«غبار 1918» قوة الحياة الثاوية في الأمة

«غبار 1918» قوة الحياة الثاوية في الأمة

تعد رواية «غبار 1918»، لفاتن المر، إحدى الروايات الخمس التي فازت بجائزة كتارا، للروايات المنشورة في دورتها السادسة لعام 2020. وهي الرواية الخامسة، لأستاذة اللغة الفرنسية في الجامعة اللبنانية، والتي تكتب بالعربية، لأنها، وإن كانت مختصَّة باللغة الفرنسية واَدابها، لا تجد نفسها إلّا في لغتها الأم. يذكِّر عنوان هذه الرواية بالتعبير المعروف «غبار الأيام»، وهو التعبير الذي اتَّخذه الأديب توفيق يوسف عوَّاد عنوانًا لأحد كتبه. ويضم هذا الكتاب مختارات من المقالات الأدبية التي نشرها عواد في الصحف اللبنانية طوال نصف قرن. وهذا التعبير/ العنوان دالٌّ على التأمُّل في أحداث الأيام، بغية تبيُّن حقائقها ودلالاتها.

عند قراءتنا لهذه الرواية، نجد إشارات للغبار في أمكنة عدَّة منها، في هذه الأمكنة يدخل جون بيترسون غرفة أبيه لينفض الغبار، فيعثر على كتاب «قادم من زمن المجاعة» (ص 8). ويهتف الثوار ضد معاهدة «سان ريمو» المناقضة لما قرَّره «المؤتمر السوري»، ويرفضون أن يكونوا غبارًا على خارطة المستعمرين،... (ص 141).
ويسعى يوحنا بطرس لأن ينفض الغبار الذي طمره (ص 191)، ويعرف الراوي، في نهاية الرواية أن أحداثًا ستضع طبقة جديدة من الغبار فوق غبار الأحداث الماضية، ولهذا ينفض الغبار عن تلك الأحداث (ص 206)، وكان الراوي نفسه قد روى حكايات كثيرة يعرفها هو، ورواها له عدد من شخصيات الرواية خوفًا من أن تضيع (ص 53).  وهذا يعني أن هذه الرواية تنفض الغبار عن  أحداث 1918، أو على الأصح عن أحداث مرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ ما تسمّيه سورية الكبرى: لبنان وسورية وشرق الأردن وفلسطين، تبدأ بأواخر الحكم العثماني لهذه البلاد، وبدايات دخول المستعمر الغربي إليها.
الرواية تاريخية، تروي أحداثًا سياسية شخصياتها معروفة: جمال باشا الجزار، وعبدالرحمن الشهبندر، وحسن الخراط، وماري عجمي، ويوسف العظمة...، لكنها، في حقيقتها، رواية تاريخية نسبة إلى التاريخ بمعناه الحياتي الشامل: السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي...، وإن تكن رواية تاريخية، بهذا المعنى، فهي في المقام الأول رواية أدبية، تتصف بالخصائص النوعية التي تجعل منها أنموذجًا أدبيًا روائيًا متميزًا ببنيته الروائية التجريبية التي تتحول بالحكاية إلى نصٍّ روائي تجريبي.
تتلخص حكاية هذه الرواية في أن الأب بطرس، في بداية زمن المجاعة، يرهن منزل أسرته، ويتركها ويسافر إلى أميركا، فتعاني الجوع، ولا ينجو منها إلا الابن يوحنا. في هذا الوقت يعتقل الانكشارية العم أنيس، المناوئ لهم، ويحكمون عليه بالسجن، لكنه يتمكن من الهرب، وتزوير جواز سفر باسم ابن عمه، والد يوحنا، والسفر إلى أميركا، والزواج، وإنجاب الابن جون بيترسون. يأخذ الأب مخايل يوحنا إلى ميتم تقيمه السلطات العثمانية، حيث يتعرَّف إلى صديق أمير/ آرام، والى نظام / آرام الذي يكتب حكايته ويتوفى. 
في الميتم تُحكى حكايات المجاعة والبرد والاضطهاد ومجازر الأرمن...، ثم يأتي خاله ويأخذه إلى دمشق، حيث تُعنى به ماري عجمي في مسار عنايتها بضحايا المجاعة والحرب، وتُحكى حكايتها، ويأتي بوغوس، عم نظام، يبحث عن أبناء أخيه، فيدَّعي آرام / أمير أنه آرام/ نظام، ويذهب إلى بيروت.
يرحل الأتراك، ويأتي فيصل، ويدخل المستعمرون، فيشارك يوحنا في المقاومة، ويذهب إلى بيروت. تحبه سوسن التي عثر عليها عمها بوغوس ويحبها اَرام، فيشعر يوحنا بالفاجعة، ويعود إلى دمشق، فتنتحر، وفي ذروة مأساته يلتقي زينة الفتاة التي كان قد أحبها في قريته، ويتبادلان الحب.  
هذه الحكاية / الحكايات تتحول إلى بنية روائية تتألف من اثني عشر مقطعًا روائيًا، تُقسم مناصفة بين راوٍ أول هو جون بيترسون، يروي تحت عنوان «ديترويت 1972»، وراوٍ ثان هو يوحنا بطرس يروي تحت عنوان «قادم من زمن المجاعة».
يبدأ جون القص، بعد وفاة أبيه بشهر، في فضاء تعقُّد علاقته بهذا الأب القاسي، فيجد كتابًا كان بين يدي والده عندما توفي، عنوانه: «قادم من زمن المجاعة» كاتبه يوحنا بطرس. ويمضي القص في تناوب بين الراويين. ويبدو واضحًا أن جون يقرأ الكتاب بشغف، فيقول على سبيل المثال: «غفوت، وأنا جالس، للمرة الأولى في حياتي، والكتاب المفتوح على ركبـتي...» (ص 111)، «أُضيء مصباح الجيب الذي حملته معي من السيارة، وأقرأ في ضوئه» (ص 185).   
يعتقد جون، طوال قراءته، أن أباه هو والد يوحنا الذي ترك عائلته فريسة للمجاعة، لكنه يفاجأ بأن والده هو أنيس، كما يخبره يوسف صديق والده.
وهكذا تتشكل بنية روائية يؤديها راويان. يقدِّم جون لقراءة فصول الكتاب الذي يؤدي القص فيه يوحنا، الذي يبدأ روايته من الذاكرة، ومنذ أن كان في العاشرة من عمره، ويصف روايته بقوله، على سبيل المثال: «أحاول تخليص خيوط الروايات المتعددة والمتشابكة وترتيبها، فلا أفلح تمامًا» (ص 74). 
وهذا يعني أنَّ سياق القص الذي يؤديه هذا الراوي يمضي وفاقًا لما تمليه الذاكرة، في مسار خيطي يتكسر بالاسترجاع، ويتقطع بتضمين حكايات كثيرة، تؤديها شخصياتها، مما يجعل الأصوات تتعدد، وتتعدد هذه الأصوات عندما يقتبس الراوي نصوصًا قصيرة من رواية الرغيف لتوفيق يوسف عواد، يصف فيها حالات الجوع، ومن جبران خليل جبران: «مات أهلي»، ومن مقالات ماري عجمي.
وهكذا تتشكل بنية روائية تجريبية لهذا الكتاب المُتضمَّن في سياق الرواية، تشكلها تقنيات روائية، منها: السرد الخطي، والاسترجاع، والتضمين، والسرد التصويري، والوصف السردي، والاقتباس / التناص، إضافة إلى الاستباق المشوِّق، كما في قوله، على سبيل المثال: «تلك الصورة... كانت السبب في إنقاذي بعد أسابيع...» (ص 59)، وكما في قوله: «يشبه ما سأشعر به لاحقًا في قصة حبي المدمرة» (ص 120)، ثم يروي قصة إنقاذه وقصة حبه المدمر، بعد أن يكون قد شوَّق إلى ذلك. ويمضي القص على هذا النحو إلى النهاية، وهي نهاية يقول الراوي إنها ليست جيدة فنيًا لختم رواية، فالخاتمة الجيدة، المُحكمة، كما يضيف، لا تكون إلا بموت الأبطال، ولكنني لا أستطيع أن أسمح للموت الذي تحكَّم في بداية القصة أن يسيطر على خاتمتها (ص 206).
يثير هذا القول ملاحظتين أولاهما: ليس صحيحًا ما قاله عن الرواية الجيدة المحكمة إلا في نوع من الروايات المأساوية، وثانيتهما: تحكُّم الراوي في النهاية، وعدم تركه للعوامل الداخلية أن تحكمها.
وأيًَّا كانت النهاية، فإنّ بنية هذه الرواية التجريبية تنطق بدلالة واضحة مفادها أن نفض الغبار عن أحداث تلك المرحلة التاريخية المفصلية، وإن كانت أحداثًا مأساوية، يفيد أن قوة الحياة ثاوية في الأمة. 
وإن يكن التاريخ قناعًا، فإنَّ نفض غبار أحداث هذه الأيام التي تحياها أمتنا سيؤكد أن قوة الحياة ثاوية فيها، وما يحدث اليوم ليس أكثر مأساوية مما حدث بالأمس، والمهم هو نفض الغبار عن هذه القوة الثاوية فينا■