الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي عبدالمالك التميمي

الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي

مراجعة: الدكتور المنصف الشنوفي
بعد أن عاشت الدراسات التاريخية المتعلقة بالعالم العربي عالة على أبحاث المؤرخين الأجانب وخاصة المستشرقين منهم، ظهرت في الستينيات من هذا القرن بوادر المدرسة التاريخية العربية، وكانت المرحلة الأولى متمثلة في منوغرافيات ودراسات شاملة تعتمد الوصف وترتيب المعلومات، ثم أخذت تظهر ابتداء من السبعينيات دراسات تحليلية معمقة بأقلام عربية مهتمة بالتاريخ الاقتصادي والمالي والاجتماعي. ولعل دراسات عبد الله العروي وسمير أمين وأنور عبد الملك هي خير دليل على هذا الاتجاه الجديد للمدرسة التاريخية المعاصرة.

إن كتاب "الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي" للأستاذ الدكتور عبد المالك خلف التميمي يعتبر لبنة جديدة في بناء هذه المدرسة التاريخية العربية المعاصرة. يقع الكتاب في 376 صفحة، وهو الطبعة الثانية منقحة ومزيدة لطبعة أولى ظهرت ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت سنة 1983، ويحتوي على دراسة مقارنة لثلاث من تجارب الهجرة والاستيطان الأجنبي في الوطن العربي: التجربة الأولى بالمغرب العربي في عهد الاستعمارين الفرنسي والإيطالي (ابتداء من 1830 تاريخ احتلال الجزائر) والتجربة الثانية بفلسطين (ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر) والتجربة الثالثة بالخليج العربي، بعد ظهور الثروة النفطية.

ينطلق المؤلف من منهج مركز وهو أن الهجرة الاستيطانية سواء أكانت مدفوعة بالقوة والعنف أم سلمية هادئة هي أخطر أنواع الاستعمار "إن الاستيطان يمر بمراحل ثلاث أساسية تمثل حلقات في سلسلة واحدة وهي الهجرة الاستيطانية والاستعمار الاستيطاني والدولة الاستيطانية" (ص 120).

ولاستقامة المنهج فلابد - حسب المؤلف - من دراسة عوامل الطرد من البلد الأصلي وعوامل الجذب في البلد المهاجر إليه.

أما هدف الدراسة المقارنة فهو التعرف على مدى ما تنطوي عليه الهجرة الآسيوية السلمية إلى منطقة الخليج العربي من عناصر قد تقود إلى الاستيطان ومحو الشخصية الوطنية الخليجية.

ومنذ البداية يردف المؤلف هذا المنهج بتوضيحين اثنين: أولهما أن الهجرة العربية إلى الخليج هي منقذ مرحلي واستراتيجي في عملية التوازن الديموغرافي في منطقة الخليج مع الهجرة الأجنبية العشوائية والمكثفة، وثانيهما أن الهجرة الآسيوية السلمية يمكن تصنيفها - حسب المؤلف - إلى هجرة من شرق آسيا ذات مستوى تكنولوجي وهجرة من شبه القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلادش) ذات كثافة عددية ومستواها التكنولوجي ضعيف إن لم يكن معدوما.

فكيف كانت معالجة المؤلف لموضوعه، على ضوء هذا المنهج؟

الاستيطان في المغرب العربي

لعل الميزة الغالبة على كامل الكتاب وخاصة في هذا القسم الأول هي النزعة التأليفية لأحدث الدراسات في نطاق الموضوع وانطلاقا من دراسات المؤرخ الفرنسي الشهير شارل أندري جوليان مؤسس المدرسة التأريخية المغربية المعاصرة وعبدالله العروي المؤرخ المغربي الذي طور دراسات أستاذه جوليان نحو التركيز على التاريخ الاقتصادي وا لاجتماعي.

يستعرض المؤلف الدكتور عبد المالك التميمي أطوار الاستيطان الفرنسي بالجزائر وتونس والمغرب الأقصى وموريتانيا، ثم الاستيطان الإيطالي بليبيا، مضيفا إضافات علمية مهمة يجدر بنا الإلماع إليها:

1- يؤكد المؤلف أن الاحتلال العثماني لجل بلدان المغرب قد أبقى على البنية الاجتماعية المحلية، أما الاستعمار الأوربي لهذه المنطقة فقد عمد إلى تحطيم هذه البنية عن طريق الاستيطان والاستيلاء على الأراضي الصالحة بشتى الطرق، سواء أكانت متذرعة بالقانون أم لا.

2 - يربط المؤلف - وهو محق في ذلك - الاستعمار بالاستيطان الذي هو ركيزة من ركائزه الأساسية، موضحا في إطناب أن المد الإمبريالي الغربي كان في أوجه بداية من القرن التاسع عشر، وقام على أساس تعاضد نوايا التوسع الاستعماري سياسيا وعسكريا مع أصحاب رءوس الأموال الممثلين في البنوك الكبيرة والشركات الاحتكارية.

ولقد وفر المؤلف جداول مهمة وبليغة من أوفى الإحصائيات للاستيطان الغربي (الفرنسي والإيطالي) وأقربها إلى الصحة والدقة، بالاعتماد على الوثائق التاريخية والدراسات الرصينة المتأنية وعمد إلى استنطاقها مستنتجا استنتاجات تعتبر إضافات لدراسة مسألة الاستيطان:

أ - دور اليهود المغاربة في تدعيم الاستيطان واستجابتهم للتجنيس خاصة فيما يتعلق بالاستيطان الفرنسي، وذلك طمعا منهم في التمتع بالامتيازات التي تكفلها السلطات الاستعمارية لهم، لذلك فإن اليهود. أصبحوا عنصرا فعالا ضمن طبقة "الهيمنة الاستعمارية" الغربية بالمغرب العربي.

ب - كما أطنب المؤلف في تحليل ظاهرة خطيرة نتجت عن الاستيطان وهي تدمير القاعدة الاقتصادية والاجتماعية لجماهير الفلاحين المغاربة، مما أدى إلى ظهور هجرة المغاربة من الريف إلى المدن أولا (النزوح) ثم إلى أوربا، وأخيرا إلى العالم العربي، ويكشف المؤلف لأول مرة - في اعتقادنا - بوضوح كامل عن خطة جهنمية للاستيطان الفرنسي بالجزائر ثم في بقية البلدان المغربية الواقعة تحت حمايتها والمتمثلة في الطمع في توفير يد عاملة رخيصة تخدم التصنيع الفرنسي خاصة مدة الحربين الأولى والثانية. "يوجد حاليا في فرنسا وحدها حوالي 600 ألف عامل جزائري، كما أن هنالك أعدادا أخرى بالآلاف في كل من بلجيكا وألمانيا الغربية" (ص 380 نقلا عن سمير أمين: تاريخ العرب الحديث).

ج - يؤكد المؤلف منذ البداية حتى الخاتمة أن "الدروس المستفادة من تلك التجربة الاستيطانية الغربية هي أن العنف الإمبريالي لا يهزمه إلا العنف الوطني" (ص 105) وهذا ما يفسر الإضاءات المنيرة التي سلطها على بحثه للاستيطان الأوربي بالمغرب والمتمثلة في الإشارة إلى المقاومة الشعبية في المغرب العربي للاستيطان، ثورة عبد القادر الجزائري، (ص 23) وثورة عبد الكريم الخطابي بالمغرب الأقصى (ص 61 - 64) وثورة عمر المختار بليبيا (ص 73).

د - يعقد المؤلف فصلا كاملا لتحليل التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للاستيطان في المغرب العربي، ولعل الإشارة إلى الاستعمار الثقافي وسياسة التغريب والقضاء على اللغة العربية هي أهم ما ورد في هذا الفصل، مما يجعل المؤلف يقرر "إن الاستعمار الاستيطاني أشرس وأخطر أنواع الاستعمار" (ص 105).

الاستيطان الصهيوني في فلسطين

بالاعتماد على المنهج المذكور أعلاه نفسه، تناول المؤلف هذه الظاهرة المتصلة بالحركة الصهيونية في تطورها التاريخي، انطلاقا من مؤتمر بأزل في سويسرا سنة 1897 مرورا بقيام الكيان الصهيوني سنة 1948 ووصولا إلى المنعرجات الحاسمة سنتي 1967 و1973 وما بعدهما إلى أوائل الثمانينيات. ولقد ركز المؤلف على أن المد الإمبريالي الغربي في نهاية القرن التاسع عشر قد واكب ميلاد الصهيونية التي جعلت من قضية الاستيطان وتعصير اللغة العبرية أساسين بنت عليهما خطتها لبعث الكيان وتدعيمه.

ولعل أهم إضافات المؤلف في خصوص دراسة هذه القضية تتمثل في تسليط الضوء الساطع على دور بريطانيا في بعث الكيان الصهيوني في مرحلة أولى، ثم دور الولايات المتحدة الأمريكية في تدعيم هذا الكيان بعد بعثه سنة 1948، فلقد وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني منذ مطلع القرن العشرين. فكان تقرير رئيس وزراء بريطانيا كامب فنر من سنة 1905، ثم وعد بلفور وزير الخارجية البريطانية سنة 1917، وتم التحول في الدعم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة ابتداء من سنة 1939عندما بدأت بوادر الانحدار في القوة البريطانية وظهور قوة إمبريالية أخرى (ص 118).

وكما أسلفنا فلقد ركز المؤلف على دور المصارف الأجنبية وعلى الصندوق القومي اليهودي في تمويل الاستيطان الصهيوني بفلسطين، كما ركز على دور المدارس في نشر التعليم بالعبرية داخل المستوطنات.

ولقد كانت المقارنة قائمة في ذهن المؤلف بين الاستعمار الفرنسي خاصة بالجزائر، والاستعمار الصهيوني (ص 152). لذلك عقد فصلا كاملا لهذه المقارنة (177 - 186) مسلطا الضوء على قضية شائكة وهي أن الظاهرة الاستيطانية التي تتطور إلى شكل الدولة لا تقبل الردة، ومثال ذلك إسرائيل وجنوب إفريقيا. ويدحض المؤلف هذا الزعم، مستشهدا بزوال دولة روديسيا نتيجة ثورة السكان الأصليين وإقامة دولة زيمبابوي مكانها.

وكم كنا نرجو لو أفاض المؤلف في الحديث عن الصحافة الصهيونية عبر الوطن العربي، إذ اقتصر على الإشارة إلى ظهور هذه الصحافة بمصر (ص 128) دون الإشارة إلى غير هذا الجزء من العالم العربي. كما كنا نرجو لو ركز على ضرورة الكفاح المسلح من قبل الشعب الفلسطيني أولا وآخرا (ص 172) ولم يقتصر على إشارات طفيفة إلى الثورة الفلسطينية سنة 1936 - 1939.

الاستيطان الأجنبي في منطقة الخليج العربي

إن الهجرة الأجنبية إلى منطقة الخليج لها جذورها التاريخية - حسب المؤلف - وليست وليدة ظهور الثروة النفطية. ومنذ البداية، واعتبارا بتجربة الاستيطان الغربي والصهيوني، فإن المؤلف ينبه إلى أن "التنمية لا يمكن أن تتحقق بالوكالة وإنما تتطلب تعبئة كل وسائل الإنتاج الوطنية، بما فيها العنصر البشري بالدرجة الأولى" (ص 195).

واعتمادا على المنهج البحثي الذي حدده لنفسه يرى المؤلف أن الوافدين من شرق آسيا وشبه القارة الهندية، يحركهم عامل الطرد من أوطانهم الأصلية وأساسه الفقر والبطالة، وعامل الجذب وهو توافر العمل.

ويحذر المؤلف من أخطار هذه العمالة غير الماهرة التي أصبحت سلعة تصدر إلى هذه المنطقة (ص 211). فتزايد العنصر الأجنبي المهاجر من الآسيويين قد يخلق في المستقبل واقعا استيطانيا في المنطقة، إضافة إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنجم عن وجوده "خاصة تعرض الأمن الاجتماعي بحكم غلبة العزاب من المهاجرين للمشكلات بانتشار الجريمة والأمراض الاجتماعية والجنسية (ص 236)."

فالاختلال السكاني - حسب المؤلف - هو ظاهرة ينبغي التنبه إليها، ولعل أكبر خطر يكمن وراء التساهل في شأن العمالة الآسيوية يتمثل في عدم الانتباه إلى علاقة المخطط الإمبريالي في المنطقة ومصالحه الحيوية بالهجرة الأجنبية (ص 233).

الخاتمة

إن مقاربة الأستاذ الدكتور عبد المالك التميمي لقضية الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي مقاربة علمية أساسها المقارنة التاريخية المركزة والمدعمة بالوثائق وأحدث الإحصائيات. وقد أدت هذه المقاربة إلى الإقرار بأن الاستيطان الأجنبي أخطر من الاستعمار نفسه. ولعل قيمة هذه الدراسة تكمن في محاولة رصينة للمؤلف لاستقراء التاريخ الآني لمنطقة الخليج في موضوع العمالة الأجنبية - والآسيوية منها بالخصوص - على ضوء تجربتين متميزتين وهما الاستيطان الأجنبي بالمغرب العربي وبفلسطين. ولعل ما توصلت إليه الدول الغربية من حلول منقوصة في خصوص التجنيس ومنح حق المواطنة إثر الاستيطان المعاكس على أرض البلدان الغربية نفسها، مدعاة إلى الاعتبار والدرس في أبحاث لاحقة لقضية الهجرة السلمية للعمالة الوافدة بمنطقة الخليج العربي في السنوات القريبة المقبلة. لذلك تعتبر هذه الدراسة إضافة مهمة جدا في ملف العمالة الوافدة بمنطقة الخليج العربي التي تبقى في الظرف الراهن شرا لا بد منه في انتظار الحلول الجذرية المتمثلة في تنشئة الموارد البشرية الوطنية قصد الاستغناء عن الوافدين.

وإن حرب الخليج وآثارها السلبية والإيجابية تعطي أبعادا جديدة وتدعو - لا محالة - إلى مراجعات في خصوص التوقعات المستقبلية التي جنح إليها المؤلف. ولا شك أن المنهج المقارن في تمحيص هذه المسألة - وهو المنهج المتبع من المؤلف - سيكون خير معين على إيجاد بعض الحلول لقضية هجرة العمالة الأجنبية إلى البلدان الغنية والمتقدمة، سواء بدول الشمال أو بدول الجنوب. وإن كان من فضل لحرب الخليج على. الدراسات التاريخية، فهو إخراجها من حيز الأيديولوجيا إلى الاعتبار بالواقع الجديد، وإلى المساهمة في التنمية. وهو مؤشر يدعو إلى التفاؤل بمستقبل الدراسات التاريخية بأقلام أبناء الخليج أنفسهم.

 

عبدالمالك التميمي







غلاف الكتاب





مستوطنون جدد.. جاءوا من موسكو ليستقروا في أرض فلسطين المحتلة





العمالة الآسيوية الوافدة إلى منطقة الخليج