«الحُب السائل».. أوجاع الحضارة في زمن العولمة

«الحُب السائل».. أوجاع الحضارة في زمن العولمة

يقتفي‭ ‬المفكر‭ ‬البولندي‭ ‬الأصل‭ ‬زيجمونت‭ ‬باومان‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحب‭ ‬السائل‭... ‬عن‭ ‬هشاشة‭ ‬الروابط‭ ‬الإنسانية‮»‬‭ ‬آثار‭ ‬المخاطر‭ ‬التي‭ ‬تنهك‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬وتتهدد‭ ‬أسس‭ ‬العيش‭ ‬المشترك‭. ‬وهو‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬حلقات‭ ‬مشروعه‭ ‬حول‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة،‭ ‬لأنه‭ ‬يحفر‭ ‬بعمق‭ ‬في‭ ‬أركيولوجيا‭ ‬قيمة‭ ‬‮«‬الحب‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أضحت‭ ‬مهدَّدةً‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭ ‬وتغوّل‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق؛‭ ‬يؤذن‭ ‬سقوطها‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬التفكك‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وإمعان‭ ‬في‭ ‬استبداد‭ ‬القلق‭ ‬والمخاوف‭ ‬والمعاناة،‭ ‬وتمدّدٍ‭ ‬في‭ ‬أرصدة‭ ‬اللايقين‭ ‬واللاأمن‭ ‬واللاتواصل‭.‬

يمتد‭ ‬خطر‭ ‬‮«‬العقلانية‭ ‬الاستهلاكية‮»‬‭ ‬ليوسّع‭ ‬المساحات‭ ‬المقتطعة‭ ‬من‭ ‬‮«‬امبراطورية‭ ‬السعادة‮»‬‭ ‬المهزومة‭ ‬لحساب‭ ‬مقابر‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتنامية،‭ ‬وليقضي‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬لمصلحة‭ ‬الرغبة‭ ‬واللذة،‭ ‬وليفكك‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لتفادي‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬‮«‬آثارًا‭ ‬جانبية‮»‬‭ ‬و«خسارات‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‮»‬‭ ‬و«التزامات‭ ‬ثقيلة‮»‬‭ ‬لهذه‭ ‬العلاقات‭. ‬وليخرب‭ ‬‮«‬الاجتماع‭ ‬البشري‮»‬‭ ‬لتمهيد‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬‮«‬التعبير‭ ‬الحر‭ ‬عن‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬و«الانغماس‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬المحصّلة‭ ‬لم‭ ‬يجْن‭ ‬الإنسان‭ ‬المعولَم‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة‭ ‬إلا‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬امتهان‭ ‬الكرامة‮»‬‭ ‬و«افتقاد‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‮»‬،‭ ‬وحين‭ ‬يلهث‭ ‬وراء‭ ‬إشباع‭ ‬رغباته‭ ‬من‭ ‬الأمن‭ ‬والطمأنينة‭ ‬لا‭ ‬يلوي‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬واليأس‭ ‬والقلق،‭ ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬مشاعر‭ ‬يتغذى‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬مجتمع‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭ ‬لمراكمة‭ ‬الأرباح‭ ‬المادية‭ ‬وتسمين‭ ‬غول‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬لكن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الخسائر‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬ضيق‭ ‬أفق‭ ‬السعادة‭ ‬الجماعية‭ ‬والاطمئنان‭ ‬الفردي‭.‬

‭ ‬

مراثي‭ ‬الحب

الحب‭ ‬والموت‭ ‬شخصيتان‭ ‬رئيسيتان‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬صخب‭ ‬الحياة‭ ‬السائلة،‭ ‬يمثلان‭ ‬معًا‭ ‬ذلك‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬السباحة‭ ‬فيه‭ ‬مرتين‭. ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يدّعي‭ ‬اليوم‭ ‬أنه‭ ‬يتعلّم‭ ‬الحب‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬يتعلم‭ ‬إلا‭ ‬مهارات‭ ‬الإنهاء‭ ‬السريع‭ ‬والآمن‭ ‬للعلاقات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البدء‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬ليرتمي‭ ‬في‭ ‬ميوعة‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة،‭ ‬وتتحول‭ ‬تجربة‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬سلعة‭ ‬جاهزة‭ ‬للاستخدام‭ ‬الفوري‭ ‬والتخلص‭ ‬السريع،‭ ‬تتخفى‭ ‬خلاله‭ ‬الآلام‭ ‬والقلق‭ ‬خلف‭ ‬الرغبة‭ ‬والإثارة‭. ‬

وحين‭ ‬يهوي‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬براثن‭ ‬الرغبة،‭ ‬يصير‭ ‬اشتهاءً‭ ‬للإشباع‭ ‬والالتهام،‭ ‬ثم‭ ‬الهضم‭ ‬والتدمير؛‭ ‬أي‭ ‬استهلاك‭ ‬المواد‭ ‬المغرية‭ ‬ثم‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬المنفّرة،‭ ‬ففي‭ ‬طيّ‭ ‬الرغبة‭ ‬اشتهاء‭ ‬دائم‭ ‬وموت‭ ‬مستمر‭. ‬وحين‭ ‬يتردى‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬الأمنية،‭ ‬يصير‭ ‬صفقة‭ ‬خاسرة‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الانسحاب‭ ‬السريع‭ ‬منها‭.‬

الحب‭ ‬قوة‭ ‬جامحة‭ ‬تستوعب‭ ‬الذات‭ ‬وتحافظ‭ ‬على‭ ‬الموضوع،‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬تطرد‭ ‬شبح‭ ‬‮«‬الرحيل‮»‬‭ ‬المقلق‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬لأحدهما‭ ‬دون‭ ‬الآخر‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الرغبة‭ ‬تدمّر‭ ‬موضوعها‭ ‬فإن‭ ‬الحب‭ ‬يديم‭ ‬موضوعه‭ ‬رغم‭ ‬تهديده‭ ‬الدائم‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الحب‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إدامة‭ ‬الرغبة‭ ‬والرغبة‭ ‬بطبيعتها‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬الحب،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الأمنية‮»‬‭ ‬تجعل‭ ‬علاقة‭ ‬الحب‭ ‬عُرضة‭ ‬للاستعمال‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬مع‭ ‬إمكانية‭ ‬الاستبدال‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تظهر‭ ‬نسخة‭ ‬مطوّرة‭ ‬ومعدّلة‭. ‬وهو‭ ‬سلوك‭ ‬تغلغل‭ ‬بسبب‭ ‬تمكّن‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬وبتأثير‭ ‬من‭ ‬بطاقات‭ ‬الائتمان‭. ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬علاقة‭ ‬الحب‭ ‬استثمارًا‭ ‬يتوجس‭ ‬خلاله‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬خسارة‭ ‬المزيد،‭ ‬وتظل‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الشريك‭ ‬الأسهم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬بيعها‭.‬

 

صفقة‭ ‬خاسرة

لقد‭ ‬ترسّخ‭ ‬لدى‭ ‬المبحرين‭ ‬في‭ ‬يمّ‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة‭ ‬أن‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الحب‭ ‬دائمًا‭ ‬غير‭ ‬آمن،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬المريب‭ ‬طبيعي‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬الحب‭ ‬صداعًا‭ ‬لا‭ ‬علاجًا،‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬باعتباره‭ ‬صفقة‭ ‬تجارية‭ ‬خاسرة‭. ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الارتباط‭ ‬يعني‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الإزعاج،‭ ‬وحالةً‭ ‬من‭ ‬اللايقين‭ ‬المستمر،‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬التأكد‭ ‬التام‭ ‬مما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تفعله،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬هو‭ ‬الصواب،‭ ‬وأنك‭ ‬فعلته‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‮»‬‭.‬

في‭ ‬العلاقات‭ ‬الثابتة‭ ‬يزخر‭ ‬الحب‭ ‬بطاقة‭ ‬إبداعية‭ ‬تنطلق‭ ‬في‭ ‬اندفاع‭ ‬شديد‭ ‬وفي‭ ‬تدفّق‭ ‬ثابت،‭ ‬وأعظم‭ ‬إغواءات‭ ‬الحب‭ ‬مغامرات‭ ‬المجهول،‭ ‬والقبول‭ ‬بغموض‭ ‬المستقبل‭ ‬في‭ ‬الفراغ‭ ‬الممتد‭ ‬بين‭ ‬محدودية‭ ‬الأعمال‭ ‬ولانهائية‭ ‬الأهداف‭ ‬والآثار‭.‬

أما‭ ‬العلاقات‭ ‬العابرة‭ ‬فتستمد‭ ‬عذوبتها‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬عابرة،‭ ‬لأنها‭ ‬تجسّد‭ ‬الاستهلاك‭ ‬اللحظي‭ ‬والتخلص‭ ‬الفوري‭. ‬

ومن‭ ‬شروطها‭ ‬الوعي‭ ‬بأن‭ ‬المصلحة‭ ‬هي‭ ‬الغرض‭ ‬الوحيد،‭ ‬وعدم‭ ‬ترك‭ ‬الآلة‭ ‬الحاسبة،‭ ‬مع‭ ‬الحذر‭ ‬المستمر‭ ‬من‭ ‬‮«‬التيارات‭ ‬العاطفية‭ ‬التحتية‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنقلب‭ ‬المصلحة‭ ‬إلى‭ ‬ضدها‭. ‬وهي‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بنا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية؛‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تكرّسها‭ ‬المساحات‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬الأكثر‭ ‬مبيعًا،‭ ‬وفي‭ ‬برامج‭ ‬الواقع‭ ‬والمسلسلات‭ ‬الأكثر‭ ‬مشاهدة‭. ‬يتعلّم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬المرء‭ ‬طرق‭ ‬قطع‭ ‬العلاقات‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يكتسب‭ ‬فنون‭ ‬نسجها،‭ ‬وبذلك‭ ‬تتمدد‭ ‬مقابر‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭.‬

وهنا‭ ‬تتشكّل‭ ‬شبكات‭ ‬روابط‭ ‬جديدة‭ ‬بديلة‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬التقليدية،‭ ‬وعوَّض‭ ‬نموذجُ‭ ‬‮«‬فلنجرّب‭ ‬لنرَ‭ ‬ما‭ ‬سيحدث‮»‬،‭ ‬نموذجَ‭ ‬‮«‬تعاهدنا‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يفرقنا‭ ‬إلا‭ ‬الموت‮»‬‭. ‬مما‭ ‬أفضى‭ ‬بالإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬هشاشة‭ ‬الروابط،‭ ‬وانتقال‭ ‬مفزع‭ ‬بالعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬إلى‭ ‬نظم‭ ‬شبكات‭ ‬الاتصال،‭ ‬وفيها‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تركن‭ ‬العلاقات‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬الدردشة‭ ‬وكتابة‭ ‬الرسائل‭ ‬النصية‮»‬،‭ ‬والصمت‭ ‬يعادله‭ ‬الاستبعاد‭.‬

 

هشاشة‭ ‬الاجتماع

تقوم‭ ‬صناعة‭ ‬الثقافة‭ ‬بأسرها‭ ‬على‭ ‬لقاء‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة،‭ ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬راكمه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تعاسته‭ ‬مستمرة،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬حرمانه‭ ‬مسترسلاً‭. ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬الطفل‭ ‬استثمارًا‭ ‬جيدًا‭ ‬ومنتِجًا‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬أو‭ ‬الورش‭ ‬أو‭ ‬الحقل،‭ ‬صار‭ ‬اليوم‭ ‬أيُّ‭ ‬وعد‭ ‬بكثرة‭ ‬الأولاد‭ ‬وعيدًا‭ ‬مُفزعًا‭.‬‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬الأطفال‭ ‬جسورًا‭ ‬للعائلة‭ ‬بين‭ ‬الفناء‭ ‬والخلود،‭ ‬ارتدّوا‭ ‬اليوم‭ ‬مادة‭ ‬لتحقيق‭ ‬لذّة‭ ‬الأبوة‭ ‬والأمومة‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬تحققها‭ ‬المواد‭ ‬الاستهلاكية‭.‬

وحين‭ ‬تقاس‭ ‬اللذة‭ ‬بالكلفة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬كل‭ ‬لذة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الكلفة‭ ‬قابلة‭ ‬للزيادة‭ ‬باستمرار‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تقدير‭. ‬فولادة‭ ‬أطفال‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬تجسد‭ ‬تكاليف‭ ‬مالية‭ ‬وغير‭ ‬مالية‭ ‬إضافية،‭ ‬كما‭ ‬تعني‭ ‬طموحات‭ ‬مهنية‭ ‬مكبوحة،‭ ‬والتزامات‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬سعادة‭ ‬الأبوة‭ ‬والأمومة‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬صفقة‭ ‬مجملة‭ ‬مع‭ ‬تعاسة‭ ‬التضحية‭ ‬ومخاوف‭ ‬الأخطار‭ ‬المجهولة‭. ‬

وفي‭ ‬حياة‭ ‬حديثة‭ ‬سائلة،‭ ‬سيتوصل‭ ‬أفرادها‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مرعبة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬انعدام‭ ‬‮«‬الضمانات‮»‬‭ ‬الممكنة،‭ ‬وخدمات‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البيع‮»‬‭ ‬المأمولة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الإنجاب‮»‬‭ ‬سيكون‭ ‬سبيلاً‭ ‬سالكًا‭ ‬إلى‭ ‬فصله‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬الجنسية‭.‬

وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬أضحى‭ ‬النموذج‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬استهداف‭ ‬اللذة‭ ‬والمتعة‭ ‬بلا‭ ‬روابط،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬دون‭ ‬آثار‭ ‬جانبية؛‭ ‬فقد‭ ‬تمكّن‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬العقلانية‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬الحديثة‭ ‬وسائر‭ ‬الأنشطة‭ ‬البشرية‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬استخدام‭ ‬البضائع‭ ‬والتخلص‭ ‬منها‭ ‬هما‭ ‬رمز‭ ‬النجاح؛‭ ‬فتتغذى‭ ‬المبيعات‭ ‬على‭ ‬إمدادات‭ ‬القلق‭ ‬وانتشار‭ ‬المخاوف،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬‮«‬ارتباط‭ ‬الجنس‭ ‬بالحب‭ ‬والأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬والخلود‭... ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬قيدًا‭ ‬أو‭ ‬خسارة،‭ ‬كما‭ ‬ساد‭ ‬الاعتقاد‮»‬‭.‬

ورغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬التي‭ ‬تترسخ‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الاستهلاكي،‭ ‬وما‭ ‬تسعى‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬إشباع‭ ‬الرغبة‭ ‬وتقليص‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الحاجة‭ ‬وإشباعها،‭ ‬وما‭ ‬تحقق‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬سرعة‭ ‬الانتقال‭ ‬والعجلة‭ ‬في‭ ‬الانفصال؛‭ ‬فليس‭ ‬بوسع‭ ‬الإنسان‭ ‬اليوم‭ ‬تجاوز‭ ‬آماله‭ ‬المحطمة‭ ‬وشكه‭ ‬الدائم‭ ‬ووهمه‭ ‬الكبير،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬تحقيق‭ ‬الأمن‭ ‬المفقود‭ ‬والهوية‭ ‬الجنسية‭ ‬السليمة‭ ‬المرغوبة‭. ‬

 

خذلان‭ ‬الكيف

أمام‭ ‬حالة‭ ‬اللايقين‭ ‬واللاأمن،‭ ‬يدعو‭ ‬‮«‬الخبراء‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬التغيير،‭ ‬وينصحون‭ ‬بمزيد‭ ‬تقدير‭ ‬للذات‭ ‬وحساب‭ ‬العائد‭ ‬عليها‭ ‬بدقة‭. ‬وما‭ ‬دام‭ ‬الهاتف‭ ‬النقال‭ ‬موجودًا‭ ‬فهناك‭ ‬دائمًا‭ ‬اتصال‭ ‬بالشبكة،‭ ‬وكتابة‭ ‬للرسائل‭ ‬واستقبال‭ ‬لها،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬ومهما‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬حولك‭. ‬فالذين‭ ‬‮«‬يعيشون‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‭ ‬تمكّنهم‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬من‭ ‬التواصل،‭ ‬ومن‭ ‬يتواصلون‭ ‬تمكّنهم‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬من‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‮»‬‭. ‬فالهواتف‭ ‬النقالة،‭ ‬غذت‭ ‬التحرر‭ ‬النهائي‭ ‬من‭ ‬المكان،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬خلق‭ ‬روابط‭ ‬حقيقية‭. ‬فإذا‭ ‬أصبحت‭ ‬المسافة‭ ‬لا‭ ‬تشكل‭ ‬عائقًا‭ ‬أمام‭ ‬التواصل،‭ ‬فقد‭ ‬أمسى‭ ‬التواصل‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬عائقًا‭ ‬أمام‭ ‬الابتعاد‭. ‬

فحين‭ ‬تتسلل‭ ‬إلى‭ ‬سمعك‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬المكالماتُ‭ ‬الهاتفية‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬المحادثات‭ ‬التي‭ ‬سمعتها‭ ‬ليست‭ ‬مقدمة‭ ‬لمحادثات‭ ‬أطول‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬اللقاء،‭ ‬بل‭ ‬بديلاً‭ ‬عنها،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬يهرعون‭ ‬فور‭ ‬وصولهم‭ ‬إلى‭ ‬غرفهم‭ ‬المستقلة‭ ‬ويقفلون‭ ‬الأبواب‭ ‬عليهم‭ ‬وهم‭ ‬يسبحون‭ ‬في‭ ‬عوالمهم‭ ‬الافتراضية‭. ‬وهكذا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬‮«‬الاقتراب‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬الابتعاد‮»‬‭ ‬في‭ ‬نسختيهما‭ ‬الافتراضيتين‭ ‬يحتاجان‭ ‬إلى‭ ‬مهارات‭ ‬أو‭ ‬تعلّم،‭ ‬مادام‭ ‬زر‭ ‬‮«‬حذف‮»‬‭ ‬ممكنًا،‭ ‬ومادام‭ ‬‮«‬عدم‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬رسالة‮»‬‭ ‬اختيارًا‭ ‬متاحًا‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬بوسع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬دومًا‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬والتسوق‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬عواقب‭ ‬والتزامات‭ ‬العالم‭ ‬الواقعي‭. ‬فأنت‭ ‬غير‭ ‬مُلزم‭ ‬بالشراء،‭ ‬وردّ‭ ‬‮«‬البضاعة‮»‬‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬الرضا‭ ‬غيرُ‭ ‬مستهجن‭.‬

في‭ ‬مجتمع‭ ‬السوق‭ ‬يطغى‭ ‬تبادل‭ ‬النقود‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬ويتم‭ ‬تدمير‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬‮«‬العيش‭ ‬غير‭ ‬النقدي‮»‬‭. ‬ويتم‭ ‬إخضاع‭ ‬جميع‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬والعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬لمنطق‭ ‬التجارة‭ ‬والتسويق،‭ ‬مع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالإنسان‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المستهلك‭ ‬المتمركز‭ ‬حول‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يحقق‭ ‬أفضل‭ ‬الصفقات‭ ‬لعلاج‭ ‬وحدته‭ ‬وقلقه‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬السوق‭ ‬لن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬مطاردتها‭ ‬لرأس‭ ‬المال‭ ‬المتداول‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطبيعة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للبشر؛‭ ‬وربما‭ ‬النجاح‭ ‬الأكثر‭ ‬جوهرية‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الانهيار‭ ‬التدريجي‭ ‬المتواصل‭ ‬لمهارات‭ ‬الاجتماع‭ ‬الإنساني‮»‬‭.‬

 

ميوعة‭ ‬‮«‬الاجتماع‭ ‬البشري‮»‬

القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬كلّ‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ،‭ ‬وتفتيت‭ ‬طبقات‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة‭ ‬رهان‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬رهانات‭ ‬باومان،‭ ‬وهو‭ ‬يدافع‭ ‬باستماتة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الحب‮»‬‭ ‬و«حفظ‭ ‬الكرامة‮»‬‭ ‬الإنسانية؛‭ ‬ويبشّر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬البقاء‭ ‬بقتل‭ ‬إنسانية‭ ‬أخرى‭ ‬بحياة‭ ‬جسدية‭ ‬بعدما‭ ‬قتل‭ ‬إنسانيته‭. ‬فحياة‭ ‬الحب‭ ‬والكرامة‭ ‬هي‭ ‬مكمن‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬عدم‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنها،‭ ‬لا‭ ‬البقاء‭ ‬بأي‭ ‬ثمن،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬النجاة‭ ‬من‭ ‬الموت‭.‬

إننا‭ ‬نقضي‭ ‬بشكل‭ ‬تدريجي‭ ‬على‭ ‬‮«‬الحب‮»‬‭ ‬بأشكال‭ ‬الميوعة‭ ‬والهشاشة،‭ ‬تحت‭ ‬عناوين‭ ‬‮«‬العلاقات‭ ‬الصافية‮»‬‭ ‬و«التعبير‭ ‬عن‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬و«الانغماس‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضرب‭ ‬الروابط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتفاعلات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وقيم‭ ‬المسؤولية‭ ‬والوازع‭ ‬الأخلاقي‭ ‬ويشكّل‭ ‬أقنعة‭ ‬الخداع‭ ‬الذاتي،‭ ‬والإمعان‭ ‬في‭ ‬إخراس‭ ‬السلطة‭ ‬الأخلاقية‭. ‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يعمّق‭ ‬مشاكل‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬أمكنة‭ ‬مائعة،‭ ‬وفضاءات‭ ‬عولمية‭ ‬مراوِغة،‭ ‬ومدن‭ ‬صارت‭ ‬مقالب‭ ‬قمامة‭ ‬لمخلفات‭ ‬العولمة‭ ‬و«الملكية‭ ‬العقارية‭ ‬المشتركة‮»‬‭ ‬المعزِّزة‭ ‬لهشاشة‭ ‬الوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬و«فوبيا‭ ‬الاختلاط»؛‭ ‬‮«‬تُلقى‭ ‬فيها‭ ‬المخاوف‭ ‬والهواجس‭ ‬التي‭ ‬يولدها‭ ‬عدم‭ ‬الأمان‭ ‬واللايقين‭ ‬المصاحبين‭ ‬للعولمة‮»‬‭.‬

فقد‭ ‬أفرزت‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة‭ ‬معدلات‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬‮«‬النفايات‭ ‬البشرية‮»‬،‭ ‬ورسخت‭ ‬شبح‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الأجانب،‭ ‬واستهداف‭ ‬ترحيلهم‭ ‬وتقييد‭ ‬حركيتهم‭ ‬في‭ ‬مخيمات‭ ‬نائية،‭ ‬مع‭ ‬الرهان‭ ‬على‭ ‬الإدارة‭ ‬بالخوف‭ ‬و«الامتهان‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬أضحت‭ ‬تواجِه‭ ‬قضيةُ‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‭ ‬مرحلة‭ ‬مصيرية‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل‭.‬

وفي‭ ‬الختــــام،‭ ‬فمــن‭ ‬دروس‭ ‬‮«‬مـــراثـــي‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬العولـمة‮»‬‭ ‬أن‭ ‬أوجــاع‭ ‬الإنسانيــــة‭ ‬فـــي‭ ‬مرافئ‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬تتفاقم‭ ‬وتتعمق،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مساحات‭ ‬المقاومة‭ ‬لا‭ ‬تفتأ‭ ‬تنكمش‭ ‬وتضيق‭. ‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬التنبؤ‭ ‬بحجم‭ ‬المخاطر،‭ ‬ولا‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬متاهات‭ ‬المسارات‭ ‬والمآلات،‭ ‬إلا‭ ‬بالإصغاء‭ ‬إلى‭ ‬مفكرين‭ ‬كبار‭ ‬من‭ ‬طينة‭ ‬زيجمونت‭ ‬باومان،‭ ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬كتابات‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والأدباء‭ ‬وعلماء‭ ‬النفس‭ ‬والاجتماع،‭ ‬ويقلّب‭ ‬صفحات‭ ‬الجرائد‭ ‬والمجلات،‭ ‬ويتتبع‭ ‬برامج‭ ‬الواقع‭ ‬ومسلسلات‭ ‬التلفزيون‭ ‬الأعلى‭ ‬مشاهدة،‭ ‬كما‭ ‬يتلذذ‭ ‬بمحادثات‭ ‬العشاق‭ ‬على‭ ‬الأرصفة‭ ‬وفي‭ ‬محطات‭ ‬القطارات؛‭ ‬لينحت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وغيره‭ ‬تصوراته‭ ‬السهلة‭ ‬العميقة،‭ ‬وهو‭ ‬يعكس‭  ‬للإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬وجهَه‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة‭ ‬قلِقًا،‭ ‬خائفًا،‭ ‬متوجسًا،‭ ‬تائهًا؛‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قطع‭ ‬أواصر‭ ‬‮«‬الحب‮»‬‭ ‬وجمّد‭ ‬دماء‭ ‬‮«‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‮»‬،‭ ‬وسعى‭ ‬إلى‭ ‬البقاء‭ ‬حيًّا‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الأخلاق‭ ‬والكرامة‭ .‬