بنية التوازي الدلالي في قصيدة «حارس الفنار»

بنية التوازي الدلالي في قصيدة «حارس الفنار»

يعد‭ ‬البناء‭ ‬الفني‭ ‬للقصيدة‭ ‬هاجس‭ ‬الشاعر‭  ‬الأول،‭ ‬إذ‭ ‬تتجلى‭ ‬براعته‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬نمط‭ ‬بنائي‭ ‬مختلف،‭ ‬يصوغ‭ ‬المتن‭ ‬ضمن‭ ‬آلية‭ ‬مغايرة،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬يجري‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬العناصر‭  ‬الدالة‮»‬‭ ‬في‭ ‬التركيب‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬المداليل‭ ‬أو‭ ‬المعاني‭.‬

وفي‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك‭ ‬تنقسم‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭  ‬إلى‭ ‬رئيسة‭ ‬وثانوية،‭ ‬فأما‭ ‬الأولى‭ ‬فهي‭ ‬مساند‭ ‬البناء‭ ‬الأساس‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تحريكها،‭ ‬وإن‭ ‬حصل‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المتلقي‭ ‬يشـــعر‭  ‬بفراغات‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري،‭ ‬وأما‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬ثانوية‭ ‬فإنها‭ ‬المنطقة‭ ‬الحرة‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬للشاعر‭  ‬أن‭ ‬يتلاعب‭ ‬بها،‭ ‬بالحذف‭ ‬والإضافة‭.‬

تتعاضد‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬لتشكل‭ ‬بنية‭ ‬كاملة،‭ ‬هي‭ ‬القصيدة‭ ‬بصورتها‭ ‬الكلية‭. ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬كيف‭ ‬يتم‭ ‬ترتيب‭ ‬هذه‭ ‬العناصر؟‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭: ‬أين‭ ‬تكمن‭ ‬الجمالية؟‭ ‬وهل‭ ‬يكسب‭ ‬ترتيب‭ ‬العناصر‭ ‬القصيدة‭ ‬شكلها‭ ‬الحيوي،‭ ‬المختلف‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬والسائد؟

ذلك‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬الشهيرة‭ ‬المتداولة‭ ‬لسانيًّا‭.‬

يتمظهر‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الدالة‭ ‬المبنى‭ ‬عبر‭ ‬المتن،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬يجري‭ ‬وفق‭ ‬أنماط‭ ‬تشي‭ ‬بما‭ ‬يراد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مدلولًا،‭ ‬التأخير‭ ‬والتقديم،‭ ‬الفراغات،‭ ‬تأجيل‭ ‬الفواعل‭ ‬أو‭ ‬الأفعال،‭ ‬المضمر‭ ‬اللفظي،‭ ‬القطع‭ ‬المفاجئ،‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يبنى‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬اعتباطيًا‭.‬

قلت‭ ‬إن‭ ‬العناصر‭ ‬في‭ ‬تشكّلها‭ ‬المتنوع‭ ‬تخلق‭ ‬بنى‭ ‬متنوعة،‭ ‬وربما‭ ‬حين‭ ‬يتم‭ ‬التلاعب‭ ‬بعنصر‭ ‬واحد‭ ‬فحسب،‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬نموذج‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬مغايرة،‭ ‬هذه‭ ‬المغايرة‭ ‬هي‭ ‬بؤرة‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬وتجديداتها‭.‬

إن‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم،‭ ‬فيما‭ ‬لو‭ ‬تصفحنا‭ ‬تاريخ‭ ‬الحداثات‭ ‬المتوالية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬هل‭ ‬نجد‭ ‬علاماتها‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬اختيرت‭ ‬بلا‭ ‬قصدية‭ ‬مسبقة؟‭ ‬وهل‭ ‬تصبح‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬رموزًا‭ ‬لحداثة‭ ‬متحولة؟

 

القصيدة‭ ‬الأنموذج

وفي‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬لمحمود‭ ‬البريكان،‭ ‬هي‭ ‬القصيدة‭ ‬الأنموذج‭ ‬لحداثة‭ ‬متحولة‭ ‬سبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬امتلكت‭ ‬سمات‭ ‬وخصائص‭ ‬استحوذت‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬إبان‭ ‬ستينيات‭ ‬وسبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

إن‭ ‬أهم‭ ‬عنصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الزمن‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬بيئتها‭ ‬في‭ ‬استهلالها‭ ‬وخاتمتها،‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬العنصر‭ ‬الدائري‮»‬‭ (‬الروندو‭) ‬الذي‭ ‬يصاغ‭ ‬المبنى‭ ‬في‭ ‬ضوئه‭.‬

يبدأ‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬استهلال‭ ‬القصيدة‭ ‬بـ‭:‬

‮«‬متى‮»‬‭ ‬و«الانتظار‮»‬‭ ‬و«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬آخر‭ ‬الساعات‭ ‬قبل‭ ‬توقف‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير‮»‬‭ ‬و«في‭ ‬أعمق‭ ‬الساعات‭ ‬صمتًا‮»‬‭.‬

يبدو‭ ‬الزمن‭ ‬هنا‭ ‬مستحوذًا‭ ‬على‭ ‬استهلال‭ ‬النص‭ ‬الشعري،‭ ‬بما‭ ‬يوازي‭ ‬ويقابل‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬القصيدة‭:‬

‮«‬الوقت‭ ‬أدرك‮»‬‭ ‬3‭ ‬مرات،‭ ‬و«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬اللحظة‭ ‬العظمى‮»‬،‭ ‬و«الساعة‭ ‬السوداء‭ ‬سوف‭ ‬تشل‮»‬،‭ ‬و«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‮»‬‭ ‬قلق‭ ‬الساعة‭ ‬المتأرجحة‭. ‬هناك‭ ‬يبدو‭ ‬الاستهلال‭ ‬متحركًا‭ ‬أو‭ ‬يكاد‭ ‬في‭ ‬بُعد‭ ‬زمني‭ ‬طويل‭. ‬

وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬الخاتمة‭ ‬ساكنة،‭ ‬مطبقة‭ ‬في‭ ‬اختفاء‭ ‬زمني‭ ‬قصير‭.‬

هذا‭ ‬التقابل‭ ‬قاد‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬إلى‭ ‬اعتباره‭ ‬نصًّا‭ ‬تأمليًّا‭ ‬ضمن‭ ‬مكان‭ ‬افتراضي‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬عوالم‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬رحابة‭ ‬فضائها‭ ‬‮«‬البحر،‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬يصرح‭ ‬بها‭ ‬البريكان‭ ‬منذ‭ ‬الاستهلال‭ ‬الأول‭:‬

‮«‬أوقدت‭ ‬القناديل‭ ‬الصغار

ببقية‭ ‬الزيت‭ ‬المضيء

فهل‭ ‬يطول‭ ‬الانتظار؟‮»‬

نلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬صغر‭ ‬القناديل‭ ‬يوازي‭ ‬قلة‭ ‬الزيت‭ ‬الذي‭ ‬سيضيء‭ ‬أمام‭ ‬طول‭ ‬الزمن‭ ‬الآتي،‭ ‬المعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بأداة‭ ‬الاستفهام‭ ‬‮«‬هل‮»‬،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬البريكان‭ ‬يستخدم‭ ‬‮«‬إنكار‭ ‬العارف‮»‬‭ ‬بلاغيًا،‭ ‬كي‭ ‬يدلل‭ ‬إرصاديًّا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬سيتوقف،‭ ‬مادامت‭ ‬القناديل‭ ‬صغيرة،‭ ‬وهي‭ ‬بالضرورة‭ ‬لا‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬زيت‭ ‬سيمتد‭ ‬نفاده‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬الطويل‭ ‬الآتي‭.‬

‭ ‬القناديل‭ ‬الصغار‭ = ‬بقية‭ ‬الزيت‭ ‬المضيء

 

اللعبة‭ ‬السردية

‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬السردية‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬ثانوية‭ ‬داخل‭ ‬مقطع‭ ‬واحد‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تشكّل‭ ‬العناصر‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬خصائص‭ ‬وسمات‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬سيتناوله‭ ‬الشاعر‭.‬

تبدو‭ ‬العناصر‭ ‬الثانوية‭ ‬فواعل‭ ‬نشطة‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الشاعر،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭: ‬إنها‭ ‬طرائق‭ ‬سردية‭ ‬متحركة‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬الشاعر،‭ ‬والتي‭ ‬تبدأ‭ ‬حكايتها‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬سفينة‭ ‬الأشباح‭ ‬تحدوها‭ ‬الرياح‮»‬‭ ‬

ثم‭ ‬يأتي‭ ‬‮«‬التوصيف‮»‬‭ ‬من‭:‬

‮«‬في‭ ‬آخر‭ ‬الساعات‭ ‬قبل‭ ‬توقف‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير

في‭ ‬أعمق‭ ‬الساعات‭ ‬صمتًا‮»‬‭.‬

حتى‭ ‬يصل‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬القصيدة‭ ‬عند‭:‬

‮«‬سقطت‭ ‬فنارات‭ ‬العوامل‭ ‬دون‭ ‬صوت‭ ‬الرياح‭ ‬

هي‭ ‬بعد‭ ‬سيدة‭ ‬الفراغ‭ ‬وكل‭ ‬متّجه‭ ‬مباح‮»‬‭.‬

حتى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السقوط‭ ‬بدا‭ ‬متجليًّا‭ ‬في‭ ‬استذكار‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬للموتى‭:‬

‮«‬أتذكر‭ ‬الموتى

ولون‭ ‬عيونهم‭ ‬في‭ ‬الزمهرير

‭(‬ولعلهم‭ ‬كانوا‭ ‬جميعًا‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬أبرياء‭)‬

لم‭ ‬يهلكوا‭ ‬جوعًا‭ ‬ولا‭ ‬عطشًا‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬ظماء

ماتوا‭ ‬بداء‭ ‬الوهم‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬‮«‬أبرياء‮»‬،‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬السابق،‭ ‬تقابل‭ ‬دلاليًا‭ ‬الطائر‭ ‬الجميل‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬التالي،‭ ‬و«الوهم‮»‬‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬يقابل‭ ‬لا‭ ‬ينزف‭ ‬في‭ ‬الثاني‭:‬

‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬لطائر‭ ‬البحر‭ ‬الجميل‭ ‬

شكل‭ ‬وقد

لا‭ ‬ينزف‭ ‬الدم‭ ‬من‭ ‬قتيل‮»‬

أي‭ ‬1‭/‬أبرياء‭ = ‬الطائر‭ ‬الجميل

‭ ‬و2‭/ ‬الوهم‭ = ‬لا‭ ‬ينزف

ثم‭ ‬يتدرج‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نصه‭ ‬دلاليًّا،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬بعد‭ ‬تذكّر‭ ‬الموتى،‭ ‬يأتي‭ ‬تذكّر‭ ‬العرف‭ ‬الخفية،‭ ‬ثم‭ ‬تذكر‭ ‬الســفن‭ ‬الغريقة،‭ ‬ثم‭ ‬تذكر‭ ‬سبائك‭ ‬الذهب،‭ ‬ثم‭ ‬جدائل‭ ‬الشعر،‭ ‬ثم‭ ‬أصابع‭ ‬الأيدي،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬‮«‬التجريد‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬تحسس‭ ‬الرائحة‭ ‬المباغتة‭ ‬‮«‬المحسوس‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬ثالثة‭ ‬إلى‭ ‬المشاهدة‭:‬

‭ ‬‮«‬شاهدت‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬وكنت‭ ‬الشاهد‭ ‬الحي‭ ‬الوحيد‮»‬‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬رابعة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭:‬

‮«‬أتأمل‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬تحمرّ‭ ‬كان‭ ‬اليوم‭ ‬عيد‮»‬

‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬الصوت‭:‬

‭ ‬‮«‬ومكبرات‭ ‬الصوت‮»‬‭ ‬

وهذه‭ ‬التحولات‭ ‬الخمسة‭ ‬تقابلها‭ ‬عناصر‭ ‬دلالية‭ ‬خمسة‭ ‬هي‭:‬

الرؤية،‭ ‬الشعور،‭ ‬الفزع،‭ ‬التعجب،‭ ‬ثم‭ ‬الصراخ‭.‬

ويعود‭ ‬البريكان‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬حكاية‭ ‬حارسه‭ ‬المنتظر‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬ثانية‭:‬

‮«‬الوقت‭ ‬أدرك‭ ‬لســت‭ ‬وحدي‭ ‬

‭..............................‬

  .............................‬

أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬اللحظة‭ ‬العظمى‮»‬

ويتجلى‭ ‬التوازي‭ ‬هنا‭ ‬بين‭:‬

‮«‬التجريد،‭ ‬المحسوس،‭ ‬المشاهدة،‭ ‬التأمل،‭ ‬الصوت‮»‬‭ ‬

يوازيها‭:‬

‮«‬الرؤية،‭ ‬الشعور،‭ ‬الفزع،‭ ‬التعجب،‭ ‬الصراخ‮»‬‭.‬

 

المفهوم‭ ‬النسقي

هذا‭ ‬التوازي‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬البريكان‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يراكم‭ ‬تقابلًا‭ ‬وتوازيًا‭ ‬دلاليًّا‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬نسقي‭ ‬جديد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬‮«‬التنضيد‮»‬‭ ‬بمفهومه‭ ‬النسقي‭ ‬عند‭ ‬تودوروف،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تراكم‭ ‬كمّي‭ ‬للصور‭ ‬الواحدة‭ ‬فوق‭ ‬الأخرى،‭ ‬بما‭ ‬يخلق‭ ‬نصًّا‭ ‬متحركًا‭ ‬لا‭ ‬يتمثل‭ ‬فيها‭ ‬المتلقي‭ ‬ذهنيًا‭ ‬صورة‭ ‬شعرية‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬استقبل‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬مغايرة‭ ‬ومكملة‭ ‬للأولى‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭.‬

من‭ ‬الملاحظ‭ ‬أن‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬في‭ ‬استهلال‭ ‬القصيدة‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭:‬

‭ ‬أعددت‭ ‬مائدتي‭ = ‬وهيأت‭ ‬الكؤوس

وأعددت‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬هيأت،‭ ‬لكن‭ ‬الفارق‭ ‬بينهما‭ ‬أن‭ ‬الأولى‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬شروع‭ ‬وحركة،‭ ‬بينما‭ ‬امتلكت‭ ‬الثانية‭ ‬حركة‭ ‬وتحفيزًا،‭ ‬وامتازت‭ ‬الأولى‭ ‬بالمضي‭ ‬التام،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬دلت‭ ‬الثانية‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬المتضمن‭ ‬معنى‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭.‬

حين‭ ‬يذهب‭ ‬الشاعر‭ ‬بعيدًا‭ ‬نراه‭ ‬يقابل‭ ‬الأشياء،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التشبيه،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬المشابَهة‭.‬

حين‭ ‬ينكسر‭ ‬الصباح‭ = ‬حين‭ ‬يخاف‭ ‬طير‭ ‬أن‭ ‬يطير

‭ ‬تتكرر‭ (‬حين‭) ‬في‭ ‬القسمين‭ ‬أولًا،‭ ‬وما‭ ‬يدل‭ ‬عليه‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬هو‭ ‬الانكسار‭ ‬في‭ ‬الأولى‭. ‬

وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعمّق‭ ‬هذا‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬هو‭ ‬المماثلة‭ ‬المغايرة‭ ‬المتناقضة‭ ‬بين‭:‬

حين‭ ‬ينكسر‭ ‬الصباح‭ = ‬في‭ ‬ظلمة‭ ‬الرؤيا‭ (‬تناقض‭ ‬دلالي‭)‬

‭ ‬يجيء‭ = ‬بلا‭ ‬خطى‭ (‬تناقض‭ ‬دلالي‭)‬

أي‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬استخدم‭ ‬عدة‭ ‬بنى‭ ‬متقابلة‭ (‬مماثلة‭ ‬ومتناقضة‭)‬،‭ ‬ولكننا‭ ‬نتساءَل‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬يورد‭ ‬الزوائد‭ ‬هنا،‭ ‬وهي‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬له‭ ‬حدود‮»‬‭ ‬و«دقته‮»‬‭ ‬و«وأغيب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الظلمات‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬حدود‮»‬‭ ‬و«ويدق‭ ‬دقته‭ ‬على‭ ‬بابي‭ ‬ويدخل‭ ‬في‭ ‬خفوت»؟

ولو‭ ‬حذفنا‭ ‬تلك‭ ‬الزوائد‭ ‬لقلنا‭:‬

‮«‬وأغيب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الظلمات‮»‬‭... ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬يكفي؟

‮«‬ويدق‭ ‬على‭ ‬بابي‮»‬‭... ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬يكفي؟

ولنسأل‭: ‬ما‭ ‬ضرورة‭ ‬مجيء‭ ‬تلك‭ ‬الزوائد؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬تجميلية،‭ ‬أي‭ ‬عناصر‭ ‬ثانوية،‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬تكوينية،‭ ‬أي‭ ‬عناصر‭ ‬رئيسة‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الصورة؟

إن‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬داعمة‭ ‬للصورة‭ ‬نحو‭ ‬آفاق‭ ‬تمثيل‭ ‬مضاعفة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الغياب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الظلمات‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يوصف‭ ‬بعدم‭ ‬تناهي‭ ‬الحدود،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تحدها‭ ‬رؤية،‭ ‬وإن‭ ‬الدقّ‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يخصص‭ ‬بالدقة‭ / ‬الطرقة‭ ‬كي‭ ‬نسمع‭ ‬صوتها‭. ‬

تبدو‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬تجريدية‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬السطحية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بنيتها‭ ‬العميقة‭ ‬الدلالية‭ ‬تشي‭ ‬بعناصر‭ ‬من‭ ‬الغضب‭ ‬والسخط‭ ‬والموت،‭ ‬والسكون‭:‬

أتبعت‭ ‬الدفائن‭ ‬في‭ ‬السكون‭ = ‬وأشم‭ ‬رائحة‭ ‬السكون‭ ‬الكامل‭ ‬الأقصى

ألّا‭ ‬أقطّع‭ ‬بالتوتر‭ = ‬أو‭ ‬أسمر‭ ‬بالحضور

ويحصل‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬هنا‭ ‬في‭:‬

‮«‬السكون‭/ ‬الغائب‮»‬

و«السكون‭/ ‬الحاضر‮»‬

و«أقطّع‭/‬الغياب‭ = ‬وأسمر‭/‬الحضور‮»‬

 

التداخل‭ ‬النصي

ويقلب‭ ‬البريكان‭ ‬العنصر‭ ‬الواقعي‭ ‬تمثّلًا‭ ‬لمجمل‭ ‬دلالية‭ ‬قصيدته‭ ‬إذ‭ ‬يقلب‭:‬

‮«‬المتهم‭ ‬بريء‭ ‬حتى‭ ‬تثبت‭ ‬إدانته‮»‬‭ (‬واقعية‭ ‬بلا‭ ‬دلالة‭)‬

إلى‭ ‬‮«‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬مجرم‭ ‬حتى‭ ‬يقام‭ ‬على‭ ‬براءته‭ ‬الدليل‮»‬‭ (‬شعرية‭ ‬بدلالة‭ ‬الاحتجاج‭).‬

هذا‭ ‬القلب،‭ ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬سولير‮»‬‭ ‬في‭ ‬التداخل‭ ‬النصي،‭ ‬يذكّرنا‭ ‬بالقلب‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كروزو‭ ‬المتحضر‭ ‬معلمًا‭ ‬لجمعة‭ ‬المتوحش،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬يمابيس‭ ‬يصبح‭ ‬جمعة‭ ‬الإنسان‭ ‬البريء‭ ‬معلمًا‭ ‬لكروزو‭ ‬الشرير‭ ‬الذي‭ ‬أفقدته‭ ‬الحضارة‭ ‬إنسانيته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬سولير‭ ‬القلب‭ ‬والتحويل‭.‬

هذا‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬كشف‭ ‬عالم‭ ‬الشاعر‭ ‬البريكان،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬كشف‭ ‬لما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬القصيدة،‭ ‬حيث‭ ‬الشرور‭ ‬والتوحش‭ ‬والإنسانية‭ ‬المضاعة‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬اللامُجدي‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬المجهول‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يأتي،‭ ‬بينما‭ ‬بدأ‭ ‬الزمن‭ ‬ينفد‭ ‬بنفاد‭ ‬الزيت‭ ‬المتبقي‭ ‬في‭ ‬القناديل‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬رقاص‭ ‬الساعة‭ ‬القلق‭ ‬إلى‭ ‬السكون‭ ‬في‭ ‬‮«‬تأرجحه‭ ‬يسارًا‭ ‬ويمينًا‮»‬،‭ ‬وكأن‭ ‬الدلالة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البريكان‭ ‬لن‭ ‬يصل‭ ‬بقصيدته‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬مقنعة،‭ ‬وإلى‭ ‬قرار‭ ‬أكيد،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أولًا‭ ‬متى‭ ‬يقف‭ ‬رقاص‭ ‬الساعة،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬أين‭ ‬سيقف‭ ‬رقاص‭ ‬الساعة‭ ‬يمينًا‭ ‬أم‭ ‬يسارًا‭.‬

تلك‭ ‬هي‭ ‬الحيرة‭ ‬التجريدية‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يبثها‭ ‬في‭ ‬تقابلات‭ ‬دلالية‭ ‬متناقضة،‭ ‬جعلته‭ ‬يصور‭ ‬عالمنا‭ ‬الكوني‭ ‬المهشم‭ ‬بالانسحاق‭ ‬‭.‬