مقاربات... بين الحب والكُتب

مقاربات... بين الحب والكُتب

قبل‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬كنت‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬قرأ‭ ‬معلّقة‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوح‭ ‬الملقب‭ ‬بالمجنون،‭ ‬فأدهشني‭ ‬كيف‭ ‬يقاسي‭ ‬المرء‭ ‬ذلك‭ ‬الألم‭ ‬لمجرد‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يتزوج‭ ‬محبوبته‭ ‬عبلة‭.. ‬ويكتبه‭ ‬قصيدة‭ ‬تتناقلها‭ ‬الأزمنة‭ ‬عقدًا‭ ‬إثر‭ ‬عقد؟‭!‬
من‭ ‬أين‭ ‬تنهمر‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء؟‭ ‬وهل‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬جمر‭ ‬الحب‭ ‬لتنفتح‭ ‬لهم‭ ‬كنوز‭ ‬الكلام،‭ ‬فيغرفون‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬يشاؤون؟‭ ‬حتى‭ ‬أضاعتني‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وأحسبني‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أهتد‭ ‬للأجوبة‭ ‬بعد،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬مرّ‭ ‬تحت‭ ‬جسر‭ ‬العمر‭ ‬من‭ ‬مياه‭ ‬كثيرة‭... ‬وعليه‭ ‬من‭ ‬أحمال‭ ‬ثقيلة‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الطفولة،‭ ‬التي‭ ‬اكتشفت‭ ‬شعراً‭ ‬يختلف‭ ‬عما‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬المشايخ‭ ‬في‭ ‬قريتي،‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬معنى‭ ‬الحب،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الكلمة‭ ‬متداولة،‭ ‬أو‭ ‬مصرحًا‭ ‬لها‭ ‬بالتداول،‭ ‬في‭ ‬محيطنا‭ ‬القروي،‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬أبي‭ ‬يقولها،‭ ‬ولا‭ ‬جهاز‭ ‬تلفزيون‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬تظهر‭ ‬فيه‭ ‬فاتنة‭ ‬تقول،‭ ‬أو‭ ‬تسمع،‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬أحبك‮»‬،‭ ‬فندرك‭ ‬دلالات‭ ‬الكلمة‭... ‬وما‭ ‬قد‭ ‬يكمن‭ ‬وراءها‭ ‬من‭ ‬عذوبة‭ ‬وعذاب‭.. ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬نادية‭ ‬لطفي‭ ‬تغرق‭ ‬في‭ ‬قبلات‭ ‬مع‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬فيشعر‭ ‬أبي‭ ‬بالصدمة‭ ‬تجاه‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬المسمى‭ ‬بالفيديو،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬ليحطّم‭ ‬أمله‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬ابنه‭ ‬يومًا‭ ‬قاضيًا‭ ‬أو‭ ‬واعظًا،‭ ‬كالذين‭ ‬يلتقيهم‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الأوقاف‭ ‬أو‭ ‬المحكمة‭ ‬لاحقًا‭.‬

حفظت‭ ‬قصيدة‭ ‬المؤنسة‭ ‬غيبًا،‭ ‬وصرت‭ ‬كأني‭ ‬أعرف‭ ‬قيسًا‭ ‬وقد‭ ‬أصادفه‭ ‬بين‭ ‬حقول‭ ‬النخيل‭ ‬في‭ ‬قريتي،‭ ‬فأسأله‭ ‬عن‭ ‬جنون‭ ‬الحب‭ ‬مخافة‭ ‬أن‭ ‬أقع‭ ‬في‭ ‬أتونه‭ ‬يومًا‭. ‬ثم‭ ‬اقتنيت‭ ‬كتاب‭ ‬المعلقات،‭ ‬فعلّقني‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬معرفة‭ ‬المعاني‭ ‬السائرة‭ ‬في‭ ‬ركابه‭ ‬تلك‭ ‬الأبيات،‭ ‬وهي‭ ‬تصدمني‭ ‬بمفردات‭ ‬لا‭ ‬عهد‭ ‬لي‭ ‬بها،‭ ‬وبأسلوب‭ ‬يشبه‭ ‬وقع‭ ‬ذلك‭ ‬الجلمود‭ ‬الذي‭ ‬حطّه‭ ‬السيل‭ ‬من‭ ‬علٍ‭.. ‬كما‭ ‬كتبه‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬في‭ ‬معلّقته‭ ‬التي‭ ‬شدّني‭ ‬مطلعها‭ ‬كثيرًا‭.‬

تعلّقت‭ ‬بقراءة‭ ‬الشعر،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬أستوعب‭ ‬مغازيه،‭ ‬وطفت‭ ‬على‭ ‬الأطلال‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬مطالع‭ ‬قصائدها‭ ‬قريبة‭ ‬الفهم،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬أمعنت‭ ‬أكثر‭ ‬ألقتني‭ ‬في‭ ‬جبّ‭ ‬التيه‭ ‬بين‭ ‬الأمكنة‭ ‬والمفردات،‭ ‬تتساقط‭ ‬على‭ ‬رأسي‭ ‬فيحفظها،‭ ‬إنما‭ ‬متمسكًا‭ ‬بجهلي‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬ذاك‭ ‬يتلاقى‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬أقرأه‭.‬

ومضيت،‭ ‬كلما‭ ‬قرأت‭ ‬أكثر‭ ‬أكتشف‭ ‬جهلي‭ ‬أعمق،‭ ‬وبان‭ ‬لي‭ ‬الحب‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بمزاج‭ ‬الكتابة،‭ ‬وبمزاج‭ ‬القراءة‭ ‬أيضًا،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقتي‭ ‬بكل‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬أحببت‭ ‬الكتب‭ ‬حبًّا‭ ‬جمًّا،‭ ‬أتطوع‭ ‬للبيع‭ ‬في‭ ‬مقصف‭ ‬المدرسة‭ ‬صابرًا‭ ‬على‭ ‬الجوع‭ ‬ومستعيضًا‭ ‬بمكافأة‭ ‬الخبزة‭ ‬وحبة‭ ‬الجبن‭ ‬لأبادلها‭ ‬من‭ ‬يعطيني‭ ‬مجلة‭ ‬مستعملة،‭ ‬وكانت‭ ‬قريتي‭ ‬تخلع‭ ‬عباءة‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وكأنها‭ ‬لفرط‭ ‬قدمها‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭... ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نشعر‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬كان‭ ‬انتقالًا‭ ‬بين‭ ‬مرحلتين‭.‬
في‭ ‬الرواية‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬للحب‭ ‬قراءة‭ ‬أخرى،‭ ‬تتلاقى‭ ‬مع‭ ‬ألم‭ ‬مجنون‭ ‬ليلى،‭ ‬لكن‭ ‬ليلى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬دومًا‭ ‬بريئة‭ ‬كالتي‭ ‬عشقها‭ ‬قيس،‭ ‬بل‭ ‬تمردت‭ ‬وشقت‭ ‬عصا‭ ‬الطاعة‭ ‬للعشق‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأمكنة‭ ‬والأزمنة‭... ‬بكت‭ ‬وأبكت،‭ ‬نزف‭ ‬فؤادها‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬بأفئدة،‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬استطاع‭ ‬كتابة‭ ‬الحكاية،‭ ‬وأغلبها‭ ‬شق‭ ‬الأكباد‭ ‬سرًّا،‭ ‬وخفية‭ ‬عن‭ ‬الأعين‭ ‬والألسن‭.‬

أنظر‭ ‬إلى‭ ‬مكتبتي‭ ‬وقد‭ ‬تراكمت‭ ‬بفعل‭ ‬تقادم‭ ‬السنين،‭ ‬آلاف‭ ‬الحكايات‭ ‬تندس‭ ‬في‭ ‬بطونها،‭ ‬حكايات‭ ‬حب‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الروايات،‭ ‬وربما‭ ‬دواوين‭ ‬الشعر‭ ‬أيضًا،‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬منها‭ ‬حفزني‭ ‬على‭ ‬إطلاق‭ ‬مارد‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬قمقمه‭... ‬حب‭ ‬اقتناء‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬المكتوبة،‭ ‬وبقي‭ ‬عنصر‭ ‬الحب‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬فتكاثرت‭ ‬الظباء‭ (‬حكاية‭ ‬كل‭ ‬حب‭) ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الـ‭ (‬خراش‭) ‬الذي‭ ‬أرى‭ ‬نفسي‭ ‬فيه‭.. ‬حيث‭ ‬تشبهه‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬البيت‭ (‬فما‭ ‬يدري‭ ‬خراش‭ ‬ما‭ ‬يصيد‭).‬

يقولون‭: ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الحب‭ ‬كالسابق‭ ‬ولا‭ ‬الكتابة‭ ‬عنه‭ ‬أيضًا‭.. ‬والأهم‭ ‬أن‭ ‬حب‭ ‬القراءة‭ ‬تغيّر‭ ‬أيضًا‭. ‬فكم‭ ‬أسف‭ ‬يمخر‭ ‬صدري‭ ‬إذ‭ ‬تصطف‭ ‬مئات‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬اخترتها‭ ‬بحب‭ ‬لأقرأها‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬فرصة،‭ ‬فلم‭ ‬يشفع‭ ‬لها‭ ‬الحب‭... ‬وكأني‭ ‬أصير‭ ‬مجنونًا‭ ‬بصيغة‭ ‬محدثة‭ ‬لحبّ‭... ‬مختلف‭ .‬