«سنضحك» كائنات تسخر من قاتلِها

«سنضحك» كائنات تسخر من قاتلِها

قد يكون عالَم القصة عالمًا دون الواقع، أو هو الواقع في صورته المزيَّفة، وقد يكون موازيًا للواقع، وقد يكون مشاكسًا له، وقد يكون منتصرًا عليه بأسلحة لا تخطر على بال الواقع، في صورته الأشد غرابة، وهو ما يُعرف بالواقعية السحرية. حين أجوب عالَم زكريا تامر القصصي والمقالي أقف مبهورًا لهذه القدرة العجيبة على توليد الأفكار واللعب على الفكرة الواحدة بتوليفات لا تنتهي، وأتساءل: من أي بئرٍ يستقي كلَّ هذا؟ سلاسة وتدفق وجدَّة وإدهاش، وشهوة في الكتابة عجيبة. 

 

«سنضحك»... قصص قصيرة لم نعتدها، تقودك كل قصة إلى عالم غرائبي مليء بالمفاجآت والسحر والميتافيزيقيا والأحلام الصادمة والجنون، شخصياته تاريخية وليست تاريخية وواقعية وليست واقعية، قتلى يعودون للحياة، وأحياء يدهسون ويُطلق عليهم الرصاص ولا يموتون، ومطاردون لديهم القدرة على التحول إلى مشجب وأريكة وغراب أسود وشجرة خضراء، وآخرون لديهم القدرة على العيش بلا رؤوس، ومشنوق ثلاث مرات عصيٌّ على الموت ويقذف به في نار قادرة على حرق مدينة، لكنه يخرج منها سليمًا، ولا يجد مفرًّا من هؤلاء القتلة إلا أن ينتحر ويثبت أنه الناجح وهم المخفقون، كما في القصة التي بطلها خليل حاوي الذي جرَّده من الواقع.
شخصياته أسطورية كالتي نرى في أفلام «هوليوود»، والتي لا نرى، لم يجد تامر لمواجهة الواقع المتمزق والمتخلف سياسيًّا واجتماعيًّا إلا أن يخلق كائنات تنجو وتنتقم وتتحدى وتسخر من كل أشكال الظلم والتشرُّد والقتل المجَّاني، إنها كائنات تقف بصرخات مدوية تستمر بعد القتل، فهي الشاهد الوحيد الذي يحق له الاحتجاج والانتصار، إنه بذلك يرفع شعلة الأمل في أحلك ساعات اليأس، لكن بطريقته الخاصة.
في قصصه لا يكترث زكريا بتنميق النهاية أو بترتيب الأحداث وفق حبكة معيّنة، إنه يبدأ متدفقًا كجرح غائر، ولا يعرف متى ينتهي هذا الجرح، وكيف؟ 
الخيال يكاد يسيطر على عالَم «سنضحك» فمن خلال الشخصيات الأسطورية نذهب بمخيلة الكاتب إلى أقصى ما يمكن، بلا توقف، وفي اعتقادي أنَّ سيطرة الخيال ما هي إلا ردَّة فعل لسجون الواقع وحواجزه الشائكة، وللقمع بشتى أشكاله، فليس له طريق إلا أن يهزمه بالخيال.
الجنس يظهر مشوَّهًا ومقيتًا، إنه خيانة وقتل وتشفٍّ وليس حاجة غريزية، فبدلًا من عرضه بصورة مغرية وجميلة، يعمد تامر إلى التنفير منه، ليعكس لنا الاضطهاد الكبير التي تعانيه المرأة في المجتمع العربي.
تبدأ معظم قصص بأفعال أكثرها بالماضي (كان، احتلَّ، خرجت، لمحنا، بكت... إلخ) في دلالةٍ لحتمية الحدث وحصوله، وقليل بالمضارع (تسكن، أقفز...  إلخ) في دلالة على واقعية الحدث وتوغله، فهو الشاهد عليها، وأقل منه الأمر والبناء للمجهول (استيقظي، نُمِيَ إلينا... إلخ)، وتركيزه على الفعل الماضي يشير إلى أن الأحداث وقعت وصارت، فهو يرويها من الذاكرة البعيدة أو القريبة.
اللغة تكاد تنتصر للشعر، فهناك كثافة عالية وتداعيات أشبه بتداعيات القصيدة، ورمزية تنفتح أمام احتمالات كثيرة، وتلك واحدة من اجتراحات زكريا لعالم القصة، لذا فهو «يؤسس بذلك كله وبغيره جماليات جديدة... جماليات خَرْقَنَة العاديّ، وعَوْدَنَة الخارق، وجلاء سحرية الواقع وسرابيَّته وخداعيَّته وقناعيَّته» على حد تعبير كمال أبو ديب.
النقطة التي تتمركز عليها المجموعة تكمن في الضَّحكِ من كل مشهد في قصص تتضمن معظمها واقعًا بائسًا مريرًا، والضَّحكُ هو الفعل الذي يواجه به هذا العالم ساخرًا من وحشيته، ولاهيًا عن كذبه ونفاقه، إنه يدعونا إلى حمل هذا السلاح حينما جعل الفعل بلسان المتكلمين «سنضحك»، لنطلق معًا رصاصة الضحك في صدر هذا الخراب، (ولكنَّه ضحك كالبكا)، أو ضحك على الطريقة التامريَّة.
أتساءل وأنا أقرأ: لماذا لم أر حتى الآن اشتغالًا على قصص تامر، وتحويلها إلى دراما تلفزيونية؛ سواء فيما كتبه للأطفال، أو فيما خلَّفه لنا من قصص تحمل السمات السينمائية بشكل جليّ؟ وهذا العمل خير شاهد على هذه السمات ■