عن المثقف المَصْقول!

عن المثقف المَصْقول!

تكاد صورة مثقف الألفية الثالثة عامة، و«المُؤدْلج» خاصة، في بعض أحواله، أن تكون صورة كائنٍ خُرافيّ، ربما لأنه يقول الشيء ويفعل عكسه، وينادي في الأسماع بكل جديد، والجموع الغفيرة ماضية عنه، لا تلوي على شيء، وتُصيخ السمعَ إلى لسان حالها «ماذا قال آنفًا»؟!
ما أكثر كلام المثقف - غير المُتَّسق - عن الفقراء والمعدومين، وهو منذ عقود عديدة، لا يوجه سهام نقده الحقيقيّ إلى المؤسسات، ورؤوس الأموال التي تحرص على أن يظلّ الفقراء على حالهم، فقراء ومسحوقين (ربما حتى يظل إحساسه صاحيًا..!).
يَجْهر بالوحدة والقومية، وهو ينفخُ في نار الفرقة، ويَنْعق في ساحات الفرديّة والعصبية آناء الليل وأطراف النهار، دون أقل إحساس بالعار!
يثرثر عن حريّة الرأي والديمقراطية، وهو يعصف بكل من يخالفه، ويصنّفه، ثم يجرّده من وطنيته الزائفة، وربما لو سألته عن أحلامه لأخبرك بأنه يريد سجنًا لكل من يخالفه، على قارعة كل طريق! ويحقّر من يقين الناس ومرجعيّاتهم، ليُقيم أصنامًا من وهْم وخرافة يقدسها دون هوادة!
في تقديري، ليس المثقف ذلك الشخص الذي يَحْوي رأسُه أكداسًا من المعلومات والبيانات، ينفقُ منها متى شاء على خلق الله!
 وليس ذلك المسكين الذي ذبلتْ عيناه من فرط مطالعة المُصنّفات والمجلدات!
 وليس ذلك المُتشدِّق الذي ينظر شزرًا من فوق نظّارة ساقطة فوق أَرْنبةِ أنفِه!
   إنما المثقف - في حسباني - ذلك الإنسان المَصْقول! صَقَل روحه قبل كلامه، وصَقل قلبه قبل هندامه! صقل عقله، وتحرّر من إسار الخرافة والبدائية، والهوى والعصبية والتعصّب، والجهل المركّب!
صقلَتْه الأفكارُ والتجارب والمعارف، وانطلقتْ به نحو سماوات الموضوعية، وآفاق الجمال، وبَراح السماحة والمغفرة. 
المثقف المثال يرتقي ذوقه، ويَرْحبُ تذوّقه، ويَصِحُّ وجدانُه كلما تعاقبَ عليه الجديدان!
وهو ذلك المُتّسق، يؤمن حقًا وصدقًا، بما يَجْهر به بين الناس، فالمبادئ والقيم والمُثل والأخلاق العُلا، تبدو جميعها للناظر مطروحةً في الطرقات، يدّعيها كل ناطق، ويتزيّا بها كل عارٍ، لكن المُتسق العتيد تكونُ حياتُه صورةً من أفكاره المعلنة، ومصداقًا أمينًا لما يدبِّجه من مقالات ومنشورات، وترجمة واعية لما ينطلق به لسانُه الذي بين فكّيه!
ثم ها هو يَيْنَع ثمرًا حلوًا، قريبًا مأخذه، وفيًّا لحقيقته، كلما أَرْسل الكلام أو تلقّاه، بل هو نفسه في سلوكه الخاص والعام ■