الشعر في الغناء العربي

الشعر في الغناء العربي

كل‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬تغني،‭ ‬تنشد‭ ‬الحب‭ ‬طربًا،‭ ‬لتخفف‭ ‬بالغناء‭ ‬آلامًا‭: ‬ألم‭ ‬البعد‭ ‬والفراق،‭ ‬ألم‭ ‬الحب‭ ‬والأشواق،‭ ‬ألم‭ ‬العناء،‭ ‬ألم‭ ‬البكاء،‭ ‬وألم‭ ‬الوحدة‭ ‬والوحشة‭ ‬والبلاء‭. ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تغني‭ ‬سرورًا‭ ‬وحبورًا،‭ ‬عندما‭ ‬يحين‭ ‬موعد‭ ‬قطف‭ ‬الثمار‭ ‬أو‭ ‬حصاد‭ ‬المحاصيل،‭ ‬وفي‭ ‬الأعراس‭ ‬والأعياد‭ ‬والمناسبات‭.‬

عادة‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يقلّد‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬ويسمعه،‭ ‬كان‭ ‬يسمع‭ ‬ويرى‭ ‬الطبيعة‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬هدير‭ ‬الموج‭ ‬وخرير‭ ‬الماء‭ ‬وحفيف‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر‭ ‬وتغريد‭ ‬الطيور،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬والإنسان‭ ‬يسمع،‭ ‬يطرب‭ ‬ويتمتع‭. ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬الغناء‭ ‬أبدًا‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬أصلاً‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬تربية‭ ‬النفس‭ ‬والروح،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬تحسين‭ ‬الصوت‭ ‬والعناية‭ ‬بمخارج‭ ‬الألفاظ‭ ‬من‭ ‬الشروط‭ ‬المندوبة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الحضارات‭.‬

لن‭ ‬نخوض‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الغناء‭ ‬بين‭ ‬الإباحة‭ ‬والكراهية‭ ‬أو‭ ‬التحريم،‭ ‬فقد‭ ‬ناقشنا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مقالات‭ ‬لنا‭ ‬سالفة،‭ ‬بل‭ ‬سنستذكر‭ ‬ما‭ ‬روته‭ ‬الأيام‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والكتب،‭ ‬وما‭ ‬أسمعه‭ ‬التاريخ‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الزمان‭. ‬وانتشرت‭ ‬المعازف‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬القديم،‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬الهند‭ ‬ففارس‭ ‬والشام‭ ‬ومصر‭ ‬ثم‭ ‬بلاد‭ ‬اليونان‭ ‬وروما،‭ ‬لتصاحب‭ ‬صوت‭ ‬الإنسان‭ ‬تحسينًا‭ ‬وكمالاً،‭ ‬وصارت‭ ‬المعازف‭ ‬الإيقاعية‭ ‬كالطبول‭ ‬والنفخية‭ ‬كالمزامير‭ ‬والوترية‭ ‬كالجيتارات‭ ‬والطنابير‭ ‬ضرورة‭ ‬في‭ ‬الغناء،‭ ‬بعدما‭ ‬كان‭ ‬الغناء‭ ‬بدائيا،‭ ‬حدو‭ ‬ونشيد‭ ‬وأهازيج‭. ‬ومع‭ ‬تنوع‭ ‬الغناء‭ ‬بين‭ ‬الحزن‭ ‬والفرح،‭ ‬تنوعت‭ ‬إيقاعته‭ ‬بين‭  ‬البطء‭ ‬والسرعة،‭ ‬وتنوع‭ ‬أداؤه‭ ‬بين‭ ‬المُرَكب‭ ‬والبسيط،‭ ‬فقالت‭ ‬العرب‭: ‬‮«‬الغناء‭ ‬ما‭ ‬أطربك‭ ‬فأرقصك،‭ ‬أو‭ ‬أشجاك‭ ‬فأبكاك‮»‬‭. ‬وتوارثت‭ ‬الشعوب‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬مزامير‭ ‬داود‮»‬،‭ ‬وبأنّ‭ ‬النبي‭ ‬داود
‭(‬‭) ‬قد‭ ‬قرأ‭ ‬‮«‬مزامير‮»‬‭ ‬الزبور،‭ ‬كل‭ ‬مزمور‭ ‬بمقام‭ ‬موسيقي‭ ‬على‭ ‬حِدة‭ ‬ونغمة‭ ‬لحنية‭ ‬مميزة،‭ ‬ومنه‭ ‬أُخِذَت‭ ‬ثم‭ ‬تطورت‭ ‬المقامات‭ ‬الموسيقية‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ينشد‭ ‬الشاعر،‭ ‬زُعِمَ‭ ‬أنّه‭ ‬يزيد‭ ‬بن‭ ‬معاوية،‭ ‬فيقول‭:‬

لها‭ ‬حكم‭ ‬لقمان‭ ‬وصورة‭ ‬يوسف

ونغمة‭ ‬داود‭ ‬وعفة‭ ‬مريمِ

ولي‭ ‬حزن‭ ‬يعقوب‭ ‬ووحشة‭ ‬يونس

وآلام‭ ‬أيوب‭ ‬وحسرة‭ ‬آدمِ

 

تأصيل‭ ‬الغناء‭ ‬العربي

‭ ‬لم‭ ‬يَخْلُ‭ ‬عصر‭ ‬الصحابة‭ ‬من‭ ‬الغناء،‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬كرهوا‭ ‬سماعه،‭ ‬خاصة‭ ‬ذاك‭ ‬الغناء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يذكرهم‭ ‬بأيام‭ ‬الجاهلية،‭ ‬وجهالة‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬شرب‭ ‬الخمر‭ ‬والرقص‭ ‬على‭ ‬أغاني‭ ‬القينات‭ ‬في‭ ‬الحانات،‭ ‬والإسراف‭ ‬في‭ ‬المجون‭ ‬والشغب‭. ‬إنّ‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬صدّ‭ ‬الصحابة‭ ‬عن‭ ‬سماع‭ ‬الأغاني‭ ‬كان‭ ‬سببًا‭ ‬شرطيًا‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بأيام‭ ‬بعضهم‭ ‬الغابرة،‭ ‬لذا‭ ‬نراه‭ ‬يتجدد‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الأموي‭ ‬والعباسي‭. ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬نسجّل‭ ‬هنا‭ ‬أنّ‭ ‬الطبقة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬آنذاك،‭ ‬كانت‭ ‬تستحي‭ ‬أن‭ ‬ينسب‭ ‬أبناءها‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬أو‭ ‬امتهانه،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬منهم،‭ ‬وهم‭ ‬قلة،‭ ‬قد‭ ‬طغت‭ ‬هوايته‭ ‬على‭ ‬مكانته،‭ ‬فشاع‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬عزفه‭ ‬وغنائه،‭ ‬ومنهم‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬أخو‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭. ‬منذ‭ ‬خلافة‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ (‬‭]‬‭) ‬اشتهر‭ ‬ثلة‭ ‬من‭ ‬المغنين،‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الرقيق‭ ‬والموالي،‭ ‬كان‭ ‬أشهرهم‭ ‬سائب‭ ‬خاثر‭ ‬ونشيط‭ ‬الفارسي‭ ‬وجميلة‭ ‬وعُبيد‭ ‬بن‭ ‬سريج‭ ‬ومَعبد‭ ‬بن‭ ‬وهب‭ ‬والغريض‭ ‬وابن‭ ‬محرز‭. ‬وكان‭ ‬أكثرهم‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬بالأنغام‭ ‬الفارسية‭. ‬ولم‭ ‬يتأصل‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬إسحق‭ ‬بن‭ ‬إبراهيم‭ ‬الموصلي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬معاصرًا‭ ‬لهارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬وكان‭ ‬ملحنًا‭ ‬ومؤلفًا‭ ‬ومطربًا‭ ‬ومدرسًا‭ ‬وعالمًا‭ ‬بفنون‭ ‬الغناء‭ ‬والطرب‭ ‬والموسيقى‭. ‬وانتقلت‭ ‬فنون‭ ‬الموصلي‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬وبلاد‭ ‬الأندلسي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬تلميذه‭ ‬المُبدع‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬الشهير‭ ‬بزرياب‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬كان‭ ‬مداد‭ ‬الأغاني‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينشدها‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬نفسه،‭ ‬ومن‭ ‬أشهرهم‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ ‬ومجنون‭ ‬بني‭ ‬عامر‭. ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬قصائد‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ ‬المغناة‭:‬

حنَّ‭ ‬قلبي‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬أنابا

ودعا‭ ‬الهم‭ ‬شجوه‭ ‬فأجابا

ذاك‭ ‬منزل‭ ‬لسلمى‭ ‬خلاء

مُكتسٍ‭ ‬من‭ ‬عفائه‭ ‬جلبابا‭ 

يروي‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني‭ ‬قصيدة‭ ‬للمجنون‭ ‬اشتهرت‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬عامر‭ ‬تغنيها‭ ‬النساء‭ ‬وقت‭ ‬المطر،‭ ‬مطلعها‭:‬

ألا‭ ‬أيها‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أزوره

وهجرانه‭ ‬مني‭ ‬إليه‭ ‬ذنوبُ

فلا‭ ‬خير‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬إذا‭ ‬أنت‭ ‬لم‭ ‬تزر

حبيبًا‭ ‬ولم‭ ‬يطرب‭ ‬إليك‭ ‬حبيبُ

جرى‭ ‬الدمع‭ ‬فاستبكاني‭ ‬السيل‭ ‬إذ‭ ‬جرى

وفاضت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مقلتيَّ‭ ‬غروبُ

وما‭ ‬ذاك‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬أيقنت‭ ‬أنه

يكون‭ ‬بوادٍ‭ ‬أنت‭ ‬فيه‭ ‬قريبُ

 

بين‭ ‬الموصلي‭ ‬وزرياب

لما‭ ‬انتهى‭ ‬العصر‭ ‬الأموي‭ ‬ودخل‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬صار‭ ‬المغنون‭ ‬لا‭ ‬يلتزمون‭ ‬بأشعار‭ ‬معاصريهم‭ ‬بين‭ ‬شعر‭ ‬جاهلي‭ ‬أو‭ ‬أموي‭ ‬أو‭ ‬معاصر،‭ ‬فصاروا‭ ‬ينشدون‭ ‬بجميل‭ ‬الأبيات‭ ‬وروائع‭ ‬القصائد‭. ‬وقد‭ ‬ازدهر‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬بفضل‭ ‬الأُطُر‭ ‬الموسيقية‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬إسحق‭ ‬الموصلي‭ ‬للأغنية‭ ‬العربية‭ ‬آنذاك‭. ‬وقد‭ ‬أخذ‭ ‬الموصلي‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الشعراء‭ ‬قصائد‭ ‬يلحنها‭ ‬ويغنيها،‭ ‬حتى‭ ‬غُنّت‭ ‬النقائض‭ ‬بين‭ ‬جرير‭ ‬والفرزدق‭ ‬والأخطل،‭ ‬وهي‭ ‬صعبة‭ ‬في‭ ‬لحنها‭ ‬وأدائها‭. ‬

ومضى‭ ‬زرياب‭ ‬باتباع‭ ‬خطى‭ ‬أستاذه‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬التقليدي،‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬الشعرية،‭ ‬إلا‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬تطورًا‭ ‬بحكم‭ ‬الترحال،‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالأندلس‭. ‬وكان‭ ‬للمؤثرات‭ ‬المكانية‭ ‬انعكاسها‭ ‬على‭ ‬رقة‭ ‬الألحان‭ ‬والكلمات،‭ ‬خاصة‭ ‬وأنّ‭ ‬زرياب‭ ‬قد‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬آلة‭ ‬العود،‭ ‬فزاد‭ ‬عليه‭ ‬وترًا‭ ‬خامسًا،‭ ‬واستخدم‭ ‬ريشة‭ ‬النسر‭ ‬للضرب‭ ‬على‭ ‬أوتاره‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬أشعار‭ ‬الأندلسيين‭ ‬أكثر‭ ‬رقة‭ ‬وأقل‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬مخارج‭ ‬الألفاظ،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّ‭ ‬جل‭ ‬القصائد‭ ‬المغناة‭ ‬قصيرة‭ ‬المقاطع،‭ ‬مما‭ ‬يعطي‭ ‬النغم‭ ‬الموسيقي‭ ‬مساحة‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬سماع‭ ‬الأغنية‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬الكلمات‭. ‬وقد‭ ‬جمع‭ ‬الموصلي‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬زرياب‭ ‬أعمالهم‭ ‬في‭ ‬سبع‭ ‬مقامات،‭ ‬وكل‭ ‬مقام‭ ‬موسيقي‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬بتحديد‭ ‬بدايته‭ ‬والمسافة‭ ‬بين‭ ‬درجات‭ ‬النغمات‭. ‬تلك‭ ‬المقامات‭ ‬هي‭: ‬الصبا‭ ‬والنهاوند‭ ‬والعَجَم‭ ‬والبَيّاتي‭ ‬والسِيكاه‭ ‬والحِجَاز‭ ‬والرَسْت،‭ ‬ويتضح‭ ‬لنا‭ ‬التأثر‭ ‬بالموسيقى‭ ‬الفارسية‭ ‬في‭ ‬مقامات‭ ‬النهاوند‭ ‬والعجم‭ ‬والسيكاه‭ ‬والرست،‭ ‬فالموسيقى‭ ‬عالمية‭ ‬المنشأ‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬لغتها‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭ ‬وكتابتها‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬تُكْتَب‭ ‬وتُقْرأ‭ ‬وتُعْزَف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬موسيقي‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬لغته‭ ‬أو‭ ‬جنسيته‭. ‬الموسيقى‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬اتفق‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬كتابتها‭ ‬وقراءتها،‭ ‬على‭ ‬حروفها‭ ‬وكلماتها،‭ ‬على‭ ‬مقاطعها‭ ‬ورموزها،‭ ‬اتفق‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬أنغام‭ ‬الموسيقى‭. ‬وكما‭ ‬تأثرت‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬بالموسيقى‭ ‬الفارسية،‭ ‬فإنّ‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬قد‭ ‬تأثرت‭ ‬بالموسيقى‭ ‬الهندية،‭ ‬فأكثر‭ ‬الحضارات‭ ‬القريبة‭ ‬المكان‭ ‬والمنشأ‭ ‬تتأثر‭ ‬الحديثة‭ ‬منها‭ ‬بالسالفة‭. ‬هكذا‭ ‬تتأثر‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬بمن‭ ‬حولها‭ ‬تأثرًا‭ ‬مصطبغًا‭ ‬بالبعد‭ ‬العاطفي‭ ‬شعورًا‭ ‬وإحساسًا‭ ‬وعزفًا‭ ‬وغناء،‭ ‬لتأخذ‭ ‬من‭ ‬الأتراك‭ ‬شيئًا‭ ‬ومن‭ ‬غيرهم‭ ‬أشياء،‭ ‬فتتفرع‭ ‬مقامات‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬تسعة‭ ‬مقامات‭ ‬أساسية،‭ ‬يتفرع‭ ‬منها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬مقامًا‭ ‬ثانويًا،‭ ‬لتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائتي‭ ‬مقامًا‭ ‬إضافيًا‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أنّ‭ ‬الشعراء‭ ‬الفحول‭ ‬لم‭ ‬يحظون‭ ‬بشهرة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأغاني،‭ ‬فلم‭ ‬نسمع‭ ‬أغنية‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬أو‭ ‬المعري‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المعلقات‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الشعر‭. ‬والسبب‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬تعفف‭ ‬الشعراء‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تُغنى‭ ‬قصائدهم،‭ ‬فهم‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬شعرهم‭ ‬رفعة‭ ‬فوق‭ ‬الغناء‭ ‬وأعلى‭ ‬من‭ ‬السمر‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬تتبعنا‭ ‬للقصائد‭ ‬العربية‭ ‬المغناة‭ ‬وجدنا‭ ‬الحظوة‭ ‬الكبرى‭ ‬لقصائد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬زهير‭ (‬ت‭. ‬656هـ‭/‬1258م‭). ‬

 

ملامح‭ ‬جديدة‭ ‬

ويطول‭ ‬الزمان‭ ‬ليتوقف‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭ ‬أثناء‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬ثم‭ ‬الغزو‭ ‬المغولي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الأيوبيين‭ ‬والمماليك‭. ‬ولا‭ ‬يرجع‭ ‬السبب‭ ‬إلى‭ ‬الحروب‭ ‬وما‭ ‬يعانيه‭ ‬منها‭ ‬الشعوب،‭ ‬عاطفيًا‭ ‬ومعنويًا‭ ‬وماديًا،‭ ‬بل‭ ‬يزيد‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬لنعرف‭ ‬أنّ‭ ‬قيادة‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬آنذاك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عربية،‭ ‬فلا‭ ‬هي‭ ‬تُعنى‭ ‬بالشعر‭ ‬ولا‭ ‬الأدب‭ ‬والفنّ‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭. ‬ويأتي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬العثمانيون‭ ‬يسحبون‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬وآداب‭ ‬عربية،‭ ‬لإحلال‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تركي‭ ‬الهوية‭. ‬فتختفي‭ ‬آثارنا‭ ‬ولغتنا‭ ‬وأغانينا،‭ ‬ولا‭ ‬تبقى‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬آهات‭ ‬وأنات‭ ‬وأصداء‭ ‬صرخات‭ ‬خافتة‭ ‬خائفة،‭ ‬يحسبها‭ ‬السامع‭ ‬أغانٍ،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬حشرجات‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬سادت‭ ‬العامية‭ ‬وخفت‭ ‬صوت‭ ‬الفصحى،‭ ‬ليختفي‭ ‬معها‭ ‬الأدب‭ ‬شعرًا‭ ‬ونثرًا،‭ ‬ويتشوه‭ ‬الجمال‭ ‬بالابتذال،‭ ‬ليبشع‭ ‬الواقع‭ ‬ويقبح‭ ‬الخيال‭. ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان‭ ‬شعرًا‭ ‬عاميًا،‭ ‬ولن‭ ‬تدوم‭ ‬الأغاني‭ ‬العامية‭ ‬التي‭ ‬تغنى‭ ‬بها‭ ‬الناس‭. ‬ومع‭ ‬النهضة‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬واستقلالها‭ ‬من‭ ‬وطأة‭ ‬الاحتلال‭ ‬العثماني،‭ ‬ثم‭ ‬تحررها‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬ظهرت‭ ‬ملامح‭ ‬جديدة‭ ‬تعيد‭ ‬للأمة‭ ‬أمجادها،‭ ‬فكان‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬بداية‭ ‬لتشكيل‭ ‬تلك‭ ‬الملامح‭. ‬إنها‭ ‬حقًا‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬انتظرها‭ ‬العرب‭ ‬ليظهر‭ ‬فيها‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ (‬ت‭. ‬1932م‭). ‬جال‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬ميادين‭ ‬الشعر،‭ ‬فتفوق‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬والمدح‭ ‬والغزل‭ ‬والرثاء،‭ ‬حتى‭ ‬نافس‭ ‬بشعره‭ ‬الأولين‭. ‬وجدد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬لينظم‭ ‬المسرحيات‭ ‬الشعرية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬وجود‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬قيس‭ ‬وليلى‮»‬‭ ‬و«قمبيز‮»‬‭ ‬و«كليوبترا‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬لحّن‭ ‬وغنى‭ ‬له‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬روائع‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬مثل‭: ‬رُدّت‭ ‬الروح،‭ ‬مضناك‭ ‬جفاه‭ ‬مرقده،‭ ‬جبل‭ ‬التوباد،‭ ‬قالت،‭ ‬يا‭ ‬جارة‭ ‬الوادي،‭ ‬مال‭ ‬واحتجب،‭ ‬منك‭ ‬يا‭ ‬هاجر‭ ‬دائي،‭ ‬سهرت‭ ‬منه‭ ‬الليالي،‭ ‬سجى‭ ‬الليل،‭ ‬علموه‭ ‬كيف‭ ‬يجفو،‭ ‬خدعوها‭ ‬بقولهم‭ ‬حسناء‭. ‬ثم‭ ‬غنّت‭ ‬له‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭: ‬ولد‭ ‬الهدى،‭ ‬نهج‭ ‬البردة،‭ ‬إلى‭ ‬عرفات‭ ‬الله،‭ ‬مقادير‭ ‬من‭ ‬جفنيك،‭ ‬سلوا‭ ‬كؤوس‭ ‬الطلا،‭ ‬سلوا‭ ‬قلبي،‭ ‬النيل،‭ ‬وأغنية‭ ‬الجلاء‭. ‬بعدها‭ ‬غنى‭ ‬له‭ ‬الشام‭ ‬ولبنان‭ ‬واليمن‭ ‬أغاني،‭ ‬من‭ ‬أشهرها‭: ‬مضنى‭ ‬وليس‭ ‬به‭ ‬حراك،‭ ‬روعوه‭ ‬فتولى‭ ‬مغضبًا،‭ ‬يا‭ ‬قمرية‭ ‬الوادي‭. ‬

 

الأخطل‭ ‬ورامي

ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬بشارة‭ ‬عبدالله‭ ‬الخوري‭ (‬ت‭. ‬1968م‭) ‬ليحتل‭ ‬المرتبة‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬المغناة‭. ‬غنى‭ ‬للأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬كبار‭ ‬المغنين،‭ ‬فغنى‭ ‬له‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬‮«‬جفنه‭ ‬علّم‭ ‬الغزل‮»‬،‭ ‬وغنت‭ ‬له‭ ‬فيروز‭ ‬‮«‬يا‭ ‬عاقد‭ ‬الحاجبين‮»‬‭ ‬و«بيروت‭ ‬هل‭ ‬ذرفت‭ ‬عيونك‭ ‬دمعة‮»‬‭ ‬و«قد‭ ‬أتاك‭ ‬يعتذر‮»‬‭ ‬و‮«‬يبكي‭ ‬ويضحك‮»‬،‭ ‬وفريد‭ ‬الأطرش‭ ‬‮«‬عش‭ ‬أنت‮»‬‭ ‬و«أضنيتني‭ ‬بالهجر‮»‬،‭ ‬وصباح‭ ‬فخري‭ ‬‮«‬بلغوها‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬أبدع‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬القصة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬مصارع‭ ‬العشق‭ ‬التي‭ ‬نقرأها‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬‮«‬المسلول‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬تسرد‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬‮«‬هند‭ ‬وأمها‮»‬‭.‬

  ‬ويعتبر‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭ ‬ظاهرة‭ ‬أدبية‭ ‬اجتمعت‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬سلاسة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وبساطتها‭ ‬مع‭ ‬رقي‭ ‬العامية‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬انتقائي‭ ‬لكلمات‭ ‬قصائدة‭ ‬بين‭ ‬اللهجة‭ ‬واللغة‭. ‬حين‭ ‬أنشدت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬هجرتك‮»‬‭ ‬تبادر‭ ‬لسامعها‭ ‬بأنها‭ ‬عامية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬أقرب‭ ‬جدًا‭ ‬إلى‭ ‬الفصحى،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭:‬

هجرتك‭ ‬يمكن‭ ‬أنسى‭ ‬هواك

وأودع‭ ‬قــلبـك‭ ‬القــاسـي

وقلت‭ ‬أقدر‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬أسلاك

وافضي‭ ‬بالهوي‭ ‬كاسي

 

وهكذا‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭ ‬في‭ ‬قصائده،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭: ‬إنني‭ ‬أخشى‭ ‬على‭ ‬الفصحى‭ ‬من‭ ‬عامية‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭. ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬الكريم‭ ‬أنّ‭ ‬رامي‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬قصائد‭ ‬بالفصحى،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬حبي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬غنتها‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭. ‬لقد‭ ‬درس‭ ‬رامي‭ ‬الفارسية‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يترجم‭ ‬رباعيات‭ ‬الخيام‭ ‬ترجمة‭ ‬محكمة‭ ‬ونظم‭ ‬رائع،‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬أغاني‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭.‬

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الحديث‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬ننكر‭ ‬فضل‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار‭ ‬على‭ ‬الأغنية‭ ‬العربية،‭ ‬مثل‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬وسعيد‭ ‬عقل‭ ‬وعبدالله‭ ‬الفيصل‭ ‬وأحمد‭ ‬العدواني‭ ‬وسعاد‭ ‬الصباح‭ ‬وغازي‭ ‬القصيبي،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬قصيدة‭ ‬بالفصحى‭ ‬لتعيش‭ ‬مع‭ ‬الأجيال‭ ‬عبر‭ ‬الزمان‭ ‬‭.