«في الإيقاع واللغة» كتاب يؤسس لإيقاع شعري عالمي
يمثل الإيقاع أحد أكثر إشكاليات الحداثة الشعرية تعقيدًا، وخاصة في القرن العشرين، وقد تناوله بالدراسة والتحليل عدد من الدارسين، وأمام الجدل الدائر بين نقاد الشعر، سواء العربي أو غيره من الشعر العالمي، يأتي إسهام بعض الباحثين في هذا المجال تنظيرًا وتأسيسًا لرؤية جديدة، تنهل من انفتاح المثقفين العرب على مختلف الثقافات الإنسانية المعاصرة، فضلا عن عمق قراءاتهم للتراث العربي.
ضمن هذا السياق، أصدر الباحث الأكاديمي المغربي محمد العلمي كتابًا جديدًا يحمل عنوان «في الإيقاع واللغة»، وصدر عن منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، ومقره بمدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، نهاية عام 2018، وسنخصص له هذه القراءة.
والعلمي من مواليد فاس عام 1944، وقد أغنى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات العلمية التي توزعت بين الكتابة الشعرية والدراسات النقدية والتحقيق والترجمة، فضلًا عن مشاركاته المتعددة في الندوات والمؤتمرات العلمية، إلى جانب إشرافه على العديد من البحوث الجامعية في الدراسات العليا، عندما عمل أستاذًا جامعيًّا بجامعة فاس، ومن أشهر مؤلفاته كتاب «العروض والقافية... دراسة في التأسيس والاستدراك»، صدر عام 1983، وتحقيق كتاب «عروض الورقة» لإسماعيل بن حماد الجوهري، وصدر سنة 1984.
وجاء كتابه الجديد «في الإيقاع واللغة»، في حوالي 140 صفحة، ويضم مقالات ودراسات نظرية وتطبيقية، حول قضايا مرتبطة باللغة والإيقاع في الشعر عمومًا، والعربي خصوصًا، وذلك محاولة من المؤلف للإسهام في البحث العلمي الجاد، في مجال بحثي دقيق، لا يزال محل جدل ونقاش بين الباحثين وضمن حساسيات نقدية متباينة.
افتتح هذا الكتاب بعد الاستهلال، بترجمة لمقال Pierre Guiraud عنوانه «ثوابت الشعر»، يقدم تحليلًا للبيت الشعري، بالعودة إلى أصوله اللاتينية، حيث يرجع في منطلقه إلى خطوط متساوية وموزونة، وهو يناقض النثر أو الكلام الذي يتجه إلى الأمام مستقيمًا.
ويحاول المقال أيضًا التمييز بين النثر الإيقاعي والشعر؛ حيث إن إيقاع الشعر ووزنه طريقتان لتقسيم الحديث إلى أقسام متناسبة، بينما لا توجد في النثر الشائع تناسبات.
توازيات إيقاعية
ويقدم صاحب المقال تحليلًا لنماذج من الشعر الفرنسي القديم، للوقوف على ما يميّز الشعر من توازيات إيقاعية وتركيبيـة، ويخلص من ذلك إلى بعض النتائج؛ منها أنَّ الشاعر يتلاعب بالنحو (معجمًا وتركيبًا)، وبالمقاطع والرّنّات، والوقفات، ونبرات الكمية والشدّة والعلوّ، وهي ثوابت كل عروض، وموجودة في عروض كل اللغات، على الرغم من تنوعها في بعض الحالات، حسب طبيعة كل لغة وخصوصياتها.
بعد هذا التأصيل للعروض في مختلف اللغات، يستحضر صاحب المقال بعض الأنظمة العروضية الأساسية، ويتعلق الأمر بالعروض الإغريقي اللاتيني، والعروض الجرماني، والعروض الصيني، إلى جانب العروض الهندي والعبري، حيث يبرز خصوصيات كل نظام، محددًا ثوابت الشعر، وخاصة المقطع الذي يعدّ الوحدة الأساسية للسلسلة الكلامية، والمنتج للنّبر؛ حيث إن لكل صوت مدته وعُلوه وشدّته الخاصة به، التي تحدّد رنّته وجرسه وتُميّزُه، وتبعًا لذلك ستنقسم الأصناف العروضية إلى شعر نبريّ، وكمّي، ومقطعي، ولما كانت بعض الآلات العصرية نجحت في الفصل بين التردّد والسَّعة والمدّة، فقد فتح ذلك باب الأمل لتدقيق الإيقاع في الشعر، من خلال العروض التجريبي الذي يوظّف التحليل الآلي، غير أنَّ هذا التحليل ما دام لا يميّز بين الشكل والوظيفة؛ فالصور الصوتية التي تحدد الوزن دلائلُ فونيمات لا أصوات، كلماتٌ حاملةٌ لمعنى لا أشكالٌ فارغةٌ، ولا يمكن بناء على ذلك أن ندرسها بعيدًا عن وظيفتها.
قيم لغوية
من الدراسات التي تضمنها الكتاب أيضًا، بعض المداخلات العلمية التي شارك بها العلمي في مؤتمرات علمية، حول الشعر، أو بمناسبة تكريم رواد نقد الشعر، ويتعلق الأمر ببحث «الأسباب والأوتاد والفواصل بين المقطع والحركة والسكون»، استعرض فيه آراء الأقدمين، عروضيين ونحاة ولغويين، وقارنها بعمل المحدثين من علماء الأصوات الوظيفية، مستحضرًا بعض الظواهر الــــتي تميّزت بها اللغة العربية مقارنة مع اللغات الأجنبية الأخرى، فعلى سبيل المثال ليس هناك في العربية كلمة تبدأ بصائت، بينما في الفرنسية كلمات هي عبارة عن صائت.
وأيضًا بذل المؤلف جهدًا واضحًا في رصد أسباب اختلاف الحركات في العربية، وعلاقتها ببعض الحروف، إلى جانب السكون الذي وإن لم يكن جزءًا من نظام الحركات في العربية، فإن القــدماء أولوه عناية كبيرة، لما يحمله من قيم لغوية، تظهر في الجانب الصوتي الوظيفي، والصرفي، والنحوي، ليخلص من ذلك إلى فكرة جوهرية مفادها إمكانية الاعتماد على مفهوم الحركة والسكون، من أجل بناء نظام للمقاطع في اللغة العربية، وهذه الفكرة هي التي سينطلق منها الباحث محمــــد العلمي لمقاربة مقاطع العروض، أي الأسباب والأوتــــاد والفواصــــل، نظرًا لقيــــام هذه المقاطع على مفهـــومي المتحــــرك والساكن.
أما بحث «أبو العتاهية والعروض»، فقد ناقش فيه الحكم النقدي الذي نَظر لشعره باعتباره «أكبر من العروض، وله أوزان لا تدخل في العروض»، حيث كان أبو العتاهية يلعب بالشعر لعبًا، ويأخذ كيف يشاء، لتمكّنه من صنعة الشعر، وامتلاك ناصية اللغة، وقد استدل الباحث على ذلك بنماذج من شعره وآرائه، ثم استحضار آراء القدماء حول هذه المسألة، مع التركيز على الأفكار ذات الجانب الإحصائي وأيضًا ذات الجانب العروضي المحض، لمعرفة ما يدخل من شعر الرجل في عروض الشعر العربي، وما لا يدخل، ومدى استقامة هذه الأوزان، حيث أثبت خلو شعره من أي سقطات عروضية، مما يرجّح صدق الحكم النقدي «أن يكون أبو العتاهية أكبر من العروض».
3 دراسات
خصّص العلمي بعض الدراسات لمعاصريه من الأدباء والنقاد، مغاربة ومشارقة، ويدخل ضمن ذلك ثلاث دراسات:
الأولى بعنوان «جمالية القوافي في الدرس العروضي عند المرحوم محمد الدناي»، وهو أحد رواد البحث الأكاديمي الجامعي في المغرب، سلّط فيها الضوء على جهود د. الدناي في خدمة العروض، وخاصة مبحث جمالية القافية، الذي كانت له فيه إضافــة نوعــــية؛ سواء في إبداع مصطلحات نقدية جديدة، أو تقريب معرفة عروضية دقيقة، بألفاظ جامعة مانعة.
والدراسة الثانية حملت عنوان «مقدمة في اللغة والإيقاع في شعر أحمد مفدي»، رصد فيها خصوصيات القصيدة عند هذا الشاعر المغربي الفذ؛ مثل طابع الاستمرارية وخاصية الجزالة، وما طبع اللغة من تنوع وثراء؛ حيث يحضر المعجم القرآني، والمعجم الجاهلي والصحراوي، إلى جانب ما تميّزت به قصائد هذا الشاعر من إيقاع، وخاصة ولعه بالمتدارك.
أما الدراسة الثالثة فقد خصّصها للشاعر الإماراتي سلطان العويس، حملت عنوان: «الإيقاع العروضي في شعر سلطـــان الــعـــويس... دراســة إحصائية وصفية»، تتبّع فيها الإيقاع العروضي للأشعار التي تضمنها ديوان هذا الشاعر، المنشور في أعماله الشعرية الكاملة، مركّزًا في هذه الدراسة على جملة من النقاط؛ وهي توزيع القصائد على البحور، وتحديد البحور التي لم ينظم عليها، ثم رصد ظواهر عروضية طبعت شعره؛ ومنها ما له صلة بالشعر القديم، وما له علاقة بروح التجديد والتطوير التي ميّزت بعض قصائده.
تعزيز الحوار العلمي
اختتم الباحث العلمي كتابه «في الإيقاع واللغة» بدراستين؛ الأولى بعنوان: «محاولة في ضبط إيقاع بعض أزجال الطرب الأندلسي»، علمًا بأن هذا الموضوع تقف دونه عوائق، من أهمها أن لهجة أهل الأندلس لم تعد مستعملة، ولتجاوز هذه الصعوبة اعتمد المؤلف ما وصل إليه كل من الباحثين فدريكو كوريينتي، وخاصة تحقيقه لديوان ابن قزمان، ومحمد بنشريفة في كتابه «تاريخ الأمثال والأزجال في المغرب والأندلس»، معتبرًا ما توصلا إليه الأساس النظري الذي انطلق منه لمحاولة تحديد إيقاع بعض الأزجال الأندلسية، مما ساعده على استخلاص جملة من النتائج منها: أنَّ البنية الخارجية لبعض الأزجال الأندلسية تتبنى هيئة الموشّح؛ حيث يكون البيت مشطورًا، ومزدوجًا، وذا أغصان متعددة، كما هو شائع في كل من الموشح والزجل.
ويضاف إلى ذلك تنوع البنى الإيقاعية بين بعض الأبحر الخليلية كالمجتث، وبعض الصور المألوفة في الموشح، حيث خرج الوشاحون عن نمط الأبحر المعروفة إلى أبحر مشتقة منها.
وكانت الدراسة الثانية التي اختتم بها الكتاب، مسك الختام بحقّ، حيث نقلت الاهتمام من الشعر العربي ومن اللغة العربية إلى لغات أخرى غير العربية، وذلك في سياق تعزيــز الحوار العلمي بين الباحثين في اللغة، وتأكيد دور البحث اللغوي في ترسيخ هذا الحوار.
وقد عنون المؤلف دراسته بـ «نظرة عن الهمزة في غير العربية»، ركّز فيها على اللغة الفرنسية تحديدًا، ومستحضرًا نماذج من الكلمات، ليخلص إلى نتيجة مفادها أنَّ الهمزة لا توجد في الفرنسية إلا في أوّل الكلمة، بينما توجد في العربية في أول الكلمة وفي وسطها، وفي آخرها، مقترحًا ضرورة إدماج رمز كتابي جديد يُضاف إلى الفرنسية، ويُرمز به إلى الهمزة، مما ينتج عنه تغيير في أنواع المقاطع وعددها في الفرنسية، والأكيد أنَّ هذه النظرة الجديدة، على الرغم من خروجها عن التقليد الفونولوجي الشائع حتى الآن، يعتبره العلمي محاولة في الطريق نحو حوار لسانيّ جديد، يسهم في حوار الحضارات المنشود.
إن كتاب «في الإيقاع واللـغة» لمؤلفـــه العلمي، بتناوله جوانب وثيــــقة الصّلة بالإيقاع في الشعر، تدل على اهتمام صاحبها بالتأصيل لعلم العروض والقافية، عبر الانفتاح على لغات غير العربية، وعقد مقارنات بين ما هو موجود في الشعر العربي وغيره من الشعر في اللغات الأخرى، وذلك من أجل الوقوف على المؤتلف والمختلف، في قضايا لغوية ولسانية ما تزال محل اختلاف بين الدارسين، لكنها مع ذلك تعكس نضج البحث اللساني عند العرب المعاصرين ويقظتهم وأهليتهــــم للإضافة العلمية والنوعية في مثل هذه الحقول المعرفية الدقيقة .