أستاذي عبدالقادر القط

أستاذي عبدالقادر القط

لم يكن د. عبدالقادر القُط أستاذًا لي بالمعنى المباشر، مثل أساتذتي سهير القلماوي، وعبدالعزيز الأهواني، أو عبدالمحسن بدر، وإنما كان أستاذًا لي بحكم الصلة الثقافية التي ربطت أبناء جيلي بحضوره الخاص، بوصفه واحدًا من الأساتذة الكبار الذين تأثرنا بهم على مستويات المنهج والتذوق والنظرية الأدبية.
فقد كان هو من الجيل الذي تتلمذ على يدي د. طه حسين بشكل مباشر، ذلك على الرغم من أنه لم يحصل على الدكتوراه بإشراف طه حسين، خصوصًا بعد أن تخرّج في قسم اللغة العربية الذي تخرجتُ فيه، وكان تخرّجه في عام 1938، وهو العام نفسه الذي تخرّج فيه أستاذي الأهواني. ويبدو أن طه حسين قد تدخّل في تعيين هذين الاثنين في مكتبة جامعة القاهرة، التي ظلا يعملان بها إلى أن فرَّقتهما البعثات التي ذهبا إليها.

 

 

ذهب المرحوم د. الأهواني إلى إسبانيا، حيث أكمل تخصصه في الشعر الإسباني، وأنجز دراسته في الماجستير والدكتوراه حول الأزجال والموشحات الأندلسية، في حين ذهب د. القط إلى جامعة لندن بإنجلترا، حيث انخرط في الدراسة تحت إشراف المستشرق الكبير البروفيسور آرثر جون آربري (المتخصص في شؤون الآداب الشرقية)، وقد تعلَّم القط من أستاذه منهجًا جديدًا في الدراسة، مضيفًا إياه إلى المنهج الآخر الذي كان قد استلهمه من أستاذه الأقدم طه حسين. 
وقد حصل د. القط على درجة الدكتوراه في موضوع «مفهوم الشعر عند العرب كما يتمثّل في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري». وأسعدني الحظ بالاطلاع على النص الإنجليزي لهذه الرسالة، فوجدتُ فيها نوعًا من تفتُّح الوعي الاستثنائي لمن هو في عمره، كما وجدت فيها محاولة لتأسيس نظرة جديدة لتراثنا النقدي بشكل لا يتجاهل المؤثرات الاجتماعية التي تخللت ذلك النقد وجددت مساره. وإن لم تخُني الذاكرة فقد ترجم المرحوم د. القط بعض فصول هذه الرسالة إلى اللغة العربية ونشرها في كتاب مُهدى إلى طه حسين بمناسبة عيد ميلاده السبعين.
وبعد أن عاد د. القط من إنجلترا كان من أوائل الذين عملوا في جامعة عين شمس التي تدرج في مناصبها، فترأس قسم اللغة العربية بكلية الآداب، ثم انتخب عميدًا للكلية في عامي 1973 و1974. وبعدها ترك جامعة عين شمس ليعمل رئيسًا لقسم اللغة العربية في كلية آداب جامعة بيروت العربية عام 1975. ومنذ السبعينيات بدأ صوت د. القط يعلو في الحياة الثقافية العربية، وتعددت مقالاته الأدبية والنقدية.

الكتاب الأول
أذكر أن الكتاب الأول الذي قرأتُه له كان «في الأدب المصري المعاصر»، وفيه تحدّث عن «البطل الإيجابي» في الرواية المصرية، وقدَّم نماذج من روايات يوسف السباعي ونجيب محفوظ. وأذكر أن بعض ما كتبه عن السباعي قد أغضبه، وهو الذي كان يعد نفسه الممثل الأدبي لثورة يوليو 1952، خصوصًا بعد أن أصبح الأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون في ذلك الوقت، وهو المجلس الذي سرعان ما تغيّر اسمه بعد انتهاء عصـر الرئيس عبدالناصر إلى المجلس الأعلى للثقافة. وبعد أن صدر كتاب «في الأدب المصري المعاصر» وقرأه الناس وتنوَّعت آراؤهم فيه، بدأ د. القط يواصل دراساته النقدية المختلفة بين الستينيات والسبعينيات، وكان ينشرها في المجلات الأدبية البارزة آنذاك مثل «المجلة» و«الآداب البيروتية»، وغيرهما من المجلات المشابهة.
ولحُسن الحظ كان د. القط شاعرًا يمكن أن نحسبه على شعراء المدرسة الرومانسية. وقد جمع شعره وأصدره في ديوان اسمه «ذكريات شباب»، أذكر أنني اطلعتُ عليه في طبعة دار المعارف. وبعد هذا الديوان قرأت كتابيه «في الأدب العربي المعاصر»، و«في الأدب العربي الحديث»، ثم كتابه المتأخر «الاتجاه الوجداني في الشعر العربي»، وهو أفضل كتاب قرأته عن شعراء الحركة الرومانسية في الأدب العربي. ويرجع سر تميّز هذا الكتاب في تقديري إلى أن د. القط كان في أعماقه شاعرًا رومانسيًّا، ومن ثم كان من الطبيعي أن يتحد وجدانيًّا مع الشعراء الذين كتب عنهم في الدائرة التي سمّاها «دائرة الوجدان»، التي فضَّلها على تسمية «الدائرة الرومانسية». ولا أزال أرجع إلى ذلك الكتاب على وجه التحديد إذا اقتضى مني الأمر مراجعة لشعر بعض الشعراء الرومانسيين، خصوصًا من وجهة نظر ناقد يؤمن بالوجدانية، ومن ثم يندرج نقديًّا ضمن من أُطلق عليهم «نقاد نظرية التعبير».

الجمعية الأدبية
استمعت إلى د. القط يتحدث في المجالس الثقافية والمنتديات، لكن لم يسعدني الحظ بالاستماع إليه في الندوات الأدبية الشهيرة التي كانت تقام على مقهى عبدالله بمحافظة الجيزة في الخمسينيات، وقد كان ذلك المقهى من بين أهم منتديات القاهرة ومقاهيها الثقافية الشهيرة، وكان من بين أشهر رواده أحمد عبدالمعطي حجازي، ورجاء النقاش، وأنور المعداوي، ومحمود السعدني، وزكريا الحجاوي، ولويس عوض، ومحمد مندور، وأحمد عباس صالح، وغيرهم من الذين أسقطهم الزمن من ذاكرتي. وعلى كل حال فأنا لم أكن قد جئتُ إلى القاهرة في الخمسينيات، فأنا لم أدخل الجامعة إلا مع مطلع الستينيات، وكان المقهى قد أصبح في الذاكرة الثقافية العامة، خصوصًا بعد أن تصدَّر مقهى ريش المشهد، وأصبح هو المكان المركزي الذي يلتقي فيه أدباء القاهرة بالشبان الطامحين الذين جاؤوا من الأقاليم أمثالي، وكان مقهى ريش في الستينيات يتجاور مع مقهى إيزافيتش بميدان التحرير، وتوزَّع كبار الأدباء بين هذين المقهيين، وذلك طوال فترة الستينيات.
أما بعد السبعينيات فقد اتسع الأمر، وأصبحت المنتديات الأدبية أكثر اتساعًا، وأصبحت ألتقي د. القط في منتديات الجمعية الأدبية المصرية، التي أصبحتُ عضوًا من صغار أعضائها ومنتسبًا إلى أساتذتها الكبار الذين كان منهم صلاح عبدالصبور، وفاروق خورشيد، وعبدالرحمن فهمي (كاتب الرواية)، ومحمود ذهني، وحسين نصار، وغيرهم من كبار المثقفين الذين تخرجوا في آداب القاهرة. وأصبحت الجمعية الأدبية المصرية مركزًا مرموقًا أستمتع فيه بلقاء د. القط، الذي أُعجب بمحاولاتي الباكرة في النقد الأدبي، الأمر الذي وصل بيننا إلى نوعٍ من الصداقة والأستاذية والتلمذة في الوقت نفسه. وكان لقائي بالدكتور القط يتكرر مرة كل أسبوع؛ لأننا كنا نعتبره شيخًا من شيوخ الجمعية الأدبية المصرية. وما أكثر النقاشات التي كانت تدور في مقر الجمعية، وقد كان لصوت د. القط وزن وأهمية بين الأصوات المتعددة لأعضاء الجمعية. 

زميل أصغر
هكذا ازدادت صلتي به عُمقًا، نقلتني من مرتبة التلميذ إلى مرتبة الزميل الأصغر في الحياة الأكاديمية، أو الابن في الرعاية الأدبية. وما أكثر ما ناقشتُ د. القط في موضوعات الحياة الأدبية المختلفة، وما أكثر ما كنتُ أختلف معه في طريقة التفكير وفي الوعي الأدبي على السواء. فقد كنتُ بحكم زمني أقرب إلى «الحداثة»، وكان هو بحكم زمنه أقرب إلى «الواقعية» ببطلها الإيجابي وإلى الشعر الرومانسي.
ومضت بنا السنوات إلى أن وصلنا إلى الثمانينيات، وأصدرنا مجلة فصول أول مجلة للنقد الأدبي بمعناه الحقيقي في العالم العربي. وكان من الطبيعي أن نطلب من د. القط إعداد مقال في هذه المجلة. وأذكر أنني سألته أن يكون مقاله عن «النقد العربي القديم والمنهجية»، وبالفعل كتبه وقد نشرناه عام 1983 ضمن أعداد مجلة فصول، وأذكر أننا تحادثنا طويلًا حول ذلك المقال. ويبدو أن تداعي الذكريات قد دفعني إلى أن أَعبرَ على الأشياء، فلا أزال أذكر أنه عندما اقتربتُ من انتهاء أطروحتي للدكتوراه، وكانت عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي» سألتني أستاذتي د. سهير القلماوي، المشرفة على الرسالة، عمّن أُفضّل أن يكونوا مناقشين لي في الرسالة، أنني اخترت من خارج جامعة القاهرة، د. القط من جامعة عين شمس الذي كان سعيدًا بالمناقـــشة، والتي واصل فيها مشاكســـاته الأبوية لــــي، وواصلتُ أنا مشاغباتي المُعتادة معه. ولم أستــــــــغرب عنــدما عرفــت، رغم عنف النقاش - أحيانًا - في المناقشة، أنه سيقترح منحي أعلى درجة علمية. والحق أنني كنتُ من جيل تتلمذ على جيل طه حسين وهو منهم، ولذلك كنت أُكنّ له الاحترام نفسه الذي كنت أكنّه لعبدالعزيز الأهواني ولسهير القلماوي. فقد كان الرجل جديرًا حقًّا بكل احترام.

عدو قصيدة النثر
كنتُ أرى أستاذي د. القط في المجلس الأعلى للثقافة كثيرًا، بحكم أنه كان مقرر لجنة الشعر في المجلس، وما أكثر ما كنتُ أُشاكسه في موقفه من قصيدة النثر. فقد كان يرفض تلك القصيدة كلية، ولا يتسامح في عدّها شعرًا؛ فالشّعر عنده يخرج من باب الشعر إذا خرج من دائرة الوزن والقافية، والدليل على ذلك شعره هو نفسه. وحتى عندما قرر في نهاية حياته أن يكتب قصيدة عامية أو نوعًا من الأزجال للطرافة أو الاستظراف، فقد كان يحرص على الوزن والتقفية، ولذلك ظل عدوًّا لقصيدة النثر لا يتمتع حتى بحسّ التسامح الذي كان يتمتع به طه حسين في هذا الجانب، وربما كان السبب في ذلك هو ثقافة طه حسين الفرنسية التي كانت تعترف بقصيدة النثر؛ لأنها قصيدة معترف بها لدى كبار الشعراء الفرنسيين الذين كانوا يكتبونها، بل إن أعظم كتاب كُتِبَ عنها ذلك الذي كتبته سوزان برنار بعنوان «قصيدة النثر» (ترجمة راوية صادق، ومراجعة وتقديم زوجها الأستاذ رفعت سلام). وقد ظل د. القط مُقررًا للجنة الشعر، ولم يَدخلُ في هذه اللجنة شاعر من شعراء قصيدة النثر أو حتى شاعرة. والأطرف من ذلك أن لجنة الشعر رفضت حتى أن تُقيم حلقة نقاشية حول هذه القصيدة، مع أنها كانت قد أصبحت واقعًا ملموسًا وظاهرة مؤثرة لشعراء كبار على امتداد العالم العربي كله.
ولا أزال أعتقد أن موقف د. القط كان مُحافظًا فيما يتصل بدرجات التجديد في الشعر, فالتجديد عنده يتوقف مع شعر صلاح عبدالصبور وجيله، أما الأجيال التي جاءت بعد الثمانينيات فلم يفتح لها الباب إلا بعد أن تولى رئاسة تحرير مجلة إبداع لينشر إبداعهم الحداثي في الشعر بوصفه نوعًا من التجارب الجديدة. وكان هذا شيئًا نشكره عليه ونُقدّره له، وهو أمر يدل على أنه لم يكن محافظًا على نحو جامد، مثل غيره من النقاد الجامدين. وقد كانت مرونته النقدية تسمح له حتى بالاعتراف بوجود من يختلف معهم ومع مذاهبهم الأدبية اختلافًا جذريًّا، ولذلك أذكر حدبه على شعراء السبعينيات، خصوصًا في مجلة إبداع، وتحلّق هؤلاء الشعراء حوله ليقرأ لهم قصائدهم، وصبره عليهم وهم يحاجّونه فيما كان هو يرفضه بسماحة صدر وحنو أب وأستاذ في الوقت نفسـه.

أجيال مختلفة
مـــن حسـن المصادفات أن د. القط كان يسكن في الدقي في مطلع الشارع الذي كان ينتهي ببيتي، وكنا نتبادل الاتصالات الهاتفية، وكنتُ أراه أحيانًا في الطريق إلى منزلي, صاعدًا أو هابطًا من منزله.
أما موقفه الرسمي من قصيدة النثر فقد نشره في دراسة مطولة نشرت في كتاب يضم أعمال الندوة الأدبية لجائزة الشاعر محمد حسن فقي عام 1996. ولا أدري هل من اللياقة أن أقول إنني قد قرأتُ تلك الدراسة وعاتبته عليها، وأحمد له أنه كان حانيًا في تقبُّل عنف رفضي لتلك الدراسة، وأنه ختم المناقشة معي بقوله: «يا دكتور جابر، لا تنسَ أننا من أجيال مختلفة، وينبغي أن نختلف في أذواقنا». وقد أخرستني هذه الجملة، ومنعتني من الاسترسال في حماستي في نقد تلك الدراسة المطوَّلة الرافضة لقصيدة النثر.
والحق أن ما يحسب للدكتور القط ليس كُتبه الكبيرة المؤسسة، مثل «الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر» فحسب، بل يُحسب له أيضًا أنه كان ناقدًا متعدد الجوانب. أذكر أنني حصلت على منحة من معهد الدراسات العربية عام 1966، ففوجئتُ به يقوم بتدريس الأدب المسرحي لي، وكان من حظي أنني استمعتُ إليه في تلك المحاضرات التي حاول فيها أن يُعلمنا فن المسرح ونظرياته. ولا أزال أذكر تحليله الرائع لمسرحية «بيت الدُّمـية» لـ «أبسن»، وكان يتوقف معنا على المفردات المختصة بالأسماء أحيانًا، ومنها مثلًا ما كان ينادي به البطـل - تدليلًا - زوجه نورا حينما يقـــول لها يا قطيطتي My Kitten».
وقد استمتعنا معه نحن الطلاب في هذا الزمن البعيد جدًّا الذي لم أتذكره إلا الآن، فكأنني تذكرتُ به ذكرى بعيدة مُفرحة.

منح خاصة
انتهى الفصل الدراسي وأنا لا أزال مُتأثرًا إلى اليوم ومتذكرًا للعبارات التي كان يستخدمها ذلك الأستاذ الجليل في قاعة معهد الدراسات والبحوث العربية، ذلك المعهد الذي كان يعطي منحًا خاصة في منتصف الستينيات لأوائل خريجي الجامعات المصرية والعربية، وكنتُ واحدًا منهم. وأغلب الظن أن تلك المحاضرات عن المسرح هي التي عمَّقت في وعيي النقدي أن الناقد الحقيقي هو الذي لا يكتفي بمجال واحد في مجال التطبيق، وأن عليه أن ينتقل من مجالٍ إلى مجال، ولهذا كان د. القط ناقدًا للشّعر بالدرجة الأولى، وناقدًا للرواية بالدرجة الثانية، وناقدًا للمسرح في الدائرة الثالثة من دائرة اهتماماته. 
ومما له دلالة في هذا السياق أنه لاحظ في السنوات الأخيرة من حياته، انتشار المسلسلات التلفزيونية ونجاحها في اكتساب جمهور جديد، خصوصًا في الحالات المتميزة التي كانت تجسّدها المسلسلات التي كتبها أمثال أسامة أنور عكاشة، ووحيد حامد، ولا أعرف هل جُمعت مقالاته في نقد المسلسلات أم لم تُجمع، لكن من المؤكد أنه حين نؤرخ للنقد المعاصر فسوف نضع مقالات د. القط عن المسلسلات التلفزيونية في مقدمة المقالات النقدية التي رادت ذلك الفن، وأفسحت له مكانًا في خريطة النقد التطبيقي.
ولا يمكن لأحد أن يتحدث عن د. القط وأستاذيته أن ينسى ترجماته عن الإنجليزية، فلقد ترجم ثلاث مسرحيات لشكسبير هي «هاملت»، و«ريتشارد الثالث»، و«بريكليس». كما ترجم رواية الكاتب الأمريكي ثورنتون وايلدر «جسر سان لويس راي»، فضلًا عن مسرحية «صيف ودخان» للكاتب الأمريكي تنيسي ويليامز، و«حكايات إيفان بلكين»، وهي مجموعة قصص قصيرة للشاعر الروسي بوشكين، فضلًا عن مسرحية الابن الضال للكاتب الأمريكي ريتشارد سون. أما عمله النقدي حقًّا فهو ترجمته لكتاب عن الكاتب الروسي الكبير تشيخوف، كتبه الناقد الروسي الأكبر برميلوف بعنوان «تشيخوف... حياته وفنه»، وكانت هذه الترجمة بالاشتراك مع الأستاذ فؤاد كامل. وأظن أنني عندما أتأمل في ذاكرتي، وأستعيد تكوُّن أفكاري الأولى عن إبداع تشيخوف، أرى أن الكثير من هذه الأفكار مأخوذ من هذا الكتاب الجميل الذي لم يفقد قيمته في نظري بوصفه واحدًا من أهم المداخل النقدية إلى عالم تشيخوف الذي أراه الأعظم بين كتّاب القصة القصيرة في الأدب الروسي.

حياة حافلة
والحق أن د. القط كان واحدًا من أهم الأساتذة الذين جاؤوا بعد جيل طه حسين، وربما كان هو أكثرهم - بعــــد أساتذتي المباشرين - تأثيرًا في نفسي، رغم كوني من المتعصبين لقسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة. وكنتُ أعلم أنه من قسمي في الأصل، ومع ذلك فإن السنوات الطويلة التي قضاها مؤسّسًا ورئيسًا لقسم اللغة العربية وعميدًا لآداب عين شمس ثم آداب بيروت، لم تجعلني أضعه في أساتذتي المباشرين الذين تلقيت العلم على أيديهم مباشرة، وتعلمت النقد منهم في مدرجات قسم اللغة العربية إلى أن كبرتُ ولحقتُ بهم، وأصبحتُ واحدًا من الجيل الذين أسهموا في صُنعه. والحق أن د. القط كان أقرب نقاد جيل تلامذة طه حسين إلى نفسي، وأكثرهم قُربًا منّي، فقد كانت ثقافته القديمة توازي ثقافته الحديثة، ووعيه التراثي يوازي وعيه بالأدب العالمي الحديث الذي انفتح عليه من نافذة اللغة الإنجليزية التي كان يتقنها كل الإتقان، والتي جعلت منه مُترجمًا يُشار إليه بالبنان.
وبالتأكيد كان د. القط أكثر أبناء جيله نشاطًا وعملًا وتأثيرًا في الحياة الثقافية إلى أن توفاه الله عام 2002، بعد أن عاش حياة حافلة جرَّب فيها كتابة  شعر الفصحى فترك ديوان «ذكريات شباب»، وانتقل بين قضايا الأدب العربي من أقدم عصوره إلى أحدث عصوره، وعلَّم جيلًا كنتُ أنا من صغار فئاته، وتنقَّل بين المناصب الأكاديمية، كما تنقَّل بين رئاسة تحرير مجلات أدبية ثقافية مشهورة هي مجلة المجلة، ومجلة الشعر، ومجلة المسرح، ومجلة إبداع، التي انتقل أثناء رئاسته لتحريرها إلى رحمة الله تعالى، تاركًا لنا ما يمكن أن نفخر به أستاذًا ومعلِّمًا وصديًقا وأبًا مُتسامحًا مع أولاده في الوقت نفسه، فقد كان - يرحمه الله - على درجة عالية من الانفتاح الوجداني والاجتماعي والثقافي. وأظن أن هذا الانفتاح هو الذي جعله يتزوج من سيدة نمساوية الأصل، هي أم ولده وابنته اللذينِ شاركتُهما ألَم فقده، بوصفنا بعض أُسرته الكبيرة ومن أبنائه الأعزاء الذين كانوا يتزايدون ويوجدون على امتداد الأمة العربية بأسرها. رحمه الله، فقد كان أكثر أساتذتي غير المباشرين الذين أسهموا في تكويني خارج دائرة أساتذتي المباشرين ■