على المقعد الساخن في مجلس الأمن
في شهر فبراير 1979، توليت رئاسة مجلس الأمن، وهي الرئاسة التي تدور شهريًا على الأعضاء، بينهم من ينالها مرتين، (لأن عدد أعضاء المجلس 15 عضوًا، أي أكثر من عدد أشهر السنة)، ووفق الأحرف الأبجدية لم نكن من المحظوظين في فترتين، وإنما كان نصيبنا شهرًا واحدًا.
كان قبلي سفير جامايكا، وكانت هناك مشكلة تدخّل فيتنام في تغيير النظام في كمبوديا، وهو نظام ليس مستبدًا فقط، وإنما كان رئيسه بول بوت جزّارًا، أخرج الشعب من العاصمة إلى الأرياف وفتك بخصومه، الأمر الذي أثار مجموعة الآسيان، وهي إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلند وسنغافورة، وبدعم من الصين، جاءت القضية إلى مجلس الأمن، وكان من المفاجآت أن الشخص الذي جاء ليدافع عن كمبوديا هو الأمير سيهانوك، الذي كان أميرًا ثم ملكًا، ثم مواطنًا يقود بلا ملكية، ثم بعد فوز الشيوعيين انزوى في بكين.
قدّم نائب رئيس وزراء كمبوديا شكوى، وطلب مجلس الأمن الانعقاد، وعقد مجلس الأمن الاجتماعات في الفترة بين الحادي عشر والعشرين من يناير 1979، شارك في المداولات جميع ممثلي الآسيان، واليابان، وعدد من الدول الأوربية.
كانت الأجواء متوترة بين الاتحاد السوفييتي المؤيد لفيتنام وبين الولايات المتحدة وحلف الناتو، وبين الاتحاد السوفييتي والصين التي تؤيد كمبوديا، تحرّكنا نحن مجموعة عدم الانحياز؛ نيجيريا والكويت وبوليفيا والجابون وبنغلادش وزامبيا، لتقديم مشروع قرار لا يدين فيتنام، بل يطالبها بالانسحاب وعدم التدخل، واحترام السلامة الإقليمية لكمبوديا.
لكننا لم ننجح في تلك المساعي، فمع الأسف لجأ الاتحاد السوفييتي إلى الفيتو، وأسقط مشروع القرار، والواقع أنني شخصيًا صُغت القرار بعد أن وجدت أن مشروعه الذي طرحته مجموعة الآسيان غير مقبول بتاتًا، ويزيد المواجهة، ويصعّد الصراع في المنطقة.
كان دوري الشخصي أن أقدّم المشروع في جلسة علنية، نيابة عن زعدم الانحيازس، وفيه التأكيد على مبادئ الأمم المتحدة واحترام الميثاق.
ومن سوء الحظ أن الأمير سيهانوك، الذي جاء مدافعًا عن كمبوديا، خرج عن الإطار العام للمناقشة، وأدخل المجلس في روايات حدثت له مع زعماء العالم، من القذافي وكاسترو وزعماء آخرين، مشهّرًا بالاتحاد السوفييتي وأطماعه، بلغة حادة، وبتمثيل لم تعتده جلسات مجلس الأمن.
سيهانوك
كان سيهانوك مواليًا للصين، ولم يعبأ بوقار المجلس، وأحرج السفير السوفييتي الذي كان رقيقًا متحضرًا، وكان المترجم الشخصي للزعيم المشهور خروشوف قبل عمله في نيويورك، ولم يتحمل مسرحيات سيهانوك، وتدخّل بطريقة قد تؤدي إلى أزمة، فتدخلت أطلب الأمير أن يتوقف عن الأسلوب الغليظ الذي لم يعتده المجلس، وانتهت الجلسة بعد فشل القرار بـ «الفيتو» السوفييتي.
المهم أن الأمير سيهانوك، بعد الجلسة الصاخبة، طلبني لتناول الشاي معه في جناحه بالفندق المشهور زوالدوف استورياس الذي يسكنه الرؤساء عند زيارة نيويورك.
فذهبنا إليه في اليوم التالي ومعي سفير بنغلادش، الذي كان قبل ذلك سفيرًا في الصين، وتناولنا الشاي مع الأمير وزوجته الأنيقة الأميرة منى.
والغريب أنني لم أشعر بأن الأمير سيهانوك مهتم بالقرار الذي سقط بسبب الفيتو، ولم يكن متأثرًا من صدامه مع الكتلة السوفييتية (حلف وارسو)، وكان مرحًا يتحدث عن حياته الخاصة عندما كان ملكًا ثم أميرًا ثم منفيًا في بكين.
الحق أن الأمير سيهانوك رواية إنسانية تنقّل فيها من المجد والصولجان إلى التنازل، ليحتكّ مباشرة بالشعب، ثم يخرج منفيًا، ويظل بعد ذلك مؤثرًا في الحياة السياسية والاجتماعية في كمبوديا، باختصار كنت أتابع سلوكه معنا في الفندق، وكنت مقتنعًا بأن الشخص الذي معي كان ملكًا أرستقراطيًا قرر التنازل باختياره، قليل من الملوك يتحولون إلى أمراء ثم زعماء سياسة، ثم إلى المنفى والعزل.
في فبراير 1979، توليت الرئاسة، ولم تكن قضية كمبوديا قد طويت، رغم الفيتو السوفييتي، حيث فوجئت في 11 فبراير بأخبار عن غزو قوات صينية لأراضي فيتنام، ولم أكن متوقعًا ذلك، فاتصلت بسفير الصين، وطلبت حضوره لمقابلتي، وجاء ليبلغني بأن الأمر بسيط جدًا لا يستدعي القلق، وهي عملية تأديب على الأصابع فقط، وكان ردّي أنها عملية غزو مرفوضة، وأنني مضطر لإجراء مداولات غير رسمية بين الأعضاء لتحديد أسلوب التصرف.
وفي ذلك الوقت الذي نتجادل فيه مع الصين، تسلّمت طلبًا من كمبوديا لعقد اجتماع للمجلس لبحث وجود القوات الفيتنامية في كمبوديا، وهي لعبة واضحة، وبتحريك من الصين، حتى لا ينشغل المجلس بمشكلتها مع فيتنام.
ولم يكن وفد الصين صريحًا معي، فلم تكن العملية ضرب أصابع، بل أكثر من ذلك، فاستدعيت السفير، وكان الجو باردًا يتساقط فيه الثلج بكثافة غير مسبوقة، فانتهزها وفد الصين فرصة ليشرح لي المترجم، عبر الهاتف، أن الوفد لا يملك سيارات تتعامل مع الصقيع غير المتوقع، فضحكت وأشرت إلى أن الأمم المتحدة سترسل له ما يؤمّن وصوله، لكنه لم يأت.
جدول الأعمال
كان وفد الصين متحرجًا، ويطلب مني بوضوح أن أبذل قصارى جهدي لإبعاده عن الإدانة، ويتحدث بكلمات قليلة.
في منتصف فبراير بعد أيام، تطور الموقف، وكان لابد من المشاورات غير الرسمية لجميع الأعضاء.
كانت هناك مشكلة؛ ما هو جدول الأعمال الذي يقره المجلس قبل الاجتماعات؟، كانت أمامي رسالتان، واحدة من كمبوديا، والأخرى من فيتنام في طلب ضد الصين، المهم بعد مشاورات اتفقت مع الأعضاء على أن يكون جدول الأعمال (الوضع في شرق جنوب آسيا، رسالة كمبوديا، ثم رسالة فيتنام).
كان هذا الإجراء غير مُرْض للاتحاد السوفييتي، لأنه لا يريد أسبقية لرسالة كمبوديا، لكننا احتكمنا للسبق في طلب عقد المجلس، فسكت المندوب غير مقتنع.
وبدأت المناقشات المفتوحة حول هذا الموضوع، وتحدث فيه أربعون متحدثًا من مختلف الدول، ابتداءً من كوبا الديماجوجي في مداخلاته، والآسيان واليابان، وبعض دول عدم الانحياز، إضافة إلى الدول الأعضاء.
كان لدينا عدد من المتحدثين، لكن لم يكن لدينا مشروع قرار، فمجموعة الآسيان قدمت مشروعًا غير مقبول منذ بداية الأزمة في يناير، وترفض الدول الغربية وواشنطن تقديم مشروع قرار، لأن علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي ومع الصين لها حساسيات، فلا تريد إرضاء الصين ولا تريد مجاملة الاتحاد السوفييتي، وكانت تنتظر التحرك من مجموعة عدم الانحياز.
بين الرفض والضغط
أدركت مجموعة عدم الانحياز أن الدول الغربية تريدها أن تتحرك وتتحمل مسؤولية المواجهة مع كل من موسكو والصين، وقد تحدثت مع جميع سفراء هذه الدول، فرفضوا بسبب أمرين؛ الأول أن الاتحاد السوفييتي استخدم الفيتو ضد مشروع عدم الانحياز بشأن كمبوديا، والثاني أنها رأت ألا مصلحة لها في إزعاج أي طرف، وإذا كان للغرب مجموعة من الأفكار فعليه أن يصوغها في مشروع.
لا يمكن أن تستمر المناقشة التي بدأت في 18 فبراير دون هدف، وبلا توجّه يساعد الدول في تحديد مواقفها، كما كانت الدول المعنية - مثل الآسيان - تضغط على المجلس بالتحرك.
كانت علاقتي بالأمين العام كورت فالدهايم، مبنية على ثقة متبادلة وتتميز بالاطمئنان، وكنا نتشاور، لأنه أيضًا تعرّض للضغط، وكان يبلغني عن اتصالاته مع السوفييت والصين، وكلاهما يرفض عقد اجتماعات تشاورية أو رسمية.
كان الاتحاد السوفييتي يرفض جلوس كمبوديا على طاولة المجلس، وكان وفد الصين يمارس الوضع نفسه مع فيتنام.
فاقترحت على الوفدين أن يتكلم كل منهما عندما يأتي دوره، ثم ينسحب من الطاولة إلى مقاعد الوفود الجانبية، ولم يكن سهلًا القبول بذلك، لكن الوضع يتطلب الحسم، وقبلا من دون جدل.
حالة نادرة
قدّم وفد الصين مشروع قرار، وهذه حالة نادرة جدًا، فالصين لا تتكلم كثيرًا، ولا تتجاوز كلمات تعبّر عن موقفها فقط.
وقلت لسفير الصين إنني سأقدم المشروع الصيني إلى الأعضاء في جلسة المشاورات، وتوزيعه كوثيقة فقط دون مناقشته، وكذلك فعلت مع مشروع الاتحاد السوفييتي الذي قدّم مشروع قرار لكي يقتل نظيره الصيني، لم يكن السماح لأي طرف منهما بتقديم مشروع داخل قاعة المشاورات، لأن ذلك يؤدي إلى اختلافات كثيرة.
وبدأت المناقشة المفتوحة، كان الوفد السوفييتي ينسحب عندما يتحدث مندوب كمبوديا ويترك المقعد لموظفة صغيرة، كما غاب الأمير سيهانوك تماماً، بعد أن قدّم لوحة تمثيلية ضد الاتحاد السوفييتي.
كما حاولت مجموعة الآسيان تقديم مشروع، لكن مجموعة عدم الانحياز رفضته، كما رفضت المشروع السوفييتي، ومشروع الصين، وخلت القاعة من أي مشروع، ولا يوجد احتمال لأي طرف للمبادرة.
كانت مجموعة عدم الانحياز هي الصخرة الصلبة التي كنت أعتمد عليها، ومن دونها لا نجاح لأي مشروع، ومن دونها كان يمكن لي أن أتعثّر مع الصين أو مع الاتحاد السوفييتي، حول مشروع جدول الأعمال الذي اقترحته، فالسوفيات لا يعترفون بشكوى كمبوديا، والصين لا تعترف بشكوى فيتنام، فاقترحت عليهما تسجيل تحفظاتهما في وثائق المجلس، ووافقتا، لأنهما يعرفان أن زعدم الانحيازس تقف معي.
كانت أسئلة تثار عن دور الرئيس في هذا الفراغ المتوتر، متى يتحرك الرئيس، وهل من واجبه التحرك، ولماذا يتحرك؟
عجز وفراغ
هذه أسئلة كنت أواجهها في ضوء التصلب من الطرفين، مع كتلة ثالثة هي المجموعة الغربية، تلحّ بأن يتحرك الرئيس، لأن هناك عجزًا يولّد فراغًا يؤثر على سمعة المجلس ويزيد من النقد حول ضعف المنظمة وشللها في التعامل مع القضايا الشائكة.
وجدت نفسي لا أتعامل مع سفراء عاديين، نحتكم معهم بالمنطق ووفق مبادئ الميثاق، بل مع كتل لها أحلاف ومكانة ونفوذ على معظم أجزاء الكرة الأرضية، ولها آليات منها مجموعات داخل الأمم المتحدة تؤيد هذه الكتلة أو الأخرى.
كان بإمكاني أن أمارس الأسلوب السلبي وأترك الصراع يتصاعد بين هذه الكتل، بحثًا عن السلامة الشخصية والآمنة من الانتقاد.
لكن ذلك لم يكن مقبولًا لي، فقد كنت رئيسًا للمجلس بعد مرور 9 سنوات على عملي في المنظمة، تابعت جلساتها وعرفت ضوابطها، وكنت في لجانها، وشاركت في تقييم أدائها بمنتديات في أمريكا وخارجها، ومن هذه الحقيقة لم يكن لي خيار الاستكانة أو اللجوء إلى سلبية تترك المداولات ترسم واقعها، وليكن ما يكون.
استجبت لأثقال المسؤولية ولم أخش الفشل، فمهما كانت الحصيلة، فإن سجلات الأمم المتحدة ووثائق مجلس الأمن ستنصف جهودي، وقد جمعت كل الأفكار التي نطق بها ممثلو الدول، وهي اجتهادات منهم، لتجاوز القضية، وصغتها بأسلوب مقبول، واخترت المسارات التي تجمع بينها، وابتعدت عن المشاعر المعبّرة عن الغضب والإدانة ونزعة الانتقام.
إجماع وانزعاج
قدمتها في مشاورات استمرت من 18 فبراير إلى 28 منه، ولم يكن الجانب السوفييتي سعيدًا بعملي، لأنه يدرك أنني سأتّبع الحق والحياد، ولم يكن يريد مني أن أصوغ شيئًا، ويميل إلى إنهاء الموضوع دون قرار، كما كان الجانب الأمريكي يدعمني ويشجعني، ويريد منّي أن أقدم لومًا من دون أن أسمّي أحدًا، وكنت أرفض مع اتفاقي على أن أضع شيئًا يقبله الجميع، وكان همّي الإجماع، وهو أمر سعيت إليه، ودفعني أن أقدم 4 مسودات واحدة بعد الأخرى، في كلمات سهلة لا تثير، لكن الاتحاد السوفييتي كان مسكونًا بالانزعاج، لأن الصين أسقطت مكاسبه التي نالها من تغيير حكومة كمبوديا، ولهذا كان السفير السوفييتي يهمس في أذني بأنه لا جدوى من مساعيكم، كما كان وفد الصين يتمنى أن أسكت عن مضايقته بعدم طرح قرار عن غزوه فيتنام.
كنت حزينًا لأنني متصور بأن النجاح مضمون، ولم يكن ذلك، لأن الصين تعارض مشروعي حول فيتنام، والاتحاد السوفييتي يهدد بالفيتو، ولهذا ألقيت كلمة ممثلًا عن الكويت ومعبّرًا عن مشاعر الرئاسة، قلت فيها بأوضح العبارات إن رئيس المجلس عند الأزمات يشعر بالوحدة، لأنه يستمع إلى كثير من المقترحات والنصائح، لكن القرار بيده فقط، يعتمد على حكمته وعلى حجم المشاورات التي يقوم بها، وعلى حبه للمبادرة.
كان مجلس الأمن ساحة صراع خلال الحرب الباردة التي انتهت عام 1989، ولم يساعدني هذا الصراع في الحصول على توافق غير مسبوق.
كان أملي أن أستخرج شيئًا من صراع الغابة بين الأسود، ولم أنجح، لكنني أرضيت ضميري، وخرجت بشيء من الارتياح.
الحرب الباردة
انتهت المناقشة يوم الأربعاء 28 فبراير 1979، بلا قرار، لكن التطورات اللاحقة بدلت الكثير.
بعد انتهاء الحرب الباردة أصبح التوافق يتسيّد أعمال مجلس الأمن، وصار أكثر إيجابية في مداولاته وأكثر فعالية، وقد تجسّد هذا الواقع خلال معالجة المجلس للغزو العراقي على دولة الكويت.
اعتادت مراكز الدراسات في الولايات المتحدة الاتصال بالسفراء الذين شغلوا رئاسة مجلس الأمن لتقديم تجاربهم في كتيبات تصدرها، وقد عبّرت عن تجربتي في إحدى هذه الدراسات، وهي حالة نادرة مواجهة بين الصين وبين الاتحاد السوفييتي، لم أنجح في تقديم ما يرضي الصين، ولا الاتحاد السوفييتي، فخرج الاثنان من دون قرار المجلس.
لم يُرضني ذلك الوضع، لكنه أيضا لم يُرضِ الاتحاد السوفييتي الذي أراد إدانة الصين، ولم يحصل عليها، ولم يُرض الصين التي أرادت إدانة فيتنام ولم تحصل عليها أيضًا.. مع شعور بشيء من الارتياح لكل من الصين والاتحاد السوفييتي، لأن المجلس فشل في توجيه نقد لهما رغم مساعي الرئيس. هذه حالة مجلس الأمن في أثناء الحرب الباردة .
بشارة (إلى اليمين) متحدثاً إلى سفير الولايات المتحدة الأمريكية أندرو يونج