في التجربة الصينية

في التجربة الصينية

في محاضراته التي ألقاها في «كوليج دوفرانس» منتصف تسعينيات القرن المنصرم، ونشرت لاحقًا في كتاب بعنوان «المعجزة في الاقتصاد»، استشهد آلان بيرفيت، في آخر محاضرة له، بمقولة عالم الاجتماع ماكس فيبر، الذي قال فيها «سيكون الصينيون، في كل الاحتمالات، قادرين مثل اليابانيين، أو أكثر منهم، على استيعاب الرأسمالية، بالشكل الذي تطورت به اقتصاديًا وتكنولوجيًا في عصر الحضارة الحديثة». وتحققت، بالفعل، نبوءة فيبر، فالثورة عندما قامت في عام 1949 بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، كانت الصين دولة إقطاعية زراعية بالدرجة الأولى، ويوجد بها بعض المدن والجيوب الصناعية المحدودة، واستطاعت بعد سبعين عامًا أن تصبح الاقتصاد الثاني في العالم، وهي في طريقها لأن تصبح الاقتصاد الأول فيه عام 2030.

تغلبت الصين على العديد من القلاقل الداخلية والمشكلات الخارجية في عالم الحرب الباردة، وشقت طريقها نحو التحديث والصناعة خلال ما يقارب ثلاثة عقود من ثورتها، إلى أن أصبحت العلامة الأبرز دوليًا في عصر العولمة.
المسيرة التي تطورت خلالها أوربا، والعالم الغربي بشكل عام لاحقًا، وقادت للحضارة المدنية الحديثة، سارت في طرق معيّنة، استطاع فيها الإنسان الأوربي أن ينجز تحولات شاملة، طالت الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية، حيث برزت الرأسمالية كنظام اقتصادي، واستطاعت أن توظف العلم، والتكنولوجيا لاحقًا، في عملية الإنتاج الصناعي، وتعززت سياسيًا أنظمة الحكم العلمانية، التي تحول معظمها لاحقًا إلى أنظمة ديمقراطية كرست التعددية والحريات بمختلف أنماطها. وعلى الجانب الاجتماعي برزت طبقات اجتماعية جديدة نتيجة للتحولات الاقتصادية، وتم تحديث الكثير من القيم والكيانات الاجتماعية، وبرزت الثقافة المدنية القائمة على الفرد وإبداعاته، بما فيها الثقافة المدنية نفسها، والأفكار والمذاهب الفلسفية المختلفة.
لقد استطاعت الشعوب الأوربية، رغم الأزمات والصراعات والحروب المختلفة التي مرت بها، أن تنجز نماذج وكيانات سياسية تحمل في داخلها آليات التطور والتجديد، الأمر الذي أوصلها إلى ذروة التطور العلمي والحضاري.  وهنا أصبحت هذه الكيانات عبارة عن النماذج التي تسعى إلى محاكاتها عديد من شعوب المعمورة، في تطوير مجتمعاتها ودولها، وبشكل خاص في مرحلة العولمة. فالنموذج الديمقراطي التداولي للسلطة القائم على التعددية والحريات وحقوق الإنسان والمساواة وبناء دولة المؤسسات، مثَّل ضمانة للاستقرار وخلق حالة من الرفاه للغالبية الساحقة من المواطنين، بل وتحقق من خلاله التقدم العلمي والتكنولوجي، الذي ميز الدول الرأسمالية الغربية وجعلها في صدارة العالم خلال معظم القرن العشرين.

نهج محايد
لكن ما جرى في الصين كان مخالفًا لذلك، فعندما قامت الثورة الصينية في عام 1949 كانت غالبية الشعب الصيني من الفلاحين وتسود الأمية قطاعات كبيرة منهم، وكان مستوى التعليم متواضعًا وكذلك الإنتاج الصناعي، ووجد الحزب الشيوعي نفسه آنذاك أمام نموذجين متصارعين: الرأسمالي الغربي والاشتراكي الشرقي، فأخذ خطًا مستقلًا، وانتهج نهجًا محايدًا في سياسته الخارجية، واستفاد من إغراءات الطرفين لاستمالته، وشرع في التحديث التدريجي للصين.
ومع رحيل القيادة الصينية التقليدية للحزب الشيوعي، ومجيء بعض الإصلاحيين والأخذ ببعض الأساليب الرأسمالية، حققت الصين تقدمًا اقتصاديًا وصناعيًا وعلميًا مهّد الطريق للوصول للأوضاع الحالية. فطريقة أو نهج التقدم الذي جرى في الصين لا يناظر ما جرى في العالم الغربي، بل وحتى النماذج الشرق آسيوية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية. فالصين ليست دولة ديمقراطية تتداول فيها السلطة، وليست هناك تعددية فكرية أو سياسية، بل دولة ذات حزب واحد وحُكم مركزي، والثقافة السائدة فيها ليست ذات طابع فردي، بل تأخذ في شكلها الغالب الطابع الجماعي، النابع من الموروث الثقافي الصيني القديم، علاوة على الفكر الاشتراكي ذي الطابع الجماعي أيضًا. وعلى الرغم من ذلك نجحت الصين في إحداث تطور شامل طال مظاهر حياة المجتمع الصيني، ونقله من الإقطاع إلى نظام آخر كان يطلق عليه الماركسيون سابقًا، رأسمالية الدولة، حيث أبقى الحزب على مظاهر اشتراكية عدة في مناحي الحياة، لكن من الناحية الاقتصادية كان الوضع مختلفًا.

معدلات نمو ثابتة
مع دخول العولمة وتطبيق نموذج اقتصاد السوق، وخصخصة القطاعات العامة للدولة وتحرير المؤسسات الاقتصادية والشركات من القيود السياسية التي اجتاحت دول العالم، ظلت الصين محتفظة بأسلوبها الاقتصادي الذي يعتمد إلى حد كبير، على الاقتصاد المخطط والمركزي، واستمرت بتحقيق معدلات نمو اقتصادية ثابتة، حتى أثناء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم عام 2008، ولا تزال تحقق معدلات نمو حتى يومنا هذا.
من جانب آخر، لم تتجاوز التجربة الصينية مسيرة الرأسمالية الغربية وتطورها فقط، بل حتى تجربة الدول الاشتراكية كالاتحاد السوفييتي وحلفائه، تلك التجربة التي انهارت في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي. إذ باستثناء الاتحاد السوفييتي، تحولت أنظمة أوربا الشرقية ودول أخرى في العالم إلى النظام الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها الصين، لكن تلك الدول انهارت وتحولت أغلبيتها إلى الأخذ بالنظام الرأسمالي الغربي الديمقراطي، بينما نجحت الصين إلى حد كبير في تجاوز الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة الاشتراكية السابقة، وحققت استمرارية وتطورًا كبيرًا. إن التجربة الصينية تسير بالفعل عكس مسيرة التاريخ، تلك المسيرة التي شكلت الحضارة المدنية الحديثة والمعاصرة بقيمها وأساليبها وفكرها ونتاجها العلمي والمعرفي الضخم، إذ تقدّم تلك التجربة نموذجًا مختلفًا استطاع في فترة وجيزة، أن يسابق الزمن ويقترب من الزعامة الاقتصادية للعالم... فما العوامل التي أدت إلى ذلك؟

الثقافة العملية
المدخل لفهم ما يجري في الصين هو البحث في طبيعة الثقافة الصينية التقليدية والمعتقدات التي نتجت عنها تاريخيًا، فالثقافة السائدة في الصين، وكذلك لدى معظم شعوب شرق آسيا، ذات طابع عملي انعكس على واقع وحياة وتفكير الشعوب الآسيوية.
ولعل الثقافة السائدة في مجتمع ما تؤدي دورًا مهمًا في التعامل مع الأفكار والنظريات القادمة من ثقافات وأمم أخرى، إذ يكون لديها القدرة على تطويع الأفكار أو الفكر حسب قيمها وممارساتها، والقدرة على صبغ هذه الأفكار بطابعها الثقافي. 
وربما يعود ذلك إلى القوة التي تتمتع بها الثقافة وبالذات العملية، وذلك للواقعية التي تتسم بها، إضافة إلى ممارسة قيمها بشكل يومي في مقابل الأفكار النظرية والأيديولوجية، التي تتبع منظومة عقلية مجردة، لا يمكن في أغلب الأحيان تطبيقها بحذافيرها حتى في المجتمعات التي ظهرت فيها. 

نموذج فريد
وقد نجحت شعوب شرق آسيا في استيعاب جوانب عدة من الأفكار والأيديولوجيات القادمة لها من الغرب، بل وتم تطويعها حسب ثقافاتها، وقد قدّم الصينيون نموذجًا فريدًا في التعامل مع الأيديولوجيا الماركسية عندما أخضعوها لثقافتهم العملية، وطبّقوا ما يمكن تطبيقه منها، واستبعدوا ما لا يمكن تطبيقه، حيث يظل الواقع والسلوك العملي هما المحك في تطبيق أي أفكار من عدمها.
إذ إن الواقع يحتوي على الجزئيات المدركة بالحواس، ولا يتضمن الأفكار الكلية المجردة التي يبقى مكانها العقل، ومسألة الربط بين الأشياء والعناصر الواقعية لا تتم إلا بشكل واقعي، في حين يتم الربط في المصطلحات النظرية داخل العقل.
يقود ذلك إلى ما تعارض في العديد من الأحيان بين ما هو واقعي وما هو عقلي، بمعنى أن الأيديولوجيات يغلب عليها الطابع المثالي، في البديل الذي تقدمه، والماركسية واحدة من هذه الأيديولوجيات، التي كانت تعد من يعتنقها بعدالة مثالية وبمجتمع خال من المشكلات والاستغلال والطبقية عندما يتم تطبيقها.
كما أن الطابع الثقافي العملي يتناقض مع ما هو نظري ومجرد وثابت، إذ كان المنظّرون الماركسيون التقليديون يضعون ثوابت ومسلّمات تحولت، إن جاز التعبير، إلى أصنام فكرية لا تُمسّ، وأصبحت هذه الثوابت والمسلمات محور تنظيراتهم الفكرية، وأخذوا يطوعون الواقع والعالم بناءً عليها. وقد اصطدم ذلك مع الثقافة السائدة في الصين، وهي التي طوعت الأفكار الاشتراكية وتعاملت معها بطريقة واقعية، ولم ينظر لها العديد من المنظّرين الصينيين نظرة ثبات وجمود. 
فالفهم الذي كان يقدّمه المنظرون الروس تحديدًا للفكر الاشتراكي، الذي اتصف بالجمود والعقائدية والطابع التنظيري، كان انعكاسًا لثقافة التسلط والخضوع في روسيا، التي تحولت مباشرة من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع اشتراكي، دون المرور بالمرحلة الرأسمالية حسب ما تطرحه مراحل التطور التاريخي الماركسية. وانعكس هذا الفهم بطبيعة الحال على الأحزاب الاشتراكية، التي التحقت بالمعسكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية.
هنالك مسألة أخرى مهمة تتعلق بدور الإنسان في الفكر الماركسي الذي تم تهميشه تقريبًا، في الفهم السوفييتي، عبر قوانين التطور التاريخي في الشق الفلسفي، الذي عُرف بـ «المادية الجدلية»، وأدى إلى طرح الحتمية التاريخية المتعلقة بانتصار الطبقة العاملة على الرأسمالية، وبناء المجتمع الاشتراكي في شتى أنحاء العالم.

تفسير مادي
هذا التصور همَّش دور الإنسان في المجتمع وأعطيت الجوانب النظرية والآلية من التفسير المادي الأولوية على حسابه. لكن الأمر مختلف في الثقافة العملية، فهي تقوم على الجانب العملي الذي يمارسه الإنسان، بمعنى أن الإنسان هو الفاعل الرئيس فيها، وليست الطبيعة وقوانينها، أو قوانين اجتماعية مفترضة شبيهة بالقوانين العلمية الفيزيائية.
وهو الأمر الذي يعطي الإنسان ونشاطه وممارساته، اليد الطولي في بناء مجتمعه وتطوره، وينعكس في الوقت نفسه على جوانب عدة من تفكيره، كما يساعد على الإبداع والتجديد وعدم الركون إلى أفكار نظرية أيديولوجية، يوهم الإنسان نفسه بها وينتظر الفرج منها.
وتعمق الثقافة العملية أيضًا من فهم الإنسان لواقعه، وكيفية حل مشكلاته بطرق عملية، وإذا لم تصلح طريقة ما يبدأ بالبحث عن غيرها وهكذا... ويعني هذا أنها تعمل على خلق عقلية منفتحة على احتمالات عدة، وتساعد في البحث عمّا هو صائب، ولا تكتفي بما تصل إليه، بل تؤسس عليه وتبحث عما هو جديد، وبالتالي يصبح التجديد والبحث مسألة مستمرة وجزءاً مهماً من الثقافة السائدة في المجتمع. وقد انعكس ذلك على فهم الصينيين للأيديولوجيا، إذ كان فهمًا عقلانيًا ومنفتحًا، ولم يكن عقائديا جامدًا أو إقصائيًا. فخلال الصراع الأيديولوجي العالمي في الحرب الباردة، وقفت الصين على الحياد، واحتفظت بعلاقات مع الطرفين، ولم تكن نظرتها للعالم الغربي إقصائية، مثلما كانت حال المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، بل استطاعت أن تقيم علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية، مما ساهم في تطوير اقتصادها وإحداث تحولات في طريقة الإنتاج الاقتصادي الصناعي، وهو ما مهّد لخروجها من أسْر النظام الاقطاعي.

الإرث العقائدي والأيديولوجيا
مرت على الصينيين القدماء معتقدات عدة، كان أبرزها تعاليم كونفوشيوس، والطاو، ولاحقًا الكونفوشيوسية الجديدة، وجسدت هذه المعتقدات - وعلى وجه الخصوص الكونفوشيوسية - أوجهاً كثيرة من الثقافة الصينية القديمة، إذ كانت أفكار كونفوشيوس جماعية الطابع، وتحثّ على العمل والتطبيق العملي للقيم الأخلاقية، وتعكس الثقافة العملية الروح الجماعية، فالفرد لا يعمل بمفرده، بل مع أقرانه في مواجهة ظروف الحياة ومخاطرها، وتأمين لقمة عيشه.
لقد فرض المصير المشترك قوانينه على الأفراد لخلق منظومة قيمية اجتماعية وأخلاقية جماعية، مثَّلت الأعراف والقوانين التي نظمت حياتهم. ولعل التركيز على الجانب الاجتماعي يعني في الوقت نفسه، التركيز على الإنسان في مقابل عدم التركيز كثيرًا على الطبيعة، إذ لم تحظ مسألة فهم العالم وتفسيره بأهمية كبرى، ولم تكن نقطة الانطلاق الأولى عند كونفوشيوس، مثلما حدث في الفكر اليوناني، عندما أمضى الفلاسفة اليونانيون الأوائل ثلاثة قرون تقريبًا، يجادلون حول أصل الكون والإنسان والحياة، وانتقلوا بعد ذلك إلى الإنسان على يد سقراط.

انسجام مع الطبيعة
إن تركيز تعاليم كونفوشيوس على الإنسان والمجتمع، دفعه حال غيره من المصلحين الاجتماعيين الشرقيين، إلى التطلع لخلق حالة من الانسجام مع الطبيعة، لا محاولة تفسيرها وتطويعها في خدمة أفكاره، ونتجت عن ذلك آثار إيجابية على العقل الصيني، لأن الرؤية الثابتة للطبيعة كانت حتمًا ستؤثر على منظومة التفكير والقيم الاجتماعية وتصيبها بالجمود، مما سيحوِّل أفكار كونفوشيوس إلى أفكار شمولية كان يمكنها أن تحدّ من حرية العقل وتغلّب عليه الطابع النظري لا العملي، وهذا ما يتناقض مع الواقع العملي والثقافي للمجتمع الصيني. وقد انعكس الطابع العملي للثقافة الصينية على معظم أفكار كونفوشيوس، ومنها تصوره للحقيقة التي لا تحفظ ولا تلقن، بل تتحقق عمليًا، ومعنى التعلم لا بدّ أن ينسجم مع التطبيق العملي للأفكار، وأن يحظى التعلم والتفكير، أي إعمال العقل، مكانًا مهمًا ليس لديه فحسب، بل في مجمل الفكر الصيني القديم بشكل عام. 
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطاوية، نسبة إلى طاو، وهي التي جاءت بعد الكونفوشيوسية في الصين القديمة، قد ركزت في أجزاء عدة منها على الكون، ودعت إلى الوحدة بين الكون والإنسان، لكنها كانت تحثّ أيضًا على الانسجام مع الطبيعة، وكان هذا المعتقد أقل انتشارًا من الكونفوشيوسية. وعلى الرغم من وجود المتشددين في الحزب الشيوعي الصيني، في العقود الأولى التي تلت الثورة ومع أطروحات الثورة الثقافية، فإن عملية الإصلاح التي بدأت في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، أصبحت في حاجة إلى فهم جديد للفكر الاشتراكي، إضافة إلى إعادة النظر أيضًا في العلاقة مع العالم الخارجي. وهو الأمر الذي مهّد لإحياء جوانب عدة من الإرث الثقافي الصيني، الذي ساهم في إعادة صياغة الفكر ورؤية الحزب الشيوعي الصيني، بل وفي رؤيته لعلاقة الحزب بالدولة والمجتمع.

تراجُع عن الأدلجة
إن العامل الأبرز في نجاح التجربة الصينية هو تراجع الأدلجة من جهة، وتخطي الفهم العقائدي الجامد للفكر الماركسي من جهة أخرى. فعلى الرغم من حكم حزب مؤدلج للصين، فإن ذلك لم يؤد إلى أدلجة الدولة الصينية. فبالمقارنة مع التجربة السوفييتية سنعاين أنها قد أدلجت الدولة والاقتصاد والعلم والمعرفة والفكر والفلسفة... إلخ، لكن ذلك لم يحدث في الصين، إذ مع معاينة عدد من الجوانب سيتضح أن الصينيين قد استفادوا من الأساليب الرأسمالية في الاقتصاد، بل وتبنّوها متى كانت هناك حاجة إليها. فالشركات الغربية الكبرى التي نقلت مصانعها إلى الصين، لم تعمل وفق نظام اشتراكي أو شيوعي صارم، بل اتبعت كمًّا من الأساليب الرأسمالية في الإنتاج وتحقيق الأرباح، وتم تكييف ذلك كله مع الاقتصاد الصيني الذي يغلب على جوانب معينة منه الطابع المخطط، وهو ما يدل على أنه لم يكن اقتصادًا اشتراكيًا شموليًا.
ولعل التراجع عن الأدلجة ترك آثارًا على العقل الصيني، الذي أخذ يتعامل مع العالم وتطوراته بشكل عقلاني ومنفتح. فالصينيون لا توجد لديهم نظرة إقصائية، لمن يختلف معهم في العلم والمعرفة أو في الفكر والثقافة، بل اتسم موقفهم من العالم بالإيجابية من حيث تقبّل العلم والمعرفة، كما أنهم لم يقدموا معرفة مؤدلجة تتصادم مع المعرفة الإنسانية، التي يساهم في إنتاجها والاستفادة منها كل شعوب المعمورة.
وهناك عنصر آخر مهم يتعلّق بالإرث العقائدي الصيني، فقد تمت الإشارة الى أن أفكار كونفوشيوس وغيرها، ركزت على الإنسان والمجتمع بالدرجة الأولى، ولم تعط اهتمامًا كبيرًا لماهية الطبيعة أو الوجود، بل كانت تدعو إلى حالة من الانسجام والتناغم معها، فعندما انتقلت المعرفة والعلم الغربي إلى الصين، وغيرها من دول شرق آسيا، لم يحدث تصادم بين المعتقدات السائدة والعلم الغربي، الذي أعاد في عصر النهضة والعصر الحديث، تفسير الطبيعة والكون على أسس علمية مادية، حيث قاد كما هو معروف، العلماء الأوربيون أمثال كوبر نيكوس وجاليليو ونيوتن وغيرهم، عملية التغيير ضد تسلّط الكنيسة الكاثوليكية، وذلك عبر اكتشافاتهم العلمية المناقضة لأطروحات الكنيسة ورؤيتها الكونية. 

طابع ذاتي
استمر الجدال فترة طويلة بين العلماء ورجال الدين المسيحيين، إلى أن تم حسمه في القرن التاسع عشر، بعد ظهور نظرية التطور لدارون. لم يحدث ذلك في الصين، أو الشرق الآسيوي عمومًا، نتيجة للطابع الذاتي للمعتقدات الشرقية وغياب النظرة العقائدية الشمولية للعالم وتفسيره وفقًا لها، فسهل ذلك عملية تقبّل المعرفة والعلم الغربي وانتقالهما.
 فالعلم التجريبي الغربي يتعلق بالجوانب المادية، بينما لا يبحث فيما هو غير مادي من قيم ومفاهيم ومعتقدات وتصورات، وغيرها من جوانب تحملها الذات الإنسانية.
ولعل المسألة الأهم في التجربة الصينية هي تركيزها على بناء الصين فحسب، وعدم الترويج لنظامها الاشتراكي دوليًا، أو محاولة فرضه على العالم، مثلما كانت الحال في الصراع الأيديولوجي أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. فاتسمت نظرة الصين للعالم في علاقتها الدولية، بأنها دولة ليست أيديولوجية، بل ولا تسعى لنشر نموذجها الأيديولوجي السياسي. ومن يلاحظ مواقف الصين الدولية سيجد أنها تتخذ الحياد تجاه الأغلبية الساحقة من القرارات في مجلس الأمن، كما أنها لا تتدخل سياسيًا في شؤون الدول الأخرى، بل أساس علاقاتها اقتصادي وتجاري بالدرجة الأولى، وهو ما يفسر قبولها من الغالبية الساحقة من دول العالم.
إن المزج بين الإرث العملي الثقافي الصيني القديم، والفكر الغربي المدني الحديث، والاستفادة من تجارب الدول والشعوب الأخرى، هما اللذان رسما الخطوط العريضة لنجاح التجربة الصينية في فترة وجيزة، بالمقارنة مع من سبقها من تجارب ودول في عملية التحديث والتطوير، لكن النجاح الأهم ليس في تحقيق التطور في زمن قياسي، بل في استمرار هذه التجربة وتطويرها، وفي كيفية العمل على مواجهة المشكلات والعقبات، التي ستقف في طريقها مستقبلًا، وهذا ما سيضع هذه التجربة على المحك الحقيقي ■