في ذكرى ميلاد الأديب الكبير نجيب محفوظ

في ذكرى ميلاد الأديب الكبير نجيب محفوظ

بالنظر لأهمية التجربة الحياتية والإبداعية للأديب الكبير نجيب محفوظ، نجد أن «الحكي السير ذاتي» عنده قد مرّ بمستويات متنوعة ومتداخلة فيما بينها، في تشابك خيوطها وعناصرها، وفي امتدادها التاريخي والإبداعي.
يكمن أول مستوى، في اعتقادي، في تشظي عناصر من السيرة الذاتية لمحفوظ في بعض رواياته، بدءًا بـ«الثلاثية»، وتحديدًا من خلال علاقة محفوظ بشخصية كمال عبدالجواد، كما في قوله «أنا كمال عبدالجواد في الثلاثية»، فرواية «قصر الشوق»، وفيها يحكي عن إحدى قصص الحب التي عاشها، ثم رواية «حكايات حارتنا»، وفيها يسرد تفاصيل عن مرحلة طفولته. وشكلت رواية «المرايا»، مرحلة أساسية في التجربة السيرذاتية لمحفوظ؛ إذ يستوحي فيها بعض الملامح العامة من مراحل حياته الثلاث: الطفولة والشباب والشيخوخة، وبصدورها ازداد الاهتمام بسؤال السيرة الذاتية عند أديبنا بشكل ملحوظ.
وبالعودة إلى أحاديث محفوظ وحواراته حول تجاربه في الحياة والكتابة، سنلمس من خلال إجاباته مدى الحضور اللافت لرواية المرايا في تفكيره السير ذاتي، بما في ذلك قوله بأن «المرايا»، هي أقرب الأعمال التي كانت تنشد السيرة الذاتية بطريقة ما، سماها محفوظ بالسيرة الذاتية الموضوعية. وفي جواب لأديبنا عن أسباب عدم إقباله على كتابته سيرته الذاتية، نجده يصرح بأن الترجمة الذاتية لم تكن جذابة له، وخصوصًا بعد كتابته رواية المرايا، ربما، كما قال، بسبب أن هذا الضرب من ضروب الأدب لم يكن ممكنًا آنذاك في مصر، بسبب حاجته إلى الشجاعة الأدبية والصدق وإلى القدرة على التذكر وعلى التصريح به.
ويبقى أهم مستوى من مستويات الاهتمام بموضوع السيرة الذاتية عند محفوظ، هو ذاك المتمثل تحديدًا في مجموعة من الحوارات والأحاديث، الصادرة في كتب، وفيها يتذكر محفوظ محطات مختلفة من سيرته الذاتية، ويحكي بعض تفاصيلها، من قبيل تلك الحوارات والاستجوابات التي أجراها معه كل من جمال الغيطاني ومحمد عطية وصبري حافظ وفؤاد دواره ورجاء النقاش، فضلًا عن محطات حياتية أخرى متنوعة، سبق لمحفوظ أن حكاها في سلسلة حلقات للإذاعة وللتلفزيون في مصر.
وفي اعتقادي، أن الحوار الذي أجراه النقاش مع محفوظ، ونشر في كتاب مهم، يعد من بين أهم الحوارات السيرذاتية التي أعادت كتابة «حياة نجيب محفوظ»، بشكل مكثف وشمولي، بدءًا بالحديث عن فترة النشأة والطفولة والصبا، وصولًا إلى جريمة الاعتداء على كاتبنا، مرورًا بمجموعة من محطاته الحياتية والأدبية.
ويأتي، في مستوى متأخر نسبيًا، كتابُ «أصداء السيرة الذاتية»، الذي يمكن اعتباره «تحية» من محفوظ لتلك الحياة الاستثنائية التي عاشها، بمسرّاتها وأحزانها، وتحية لتلك السيرة الغنية بالعطاء والعبقرية والذكريات والنظرات والرؤى، بعد أن طارده، كما عبّر عن ذلك، الشعورُ بالشيخوخة وبدنو النهاية وهيمنة الوداع، وأيضًا تحية منه - كما قال - لمتعة الحياة ولذلك العمر الطويل الذي أمضاه في الأمان والغبطة.
هكذا، إذن، يمكن القول إن أديبنا الكبير، رحمه الله، قد عمل، طوال مساره الحياتي والإبداعي، على تشييد مشروعه السيرذاتي، منوعًا من مستوياته ومن أشكال سرده وتصريفه، عبر عديد المحطات التاريخية والحياتية والإبداعية ■