الشّاعر المصري بشير رفعت: ثورة الاتصالات أضافت للشعر انتشارًا رخيصًا

الشّاعر المصري بشير رفعت:  ثورة الاتصالات أضافت للشعر  انتشارًا رخيصًا

قد يتهيأ لبعض الباحثين أن يربط بين الشعراء وبلدانهم من خلال بعض الدراسات السوسيولوجية؛ حتى يروق لهم أن يسمّوا الشعراء بأبناء بيئاتهم. ومع تقديرنا لمذهبهم فهو لا يعدو كونه محاولة للإغراق والتعتيم. ربما يليق بمن لم تسعفهم محصلتهم في الخروج من عالمهم الخاص، لكن عندما تتعدد مصادر  الشعراء، وكذا ثقافاتهم، يصير من الصعب تصنيفهم.

 

وقد‭ ‬تتقاصر‭ ‬أمام‭ ‬تجاربهم‭ ‬قرائح‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين،‭ ‬وربما‭ ‬تمثّل‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬مصدرًا‭ ‬لاكتشاف‭ ‬الظواهر‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري؛‭ ‬لتتأسس‭ ‬عليها‭ ‬النظريات‭ ‬النقدية‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬يصدق‭ ‬هذا‭ ‬التمايز‭ ‬على‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬
استطاعوا‭ - ‬من‭ ‬مواقعهم‭ - ‬أن‭ ‬يتجاوزوا‭ ‬القارات‭ ‬ويعبروا‭ ‬الأنهار‭ ‬والمحيطات،‭ ‬ويستظلوا‭ ‬بسماوات‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ولدوا‭ ‬تحتها،‭ ‬بل‭ ‬ويصطنعوا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬لغة‭ ‬جديدة‭ ‬تناسب‭ ‬حيواتهم‭ ‬الجديدة،‭ ‬طاروا‭ ‬بالكلمة‭ ‬فوق‭ ‬السحاب،‭ ‬وغاصوا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬البحار‭.‬

هؤلاء‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬للأماكن‭ ‬سطوةً،‭ ‬ولا‭ ‬للأزمنة‭ ‬فرصةً‭ ‬أن‭ ‬تضرب‭ ‬عليهم‭ ‬حصارًا‭. ‬وهم‭ ‬قلة‭ ‬قليلة،‭ ‬لا‭ ‬يجانبنا‭ ‬الصواب‭ ‬إن‭ ‬قلنا‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشاعر‭ ‬بشير‭ ‬رفعت،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تحتكره‭ ‬القصيدة‭ ‬شكلًا‭ ‬أو‭ ‬مضمونًا‭. ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬البلدان‭ ‬كلها،‭ ‬والمنصهر‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬جميعها،‭ ‬فكما‭ ‬سحره‭ ‬صوت‭ ‬الشيخ‭ ‬رفعت،‭ ‬أخذته‭ ‬محنة‭ ‬هيمنجواي‭. ‬ولن‭ ‬ترى‭ ‬أحدًا‭ ‬قشّر‭ ‬الموسيقا‭ ‬قبله‭ ‬ولا‭ ‬بعده،‭ ‬لكنك‭ ‬حين‭ ‬تجلس‭ ‬إليه‭ ‬تجد‭ ‬الأجمل؛‭ ‬فتلمس‭ ‬روحه‭ ‬الرقراقة،‭ ‬ويأخذك‭ ‬شوقه‭ ‬الحالم،‭ ‬ويتملكك‭ ‬حديثه،‭ ‬وتبهرك‭ ‬قصائده‭. ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تحضّ‭ ‬المتلقي‭ ‬على‭ ‬إعمال‭ ‬الفكر‭ ‬والانتباه‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬دائم‭.‬

هو‭ ‬بشير‭ ‬رفعت‭ ‬سعيد‭ ‬محمد،‭ ‬مواليد‭ ‬محافظة‭ ‬كفرالشيخ،‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬4‭/‬1‭/‬1972م،‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬ليسانس‭ ‬آداب‭ ‬وتربية‭ ‬لغة‭ ‬إنجليزية‭ ‬1993،‭ ‬ثم‭ ‬ليسانس‭ ‬آداب‭ ‬لغة‭ ‬عربية‭ ‬1998،‭ ‬ثمّ‭ ‬ماجستير‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬2007،‭ ‬عن‭ ‬أطروحته‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬شعرية‭ ‬المفارقة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مريد‭ ‬البرغوثي‮»‬،‭ ‬ودكتوراه‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬2013،‭ ‬عن‭ ‬أطروحته‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬من‭ ‬الكتابية‭ ‬إلى‭ ‬الشفاهية‭ ‬الموثقة‭ ‬ذ‭ ‬تحولات‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1934‭ - ‬1977‮»‬،‭ ‬حائز‭ ‬الجائزة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الفصحى‭ ‬2000‭/‬2001‭ ‬من‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة،‭ ‬مصر،‭ ‬والجائزة‭ ‬الأولى‭ ‬للشعر‭ ‬الفصيح‭ - ‬مجلة‭ ‬‮«‬تراث‮»‬‭ - ‬الإمارات‭ - ‬أغسطس‭ ‬2001،‭ ‬وجائزة‭ ‬‮«‬المبدعون‮»‬‭ - ‬الإمارات‭ - ‬2003‭/‬2004‭.‬

وسوف‭ ‬تقترب‭ ‬منه‭ ‬أكثر‭ ‬عندما‭ ‬يتحدث‭ ‬إلينا‭ ‬عبر‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭.‬

‭-‬القصيدة‭ ‬تسم‭ ‬كاتبها‭ ‬بأنه‭ ‬مثقف‭... ‬ماذا‭ ‬تعني‭ ‬ثقافة‭ ‬القصيدة،‭ ‬وماذا‭ ‬تقرأ؟

‭- ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬واجب‭ ‬الطرح‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬المعاصر‭. ‬ثقافة‭ ‬القصيدة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬عناصر،‭ ‬الأول‭ ‬وجود‭ ‬فكرة‭ ‬أو‭ ‬موضوع‭ ‬يسعى‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬تصويره‭ ‬في‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭. ‬والثاني‭ ‬تطعيم‭ ‬القصيدة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يصقلها‭ ‬ويثقلها‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬وثقافات‭ ‬متعددة‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬النوعي‭ ‬للتجربة‭. ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أنّ‭ ‬ثـمّة‭ ‬وزنًا‭ ‬نوعيًّا‭ ‬للشعر‭ ‬يتجاوز‭ ‬الوزن‭ ‬الخليلي‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التفعيلية،‭ ‬ويتجاوز‭ ‬الإيقاع‭ ‬الذي‭ ‬تركن‭ ‬إليه‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭.‬

إنّ‭ ‬خلوّ‭ ‬التجربة‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬العنصرين‭ ‬معًا‭ (‬الفكرة‭ ‬والمعرفة‭) ‬يحيلها‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬تهويمات‭ ‬لغوية‭ ‬وعاطفية‭ ‬جوفاء‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬شيئًا‭ ‬ذا‭ ‬بال‭. ‬لكن،‭ ‬يجب‭ ‬الانتباه‭ ‬والتفرقة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬أعنيه‭ ‬بالمعرفة‭ ‬التي‭ ‬تضفي‭ ‬وزنًا‭ ‬نوعيًّا‭ ‬على‭ ‬التجربة،‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يظنه‭ ‬البعض‭ (‬معلومات‭ ‬عامة‭). ‬

إنني‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬متمثّلة‭ ‬وغير‭ ‬مفتعلة‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬الثقافي‭ ‬للشاعر‭. ‬أما‭ ‬ترى‭ ‬معي‭ ‬أنّ‭ ‬ثمة‭ ‬وزنًا‭ ‬نوعيًّا‭ ‬يميز‭ ‬قصائد‭ ‬عفيفي‭ ‬مطر‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخرى؟‭!‬

ويمكن‭ ‬لعنصر‭ ‬المعرفة‭ ‬أن‭ ‬يغيب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ ‬القصيدة‭ ‬ثقافتها،‭ ‬حيث‭ ‬يحل‭ ‬العنصر‭ ‬الثالث‭ ‬والأخير‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الرؤية‮»‬‭ ‬محل‭ ‬المعرفة‭. ‬إنّ‭ ‬قصائد‭ ‬عديدة‭ ‬تبرهن‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬الرؤية‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬المعاصر،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬وديع‭ ‬سعادة‭ ‬ومحمد‭ ‬صالح‭ ‬ومريد‭ ‬البرغوثي‭ ‬وعلي‭ ‬قنديل‭. ‬

أمّا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ماذا‭ ‬أقرأ‮»‬،‭ ‬فأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متميز‭ ‬في‭ ‬مجاله‭ ‬بدءًا‭ ‬بالميثولوجيا‭ ‬في‭ ‬الثقافات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وانتهاءً‭ ‬بكتب‭ ‬العلوم‭ ‬البحتة،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالفلسفة‭ ‬والفنون،‭ ‬والأدب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصوره‭ ‬باللغتين‭ ‬العربية‭ ‬والإنجليزية‭. ‬

‭ ‬

‭-‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أنّ‭ ‬قالبًا‭ ‬شعريًّا‭ ‬دون‭ ‬غيره‭ ‬يكون‭ ‬أجدى‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬تجربة‭ ‬دون‭ ‬أخرى؟

‭- ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬تملي‭ ‬قانون‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬لا‭ ‬أعني‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬فقط‭. ‬أعني‭ ‬أنّ‭ ‬سطوة‭ ‬التطور‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الإفلات‭ ‬منها،‭ ‬وإلّا‭ ‬عاش‭ ‬المرء‭ ‬خارج‭ ‬الزمن‭. ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬نؤجله‭ ‬من‭ ‬تفاعل‭ ‬مع‭ ‬مقتضيات‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أحدث‭ ‬صورها،‭ ‬يصعب‭ ‬تعويضه‭.‬

الأمر‭ ‬في‭ ‬القوالب‭ ‬الشعرية‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الموهبة‭ ‬وقناعاتها‭ ‬بمسألة‭ ‬التطور‭. ‬لكني‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬تقدير‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متفرد‭ ‬في‭ ‬سياقه‭. ‬وأظن‭ ‬أنّ‭ ‬قالب‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬يأتي‭ ‬وفقًا‭ ‬لحدود‭ ‬قناعات‭ ‬المبدع‭ ‬وسطوة‭ ‬القالب‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬به‭ ‬ويتمرس‭ ‬عليه‭ ‬لقولبة‭ ‬قصيدته‭. ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬القوالب‭ ‬الشعرية‭ ‬يختار‭ ‬ليناسب‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬تغالبه‭.‬

في‭ ‬ظني‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬قالبًا‭ ‬مهيمنًا‭ ‬يصعب‭ ‬الإفلات‭ ‬منه‭ ‬وتشتد‭ ‬هيمنته‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭. ‬وهناك‭ ‬قوالب‭ ‬تكون‭ ‬لها‭ ‬هيمنة‭ ‬موسمية‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬منها‭. ‬ولا‭ ‬يحضرني‭ ‬الآن‭ ‬إلا‭ ‬أمثلة‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬العامية‭ ‬المصرية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬المسحراتي‮»‬‭ ‬لفؤاد‭ ‬حداد،‭ ‬و‮«‬الرباعيات‮»‬‭ ‬لصلاح‭ ‬جاهين،‭ ‬و«جوابات‭ ‬حراجي‭ ‬القط‮»‬‭ ‬للأبنودي‭. ‬وأكثر‭ ‬القوالب‭ ‬عمقًا‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬نتيجة‭ ‬تمرُّس‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬القوالب‭ ‬التقليدية،‭ ‬ثم‭ ‬التطور‭ ‬التدريجي‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أحدث‭. ‬كيف‭ ‬أطوّر‭ ‬لعبة‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬قوانينها‭ ‬السابقة؟‭ ‬

‭-‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬أشكالها‭ ‬الآن؟‭ ‬أين‭ ‬توجد؟

‭- ‬القصيدة‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أشكالها‭ ‬تعاني‭ ‬اغترابًا‭ ‬وتتعـرّض‭ ‬لاختبار‭ ‬عسير‭. ‬إنها‭ ‬تواجه‭ ‬التغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬والطفرات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والصراع‭ ‬المادي‭ ‬والتمزق‭ ‬الداخلي‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭. ‬توجد‭ ‬قصيدة‭ ‬جيدة‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬لكن‭ ‬الترويج‭ ‬الإعلامي‭ ‬ينحاز‭ ‬للكليشيهات‭ ‬السطحية‭. ‬

الشّعر‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬للناس،‭ ‬لأن‭ ‬نوافذ‭ ‬النور‭ ‬مغلقة‭ ‬في‭ ‬وجهه‭. ‬وأعني‭ ‬بالنوافذ‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬ومستواها‭ ‬الذي‭ ‬يرفع‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬يخفضها‭. ‬لم‭ ‬يعـد‭ ‬لدينا‭ (‬الصوت‭) ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬المريدين‭. ‬وأعني‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الصوت‮»‬‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لديهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التميز‭ ‬في‭ ‬مجالهم‭. ‬فيما‭ ‬سبق‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬صوتًا‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬الخاص‭... ‬وكان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬صوتًا‭.. ‬وكان‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬صوتًا‭... ‬وكانت‭ ‬قاهرة‭ ‬الستينيات‭ ‬صوتًا‭. ‬وكان‭ ‬الإعلاميون‭ ‬الكبار‭ ‬صوتًا‭... ‬وكان‭ ‬كبار‭ ‬الشعراء‭ ‬صوتًا‭... ‬نحن‭ ‬الآن‭ ‬نخضع‭ ‬لقانون‭ ‬وثقافة‭ ‬السوق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬

والقصيدة‭ - ‬في‭ ‬ظل‭ ‬قانون‭ ‬السوق‭ - ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬لها‭. ‬إنّ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬تنشر‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة‭ ‬كل‭ ‬عدد،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تنشر‭ ‬شعرًا‭. ‬وبعض‭ ‬المجلات‭ ‬يتم‭ ‬إغلاقها،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬ينحدر‭ ‬مستواها‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الوفاة‭ ‬الإكلينيكية‭. ‬

‭-‬ما‭ ‬الذي‭ ‬تود‭ ‬أن‭ ‬تقوله‭ ‬قصيدة‭ ‬بشير‭ ‬رفعت؟

‭- ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقوله‭ ‬القصيدة‭... ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬قصيدتي‭ ‬تقول‭: (‬ربـح‭ ‬الخطأ‭... ‬وهبوط‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬القمر‭... ‬ومنطقة‭ ‬الجزاء‭... ‬والهاتف‭ ‬الذي‭ ‬يرن‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬لا‭ ‬يقطنه‭ ‬أحد‭... ‬ومسألة‭ ‬الشجرة‭... ‬وصحراء‭ ‬ناميبيا‭... ‬وحقل‭ ‬الألغام‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يخبره‭ ‬أحدٌ‭ ‬أنّ‭ ‬الحرب‭ ‬انتهت‭.. ‬ومحنة‭ ‬هيمنجواي‭ ‬ونسبية‭ ‬آينشتاين‭ ‬وقبضة‭ ‬كلاي‭... ‬والعصفور‭ ‬المذبوح‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬رفعت‭... ‬والنبع‭ ‬الذي‭ ‬يتفجر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الصخور‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬أسمهان‭... ‬والقطيفة‭ ‬التي‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬رينوار‭... ‬إلخ‭). ‬

‭<‬‭ ‬مع‭ ‬اتساع‭ ‬دلالة‭ ‬النص،‭ ‬هل‭ ‬يشغلك‭ ‬أن‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬للقصيدة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬القراءة؟

‭- ‬أعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬الموضوع‭ ‬هو‭ ‬ميثاقٌ‭ ‬مبرمٌ‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬والمتلقي‭. ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أصبح‭ ‬اللاموضوع‭ ‬هو‭ ‬الموضوع،‭ ‬فإنّ‭ ‬الميثاق‭ ‬يظلّ‭ ‬مبرمًا‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬للقصيدة،‭ ‬شرط‭ ‬ألّا‭ ‬تسأل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬القصيدة‭. ‬لكنّ‭ ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬تزعجني‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬الموضوع‭ ‬إلى‭ ‬سؤال‭ ‬يطرحه‭ (‬المدرسيّـون‭)‬،‭ ‬وينتظرون‭ ‬منك‭ ‬إجابة‭ ‬تندرج‭ ‬تحت‭ ‬الأغراض‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬درسوها‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭. ‬هناك‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬ومشاهد‭ ‬ومشاهدات‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬تستطيع‭ ‬القصيدة‭ ‬أن‭ ‬تصوّرها‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬قولي‭ ‬منذ‭ ‬قليل‭ ‬إنّ‭ ‬هناك‭ ‬موضوعًا‭ ‬للقصيدة،‭ ‬شرط‭ ‬ألا‭ ‬تسأل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬القصيدة‭. ‬إنّ‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬الموضوع‭ ‬أو‭ ‬الفكرة‭ ‬تذبح‭ ‬الإبداع‭ ‬بسكين‭ ‬الجهل‭ ‬والسماجة‭. ‬والإصرار‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الحالة‭ ‬الشعرية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬شارحة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تحلّل‭ ‬القصيدة‭ ‬لا‭ ‬تحليلها‭. ‬تمامًا‭ ‬كأنك‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬مكونات‭ ‬هرم‭ ‬خوفو،‭ ‬ثم‭ ‬تقول‭ ‬إنك‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تجمع‭ ‬مقدار‭ ‬الحجارة‭ ‬التي‭ ‬يتكون‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يمكنك‭ ‬بناء‭ ‬هرم‭ ‬مواز‭ ‬للهرم‭ ‬الأكبر‭! ‬

 

غيابٌ‭ ‬مكتمل‭ ‬الوعي

‭-‬كيف‭ ‬تصف‭ ‬وقت‭ ‬الكتابة؟‭ ‬هل‭ ‬بالفعل‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬غياب؟‭ ‬

‭- ‬نـعـم،‭ ‬هو‭ ‬غيابٌ‭ ‬مكتمل‭ ‬الوعي‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يعيه‭ ‬الآخرون‭. ‬كلما‭ ‬اكتمل‭ ‬غيابك،‭ ‬اكتمل‭ ‬الحضور‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يرى‭. ‬هو‭ ‬رحيلٌ‭ ‬إلى‭ ‬بقعة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مغاير‭ ‬تضع‭ ‬فيه‭ ‬لبنةً‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الحضارة‭ ‬وميراث‭ ‬الإبداع‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان‭. ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬أنّ‭ ‬شكسبير‭ ‬كتب‭ ‬أعظم‭ ‬مسرحياته‭ ‬ذات‭ ‬غياب‭ ‬عظيم‭. ‬لولا‭ ‬الغياب‭ ‬العظيم‭ ‬لما‭ ‬استطاع‭ ‬المكتشفون‭ ‬والمخترعون‭ ‬أن‭ ‬يصلوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وصلوا‭ ‬إليه‭. ‬‮«‬نسبية‮»‬‭ ‬آينشتاين‭ ‬غيابٌ‭ ‬عظيمٌ‭ ‬عن‭ ‬مفردات‭ ‬نيوتن‭. ‬ومصباح‭ ‬أديسون‭ ‬غيابٌ‭ ‬عظيمٌ‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الظلام‭. ‬إنّ‭ ‬أعظم‭ ‬خطر‭ ‬يهدد‭ ‬المبدع‭ ‬هو‭ ‬الحضور‭ ‬العادي‭ ‬والمعتاد‭. ‬إنّ‭ ‬الغياب،‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشاكلة،‭ ‬يكون‭ ‬بعثةً‭ ‬لاقتناص‭ ‬عمل‭ ‬عظيم‭ ‬تأتي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬الآخرون‭. ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬مختلفًا‭ ‬قبل‭ ‬ميلاد‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬عنه‭ ‬بعد‭ ‬ميلاده‭. ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يغب‭ ‬شوقي‭ ‬عن‭ ‬برودة‭ ‬النظم‭ ‬لما‭ ‬اقتنص‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قصيدة‭ ‬شمسًا‭.‬

‭-‬يغيب‭ ‬كتّاب‭ ‬الرواية‭ ‬بعض‭ ‬الوقت؛‭ ‬ليعودوا‭ ‬إلى‭ ‬قرّائهم‭ ‬بعمل‭ ‬جديد،‭ ‬فهل‭ ‬يحتاج‭ ‬الشعراء‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الغياب؟‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصدق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬مشروع‭ ‬شعري‭ ‬في‭ ‬المستقبل؟

‭- ‬يحتاج‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬غياب‭ ‬بمعنى‭ ‬الوقفة‭ ‬المتأملة‭ ‬التي‭ ‬تقوده‭ ‬إلى‭ ‬الوعي‭ ‬النقدي‭ ‬بقيمة‭ ‬تجربته‭ ‬وما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يطرأ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬القادمة‭. ‬والوقفة‭ ‬قد‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬التوقف‭ ‬وقتًا‭ ‬أطول‭. ‬لكن‭ ‬غياب‭ ‬الشاعر‭ ‬ليس‭ ‬مماثلًا‭ ‬لغياب‭ ‬الروائي‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬بعمل‭ ‬جديد‭. ‬الشاعر‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينشر‭ ‬قصيدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬تتبدى‭ ‬فيها‭ ‬ملامح‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة،‭ ‬أما‭ ‬الروائي‭ ‬فيحتاج‭ ‬إلى‭ ‬غياب‭ ‬أطول‭ ‬لطبيعة‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬يكتبه‭ ‬وهو‭ ‬الرواية‭. ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يطول‭ ‬غياب‭ ‬الشاعر‭ ‬نسبيًا‭ ‬قبل‭ ‬إصدار‭ ‬ديوان‭ ‬جديد‭ ‬يمثّل‭ ‬مرحلة‭ ‬إبداعية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬مسيرته،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬نشر‭ ‬قصائده‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬في‭ ‬الدوريات‭ ‬الأدبية‭. ‬وما‭ ‬ينتخبه‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬المنشورة‭ ‬وغيرها‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يشكّل‭ ‬ديوانه‭ ‬القادم‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬يأتي‭ ‬بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬طويل‭ ‬نسبيًا‭ ‬عن‭ ‬ديوانه‭ ‬السابق‭.‬

مسألة‭ ‬المشروع‭ ‬الشعري‭ ‬نادرة‭ ‬الحدوث،‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تتأتى‭ ‬إلّا‭ ‬عن‭ ‬تحقّق‭ ‬سابق‭ ‬ورغبة‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬لاحق‭. ‬يحضرني‭ ‬الآن‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬أمس‭... ‬المكان‭ ‬الآن‮»‬‭ (‬بوصفه‭ ‬مشروعًا‭ ‬شعريًا‭ ‬كتبه‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجزاء‭ ‬نشرت‭ ‬من‭ ‬1995‭ - ‬2002م‭). ‬أنا‭ ‬أقرأ‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬ونصب‭ ‬عينيّ‭ ‬المنجز‭ ‬الشعري‭ ‬والنقدي‭ ‬لأدونيس‭. ‬لقد‭ ‬أراد‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬المجموعات‭ ‬الشعرية‭ ‬المتواترة‭ ‬ليكتب‭ ‬مشروعًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التشكيل‭ ‬الطباعي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأجزاء‭ ‬الثلاثة‭. ‬هذا‭ ‬مشروعٌ‭ ‬لا‭ ‬يتأتى‭ ‬إلّا‭ ‬لأولي‭ ‬العزم‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭. ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬المقروءة‭ ‬للشاعر‭. ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬مشروع‭ ‬شعري‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬إبداع‭ ‬مدوّنة‭ ‬فارقة‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬بشخصياته‭ ‬وأحداثه‭ ‬ومتنه‭ ‬وهامشه‭.‬

كما‭ ‬أصدر‭ ‬محمد‭ ‬عفيفي‭ ‬مطر‭ ‬ديوانًا‭ ‬نادرًا‭ ‬في‭ ‬عامه‭ ‬الأخير،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬ملكوت‭ ‬عبد‭ ‬الله‮»‬‭ (‬2010م‭). ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬قد‭ ‬نال‭ ‬اهتمامًا‭ ‬نقديًا‭ ‬أو‭ ‬رواجًا‭ ‬مماثلًا‭ ‬لقيمته‭ ‬الفذة‭ ‬وموضوعه‭ ‬الاستثنائي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يستطيعه‭ ‬إلا‭ ‬شاعر‭ ‬وفيلسوف‭ ‬ومزارع‭ ‬وعالمٌ‭ ‬بالطير‭ ‬والنبات‭ ‬والحيوان‭. ‬وقياسًا‭ ‬على‭ ‬هذين‭ ‬المثالين،‭ ‬أقول‭ ‬لك‭: ‬نعم،‭ ‬هناك‭ ‬مشروع‭ ‬شعري‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يتأتى‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬شعرًا‭.‬

‭-‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬أين‭ ‬هو؟‭ ‬وهل‭ ‬الوفاق‭ ‬الودي‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬الجماعات‭ ‬الأدبية‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬نقدي‭ ‬متطوّر؟‭!‬

‭- ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬مضيَّعٌ‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬الانطباعية‭ ‬العابرة‭ ‬والكتابة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المتقعرة‭. ‬وربما‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬غياب‭ ‬الكبار‭. ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬ترصد‭ ‬حال‭ ‬النقد‭ ‬وأنت‭ ‬تمر‭ ‬أمام‭ ‬القاعات‭ ‬التي‭ ‬تختص‭ ‬بمناقشة‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬معارض‭ ‬الكتب‭ ‬والمؤتمرات‭. ‬ستجد‭ ‬صورة‭ ‬مصغّرة‭ ‬لحال‭ ‬النقد‭ ‬الآن‭. ‬الجميع‭ ‬صاروا‭ ‬يمارسون‭ ‬النقد‭ ‬بوصفه‭ ‬ملحقًا‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭. ‬وربما‭ ‬نتجت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬عدة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬مؤسسة‭ ‬محايدة‭ ‬تُعنى‭ ‬بمناقشة‭ ‬الأعمال‭ ‬وإدارة‭ ‬الندوات‭ ‬نقديًّا،‭ ‬وتكليف‭ ‬نقاد‭ ‬كبار‭ ‬بقراءة‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬موضوع‭ ‬المناقشة‭. ‬وبناءً‭ ‬عليه،‭ ‬أصبح‭ ‬المبدع‭ ‬مكلّفًا‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬أصدقائه‭ ‬المبدعين‭ ‬ليقوموا‭ ‬بدور‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬ندوته،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تبادل‭ ‬الأدوار‭ ‬لاحقًا،‭ ‬فيصير‭ ‬صاحب‭ ‬العمل‭ ‬موضوع‭ ‬المناقشة‭ (‬اليوم‭) ‬هو‭ ‬الناقد‭ ‬لأعمال‭ ‬أصدقائه‭ (‬غدًا‭). ‬هذا‭ ‬الوفاق‭ ‬الودّي‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬الجماعة‭ ‬الأدبية‭ ‬لا‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬نقديّ‭ ‬متطور‭. ‬وأخطر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬وعي‭ ‬المبدع‭ ‬بأهمية‭ ‬تكريس‭ ‬نفسه‭ ‬للنوع‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬يكتبه‭. ‬

أظنّ‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬تعارض‭ ‬بين‭ ‬الناقد‭ ‬المبدع‭ ‬والناقد‭ ‬الأكاديمي‭. ‬الناقد‭ ‬المبدع‭ ‬له‭ ‬رؤيته‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬معايشته‭ ‬لجوهر‭ ‬الإبداع‭ ‬ورؤيته‭ ‬للتراث‭ ‬والمعاصرة‭. ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬له‭ ‬صياغة‭ ‬متفردة‭ ‬لا‭ ‬تقلّ‭ ‬روعة‭ ‬عن‭ ‬نصه‭ ‬الإبداعيّ‭. ‬إنّ‭ ‬الإسهام‭ ‬النقديّ‭ ‬لأدونيس‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬وأبدع‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬القرن‭ ‬الأخير‭. ‬فالناقد‭ ‬المبدع‭ ‬معنيٌّ‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬والرأي‭. ‬والناقد‭ ‬الأكاديمي‭ ‬معنيٌّ‭ ‬بتحليل‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬تحليلًا‭ ‬منهجيًّا‭. ‬لكنّ‭ ‬توافر‭ ‬الرؤية‭ ‬لدى‭ ‬الناقد‭ ‬الأكاديمي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬ناقدًا‭ ‬متفردًا‭. ‬نحن،‭ ‬إذن،‭ ‬نحتاج‭ ‬ناقدًا‭ ‬أكاديميًّا‭ ‬ذا‭ ‬رؤية‭ ‬إبداعية‭. ‬ونحتاج‭ ‬ناقدًا‭ ‬مبدعًا‭ ‬يسهم‭ ‬إسهامًا‭ ‬مرجعيًا‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬النقدية،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬يحيى‭ ‬حقي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فجر‭ ‬القصة‭ ‬المصرية‮»‬‭. ‬ونحتاج‭ ‬ناقدًا‭ ‬مبدعًا‭ ‬جريئًا‭ ‬متجاوزًا‭ ‬مثل‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭. ‬ونحتاج‭ ‬الأكاديميّ‭ ‬الذي‭ ‬يرصد‭ ‬الحركة‭ ‬الإبداعية‭ ‬بقوة‭ ‬ويتصدى‭ ‬لتصويب‭ ‬ما‭ ‬يعنّ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أخطاء،‭ ‬مثل‭ ‬ماهر‭ ‬شفيق‭ ‬فريد‭. ‬ونحتاج‭ ‬الناقد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬متعدد‭ ‬الثقافات‭ ‬مثل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭. ‬

والناقد‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬ليس‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬جماعة‭ ‬الوفاق‭ ‬الودي‭ ‬الذين‭ ‬ذكرتهم‭ ‬منذ‭ ‬قليل‭. ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مبدع‭ ‬ذو‭ ‬رؤية‭ ‬وثقافة‭ ‬متميزة‭ ‬تجعل‭ ‬إسهامه‭ ‬النقديّ‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬إسهامه‭ ‬الإبداعي‭.‬

‭-‬لثورة‭ ‬الاتصالات‭ ‬من‭ ‬الإنترنت‭ ‬وغيرها‭ ‬إضافات‭ ‬ملموسة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الصعُد‭.. ‬فماذا‭ ‬أضافت‭ ‬للشعر‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك؟

‭- ‬لدينا‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬الوفرة‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬فساد‭ ‬الحال،‭ ‬لأنها‭ ‬تأتي‭ ‬بعد‭ ‬حرمان‭ ‬عظيم‭. ‬ولذلك‭ ‬فالحرية‭ ‬لدينا‭ ‬تعني‭ ‬الفوضى،‭ ‬وتعدد‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية‭ ‬يعني‭ ‬وفرة‭ ‬السباب‭ ‬والتجاوزات‭ ‬تحت‭ ‬زعم‭ ‬الحوار‭.‬

أرجو‭ ‬أن‭ ‬تشاهد‭ ‬قناة‭ ‬‮«‬ماسبيرو‭ ‬زمان‮»‬‭ ‬لتتأكد‭ ‬أننا‭ ‬يكفينا‭ ‬قناة‭ ‬واحدة‭ ‬راقية‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬قناة‭ ‬مشبوهة‭. ‬لا‭ ‬أنكر‭ ‬أنّ‭ ‬لثورة‭ ‬الاتصالات‭ ‬مزاياها،‭ ‬منها‭ ‬مثلًا‭ ‬سهولة‭ ‬التواصل‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬تقرأ‭ ‬لهم‭. ‬لقد‭ ‬صار‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬مرمى‭ ‬حجر‭. ‬وهي‭ ‬تغوي‭ ‬المبتدئين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المتحققين،‭ ‬حيث‭ ‬تمنحهم‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬النشر‭ ‬والانتشار‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتتحقق‭ ‬لهم‭ ‬قبل‭ ‬إتاحة‭ ‬هذه‭ ‬الوسائط‭.‬

وهنا‭ ‬بالمثل‭ ‬مكمن‭ ‬الخطر،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يتعايش‭ ‬المبتدئون‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬الابتداء‭ ‬وما‭ ‬تستوجبه‭ ‬من‭ ‬تأنّ‭ ‬وتمرُّس‭ ‬ورويّة‭ ‬لتجويد‭ ‬العمل‭. ‬لقد‭ ‬حرم‭ ‬المبتدئون‭ ‬من‭ ‬نعمة‭ ‬التلمذة‭. ‬إنهم‭ ‬يولدون‭ ‬كبارًا‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلّا‭ ‬لأن‭ ‬المرآة‭ ‬مقعّرة‭. ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أنّ‭ ‬المبتدئين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي‭ ‬يسعون‭ ‬لقراءة‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬لأي‭ ‬كاتب‭ ‬مثلما‭ ‬كنّا‭ ‬نسعى‭ ‬ونقرأ‭. ‬ثورة‭ ‬الاتصالات‭ ‬أضافت‭ ‬للشعر‭ ‬انتشارًا‭ ‬رخيصًا،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تؤسس‭ ‬للمعرفة‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬تكرّس‭ ‬لسرعة‭ ‬تداول‭ ‬الأخبار‭.‬

‭-‬الشاعر‭ ‬والمترجم‭... ‬أيهما‭ ‬سبق‭ ‬الآخر‭ ‬إليك؟‭ ‬وماذا‭ ‬أفاد‭ ‬أحدهما‭ ‬من‭ ‬الآخر؟

‭- ‬أتذكّر‭ ‬دائمًا‭ ‬مقولة‭ ‬الشاعر‭ ‬السوفييتي‭ ‬بونين‭: ‬‮«‬ولدت‭ ‬لأكون‭ ‬شاعرًا‮»‬‭. ‬الشاعر‭ ‬مولودٌ‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وليس‭ ‬وقت‭ ‬كتابة‭ ‬القصيدة‭ ‬فحسب‭. ‬وكل‭ ‬شاعر‭ ‬ليس‭ ‬شاعرًا‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬لا‭ ‬يـعـوّل‭ ‬عليه‭ ‬ولا‭ ‬أعتدّ‭ ‬بقصيدته‭. ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬شعراء‭ ‬عظام‭ ‬لا‭ ‬يكتبون‭ ‬قصائد‭. ‬هم‭ ‬شعراء‭ ‬في‭ ‬رؤيتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬وتصوّفهم‭ ‬النفسي،‭ ‬ولا‭ ‬يتركون‭ ‬نصوصًا‭. ‬المترجم‭ ‬غـصنٌ‭ ‬نـبـت‭ ‬في‭ ‬شجرتي‭ ‬في‭ ‬عامي‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬دراستي‭ ‬الجامعية‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬وقد‭ ‬أفاد‭ ‬كلاهما‭ (‬الشاعر‭ ‬والمترجم‭) ‬من‭ ‬الآخر‭. ‬فمعظم‭ ‬ترجماتي‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬جاءت‭ ‬موزونة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليحدث‭ ‬لولا‭ ‬تمرّسي‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬قالبيه‭ ‬العمودي‭ ‬والتفعيلي‭. ‬وعندما‭ ‬تخليت‭ ‬عن‭ ‬حتمية‭ ‬الوزن،‭ ‬بقيت‭ ‬الحالة‭ ‬الشعرية‭ ‬ملمحًا‭ ‬مميّزًا‭ ‬لترجمتي‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬لكنّي‭ ‬لشدة‭ ‬غيرتي‭ ‬على‭ (‬الشاعر‭) ‬الذي‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬أقلعت‭ (‬تقريبًا‭) ‬عن‭ ‬الترجمة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2004م‭. ‬لست‭ ‬مترجمًا‭ ‬محترفًا‭. ‬أنا‭ ‬مترجمٌ‭ ‬هاوٍ‭. ‬ولذلك‭ ‬فمن‭ ‬غير‭ ‬المنطقيّ‭ ‬أن‭ ‬أقارن‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مسألة‭ ‬الحياة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬وبين‭ ‬الترجمة‭ ‬التي‭ ‬شغلتني‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬فقط‭. ‬أنا‭ ‬مسؤولٌ‭ ‬مسؤولية‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬موهبتي‭ ‬الشعرية‭. ‬وأعي‭ ‬تمامًا‭ ‬أنّ‭ ‬الشّـعـر‭ ‬صلاةٌ‭ ‬بامتداد‭ ‬الـعـمـر،‭ ‬ليس‭ ‬لك‭ ‬منها‭ ‬إلاّ‭ ‬ما‭ ‬خـشـعـت‭ ‬فيه‭. ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أعتز‭ ‬بما‭ ‬أنجزت‭ ‬من‭ ‬ترجمات‭ ‬شعرية‭. ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬أكتب‭ ‬يرث‭ ‬مـنّي‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬عمري‭. ‬وكل‭ ‬ترجمة‭ ‬لقصيدة‭ ‬هي‭ ‬قراءةٌ‭ ‬شديدة‭ ‬الخصوصية‭ ‬لعمل‭ ‬إبداعيّ‭ ‬قرأه‭ ‬الآخرون،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يصلوا‭ ‬لإعادة‭ ‬صياغته‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬المترجم‭. ‬أقول‭ ‬لك‭: ‬الـشّعـر‭ ‬فرضُ‭ ‬عين‭ ‬في‭ ‬حياتي‭. ‬الترجمة‭ ‬سـنَّة‭. ‬الـشّعـر‭ ‬ضروريٌّ‭ ‬كالماء‭ ‬والهواء‭ ‬والطعام‭. ‬الترجمة‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬الصباح‭. ‬

‭-‬الجوائز‭ ‬الأدبية،‭ ‬أين‭ ‬تذهب؟

‭- ‬الجائزة‭ ‬هي‭ ‬تسليط‭ ‬بؤرة‭ ‬ضوء‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬كائن،‭ ‬إمّا‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الضوء‭ ‬فيصير‭ ‬نجمًا،‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬تكوينه‭ ‬معتمًا‭ ‬في‭ ‬جوهره‭. ‬يدهشني‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬قائمة‭ ‬الحاصلين‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬نوبل‮»‬،‭ ‬فيتعثّر‭ ‬لساني‭ ‬في‭ ‬نطق‭ ‬أسماء‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء‭ ‬جديرة‭ ‬بالمنح‭ ‬في‭ ‬حينها،‭ ‬لكنّ‭ ‬الزمن‭ ‬لم‭ ‬يمنحها‭ ‬جائزة‭ ‬الذيوع‭ ‬والاستمرار‭. ‬قانون‭ ‬الحياة‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬جوائز‭ ‬لا‭ ‬نصنّفها‭ ‬نحن‭ ‬لأنها‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مداركنا‭ ‬وجوائزنا‭ ‬المسماة‭. ‬هل‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تذكر‭ ‬لي‭ ‬اسم‭ ‬الجائزة‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬شكسبير‭ ‬والمتنبي‭ ‬وعبدالقاهر‭ ‬الجرجاني‭ ‬وابن‭ ‬منظور؟‭ ‬هم‭ ‬جائزة‭ ‬للحياة‭ ‬لأنهم‭ ‬منحوا‭ ‬الحياة‭ ‬وزنًا‭. ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬قانون‭ ‬آخر‭ ‬تعلمه‭ ‬الحياة،‭ ‬ولا‭ ‬نعلمه‭ ‬نحن‭. ‬سيظل‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬أمير‭ ‬الشعراء‮»‬‭ ‬قرينة‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬غير‭.‬

لكنّ‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تنتبه‭ ‬إليه‭ ‬الجوائز،‭ ‬هو‭ ‬أنّ‭ ‬الجائزة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تخسر‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬مستحقيها‭ ‬مرة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭. ‬المبدعون‭ ‬الكبار‭ ‬لا‭ ‬يخسرون،‭ ‬لأنّ‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬هو‭ ‬الجائزة‭.‬

‭-‬الكتّاب‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انتظار‭ ‬دائمة‭... ‬ماذا‭ ‬ينتظر‭ ‬بشير‭ ‬رفعت؟‭ ‬

‭- ‬أنتظر‭ ‬أن‭ ‬أتعلّم‭ ‬ألّا‭ ‬أنتظر‭. ‬يكون‭ ‬الانتظار‭ ‬منطقيًّا‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬الحياة‭ ‬واضحة‭ ‬ومعلومةً،‭ ‬مثل‭ ‬فيلم‭ ‬تشاهده‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية‭. ‬لكني‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أتعلّم‭ ‬ألّا‭ ‬أنتظر،‭ ‬لأن‭ ‬المقدمات‭ ‬لا‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬النتائج‭. ‬ولذلك‭ ‬أعمل‭ ‬ولا‭ ‬أنتظر‭. ‬وأرسم‭ ‬خريطة‭ ‬الحلم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬قدمي‭ ‬على‭ ‬البساط‭ ‬الذي‭ ‬يطير‭ ‬بي‭. ‬ما‭ ‬يمكنني‭ ‬رصده‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬فعلًا‭ ‬وقارب‭ ‬على‭ ‬الاكتمال،‭ ‬فيكون‭ ‬الجزء‭ ‬المتبقي‭ ‬جديرًا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الانتظار‮»‬‭. ‬أظنّ‭ ‬أنني‭ ‬أعيش‭ ‬الآن‭ ‬إبداعيًا‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬اكتمال‭ ‬الدائرة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعرية،‭ ‬وهي‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بإصدار‭ ‬ديواني‭ ‬‮«‬أقـشّـر‭ ‬الموسيقا‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تضم‭ ‬ديوانين‭ ‬آخرين،‭ ‬أنتظر‭ ‬نشر‭ ‬أحدهما‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬عام،‭ ‬وهو‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬يؤدي‭ ‬خياناته‭ ‬بأمانة‮»‬‭. ‬كما‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬ديوانًا‭ ‬يضم‭ ‬قصائدي‭ ‬للأطفال،‭ ‬وكتابًا‭ ‬يضم‭ ‬ترجمتي‭ ‬لقصائد‭ ‬مختارة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الرومانسي،‭ ‬وأن‭ ‬أقرر‭ ‬نشر‭ ‬أطروحتي‭ ‬للدكتوراه‭ ‬التي‭ ‬أعتز‭ ‬بها‭ ‬كثيرًا‭. ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬أن‭ ‬أستمر‭ ‬في‭ ‬الإبداع،‭ ‬وأن‭ ‬أتجاوز‭ ‬أفقي‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قصيدة‭ ‬جديدة‭ ‬أكتبها‭ ‬‭.