رثاء المتنبي لجدته

رثاء المتنبي لجدته

لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭  ‬شعر‭  ‬المتنبي‭ ‬حق‭ ‬الفهم‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬عرفنا‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬وعن‭ ‬روحه‭ ‬الوثابة‭ ‬واعتداده‭ ‬البالغ‭ ‬بشعريته،‭ ‬وهو‭ ‬اعتداد‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬نظيرًا‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬القدماء‭. ‬ولد‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬الكوفة‭ ‬حيث‭ ‬تحيط‭ ‬بمولده‭ ‬شكوك‭ ‬كثيرة،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬ابن‭ ‬لأحد‭ ‬كبار‭ ‬أمراء‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬الكوفة،‭ ‬وأن‭ ‬والده‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬الاعتراف‭ ‬به‭ ‬علنًا‭ ‬بحكم‭ ‬مكانته‭ ‬ومنصبه‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬رأي‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭. ‬أما‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬مجرد‭ ‬ابن‭ ‬لرجل‭ ‬نكرة‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬عنه‭ ‬شيئًا،‭ ‬لكن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬المتنبي،‭ ‬وهو‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬الحسين،‭ ‬ولد‭ ‬بالكوفة‭.‬

زعم‭ ‬بعض‭ ‬الرواة‭ ‬أن‭ ‬والد‭ ‬المتنبي‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬عبدان،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬فقيرا،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬يسقي‭ ‬الماء،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬شىء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬بالكوفة،‭ ‬وفيها‭ ‬تعلم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬في‭ ‬صباه،‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬إلى‭ ‬البادية‭ ‬وخالط‭ ‬فصحاء‭ ‬البدو،‭ ‬وأخذ‭ ‬عنهم‭ ‬اللغة،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬بدويًا‭ ‬قحًا،‭ ‬ثم‭ ‬لازم‭ ‬الوراقين،‭ ‬وقرأ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الكتب،‭ ‬ثم‭ ‬رحل‭ ‬به‭ ‬أبوه‭ ‬إلى‭ ‬الشام‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭. ‬وقيل‭ ‬إنه‭ ‬خرج‭ ‬إلى‭ ‬بادية‭ ‬السماوة‭ ‬حيث‭ ‬قبائل‭ ‬بني‭ ‬كلب،‭ ‬فأقام‭ ‬فيهم‭ ‬ينشد‭ ‬شعره،‭ ‬فعظم‭ ‬شأنه‭ ‬بينهم،‭ ‬وقويت‭ ‬فصاحته‭ ‬فيهم‭. ‬وكان‭ ‬يختلف‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬أمصار‭ ‬الشام‭. ‬ويقال‭ ‬إنه‭ ‬ادعى‭ ‬النبوة،‭ ‬واتبعه‭ ‬من‭ ‬البدو‭ ‬خلق‭ ‬كثير،‭ ‬وخرج‭ ‬إليه‭ ‬أمير‭ ‬حمص‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدولة‭ ‬الإخشيدية،‭ ‬فقبض‭ ‬عليه‭ ‬وسجنه‭ ‬وعذبه‭ ‬عذابًا‭ ‬شديدًا،‭ ‬ثم‭ ‬استتابه‭ ‬وأطلق‭ ‬سراحه،‭ ‬فخرج‭ ‬من‭ ‬السجن،‭ ‬وقد‭ ‬لصق‭ ‬به‭ ‬لقب‭ ‬المتنبي،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬كارها‭.‬

هكذا‭ ‬ظل‭ ‬اسمه‭ ‬أبو‭ ‬الطيب‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬الحسين،‭ ‬لكن‭ ‬لقب‭ ‬المتنبي‭ ‬غلب‭ ‬على‭ ‬اسمه‭ ‬واسم‭ ‬آبائه‭. ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬أن‭ ‬أباه‭ ‬جعفيّ‭ ‬وأمه‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬كندة،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬عن‭ ‬أسرته‭ ‬هو‭ ‬احتمالات‭ ‬في‭ ‬احتمالات،‭ ‬فقد‭ ‬ذهب‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬المحدثين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬شعور‭ ‬المتنبي‭ ‬بذاته‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يجعله‭ ‬سليل‭ ‬أسرة‭ ‬علوية‭ ‬متنفذة،‭ ‬وأن‭ ‬أباه‭ ‬من‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬الأمراء‭. ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬اعتداد‭ ‬بالذات‭ ‬وإباء‭ ‬وبحث‭ ‬دائم‭ ‬عن‭ ‬المعالي،‭ ‬وفخره‭ ‬المتزايد‭ ‬بنفسه،‭ ‬جعل‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭ ‬يستنتج‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬لأحد‭ ‬أمراء‭ ‬الشيعة،‭ ‬وأنه‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬آخر‭ ‬ترك‭ ‬مع‭ ‬جدته‭ ‬التي‭ ‬رعته‭ ‬بدل‭ ‬أمه،‭ ‬فأصبحت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الجدة‭ ‬والحفيد‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬محبة‭ ‬خالصة‭ ‬ووفاء‭ ‬نادر‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجدة‭ ‬كانت‭ ‬تحبه‭ ‬كل‭ ‬الحب،‭ ‬وأنها‭ ‬عطفت‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬العطف،‭ ‬وصار‭ ‬أثيرًا‭ ‬عندها‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬المحبة‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المحبة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬الولد‭ ‬وأمه،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬يرثيها‭ ‬فيها‭ ‬بأن‭ ‬يسميها‭ ‬أمه،‭ ‬فهي‭ ‬أمه‭ ‬الحقيقية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تحبه‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬ابنها‭ ‬الأوحد،‭ ‬وتغرقه‭ ‬من‭ ‬المحبة‭ ‬ما‭ ‬ظل‭ ‬أنيسًا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مغامراته‭ ‬وارتحاله‭ ‬بين‭ ‬الأمراء،‭ ‬طمعًا‭ ‬في‭ ‬العطايا‭ ‬والثروة،‭ ‬ولكن‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬اعتداده‭ ‬بنفسه‭ ‬وإيمانه‭ ‬الدائم‭ ‬بأنه‭ ‬أرفع‭ ‬قدرًا‭ ‬من‭ ‬ممدوحيه‭ ‬الذين‭ ‬اضطره‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬مدحهم‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬بغيته‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني،‭ ‬فإنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬الأعداء‭ ‬ما‭ ‬بغض‭ ‬إليه‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬أعدائه‭ ‬لددًا‭ ‬في‭ ‬الخصومة‭ ‬وذمًا‭ ‬له‭ ‬عند‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني‭ ‬نفسه،‭ ‬أبو‭ ‬فراس‭ ‬الحمداني،‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬بالغيرة‭ ‬من‭ ‬عظمة‭ ‬شعــر‭ ‬المتنبي‭ ‬بالقيــــاس‭ ‬إلى‭ ‬شعـــــــــره‭. ‬وقـــد‭ ‬وقـــف‭ ‬إلــى‭ ‬جانب‭ ‬أبي‭ ‬فراس،‭ ‬ابن‭ ‬خالويه‭ ‬النحوي‭. ‬وكلاهما‭ ‬أفلح‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يوغر‭ ‬صدر‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬المتنبي‭. ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬المتنبي‭ ‬بُدًا‭ ‬من‭ ‬هجر‭ ‬بلاط‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يعامل‭ ‬المتنبي‭ ‬معاملة‭ ‬الأنداد،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يسعد‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬أميره،‭ ‬ويدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الإخلاص‭ ‬في‭ ‬مدحه‭. ‬وبالفعل‭ ‬كتب‭ ‬المتنبي‭ ‬أعظم‭ ‬قصائد‭ ‬المديح‭ ‬في‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬واصفًا‭ ‬حروبه‭ ‬وانتصاراته‭ ‬على‭ ‬جنود‭ ‬الدولة‭ ‬البيزنطية‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬أيامه‭ ‬مع‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬أجمل‭ ‬الأيام‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المتنبي‭ ‬القصيرة‭ ‬نسبيًا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬ولد‭ ‬سنة‭ ‬303‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬للهجرة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قتل‭ ‬سنة‭ ‬354‭ ‬للهجرة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجاوز‭ ‬الخمسين‭ ‬عامًا‭ ‬إلا‭ ‬بعام،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغل‭ ‬الناس‭.‬

المهم‭ ‬أن‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حياة‭ ‬الرفاهية‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬واقترابه‭ ‬الحميم‭ ‬من‭ ‬عائلته،‭ ‬وذلك‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭ ‬استنتج‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬مكتومة‭ ‬بينه‭ ‬وأخت‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭. ‬وكان‭ ‬دليله‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬رثاها‭ ‬بها‭ ‬المتنبي‭. ‬أما‭ ‬عن‭ ‬رثائه‭ ‬لجدته‭ ‬فلأنها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬رعته‭ ‬وربته‭ ‬وحمته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أودعه‭ ‬أبواه‭ ‬في‭ ‬حماها،‭ ‬وكانت‭ ‬تتشوق‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬وتتابع‭ ‬أخباره‭ ‬وتفرح‭ ‬لنجاحه‭ ‬وتحزن‭ ‬لأحزانه،‭ ‬يتبعه‭ ‬قلبها‭ ‬ودعواتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬حل‭ ‬فيه‭. ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬إلحاح‭ ‬منها‭ ‬للاطمئنان‭ ‬عليه،‭ ‬فرد‭ ‬عليها‭ ‬بكتاب،‭ ‬فلما‭ ‬وصلها‭ ‬الكتاب،‭ ‬قبّلته‭ ‬وفرحت‭ ‬به‭ ‬فيما‭ ‬يقول‭ ‬العُكبري‭ ‬في‭ ‬شرحه‭ ‬لديوان‭ ‬المتنبي‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬ترك‭ ‬فيها‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬ذاهبًا‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭. ‬فلما‭ ‬بلغ‭ ‬المتنبي‭ ‬أن‭ ‬خطابه‭ ‬قد‭ ‬أصاب‭ ‬جدته‭ ‬بالفرح‭ ‬الغامر،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬لم‭ ‬يحتملها‭ ‬قلبها‭ ‬الضعيف،‭ ‬فكتب‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭. ‬وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬الرثاء‭ ‬يعبر‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬مشاعره‭ ‬الصادقة‭ ‬إزاء‭ ‬فقد‭ ‬الجدة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يعرفها،‭ ‬والأب‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬جدته‭. ‬

وسواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬أميرًا‭ ‬شيعيًا‭ ‬أو‭ ‬سقاء‭ ‬في‭ ‬الكوفة،‭ ‬فإن‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بتربية‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬الحسين،‭ ‬هو‭ ‬جدته‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أمه،‭ ‬ولذلك‭ ‬يكتب‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أقرأها‭ ‬معكم‭:‬

ألا‭ ‬لا‭ ‬أُرى‭ ‬الأحداثَ‭ ‬حمدًا‭ ‬ولا‭ ‬ذَمّا

فَما‭ ‬بَطشُها‭ ‬جَهلًا‭ ‬ولا‭ ‬كفُّها‭ ‬حِلمَا

إلى‭ ‬مثلِ‭ ‬ما‭ ‬كانَ‭ ‬الفتى‭ ‬مرْجعُ‭ ‬الفتى

يَعُودُ‭ ‬كمَا‭ ‬أُبْدى‭ ‬ويُكرِى‭ ‬كما‭ ‬أرْمَى

لَكِ‭ ‬الله‭ ‬مِنْ‭ ‬مَفْجُوعَةٍ‭ ‬بحَبيبِها‭ ‬

قَتيلَةِ‭ ‬شَوْقٍ‭ ‬غَيرِ‭ ‬مُلحِقِها‭ ‬وَصْمَا

أحِنّ‭ ‬إلى‭ ‬الكأسِ‭ ‬التي‭ ‬شرِبَتْ‭ ‬منها

وأهوى‭ ‬لمَثواها‭ ‬التّرابَ‭ ‬وما‭ ‬ضَمّا

بَكَيْتُ‭ ‬عَلَيها‭ ‬خِيفَةً‭ ‬في‭ ‬حَياتِها‭ ‬

وذاقَ‭ ‬كِلانا‭ ‬ثُكْلَ‭ ‬صاحِبِهِ‭ ‬قِدْمَا

ولوْ‭ ‬قَتَلَ‭ ‬الهَجْرُ‭ ‬المُحبّينَ‭ ‬كُلَّهُمْ

مضَى‭ ‬بَلَدٌ‭ ‬باقٍ‭ ‬أجَدّتْ‭ ‬لَهُ‭ ‬صَرْمَا

عرَفْتُ‭ ‬الليالي‭ ‬قَبل‭ ‬ما‭ ‬صَنَعَتْ‭ ‬بنا

فلَمَا‭ ‬دَهَتْنى‭ ‬لم‭ ‬تَزِدْني‭ ‬بها‭ ‬عِلْمَا

مَنافِعُها‭ ‬ما‭ ‬ضَرّ‭ ‬في‭ ‬نَفْعِ‭ ‬غَيرِها‭ ‬

تغذّى‭ ‬وتَرْوَى‭ ‬أن‭ ‬تجوعَ‭ ‬وأن‭ ‬تَظْمَا

أتاها‭ ‬كِتابي‭ ‬بَعدَ‭ ‬يأسٍ‭ ‬وتَرْحَةٍ

فَماتَتْ‭ ‬سُرُورًا‭ ‬بي‭ ‬فَمُتُّ‭ ‬بها‭ ‬همّا‭ ‬

حَرامٌ‭ ‬على‭ ‬قَلبي‭ ‬السّرُورُ‭ ‬فإنّني

أعُدّ‭ ‬الذي‭ ‬ماتَتْ‭ ‬بهِ‭ ‬بَعْدَها‭ ‬سُمّا‭ ‬

تَعَجَّبُ‭ ‬مِنْ‭ ‬خَطّي‭ ‬ولَفْظي‭ ‬كأنّها

ترَى‭ ‬بحُرُوفِ‭ ‬السّطرِ‭ ‬أغرِبةً‭ ‬عُصْمَا

وتَلْثِمُهُ‭ ‬حتى‭ ‬أصارَ‭ ‬مِدادُهُ

‭ ‬مَحاجِرَ‭ ‬عَيْنَيْها‭ ‬وأنْيابَها‭ ‬سُحْمَا

رَقَا‭ ‬دَمْعُها‭ ‬الجاري‭ ‬وجَفّتْ‭ ‬جفونها‭ ‬

وفارَقَ‭ ‬حُبّي‭ ‬قَلبَها‭ ‬بَعدمَا‭ ‬أدمَى

ولم‭ ‬يُسْلِها‭ ‬إلاّ‭ ‬المَنَايا،‭ ‬وإنّمَا

أشَدُّ‭ ‬منَ‭ ‬السُّقمِ‭ ‬الذي‭ ‬أذهَبَ‭ ‬السُّقْما

طَلَبْتُ‭ ‬لها‭ ‬حَظًّا،‭ ‬فَفاتَتْ‭ ‬وفاتَني‭ ‬

وقد‭ ‬رَضِيَتْ‭ ‬بي‭ ‬لو‭ ‬رَضيتُ‭ ‬بها‭ ‬قِسْمَا

فأصْبَحتُ‭ ‬أسْتَسقي‭ ‬الغَمامَ‭ ‬لقَبرِها

وقد‭ ‬كنْتُ‭ ‬أستَسقي‭ ‬الوَغى‭ ‬والقنا‭ ‬الصُّمّا

وكنتُ‭ ‬قُبَيلَ‭ ‬الموْتِ‭ ‬أستَعظِمُ‭ ‬النّوَى‭        

فقد‭ ‬صارَتِ‭ ‬الصّغَرى‭ ‬التي‭ ‬كانتِ‭ ‬العظمى

هَبيني‭ ‬أخذتُ‭ ‬الثأرَ‭ ‬فيكِ‭ ‬منَ‭ ‬العِدَى‭ ‬

فكيفَ‭ ‬بأخذِ‭ ‬الثّأرِ‭ ‬فيكِ‭ ‬من‭ ‬الحُمّى؟‭!‬

وما‭ ‬انسَدّتِ‭ ‬الدّنْيا‭ ‬عليّ‭ ‬لضِيقِهَا

ولكنَّ‭ ‬طَرْفًا‭ ‬لا‭ ‬أراكِ‭ ‬بهِ‭ ‬أعمَى

فَوَا‭ ‬أسَفا‭ ‬ألّا‭ ‬أُكِبَّ‭ ‬مُقَبِّلًا

لرَأسِكِ‭ ‬والصّدْرِ‭ ‬الذَي‭ ‬مُلأ‭ ‬حزْمَا

وألا‭ ‬أُلاقِي‭ ‬روحَكِ‭ ‬الطّيّبَ‭ ‬الذي

كأنّ‭ ‬ذكي‭ ‬المِسكِ‭ ‬كانَ‭ ‬له‭ ‬جسمَا

ولَوْ‭ ‬لمْ‭ ‬تَكُوني‭ ‬بِنْتَ‭ ‬أكْرَمِ‭ ‬والِدٍ‭          

لَكانَ‭ ‬أباكِ‭ ‬الضّخْمَ‭ ‬كونُكِ‭ ‬لي‭ ‬أُمّا

لَئِنْ‭ ‬لَذّ‭ ‬يَوْمُ‭ ‬الشّامِتِينَ‭ ‬بيَوْمِهَا‭ ‬

لَقَدْ‭ ‬وَلَدَتْ‭ ‬مني‭ ‬لأنْفِهِمِ‭ ‬رَغْمَا

تَغَرّبَ‭ ‬لا‭ ‬مُسْتَعْظِمًا‭ ‬غَيرَ‭ ‬نَفْسِهِ‭         

ولا‭ ‬قابِلًا‭ ‬إلا‭ ‬لخالِقِهِ‭ ‬حُكْمَا

ولا‭ ‬سالِكًا‭ ‬إلا‭ ‬فُؤادَ‭ ‬عَجاجَةٍ

ولا‭ ‬واجِدًا‭ ‬إلا‭ ‬لمَكْرُمَةٍ‭ ‬طَعْمَا

يَقُولونَ‭ ‬لى‭: ‬ما‭ ‬أنتَ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬بَلدَةٍ؟

‭ ‬وما‭ ‬تَبتَغي؟‭ ‬ما‭ ‬أبتَغي‭ ‬جَلّ‭ ‬أن‭ ‬يُسْمى

كأنّ‭ ‬بَنيهِمْ‭ ‬عالِمُونَ‭ ‬بِأنَّنِي

جَلُوبٌ‭ ‬إلَيهِمْ‭ ‬منْ‭ ‬مَعادِنه‭ ‬اليُتْمَا

وما‭ ‬الجَمْعُ‭ ‬بَينَ‭ ‬الماءِ‭ ‬والنّارِ‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬

بأصعَبَ‭ ‬من‭ ‬أنْ‭ ‬أجمَعَ‭ ‬الجَدّ‭ ‬والفَهمَا

ولكِنّني‭ ‬مُسْتَنْصِرٌ‭ ‬بذُبَابِهِ‭ ‬

ومُرْتكِبٌ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حالٍ‭ ‬به‭ ‬الغَشمَا

وجاعِلُهُ‭ ‬يَوْمَ‭ ‬اللّقاءِ‭ ‬تَحِيّتي‭ ‬

وإلا‭ ‬فلَسْتُ‭ ‬السيّدَ‭ ‬البَطَلَ‭ ‬القَرْمَا

إذا‭ ‬فَلّ‭ ‬عَزْمي‭ ‬عن‭ ‬مدًى‭ ‬خوْفُ‭ ‬بُعده‭ ‬

فأبْعَدُ‭ ‬شىءٍ‭ ‬ممكنٌ‭ ‬لم‭ ‬يَجِدْ‭ ‬عزْمَا

وإنّي‭ ‬لَمِنْ‭ ‬قَوْمٍ‭ ‬كأنّ‭ ‬نُفُوسَهُمْ

بها‭ ‬أنَفٌ‭ ‬أن‭ ‬تسكنَ‭ ‬اللّحمَ‭ ‬والعَظمَا

كذا‭ ‬أنَا‭ ‬يا‭ ‬دُنْيا‭ ‬إذا‭ ‬شِئْتِ‭ ‬فاذْهَبي‭ ‬

ويا‭ ‬نَفسِ‭ ‬زيدي‭ ‬في‭ ‬كرائهِها‭ ‬قُدْمَا

فلا‭ ‬عَبَرَتْ‭ ‬بي‭ ‬ساعَةٌ‭ ‬لا‭ ‬تُعِزّنى‭ ‬

ولا‭ ‬صَحِبَتْني‭ ‬مُهجَةٌ‭ ‬تقبلُ‭ ‬الظُّلْمَا

 

ومن‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬القارئ‭ ‬نبرة‭ ‬الحزن‭ ‬التي‭ ‬تتخلل‭ ‬الأبيات‭ ‬السابقة،‭ ‬ويمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الفلسفة‭ ‬اللا‭ ‬مبالية‭ ‬بكوارث‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬قلبت‭ ‬حياة‭ ‬المتنبي‭ ‬إلى‭ ‬هم‭ ‬وحزن‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال،‭ ‬وقد‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬تعبيرًا‭ ‬لافتًا‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭:‬

رَماني‭ ‬الدّهرُ‭ ‬بالأرزاءِ‭ ‬حتى

فُؤادي‭ ‬في‭ ‬غِشاءٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬نِبالِ

فَصِرْتُ‭ ‬إذا‭ ‬أصابَتْني‭ ‬سِهامٌ

تكَسّرَتِ‭ ‬النّصالُ‭ ‬على‭ ‬النّصالِ

 

فهو‭ ‬هنا‭ ‬يبدأ‭ ‬قصيدته‭ ‬بموقف‭ ‬حيادى،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمدح‭ ‬الكوارث‭ ‬أو‭ ‬الأحداث‭ ‬ولا‭ ‬يذمها،‭ ‬فإن‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬الكوارث‭ ‬إذا‭ ‬بطشت‭ ‬بنا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬جهلاً‭ ‬منها،‭ ‬وإن‭ ‬كفت‭ ‬عن‭ ‬الضرر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬حلمًا‭ ‬منها؛‭ ‬لأن‭ ‬الفعل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬لله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭. ‬وإنما‭ ‬تنسب‭ ‬الأفعال‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المجاز‭ ‬والاستعارة‭. ‬هكذا‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬الخلق‭ ‬وبدأهم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬جعل‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬خلقه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينقص‭ ‬كما‭ ‬يزيد،‭ ‬فلا‭ ‬ذنب‭ ‬للمصائب‭ ‬حتى‭ ‬يذمها‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬يمدحها‭. ‬وينتقل‭ ‬إلى‭ ‬جدته‭ ‬قائلاً‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬تعجب‭ ‬لافتة،‭ ‬واصفًا‭ ‬إياها‭ ‬بأنها‭ ‬مفجوعة‭ ‬بحبيبها،‭ ‬قتيلة‭ ‬شوق‭ ‬يشرفها‭ ‬ويشرف‭ ‬هذا‭ ‬الحبيب‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬جدته‭ ‬شوقها‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬اشتاقت‭ ‬من‭ ‬تُثاب‭ ‬على‭ ‬شوقه‭ ‬وليس‭ ‬أجرها‭ ‬إلا‭ ‬بالصبر‭ ‬عليه،‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬حفيدها‭ ‬إلا‭ ‬الصبر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أصابه‭ ‬من‭ ‬موتها،‭ ‬ولذلك‭ ‬يحن‭ ‬هذا‭ ‬الحبيب‭ ‬إلى‭ ‬كأس‭ ‬الموت‭ ‬التي‭ ‬شربت‭ ‬منها‭ ‬جدته،‭ ‬ويهيل‭ ‬على‭ ‬قبرها‭ ‬التراب‭ ‬الذي‭ ‬ضم‭ ‬جسدها‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أحن‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬عاشتها،‭ ‬فتحملت‭ ‬شوقها‭ ‬إليه‭ ‬واغترابه‭ ‬الدائم‭ ‬عنها‭.‬

وتصبح‭ ‬القصيدة‭ ‬أكثر‭ ‬ذاتية‭ ‬عندما‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الخامس،‭ ‬فيحدثنا‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬بكائه‭ ‬على‭ ‬جدته‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬خوفًا‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬ولكن‭ ‬الموت‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬شوقه‭. ‬وكعادة‭ ‬المتنبي‭ ‬يردف‭ ‬المعنى‭ ‬بما‭ ‬يؤكده‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬البيت‭ ‬السادس،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الهجر‭ ‬يقتل‭ ‬كل‭ ‬محب،‭ ‬لقتل‭ ‬بلدها‭. ‬والمقصود‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحبها‭ ‬لافتخاره‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬الهجر‭ ‬يقتل‭ ‬بعض‭ ‬المحبين‭ ‬دون‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭. ‬ونصل‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬السابع‭ ‬الذي‭ ‬يشرحه‭ ‬القدماء‭ ‬بقولهم‭: ‬‮«‬منافع‭ ‬الأحداث‭ ‬أن‭ ‬تجوع‭ ‬وأن‭ ‬تظمأ‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ضار‭ ‬بغيرها،‭ ‬لأن‭ ‬جوعها‭ ‬وعطشها،‭ ‬أن‭ ‬يهلك‭ ‬الناس،‭ ‬فتخلو‭ ‬منهم‭ ‬الدنيا،‭ ‬كقوله‭: ‬‮«‬كالموت‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬ريٌّ‭ ‬ولا‭ ‬شبع‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬ذهب‭ ‬ابن‭ ‬فورجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الضمير‭ ‬في‭ ‬‮«‬منافعها‮»‬‭ ‬في‭ ‬الجدة‭ ‬المرثية،‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬قليلة‭ ‬المطعم،‭ ‬تؤثر‭ ‬بطعامها‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬وتجوع‭ ‬لينتفع‭ ‬غيرها،‭ ‬ثم‭ ‬جعل‭ ‬المصراع‭ ‬الثاني‭ ‬مفسرًا‭ ‬للأول،‭ ‬لكي‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬غذاءها‭ ‬في‭ ‬جوعها،‭ ‬وريها‭ ‬في‭ ‬عطشها؛‭ ‬لأن‭ ‬سرورها‭ ‬بإطعام‭ ‬غيرها‭ ‬يقوم‭ ‬مقام‭ ‬شبعها‭ ‬وريها‭.‬

 

فرحة‭ ‬هائلة

وينتقل‭ ‬المتنبي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬فيتحدث‭ ‬عن‭ ‬الليالي‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬كما‭ ‬عرفته‭ ‬فازداد‭ ‬خبرة‭ ‬بها‭ ‬وقلّت‭ ‬دهشته‭ ‬منها،‭ ‬فلما‭ ‬أصابته‭ ‬هذه‭ ‬الليالي‭ ‬بفقد‭ ‬جدته‭ ‬لم‭ ‬يندهش؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬أعلم‭ ‬دائمًا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصيبه‭ ‬به‭ ‬الليالي‭ ‬من‭ ‬الكوارث‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬سوء‭ ‬الظن‭ ‬الدائم‭ ‬بهذه‭ ‬الليالي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يزده‭ ‬حزنه‭ ‬على‭ ‬جدته‭ ‬علمًا‭ ‬بما‭ ‬تصنع‭ ‬الأيام‭. ‬وينتقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬أحدثه‭ ‬كتابه‭ ‬في‭ ‬جدته‭ ‬بعد‭ ‬حزن‭ ‬ويأس،‭ ‬فماتت‭ ‬سرورًا‭ ‬بخطابه‭ ‬إليها،‭ ‬بينما‭ ‬مات‭ ‬غمًا‭ ‬وهمًا‭ ‬من‭ ‬حزنه‭ ‬عليها‭. ‬وإذًا،‭ ‬فحرام‭ ‬على‭ ‬قلبه‭ ‬السرور،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬ماتت‭ ‬به‭ ‬جدته،‭ ‬هو‭ ‬سم‭ ‬من‭ ‬سموم‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تأتيه‭ ‬أبدًا‭ ‬بالفرج‭. ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬الموت‭ ‬نفسه،‭ ‬فيرى‭ ‬أن‭ ‬جدته‭ ‬تعجبت‭ ‬من‭ ‬خطه‭ ‬ولفظه‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬إليها،‭ ‬كأنها‭ ‬كانت‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬أحرف‭ ‬الرسالة‭ ‬أغربة‭ ‬سوداء،‭ ‬فالجدة‭ ‬العزيزة‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬تقبّل‭ ‬كتابه،‭ ‬وتضعه‭ ‬على‭ ‬عينيها،‭ ‬حتى‭ ‬اسودّ‭ ‬ما‭ ‬حول‭ ‬عينيها‭ ‬وأنيابها‭ ‬بمداده،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المداد‭ ‬هو‭ ‬السم‭ ‬الذي‭ ‬قتلها‭ ‬من‭ ‬الفرحة‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يحتملها‭ ‬قلبها‭. ‬ولم‭ ‬ينقطع‭ ‬الدمع‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قطع‭ ‬أنفاسها،‭ ‬فيبست‭ ‬دموعها‭ ‬الجارية‭ ‬وجفت‭ ‬جفونها‭ ‬المليئة‭ ‬بالدمع،‭ ‬ففارق‭ ‬حب‭ ‬الحفيد‭ ‬قلبها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدماه‭ ‬وأوقفه‭ ‬عن‭ ‬الخفقان،‭ ‬فتوقف‭ ‬القلب،‭ ‬ولم‭ ‬يذهب‭ ‬الأثر‭ ‬المفاجئ‭ ‬الذي‭ ‬يختلط‭ ‬فيه‭ ‬الفرح‭ ‬بالترح‭ ‬إلا‭ ‬بالموت،‭ ‬ذلك‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬أنساها‭ ‬من‭ ‬تحب،‭ ‬وأذهب‭ ‬بحزنها‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬أشد‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬أمام‭ ‬الحفيد‭ ‬العاشق‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬السُقيا‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬بالمطر‭ ‬على‭ ‬قبرها‭. ‬وينتقل‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬المفارقة‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬التضاد‭ ‬أو‭ ‬المقابلة‭ ‬بين‭ ‬الدعاء‭ ‬بالسُقيا‭ ‬للقبر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬السُقيا‭ ‬للحفيد‭ ‬هي‭ ‬الحرب‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬البيت‭:‬

فأصْبَحتُ‭ ‬أسْتَسقِي‭ ‬الغَمامَ‭ ‬لقَبرِها

وقد‭ ‬كنْتُ‭ ‬أستَسقي‭ ‬الوَغى‭ ‬والقنا‭ ‬الصُّمّا

فيه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬طرائق‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬فيما‭ ‬يسميه‭ ‬أستاذنا‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬نوافر‭ ‬الأضداد‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬النوافر‭ ‬التي‭ ‬يكملها‭ ‬البيت‭ ‬التالي‭:‬

وكنتُ‭ ‬قُبَيلَ‭ ‬الموْتِ‭ ‬أستَعظِمُ‭ ‬النّوَى

فقد‭ ‬صارَتِ‭ ‬الصّغَرى‭ ‬التي‭ ‬كانتِ‭ ‬العظمى

حيث‭ ‬يلفتنا‭ ‬التقابل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشطر‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬البيت‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الحفيد‭ ‬يستعظم‭ ‬فراقه‭ ‬عن‭ ‬جدته،‭ ‬فصار‭ ‬هذا‭ ‬الاستعظام‭ ‬هينا‭ ‬بعد‭ ‬موتها،‭ ‬إذ‭ ‬صارت‭ ‬حادثة‭ ‬الفراق‭ ‬عند‭ ‬موتها‭ ‬صغيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬عظيمة،‭ ‬فصار‭ ‬موتها‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬فراقها‭.‬

هكذا‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القصيدة،‭ ‬مسترجعين‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذاتيا‭ ‬بالمعنى‭ ‬البسيط،‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬أحزان‭ ‬الذات‭ ‬تختلط‭ ‬بنظرتها‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬تلك‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬تفلسف‭ ‬ومن‭ ‬نظرة‭ ‬متشائمة،‭ ‬يستوي‭ ‬عندها‭ ‬الحزن‭ ‬أو‭ ‬الفرح‭ ‬كما‭ ‬تستوي‭ ‬لديها‭ ‬المصائب‭ ‬والأحزان‭ ‬والأفراح‭. ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬من‭ ‬فرح‭ ‬أو‭ ‬حزن‭ ‬إلى‭ ‬زوال،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وقد‭ ‬تأثر‭ ‬بالمتنبي‭ ‬كل‭ ‬التأثر‭:‬

وشبيهٌ‭ ‬صوت‭ ‬النعىّ‭ ‬إذا‭ ‬قِيـ

س‭ ‬بصوت‭ ‬البشير‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ناد

ونعود‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬المتنبي‭ ‬لكي‭ ‬نرى‭ ‬قدرته‭ ‬الفنية‭ ‬البارعة‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬المعنوى،‭ ‬خصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬يتحدث‭ ‬مخاطبا‭ ‬جدته‭ ‬قائلا‭:‬

هَبيني‭ ‬أخذتُ‭ ‬الثأرَ‭ ‬فيكِ‭ ‬منَ‭ ‬العِدَى

فكيفَ‭ ‬بأخذِ‭ ‬الثّأرِ‭ ‬فيكِ‭ ‬من‭ ‬الحُمّى؟‭!‬

وما‭ ‬انسَدّتِ‭ ‬الدّنْيا‭ ‬عليّ‭ ‬لضِيقِهَا

ولكنَّ‭ ‬طَرْفًا‭ ‬لا‭ ‬أراكِ‭ ‬بهِ‭ ‬أعمَى

فهذان‭ ‬البيتان‭ ‬يحملان‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬الحب‭ ‬ومن‭ ‬الموهبة‭ ‬الشاعرية‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه،‭ ‬وما‭ ‬تتحول‭ ‬به‭ ‬المعنويات‭ ‬إلى‭ ‬محسوسات‭ ‬تثير‭ ‬الإعجاب‭ ‬والتعجب‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬وإلا‭ ‬فما‭ ‬معنى‭ ‬أخذ‭ ‬الثأر‭ ‬من‭ ‬الحُمى؟‭! ‬والثأر‭ ‬صراع‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬ضد‭ ‬البشر،‭ ‬ولكن‭ ‬الصراع‭ ‬ضد‭ ‬الحمى‭ ‬أو‭ ‬ضد‭ ‬الموت‭ ‬هو‭ ‬صراع‭ ‬محكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالفشل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبدأ،‭ ‬كما‭ ‬يكتمل‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬يردنا‭ ‬إلى‭ ‬إحساس‭ ‬الحفيد‭ ‬بضيق‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ذهبت‭ ‬الجدة‭ ‬الحانية‭ ‬وتركته،‭ ‬فيلجأ‭ ‬إلى‭ ‬المقابلة‭ ‬بمعناها‭ ‬البلاغي،‭ ‬حيث‭ ‬يقابل‭ ‬بين‭ ‬انغلاق‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬الكائن‭ ‬لضيقها‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولكن‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ترى‭ ‬هذه‭ ‬الجدة‭ ‬حية‭ ‬نشطة‭ ‬محبة‭ ‬مقبلة‭ ‬بالابتسامة‭ ‬الحانية‭ ‬على‭ ‬الحفيد،‭ ‬هي‭ ‬حياة‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تُرى،‭ ‬ولذلك‭ ‬يحق‭ ‬للمتنبي‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬حزنه‭ ‬البالغ،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬موجودًا‭ ‬عندما‭ ‬ماتت‭ ‬هذه‭ ‬الجدة،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬الفرصة‭ ‬لينكب‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬مقبّلاً‭ ‬إياها،‭ ‬وعلى‭ ‬صدرها‭ ‬الذي‭ ‬امتلأ‭ ‬بالحزم‭ ‬والعقل،‭ ‬فلم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يضمها‭ ‬إليه‭ ‬معبرًا‭ ‬عن‭ ‬حبه‭ ‬لهذه‭ ‬السيدة‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجدها‭ ‬سوى‭ ‬جثة‭ ‬مدفونة‭ ‬في‭ ‬قبر‭ ‬لم‭ ‬يُبق‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬روحها‭ ‬الطيب،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتجسد‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬زكي‭ ‬الرائحة‭ ‬وزكي‭ ‬السيرة‭ ‬العطرة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

‭ ‬

بيت‭ ‬القصيد

ثم‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬القصيد‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬وهو‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬فيه‭ ‬اعتداد‭ ‬المتنبي‭ ‬بنفسه‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يراها‭ ‬تعلو‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فيقول‭ ‬لجدته‭:‬

ولَوْ‭ ‬لمْ‭ ‬تَكُوني‭ ‬بِنْتَ‭ ‬أكْرَمِ‭ ‬والِدٍ

لَكانَ‭ ‬أباكِ‭ ‬الضّخْمَ‭ ‬كونُكِ‭ ‬لي‭ ‬أُمّا

والبيت‭ ‬طبيعي‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭:‬

أنا‭ ‬الـذي‭ ‬نظـَرَ‭ ‬الأعمى‭ ‬إلى‭ ‬أدبي

وأسْمَعَـتْ‭ ‬كلماتـي‭ ‬مَـنْ‭ ‬بـه‭ ‬صَمَـمُ

أَنـامُ‭ ‬مـلءَ‭ ‬جفونـي‭ ‬عَـنْ‭ ‬شوارِدِهـا

ويسهـرُ‭ ‬الخلـقُ‭ ‬جَرّاهـا‭ ‬وَيَخْـتصِـمُ

وهو‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬شبابه‭:‬

لا‭ ‬بقَوْمي‭ ‬شَرُفْتُ‭ ‬بل‭ ‬شَرُفُوا‭ ‬بي

وَبنَفْسِي‭ ‬فَخَرْتُ‭ ‬لا‭ ‬بجُدودِي

كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬ديوانه‭:‬

وَمَا‭ ‬الدّهْرُ‭ ‬إلا‭ ‬مِنْ‭ ‬رُواةِ‭ ‬قَصائِدي

إذا‭ ‬قُلتُ‭ ‬شِعرًا‭ ‬أصْبَحَ‭ ‬الدّهرُ‭ ‬مُنشِدَا

فَسَارَ‭ ‬بهِ‭ ‬مَنْ‭ ‬لا‭ ‬يَسيرُ‭ ‬مُشَمِّرًا

وَغَنّى‭ ‬بهِ‭ ‬مَنْ‭ ‬لا‭ ‬يُغَنّي‭ ‬مُغَرِّدَا

وهو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬قال‭:‬

أيّ‭ ‬مَحَلٍّ‭ ‬أرْتَقي؟‭ ‬

أيّ‭ ‬عَظيمٍ‭ ‬أتّقي؟

وَكُلّ‭ ‬مَا‭ ‬قَدْ‭ ‬خَلَقَ‭ ‬اللّـ

‭ ‬ـهُ‭ ‬وَما‭ ‬لَمْ‭ ‬يُخْلَقِ

مُحْتَقَرٌ‭ ‬في‭ ‬هِمّتي‭ ‬

كَشَعْرَةٍ‭ ‬في‭ ‬مَفْرِقي

هذا‭ ‬المتنبي‭ ‬المتكبر‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬اعتزازه‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الغرور،‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬جدته‭:‬

ولَوْ‭ ‬لمْ‭ ‬تَكُوني‭ ‬بِنْتَ‭ ‬أكْرَمِ‭ ‬والِدٍ

لَكانَ‭ ‬أباكِ‭ ‬الضّخْمَ‭ ‬كونُكِ‭ ‬لي‭ ‬أُمّا

وتمضي‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬نهايتها‭ ‬مكررة‭ ‬هذه‭ ‬النبرة‭ ‬المتعالية‭ ‬للذات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستعظم‭ ‬إلا‭ ‬نفسها،‭ ‬ولا‭ ‬تقبل‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬الضيم،‭ ‬وترفض‭ ‬أي‭ ‬حكم‭ ‬غير‭ ‬حكم‭ ‬الله،‭ ‬أما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بالبشر،‭ ‬فهي‭ ‬تتغرب‭ ‬وتتوحد‭ ‬ولا‭ ‬تستعظم‭ ‬غير‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬الطريق‭ ‬القاسي‭ ‬الذي‭ ‬اختارته‭ ‬لنفسها،‭ ‬وفي‭ ‬مسالك‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬غبار‭ ‬معاركها‭. ‬وينقل‭ ‬المتنبي‭ ‬عن‭ ‬الآخرين‭ ‬سؤالهم‭ ‬إياه،‭ ‬من‭ ‬أنت؟‭ ‬وما‭ ‬تبتغي‭ ‬من‭ ‬الدنيا؟،‭ ‬فيجيب‭ ‬عليهم‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أبتغي‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أسميه‮»‬‭. ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬السفر‭ ‬والاغتراب؛‭ ‬لأنه‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬حلم‭ ‬عزيز‭ ‬المنال‭. ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الآخرين‭ ‬يكرهونه‭ ‬حسدًا‭ ‬لما‭ ‬وهبه‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬موهبة‭ ‬عظيمة،‭ ‬ولما‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الأضداد،‭ ‬ولا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الصعاب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬عليها‭ ‬سواه،‭ ‬فهو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الجمع‭ ‬في‭ ‬يديه‭ ‬بين‭ ‬الماء‭ ‬والنار،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬بين‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الحظ‭ ‬وأعلى‭ ‬درجات‭ ‬الجد‭ ‬والاجتهاد‭ ‬والمعرفة،‭ ‬ولذلك‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬متاهة‭ ‬الحياة،‭ ‬متوحدا،‭ ‬مستنصرًا‭ ‬بذبابة‭ ‬سيفه،‭ ‬فهو‭ ‬يطلب‭ ‬النصرة‭ ‬بالسيف،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يوقع‭ ‬به‭ ‬الظلم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬حاربه‭ ‬من‭ ‬أعدائه‭. ‬هكذا‭ ‬يجعل‭ ‬السيف‭ ‬تحيته‭ ‬للأعداء‭ ‬عند‭ ‬اللقاء،‭ ‬وإلا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المتنبي‭ ‬الذي‭ ‬ملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغل‭ ‬الناس‭. ‬

 

عزم‭ ‬شديد

ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فمن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عنده‭ ‬عزم‭ ‬شديد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬شيء،‭ ‬فوجود‭ ‬الممكن‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬العزم‭ ‬أبعد‭ ‬في‭ ‬الوقوع‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬عزم‭ ‬مع‭ ‬بعد‭ ‬الهمة‭ ‬أو‭ ‬المطلب‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الإنسان‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬العزم‭ ‬لنيل‭ ‬القريب،‭ ‬فالعزم‭ ‬على‭ ‬نيل‭ ‬البعيد‭ ‬أكثر‭ ‬ضرورة‭ ‬وأهمية‭. ‬وإذا‭ ‬فعل‭ ‬الإنسان‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يمنعه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬غاياته‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فالمتنبي‭ ‬من‭ ‬قوم‭ ‬كأن‭ ‬نفوسهم‭ ‬تأنف‭ ‬العار،‭ ‬وتستنكف‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬مجاورة‭ ‬للحم‭ ‬والدم‭. ‬فهم‭ ‬قوم‭ ‬يحبون‭ ‬القتال‭ ‬ويسارعون‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬ويبذلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬دون‭ ‬خشية‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬الموت،‭ ‬بل‭ ‬يطلبون‭ ‬الموت‭ ‬طلبًا‭ ‬للبقاء‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬وأحاديث‭ ‬الناس‭.‬

هكذا‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬ذروة‭ ‬من‭ ‬ذرى‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الجميلة‭:‬

كذا‭ ‬أنَا‭ ‬يا‭ ‬دُنْيا‭ ‬إذا‭ ‬شِئْتِ‭ ‬فاذْهَبي

ويا‭ ‬نَفسِ‭ ‬زيدي‭ ‬في‭ ‬كرائهِها‭ ‬قُدْمَا

فلا‭ ‬عَبَرَتْ‭ ‬بي‭ ‬ساعَةٌ‭ ‬لا‭ ‬تُعِزّني

ولا‭ ‬صَحِبَتْني‭ ‬مُهجَةٌ‭ ‬تقبلُ‭ ‬الظُّلْمَا

وهما‭ ‬بيتان‭ ‬يمثلان‭ ‬ذروة‭ ‬القصيدة،‭ ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬المتنبي‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬دنياه‭ ‬متحديًا‭ ‬إياها‭ ‬إذا‭ ‬شاءت‭ ‬تسعده،‭ ‬فلتفعل،‭ ‬وإلا‭ ‬فلا‭ ‬لوم‭ ‬عليه‭ ‬أو‭ ‬عليها‭. ‬المهم‭ ‬ألا‭ ‬تعبر‭ ‬به‭ ‬سالمة‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬إمكانيات‭ ‬الحضور،‭ ‬والأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬وفي‭ ‬صدره‭ ‬مهجة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬الضيم‭ ‬أو‭ ‬الظلم‭. ‬وينثر‭ ‬العكبري‭ ‬المعنى‭ ‬الأخير‭ ‬للبيت‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬لا‭ ‬بقيت‭ ‬بي‭ ‬ساعة‭ ‬لا‭ ‬أنال‭ ‬فيها‭ ‬العز،‭ ‬ولا‭ ‬غبرت‭ (‬مرت‭) ‬علي‭ ‬ساعة‭ ‬لا‭ ‬أكون‭ ‬عزيزا،‭ ‬ولا‭ ‬صحبتني‭ ‬نفس‭ ‬تقبل‭ ‬الذل،‭ ‬يدعو‭ ‬على‭ ‬نفسه‮»‬‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬المتنبي‭ ‬لا‭ ‬يدعو‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬العكبري،‭ ‬وإنما‭ ‬يفخر‭ ‬بنفسه‭ ‬الأبية‭ ‬العالية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬إلا‭ ‬المرتبة‭ ‬الأولى،‭ ‬وإلا‭ ‬فلا،‭ ‬فهي‭ ‬نفس‭ ‬حرة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬إلا‭ ‬الحرية،‭ ‬وهي‭ ‬نفس‭ ‬أبية‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يرضى‭ ‬كبرياءها،‭ ‬ولا‭ ‬تقبل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬زمن‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يحقق‭ ‬حضورها‭ ‬الأكمل،‭ ‬فهي‭ ‬نفس‭ ‬تأبى‭ ‬الظلم‭. ‬هذه‭ ‬النفس‭ ‬الأبية‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬حتى‭ ‬لحظات‭ ‬ضعفها‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تدفعها‭ ‬إلى‭ ‬التنازل،‭ ‬فإما‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬حضورها،‭ ‬وإلا‭ ‬فالرفض‭ ‬الحاسم‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬هوان‭ ‬حال‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭.‬

قد‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬المتنبي‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬جدته،‭ ‬ولكن‭ ‬علينا‭ ‬ألّا‭ ‬ننسى‭ ‬الجزء‭ ‬الفلسفي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬يؤكد‭ ‬مطلعها‭ ‬استواء‭ ‬المصائب‭ ‬مع‭ ‬الأفراح‭ ‬والأحزان‭ ‬مع‭ ‬الأفراح،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬عند‭ ‬النفس‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬عركت‭ ‬الحياة‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الموت‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬فيه‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬المتنبي،‭ ‬خصوصا‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭:‬

غَيْرُ‭ ‬مُجْدٍ‭ ‬في‭ ‬مِلّتي‭ ‬واعْتِقادي

نَوْحُ‭ ‬باكٍ‭ ‬ولا‭ ‬تَرَنّمُ‭ ‬شادِ

وشَبِيهٌ‭ ‬صَوْتُ‭ ‬النّعىّ‭ ‬إذا‭ ‬قِيـ‭      

سَ‭ ‬بِصَوْتِ‭ ‬البَشيرِ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬نادِ

أَبَكَتْ‭ ‬تِلْكُمُ‭ ‬الحَمَامَةُ‭ ‬أمْ‭ ‬غَنْـ

نَت‭ ‬عَلى‭ ‬فَرْعِ‭ ‬غُصْنِها‭ ‬المَيّادِ

ونحن‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬تقاليد‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬العلاء‭ ‬كان‭ ‬مفتونًا‭ ‬جدًا‭ ‬بشعر‭ ‬المتنبي‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬شعره‭: ‬‮«‬معجز‭ ‬أحمد‮»‬‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬جدته،‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬عيون‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يدرس‭ ‬وأن‭ ‬يعاد‭ ‬درسه‭ ‬تفسيرًا‭ ‬وتأويلاً‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬النقدية‭ ‬الممكنة‭. ‬ولذلك‭ ‬بدأت‭ ‬بما‭ ‬أذكره‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬كي‭ ‬أنتقل‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬مكانة‭ ‬المتنبي،‭ ‬وجعلته‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬أعظم‭ ‬شعراء‭ ‬العرب‭ ‬قاطبة‭ ‬‭.