أقمارُ أمي!
كلما أمسكتُ بكيس من البطاطا المقطعة والمجهزة للقلي السريع, لسعتني برودتُه، وانثالت في داخلي صورٌ قديمةٌ حين لم نكن نعرف شكلَ البطاطا إلا بحباتها البكر المتطاولةِ والمغطاةِ بقشرةٍ رقيقةٍ وأتربةٍ عالقةٍ بها من الأرض الأم، نقومُ بتقشيرِها وتقطيعِها على شكل دوائر قبلَ قليها وتناولها بشهية واحتفاء.
لم تكن تلك المستطيلاتُ المجمدةُ والمجهزة للقلي السريع موجودةً، أو لم نكن نملك رفاهيةَ أن نعرفَ بوجودِها، أتذكرُ كيف كانت أمي -رحمها الله- تنجحُ أحيانًا في استدراجي لمساعدتِها بأسلوبٍ محبب؛ فتقشر حبةَ بطاطا أمامي بيديها المُدرَّبتين وتقول وهي تعمل برهافة فراشة: اقطّعيها هكذا، دوائر دوائر مثل القمرب, وتسقط عيناي على أقمارِها المتوالدة من كفين أتقنتا نسجَ الحياة؛ فتضيء في سماء خيالي صورةُ القمر وهو بدرٌ، وتتعدد الأقمار التي تتساقط في الزيت وتنضج شهيةً بطعم النجوم.
اليوم بات كثيرُ من الأصنافِ الغذائيةِ جاهزًا ومجهزًا للإعداد السريع، وغدت المجمداتُ والأغذية الجاهزة تعدّد الخيارات المتاحة، وتقلّص العمل اليدوي في المطبخ.
لم تعد تلك التفاصيلُ الحميمة للخطوات المتدرجة موجودة؛ إذ تمّ اختصارها بشكلٍ كبير، والبدائل متاحة؛ المجمد ينافسُ الطازج، والمعلَّب يغري بالتخزين لوقتِ الحاجة التي اتسعت مع اتساع دائرةِ الاستهلاك ورغبة التنويع.
ليست المسألةُ في خطوات إعداد الطعام فحسب؛ فقد أصاب التطورُ الكبير فنَّ الطبخ كما لمسَ كلَّ نواحي الحياة؛ لكنّ أقمارَ أمي لا تفتأ تضيءُ في عتمة الذاكرة كلما افتقدتُ الدفء؛ كأنّها تعيدُ نسجَ تفاصيل لمّة العائلة حول الأم أثناء إنجاز متطلبات الأسرة من إعداد الطعام، مرورًا بحفلاتِ التنظيفِ اليوميةِ والموسمية الشاملة في الأعيادِ والأعراس، انتهاءً بالغسيل الذي كان يتمُّ في يوم معلوم على مراحلَ من نقع وغسل وعصر ونشر، تمّ إيجازها حاليًا في الغسّالة والنشّافة الـافول أتوماتيكب بكبسة زر.
لا أنسى حبةَ النيلة الزرقاء التي كنا نذيبها في ماء الغسيل للمرحلة الأخيرة للأقمشة البيضاء، لتبدو ناصعة أكثر، وجرن الغلي مع الملقط الخشبي للشراشف والملابس القطنية، وتلك الشبيهة بالغيمة التي تتشكّل من تصاعد البخار قربَ أمي وهي منهمكة في الغلي... تفاصيلُ تزخرُ بالكثير من الجماليةِ التي ربما لم نكن نعي حميميتها في وقتِها، ولم نقدِّر قيمتَها ودورَها في رسمِ الذّاكرة، ورفدها بدفءِ الصور التي تشكّلُ المخزونَ المجمِّل للحياة الآتية.
اليوم مدّت الآلاتُ أذرعَها الباردة، وشاركت في التفريق بين أفرادِ العائلة؛ فباتت جلاّية الأطباق والغسّالة وأكياس الأغذية المجمدة تستحوذ على تلك التفاصيل التشاركية، وبات التطورُ التكنولوجيُّ المتسارع يشغلُ الفرد المعاصر ويحتل وقته وتفكيره؛ فتزدحم ذاكرتُه القريبة بزخم تفاصيل تعيقه عن التواصل النقي مع من حوله وربما عن استثمار الوقت الذي تتنافس التقنياتُ والآلاتُ في اختصاره لإنجاز المهام الحياتية، لكأنّ الفرد المعاصر يجري والآلة تساعدًه على المزيدِ من اللهاث! .