن تدلي بإفادتها، وهي بين الحياة والموت، وكيف تستطيع أن تروي قصتها وهي نصف عاقلة، ونصف مجنونة؟

وحين يكون الإنسان في المنطقة الفاصلة بين العقل والجنون، فإن محاكمته أو مناقشته أو استجوابه تصبح مستحيلة وغير ذات موضوع ولا يمكن لأية شريعة في الدنيا أن تدين إنسانا لا يرى ولا يسمع ولا ذاكرة له.

ربما ارتكب المواطن الكويتي بعض الحماقات، في هذا الزمن المكتظ بالحماقات، وربما غضب، أو صرخ، أو فقد أعصابه، أو ضرب أحد جيرانه أو تشاجر مع واحد من أشقائه، وهذه مخالفات صغيرة جدا، تحدث يوميا في الشوارع، والمقاهي، والمدارس، وعند أحسن العائلات، بل هي تحدث دائما في كل أنحاء العالم.

إنها حوادث بشرية عابرة لا تستدعي الذهاب إلى منظمة الأمم المتحدة، أو تقديم شكوى إلى شرطة الإنتربول.

ولكن الذين تضايقوا من تحرير الكويت، وحزنوا لرحيل الجيش العراقي، حولوا (الحبة إلى قبة) وأقاموا حائطا للمبكى يذرفون عليه دموعهم، ويتباكون فيه على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

الكويت ليست قبيحة إلى هذه الدرجة، ولم تكن في يوم من الأيام مشوهة الوجه إلى هذا الحد الكاريكاتوري الذي ترسمه الصحافة لها.

الكويت كانت نقطة متوهجة، ومركزا اقتصاديا وماليا وثقافيا متقدما جدا على خارطة الخليج، وكانت علامة من علامات الحضارة والليبرالية بجميع المقاييس، إذا قيست بالنماذج الأخرى السائدة في المنطقة.

الكويت، هي بيروت الثانية، ومثلما دفعت بيروت ثمن تفردها، وتميزها وديناميكيتها، دفعت الكويت الثمن الباهظ ذاته.

هناك خطوط حمراء كثيرة لا يجوز تجاوزها على الخارطة العربية..

فالحرية لها خط أحمر..
والثقافة لها خط أحمر...
والمعرفة التكنولوجية لها خط أحمر...
والاقتصاد الحر له خط أحمر...
والمغالاة في عشق الحرية لها خط أحمر.

والجرائد، والرسائل، والكتب، والمطبوعات، والفاعل والمفعول، والمبتدأ والخبر، والحوارات، كلها تصطدم بالضوء الأحمر.

حتى قصائد الحب.. لا تستطيع أبدا أن تتجاوز الخط الأحمر..

***

لا شيء يحدث بالمصادفة فوق هذه الأرض البركانية..

فعندما اشتعلت النار في لحية بيروت بتاريخ 13/4/1975 بدأ الكويتيون يتلمسون شواربهم ولحاهم..

وقد كشفت وقائع حرب الخليج، أن النبوءة الكويتية كانت صادقة، وأن (حلاق أشبيلية) الذي حلق ذقن بيروت في أواسط السبعينيات.. هو الذي حلق ذقن الكويت في التسعينيات..

إنني لا أدعي أن الكويتيين هم جنس الملائكة.. ولا أزعم أنهم بلا أخطاء ولا ذنوب.

نحن العرب جميعا من طينة واحدة، وأم واحدة، ورثنا عنها الانفعال السريع، والغضب السريع والرضا السريع.

نحن كرغوة الحليب نفور في لحظة، ونهدأ في لحظة، والترمومتر النفسي والعاطفي في داخلنا، يتحرك بشكل عشوائي بين درجة الأربعين تحت الصفر، ودرجة الأربعين فوق الصفر.

لذلك فإن محاكمة الكويتيين على أساس حرارتهم أثناء وبعد الغزو لا قيمة طبية لها، لأنهم في هذه المرحلة في درجة الغليان.

وأتصور أن التقارير الطبية التي كتبها الأطباء عن الكويت لم تكن دقيقة ولا إنسانية، لأنها كانت تتعامل مع مريض خارج لتوه من زنزانة انفرادية، أو من مصح للأمراض العقلية.

إن سبعة أشهر من القهر، والقتل، والتخريب، والاغتصاب، والإبادة الجماعية، كانت كافية لتحطيم النفس الكويتية، وإحداث مئات العاهات والتشويهات فيها.

لذلك فإن محاكمة الكويت (بالنظارات) وإصدار الأحكام (بالنظارات) أيضا، دون دراسة الجانب السيكولوجي للقضية، ودون الأخذ بالأسباب المخففة، هي محاكمة باطلة.

إن العاصفة الاستثنائية التي ضربت الشعب الكويتي، أفرزت بعض ردود الفعل الاستثنائية، ومثل هذه الانفعالات العشوائية والشخصية لا يمكن لأحد أن يلجمها في زمن الفوضى.

والثورة الفرنسية، التي هي أم الثورات ورائعتها، لم تستطع أن تفعل شيئا لحاملي السكاكين، والبلطات، الذين حولوا شوارع باريس إلى بحر من الدماء

***

الكويت بحاجة إلى فترة نقاهة تسترد بها أنفاسها، بعد سبعة أشهر في سراديب النظام العراقي.

إن بحرنا لا يزال ملوثا، وشمسنا لا تزال تلبس الملاءة السوداء.

فاصبروا أيها السادة علينا قليلا، حتى نطرد الربو من رئتينا والدموع من عيون أطفالنا.. والعفاريت التي لا تزال ترقص أمام شبابيك بيوتنا.

لا تطلبوا منا أن نعمر لكم (جمهورية أفلاطون) في خمس دقائق، ولا أن نؤسس (المدينة الفاضلة) التي تجري من تحتها أنهار العدل، والحب، والحرية.

انتظرونا أيها السادة حتى نخرج من غرفة العناية الفائقة، وبعدها، اطلبوا منا أن نحمل لكم حليب العصافير، وفاكهة الجنة، وموائد المن والسلوى.

لا تخافوا على الحياة البرلمانية في الكويت، فنحن أول من وضع حجر الأساس للحياة البرلمانية في منطقة الخليج.

لا تخافوا على شجرة الديمقراطية من اليباس، لأننا ديمقراطيون بفطرتنا وطبيعتنا، وعراقة تراثنا.

ولا تخافوا على العدالة الاجتماعية لدينا، لأن الكويت سوف تبقى - برغم من عضوا يدها، وتنكروا لعطائها - بيتا مفتوحا لكل من يقصدها من الإخوة العرب، بحثا عن الخبز والحرية والسلام.

ولا تخافوا على عروبة الكويت، لأن الظفر لا يخرج من اللحم، والدم لا يمكن أن يتحول إلى ماء.

أيها السادة: خذونا بحلمكم، واصبروا علينا قليلا.. فإن الله مع الصابرين.