أسطورة الشاعر الهادئ في حياته وموته

أسطورة الشاعر الهادئ في حياته وموته

في‭ ‬عام‭ ‬1984‭ ‬كتب‭ ‬الشاعر‭  ‬العراقي‭ ‬محمود‭ ‬البريكان ‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬عام‭ ‬1931‭ ‬في‭ ‬البصرة‭  ‬قصيدة‭ ‬جعل‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬الطارق‮»‬،‭ ‬يهجس‭ ‬القول‭ ‬فيها‭ ‬بحال‭ ‬من‭ ‬الارتياب‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحال‭ ‬الكابوسية‮»‬‭:‬

‭- ‬‮«‬على‭ ‬الباب‭ ‬نقرٌ‭ ‬خفيفْ‭/ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬نقرٌ‭  ‬بصوتٍ‭ ‬خفيفٍ‭ ‬ولكنْ‭ ‬شديد‭ ‬الوضوحْ‭/ ‬يُعاودُ‭ ‬ليلا،‭ ‬أراقبهُ،‭ ‬أتوقعهُ‭ ‬ليلةً‭ ‬بعدَ‭ ‬ليلةٍ‭/ ‬أصيخُ‭ ‬إليه‭ ‬بإيقاعه‭ ‬المتماثلِ‭/ ‬يعلو‭ ‬قليلا‭ ‬قليلا‭/ ‬ويخفتُ‭/ ‬أفتحُ‭ ‬بابي‭/ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬أحدْ‭/ ‬مَن‭ ‬الطارقُ‭ ‬المتخفّي؟‭ ‬تُرى؟‭/ ‬شبحٌ‭ ‬عائدٌ‭ ‬من‭ ‬ظلام‭ ‬المقابر؟‭/ ‬ضحيّةَ‭ ‬ماضٍ‭ ‬مضى‭ ‬وحياةٍ‭ ‬خلتْ‭/ ‬أتت‭ ‬تطلبُ‭ ‬الثأرَ؟‭/ ‬روحٌ‭ ‬على‭ ‬الأفق‭ ‬هائمةٌ‭ ‬أرهقتها‭ ‬جريمتها‭/ ‬أقبلت‭ ‬تنشدُ‭ ‬الصفحَ‭ ‬والمغفرة؟‭/ ‬رسولٌ‭ ‬من‭ ‬الغيب‭ ‬يحمل‭ ‬لي‭ ‬دعوةً‭ ‬غامضة‭/ ‬ومَهرًا‭ ‬لأجل‭ ‬الرحيل‮»‬‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الشاعر‭ ‬محمود‭ ‬البريكان‭ ‬يتوقع،‭ ‬أو‭ ‬يخطر‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬بال،‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الطارق‭ ‬المجهول‮»‬‭ ‬سيأتيه‭ ‬في‭ ‬28‭/‬2‭/‬2002‭ ‬حاملًا‭ ‬إليه‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭... ‬فيغتاله‭ ‬وقد‭ ‬اقتحم‭ ‬باب‭ ‬بيته‭ ‬عليه‭.‬

وبموت‭ ‬البريكان‭ ‬بعملية‭ ‬الاغتيال‭ ‬هذه،‭ ‬اختفت،‭ ‬مع‭ ‬اختفاء‭ ‬القاتل،‭ ‬ثروة‭ ‬شعرية‭ ‬تحوي‭ ‬‮«‬نتاجًا‭ ‬يمتد‭ ‬لعقود‭ ‬عديدة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أكد‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬حديث،‭ ‬ضمها‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الصندوق‭ ‬الأسطوري‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُلقي‭ ‬إليه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يكتب،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تبدو‭ ‬له‭ ‬‮«‬وكأنها‭ ‬أجيال‭ ‬وأزمنة‭ ‬تتجاور‭ ‬وتتحاور‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬لتشكّل‭ ‬موقفي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‮»‬‭.. ‬وهو،‭ ‬كما‭ ‬قال،‭ ‬يشعر‭ ‬‮«‬بالاطمئنان‭ ‬لها‭ ‬بمقدار‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬اطمئناني‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الواقعية‭ ‬والمعاشة‮»‬،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يجد‭ ‬نفسه،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬‮«‬طارئًا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بي‭ ‬من‭ ‬أشياء‭ ‬ويوميات،‭ ‬وكأنني‭ ‬كائن‭ ‬منخطف‭ ‬من‭ ‬أكوان‭ ‬بعيدة،‭ ‬يبحث‭ ‬ويتساءل‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬ومسوّغات‭ ‬تبرر‭ ‬وجوده‭ ‬هنا‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬أحايين‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬‮«‬بشراك‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬واليوميات‭ ‬تشدني‭ ‬إليها‭ ‬فآنس‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬تحويه‭ ‬من‭ ‬تفصيلات،‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬التافهة‭ ‬منها،‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬شيئًا‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‮»‬‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الصندوق‭ ‬الأسطوريّ‮»‬‭ ‬قد‭ ‬اختفى‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬مرتكب‭ ‬الجريمة،‭ ‬الذي‭ ‬ظلّ‭ ‬‮«‬مجهول‭ ‬الهوية‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬عمليات‭ ‬سطوٍ‮»‬‭ ‬أخرى‭ ‬طالت‭ ‬نتاجه‭ ‬الشعري‭ ‬المنشور،‭ ‬فقد‭ ‬ظهر،‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬وفاته،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬كتاب‮»‬‭ ‬يضم‭ ‬المنشور‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬مختارات‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬مصدرين‭ ‬وثالث‭ ‬لهما،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬منها‭: ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬مرحلته‭ ‬الأولى‭ ‬والتي‭ ‬ضمها‭ ‬كتاب‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬طهمازي‭: ‬‮«‬محمود‭ ‬البريكان‭...‬‭ ‬دراسة‭ ‬ومختارات‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الآداب‭ - ‬بيروت‭ ‬1989‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬حصلتُ‭ ‬عليه‭ ‬منه‭ ‬شخصيًا‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬تجاوزت‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬مرحلته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وقد‭ ‬خصّني‭ ‬بها،‭ ‬بطلب‭ ‬شخصيّ‭ ‬مني،‭ ‬يوم‭ ‬كنتُ‭ ‬رئيسًا‭ ‬لتحرير‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأقلام‮»‬،‭ ‬فأفردتُ‭ ‬لها‭ ‬ملفًا‭ ‬خاصًا‭ ‬صدّرته‭ ‬بمقدمة‭. ‬وأما‭ ‬المصدر‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬آفاق‭ ‬عربية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نشر‭ ‬فيها‭ ‬قصائد‭ ‬متفرقة‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬التسعينيات‭ ‬ذاتها‭.‬

مرّ‭ ‬البريكان،‭ ‬الإنسان،‭ ‬بأحوال‭ ‬كانت،‭ ‬كما‭ ‬حياته‭ ‬الشعرية،‭ ‬قد‭ ‬شهدت‭ ‬تغيرات‭ ‬كان‭ ‬الطابع‭ ‬الأبرز‭ ‬لها‭: ‬حياته‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬ألفة‭ ‬معه،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬بالمندمج‭ ‬بفعله،‭ ‬حتى‭ ‬الشعري‭ ‬منه،‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يشي‭ ‬بالتواصل،‭ ‬حتى‭ ‬وُصفَ‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المعتزل‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬أن‭ ‬يوصف‭ ‬بمثل‭ ‬ذلك‭...‬‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يصف‭ ‬نفسه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المتأني‮»‬،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬علاقته‭ ‬‮«‬مع‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭ ‬ذات‭ ‬صلة‭ ‬مباشرة‭ ‬بوجودي‭ ‬إنسانًا‭ ‬يُفكر‭ ‬أو‭ ‬يتأمل‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬إشراك‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التأملات‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬سيذهب‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أنه‭ ‬يعيش‭ ‬‮«‬فعل‭ ‬الكتابة‮»‬‭. ‬أما‭ ‬الشعر‭ ‬فهو‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬طقس‭ ‬أساني‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الاشتراك‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬التحام‭ ‬بغيره‭ ‬لخلق‭ ‬صيرورة‭ ‬وجوده‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬كيانه‭ ‬الشخصي،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الكيان‭ ‬يتحرّك‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬صلبة‮»‬‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬شاعرًا‭ ‬متنبهًا‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬فيما‭ ‬يكتب،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬تحولات‭ ‬القصيدة‭ ‬الجديدة‭. ‬فهو‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يكتب‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬شعرية‭ ‬سائدة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬شعرية‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬المغامرة‭ ‬الفنية‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬يتعيّن‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬بمدى‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬المواقف‭ ‬الشاملة،‭ ‬الأكثر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المسؤولية‭ ‬الكونية‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‮»‬‭. ‬فهو،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد،‭ ‬شاعر‭ ‬يثير‭ ‬التساؤلات‭ ‬فيما‭ ‬يكتب،‭ ‬ولا‭ ‬يقدّم‭ ‬إجابات‭.‬

 

هدير‭ ‬الصوت‭ ‬السيابي

وإذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬صديقه،‭ ‬ومجايله،‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ (‬عام‭ ‬1964‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬بأعوام،‭ ‬لم‭ ‬ينشر‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬فإن‭ ‬الأمر،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو،‭ ‬كان‭ ‬محسوبًا‭ ‬من‭ ‬قِبله،‭ ‬إذ‭ ‬أضحى‭ ‬السياب‭ ‬في‭ ‬تك‭ ‬الحقبة،‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬الشاعر‭ ‬الأكثف‭ ‬حضورًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الشعرية،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وحده،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬والأوساط‭ ‬التي‭ ‬تقرأ‭ ‬العربية،‭ ‬فجاء‭ ‬احتجابه‭ ‬عن‭ ‬النشر‭ ‬خشية‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يضيع‭ ‬صوته‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬هدير‭ ‬الصوت‭ ‬السيابي‭ ‬ـ‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يَحُل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬إزاحة‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬تمثاله‭ ‬في‭ ‬البصرة،‭ ‬بكلمة‭ ‬منه‭ ‬تميزت‭ ‬بفصاحة‭ ‬اللغة‭ ‬و«إبهام‭ ‬المقصد‮»‬‭ ‬وتشتته‭ ‬بُعدًا‭ ‬ومعنى‭!‬

وعلى‭ ‬هذا‭ ‬فإنه‭ ‬يُوضع،‭ ‬شعريًّا،‭ ‬ضمن‭ ‬مرحلتين‭: ‬الأولى‭ ‬منهما‭ ‬تنتهي‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬ببداياته‭ ‬الناضجة‭ ‬أوائل‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬وتميزت‭ ‬بالمنحى‭ ‬السردي‭ ‬والروح‭ ‬الملحمي‭. ‬أما‭ ‬الثانية،‭ ‬وبحسب‭ ‬ما‭ ‬نشر‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬فتبدأ‭ ‬من‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وتمتد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬رحيله،‭ ‬وقد‭ ‬امتازت‭ ‬قصائده‭ ‬فيها‭ ‬بنزوع‭ ‬تأملي،‭ ‬وتركيز‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسري‭ ‬مسرى‭ ‬الأفكار‭ ‬والرؤى،‭ ‬مقتربًا‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والحلم،‭ ‬وإن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مغاير‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬قصيدته‭ ‬في‭ ‬مرحلته‭ ‬الأولى‭.. (‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬ينشر‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة،‭ ‬وإنما‭ ‬سينشره‭ ‬من‭ ‬بعد‭).‬

أما‭ ‬حين‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬النشر،‭ ‬على‭ ‬أقلّه،‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فربما‭ ‬لأنه‭ ‬وجد‭ ‬الحقبة‭ ‬‮«‬حقبة‭ ‬فراغ‭ ‬شعري‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يتبق‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬الكبيرة،‭ ‬من‭ ‬جيله‭ ‬بالذات،‭ ‬إلا‭ ‬أسماء‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لها‭ ‬حضور‭ ‬شعري‭ ‬مؤثّر،‭ ‬أو‭ ‬تشدّ‭ ‬‮«‬الانتباه‭ ‬النقدي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقول‭. ‬فعاد،‭ ‬ونشر،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نشره‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الحضور‭ ‬الأسطوري‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نُسج‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬غيابه‭!‬

فإن‭ ‬جاءت‭ ‬‮«‬قصائد‭ ‬عودته‮»‬‭ ‬تبدو‭ ‬لقارئها‭ ‬وكأنها‭ ‬ليست‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬حيويته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأولى،‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬ميلًا‭ ‬إلى‭ ‬التأمل،‭ ‬فإنها،‭ ‬بلا‭ ‬شك،‭ ‬تمثّل‭ ‬وعيًا‭ ‬شعريًا‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬سالف‭ ‬ما‭ ‬عهدنا‭ ‬منه‭... ‬فهو‭ ‬فيها‭ ‬منقطع‭ ‬عن‭ ‬رؤاه‭ ‬القديمة،‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬‮«‬تقليد‭ ‬نفسه‮»‬‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬‮«‬بدايات‭ ‬تأسيسية‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يحسب‭ ‬نفسه‭ ‬شاعرًا‭ ‬امتلك‭ ‬تجربة‭ ‬ذات‭ ‬جوهر‭ ‬شعري‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الشعر‭ ‬الجديد،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بعيدًا،‭ ‬في‭ ‬شيء،‭ ‬عما‭ ‬يُعزز‭ ‬ذاته‭ ‬الشعرية،‭ ‬متخذًا‭ ‬مثاله‭ ‬الشخصي‭ ‬فيما‭ ‬يكتب‭... ‬شعرًا‭.‬

كان‭ ‬الشاعر‭ ‬فيه‭ ‬يتعاطى‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬بتمهّل،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬امتازت‭ ‬بنبرة‭ ‬سردية‭ ‬خاصة،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬يُشبه‭ ‬أحدًا،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يُشبهه‭. ‬فقصيدته‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تبدو‭ ‬سلسة‭ ‬سردًا‭ ‬ومسرودًا،‭ ‬وتكوين‭ ‬مشاهد،‭ ‬بلغة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وإن‭ ‬جاءت‭ ‬مرتفعة‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬إبداعي‭ ‬متفرد‭.‬

وقد‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬فيه‭ (‬أعني‭ ‬حقبة‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬قبلها‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عصر‭ ‬الإيمان‭ ‬بالشعر‭ ‬فنًّا‭ ‬إبداعيًا‭ ‬متفوقًا‭ ‬على‭ ‬الفنون‭ ‬الأخرى‭. ‬ومع‭ ‬أنه‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬الروّاد‭ ‬الذين‭ ‬طوّروا‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬بالتأثيرات‭ ‬التي‭ ‬ظهر‭ ‬بها‭ ‬شاعر‭ ‬كالسياب‭.‬

وكما‭ ‬يبدو،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الميسور‭ ‬نقديًا‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬شاعر‭ ‬مختلف‮»‬‭ ‬من‭ ‬قبيله،‭ ‬لأنه‭ ‬يتطلب‭ ‬لغة‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬بالحداثة،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سائدة،‭ ‬مفهومات‭ ‬ومصطلحات،‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬تلك‭ ‬السنوات،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬قرأه‭ ‬بعين‭ ‬الاهتمام،‭ ‬وتوقف‭ ‬عنده‭ ‬متأملًا‭ ‬في‭ ‬‮«‬مختلِف‭ ‬القول‭ ‬الشعري‮»‬‭ ‬منه‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬جاءت‭ ‬مقدمة‭ ‬طهمازي‭ ‬لمختاراته‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬قراءة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬فيها‭ ‬منظوره‭ ‬
النقدي‭/ ‬الحداثي‭ ‬واضحًا،‭ ‬فإنه‭ ‬استغور‭ ‬فيها‭ ‬عالم‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬وجده‭ ‬يكتب‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬والسائد‭... ‬يُعيد‭ ‬‮«‬إنشاء‭ ‬الشخصيات‮»‬‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬رؤى‭ ‬الحلم‭ ‬وتجسيدات‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬بارع،‭ ‬كما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬‮«‬اليومي‮»‬‭ ‬و«العابر‮»‬‭ ‬حالات‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الطقوسية‭ ‬الشعرية‮»‬،‭ ‬جاعلًا‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يراه،‭ ‬أو‭ ‬يستشفّه،‭ ‬دلالات‭ ‬تتحرك‭ ‬بالحلم‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬وترتفع‭ ‬بما‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬مصافّ‭ ‬الحلم‭... ‬منجذبًا،‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الغريب‮»‬‭ ‬حالة‭ ‬وأطوارًا‭ (‬كما‭ ‬في‭: ‬أسطورة‭ ‬السائر‭ ‬في‭ ‬نومه‭)‬،‭ ‬والمتوحّد‭ ‬مع‭ ‬نفسه،‭ ‬يُهامسها‭ ‬أو‭ ‬تهامسه،‭ ‬متخذًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الآخر‭ ‬رمزًا‮»‬‭... ‬أما‭ ‬‮«‬الذات‮»‬‭ ‬منه‭ ‬فتتحرّك‭ ‬‮«‬حركة‭ ‬استجابة‮»‬‭ ‬لهذا‭ ‬‮«‬الآخر‭ ‬المختار‮»‬‭ ‬بحساسية‭ ‬الشاعر،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خارجها‭ ‬‭.