المؤسسات الثقافية تحت ظلال الجائحة

المؤسسات الثقافية تحت ظلال الجائحة

كان وقْعُ إغلاق واحد من أبرز الكيانات الثقافية في سلطنة عمان ثقيلًا على صدري، فكل بستان يذوي تحت وقع جفاف السيولة تنتصب مكانه راية التصحر وتهجره طيور وفراشات كانت تمتّع أسماعنا بأعذب الألحان وأبصارنا بأجمل الألوان، لقد تكاثرت الأسئلة بعد إعلان مؤسسة بيت الغشام توقُّف مسيرتها، وتركزت حول مصير بقية الكيانات الثقافية الشبيهة في الوطن العربي، في ظل جائحة شلّت حركة العالم، وباعدت بين الناس وبين كل ما يجمعهم من تفاعل وتبادل.

 

أبصرت مؤسسة بيت الغشام النور في الأول من أكتوبر عام 2012، لتصنع الفارق في حركة النشر داخل سلطنة عُمان، عبر تكامل جهودها مع جميع المؤسسات المعنية بالكتاب، ولم يكن في الحسبان، أبدًا، أن يشهد عام 2020 توقّف هذه المسيرة التي قدّمت أكثر من 750 إصدارًا، من بينها إصدارات مهمة ولافتة في التاريخ والأدب والبحوث والدراسات. 
ولمن لا يعرف مؤسسة بيت الغشام، ولِمَ كان وقع توقّفها صادمًا بالنسبة لي؛ فقد كانت نبعًا يخرج منه ثلاثة أنهر، دار نشر، ومجلة تكوين، ومتحف، وهذا أمر غير مألوف سوى في الجهات الممولة جيدًا من خزينة الدولة، ولكن أن تخرج علينا مؤسسة خاصة بهذا النشاط الثلاثي، فهو أمر يحمل الكثير من الدلالات الإيجابية على جدية ذلك المشروع والقائمين عليه.
وجاء توقّف مؤسسة بيت الغشام كأحد تداعيات جائحة كورونا التي لم ترحم أحدًا، ولم تستثنِ أي دولة أو شركة أو أي جهة ربحية أو تطوعية إلّا وطالتها بالإغلاق والتباعد الجسدي، والمُحزن أن تلك المؤسسة لم تكن تحتاج لتستمر على دفتر البقاء لأكثر من 25 ألف دولار شهريًا هي عبارة عن رواتب 15 موظفًا عمانيًا يعملون في أقسامها الثلاثة، ولكن من أين ستأتي الأموال؟ وإلى متى، وأغلب الأنشطة الاقتصادية متوقفة إلى أجل غير مسمى؟!

أرصدة الصبر 
لمن لا يذكر الأيام الأولى لانتشار جائحة كورونا، يجب عليه تذكّر حالة الغموض والإنكار التي أحاطت مخاطرها والزمن الذي ستستغرقه، وما بين حالتَي التفاؤل بأن الجائحة ستنتهي خلال أسابيع أو أشهر، وبين التشاؤم بأن الأوضاع الكئيبة ستستمر لآخر العام، خاضت كل دولة تجربتها الخاصة مع ذلك الوباء اللعين، وكانت المنظومات الصحية هي خط المواجهة الأول مع الوباء، والسلطة الأعلى التي حددت مسار متخذي القرار، وواجه الاقتصاد العالمي بسبب ذلك، واقعًا لم يضعه أكثر المتشائمين في خياله، موانئ ومدارس وملاعب وأسواق ومتاجر مغلقة وبشر حُشِروا في مساكنهم لأجل غير مسمى.
ولم تقتصر الآثار السلبية لجائحة كورونا على قطاع محدّد، بل شملت معظم القطاعات والأنشطة المتفرعة منها، خصوصًا القطاعات المرتبطة بالنقل، مثل الطيران الذي تعرّض لأضرار مدمرة، بعد إغلاق المطارات وما تبعها في قطاع السياحة ونقل البضائع، ومادامت الإجراءات الوقائية تعتمد على الإغلاق والتباعد الجسدي، فمن الطبيعي أن تتأثر الأنشطة القائمة على التواصل المباشر.
وبعد مرور عدة أشهر دخل العالم مرحلة جديدة من الإحباط، تمثّلت في تفشي موجة جديدة من الوباء في المناطق التي نجحت في محاصرته واستعادت تدريجيًا ملامح حياتها الطبيعية، ومنذ تلك اللحظة، وربّما قبلها بقليل، نفدت أرصدة الصبر واحتياطيات اليوم الأسود، لتبدأ إجراءات تسريح الموظفين والعمال لعدم القدرة على دفع رواتبهم.
 من هنا نستطيع فهم أسباب قرار إغلاق مؤسسة بيت الغشام، وهو الموضوع الذي فتح أبواب أسئلة متتالية عن مصير الكثير من المؤسسات الثقافية العربية، في ظل استمرار تأثيرات جائحة كورونا، خصوصًا المؤسسات الربحية المعنيّة بالنشر وتسويق الكتب، أما الفعاليات والمهرجانات الوطنية والعربية، فمن الواضح أن الأمور تتجه نحو تأجيلها لأجل غير مسمى، أو الاستعانة بالوسائط الرقمية لإقامتها عن بُعد، ما أمكن ذلك.

البقاء لأطول وقت
من المهم، بدايةً، الإشارة إلى أن إجابات الأسئلة السابقة شحيحة، وما هو متوافر من خلال البحث في الإنترنت والاتصالات متركز على حالة التذمر والمخاطر المتوقعة على المدى القصير، ليس فقط في عالم النشر وتسويق الكتب، ولكن في مجالات أخرى كثيرة؛ مثل الإنتاج السينمائي.
كما يجب علينا أن نكون واقعيين، إذ لا توجد جهة تفضّل الكشف عن المصاعب المالية التي تواجهها، خشية اهتزاز مكانتها في السوق، وهي تفضّل اتخاذ إجراءات صعبة كبقية الجهات الأخرى التي تعرّضت للكثير من الخسائر دون الحاجة إلى التبرير أو الاعتراف، لأن الوباء أصاب كل أرجاء العالم، ولا بدّ من كسب أطول فترة ممكنة على أمل انقضاء أجل الأزمة، أو الاستفادة من المحفزات الاقتصادية التي قد تقدّمها الدولة للأنشطة الاقتصادية لحمايتها من الانهيار الكامل.
ولعل المصدر المناسب للحصول على تلك المعلومات هو المؤتمرات التي تقيمها الاتحادات والمنظمات، حيث تقدّم أوراق العمل والإحصاءات التي تقيس حجم التأثيرات السلبية لجائحة كورونا، ولكن كيف ستقام تلك المؤتمرات والإجراءات الصحية تفرض إغلاق المدن والمطارات للحد من انتشار الوباء؟ هذا الوضع لن يستمر للأبد بالتأكيد، والتوجه العالمي يسير نحو تكثيف عقد الاجتماعات عن بُعد، للبحث عن سبل الاستمرار وابتكار الحلول التي تضمن تجاوز أسوار الجائحة.

تحولات إجبارية
إن أكثر ما يدعو إلى التفاؤل هو الحوارات المتركزة حول المستقبل، والتي لم تعد خاصة بالأجيال المنغمسة بالعالم الرقمي، وربما كان العالم بحاجة ماسة إلى هزّة كبيرة مثل جائحة كورونا لتوحّد نظرة جميع الأجيال نحو الطرق الجديدة التي سيحياها الإنسان في المستقبل القريب على كوكب الأرض، ومن أبرزها طريقة إنجاز العمل من المنزل لبعض الوظائف، وتحقيق فوائد تنعكس على البيئة لعدم استخدام السيارة.
ولن نبالغ عندما نقول إن الخسائر المادية الجسيمة فرضت تحولات إجبارية في نمط التفكير العام، وأزاحت العناصر التي ما زالت تصرّ على الاستمرار بالطرق التقليدية، وعندما نأتي للحديث عن دور النشر، ولاسيما الجديدة منها، نجد أنها لجأت، قبل أن تحلّ الجائحة، إلى استعمال التطبيقات الرقمية لبيع نسخ إلكترونية من كتبها، وأيضًا توفير خدمة التوصيل للمنازل، وقد عانت تلك الدور بسبب إجراءات الإغلاق بشكل مؤقت، التي أعاقت خدمة التوصيل للمنازل، لكنها لم توقف خدمة بيع النسخ الإلكترونية.
ومن الطرق الجديدة المبتكرة التي تعكس حالة التشابك الاقتصادي هي الشراكات التي عقدتها بعض دور النشر مع شركات التوصيل على اختلافها، وحتى بائعو الزهور، حيث يضمن الطرفان تشغيل أعمالها دون انقطاع، ويضمن عمّال التوصيل وظائفهم.
أما الصحف الورقية اليومية، فهي وإن كان أغلبها قد دخل في عالم النشر الإلكتروني، فإن جائحة كورونا أدخلتها في تجربة الصدور الإلكتروني فقط، بعد تطبيق الإغلاق الكلّي لفترة من الزمن، وهو ما جعل ملّاك تلك الصحف يعيشون في مستقبل «اللا ورق» بكل تفاصيله.
ونأتي إلى الاجتماعات والمؤتمرات والندوات الفكرية وغيرها، فلو نظرنا إليها بناء على التجارب الجديدة بعد الجائحة، فسنجد أن انعقاد بعضها عن بُعد لم يعرقل تحقيق النتائج المرجوة منها، كما حصل في اجتماعات الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، بل فتح الباب لاعتمادها كخيار يتم اللجوء إليه وقت الحاجة، بل إنه خيار يمكن الاستعانة به كنشاط موازٍ في الندوات الفكرية التي لا يحضرها سوى جمع قليل من الندوات، حيث يمكن كسب جمهور أكبر وشرائح أكثر يمكنها متابعة جلسات تلك الندوات مباشرة.

واختفت كلمة قريبًا
 ما قد يصلح مع الكتب والمؤتمرات، فإنّه لا يصلح مع كرة القدم التي لن تجرى منافساتها بغير الاحتكاك المباشر، ولكن من دون جمهور، كما أنه لا يصلح في حفلات الأوركسترا أن تنظّم عن بُعد، لأنها تجربة حيّة تفاعلية لكل الحواس بين الجمهور وكل الموجودين على خشبة المسرح، وقد يقول قائل ها هي الأفلام نستطيع مشاهدتها في المنزل دون الحاجة للذهاب إلى السينما.
هذا الأمر صحيح للوهلة الأولى، ويمكن أن نستدرك أن الأفلام الجديدة لا يمكن مشاهدتها سوى في دور السينما، وبعض الدول سمحت بفتح دور السينما مع تطبيق اشتراطات التباعد الجسدي، ولكن أين هي الأفلام الجديدة؟ لقد تضررت صناعة السينما مثل بقية الصناعات، واختفت كلمة «قريبًا» التي تسبق الدعاية التسويقية للأفلام الجديدة.
بسبب جائحة كورونا وعشرات الأفلام المنتظرة عالميًا، مثل الجزء الثاني من «أفاتار» والجزء الرابع من «ذا ميتركس»، إما تم تأجيل تصويرها أو تأجيل عرضها لحين استعادة ظروف (العمل/ العرض) المناسبة التي تضمن جودة العمل وجودة الربح.
وفي قناعتي الشخصية، فإنّه لو تم عرض أفلام كلاسيكية لفترة قصيرة جدًا، فسوف يجد من اتخذ هذا القرار، إقبالًا غير متوقّع لسببين رئيسيين؛ الأول هو تعطّش الناس لحياتهم العادية التي فقدوها بسبب الحجر المنزلي، والسبب الثاني هو رغبة جمهور لا يُستهان به للعيش في تجربة المشاهدة الجماعية لفيلم قديم أصبح من المستحيل عرضه مجددًا.
أما قنوات البثّ التدفقي، وأشهرها «نتفلكس»، فقد واجهت المشكلة نفسها بالنسبة للأجزاء الجديدة من مسلسلاتها التي أُجّل تصويرها لاستحالة العمل تحت وطأة ظروف الإغلاق، ويمكن اعتبار تلك القناة في الأشهر الأولى لجائحة كورونا بأنها المتنفس الوحيد لمن وجدوا أنفسهم محاصرين في منازلهم وكان الجميع مستفيدًا من وجود تلك القناة، لأنها تلبي جميع الأذواق، وخصوصًا الأطفال الذين حُرموا من مدارسهم ونشاطهم الحركي المعتاد.

روح التحدي 
لــــم يتوقّع أحـــد أن تستمر جائحة كـورونا كل هذه المدة وبـهـــــذا التمــــــدد والتأجــج، وهي فـــي كل مرحلــة من مراحلهــــا تقدّم لنا الرد بأنهـــا قادرة على تعطيــــل حـــركـــة الإنسان في أي مكان، وفي الوقت نفسه يقدّم هذا الإنسان الدليل مجددًا عـــــلى قــــدرته الأزلية على التكيــــف مهما كانت المصاعب، وكما نشاهد ما يدور مــــن حولنــــا، فــــإن الحــــياة مستمــرة بـــــوجود الاشتراطات الصحية تتقدم هنا تنتكس هناك، ولكنها مستمرة لأن الحياة يجب أن تستمر.
في الختام، أعود لمؤسسة بيت الغشام لأزفّ لكم نبأ ميلاد مؤسسة لبان للنشر التي انطلقت من الأسس نفسها التي وجدت لأجلها مؤسسة بيت الغشام، لتؤكد روح التحدي والعزيمة، ولتواصل مسيرة العطاء وتقديم الأفضل لخدمة الثقافة العربية الجادة ■