هل انتهى زمن أدب الرحلات؟

هل انتهى زمن أدب الرحلات؟

شغلتني‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬هل‭ ‬انتهى‭ ‬زمن‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات؟‭ ‬ليس‭ ‬للرد‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يعتقدون‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الصنف‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬قد‭ ‬انتهى،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنّ‭ ‬الرحلات‭ ‬المعاصرة‭ ‬بمعطياتها‭ ‬المتجددة‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬وتقييم،‭ ‬حالها‭ ‬حال‭ ‬ما‭ ‬يُقدّم‭ ‬للناس‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬وآداب‭ ‬ومعارف،‭ ‬ووجدت‭ ‬في‭ ‬الفائدة‭ ‬خير‭ ‬مدخل‭ ‬لدراسة‭ ‬جدوى‭ ‬استمرار‭ ‬وجود‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬لأنها‭ - ‬أي‭ ‬الفائدة‭ - ‬سبب‭ ‬وجود‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء،‭ ‬ومن‭ ‬دونها‭ ‬إما‭ ‬تختفي‭ ‬أو‭ ‬تُحال‭ ‬إلى‭ ‬المتاحف‭ ‬ليراها‭ ‬الناس‭ ‬كقطعة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭.‬

لقد‭ ‬قرأت‭ ‬رأيًا‭ ‬للروائي‭ ‬المصري‭ ‬الراحل‭ ‬فؤاد‭ ‬قنديل ‭ ‬1944م ‭ - ‬2015م‭  ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮ «‬أدب‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬ يقول‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات ‭: ‬‮«‬إنني‭ ‬أزعم‭ ‬أن‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬أوشك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ - ‬كالفلسفة‭ - ‬تراثًا‭ ‬فقط،‭ ‬لا‭ ‬جديد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضاف‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تيسّر‭ ‬السفر‭ ‬والانتقال‭ ‬لكل‭ ‬إنسان،‭ ‬واستطاعت‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬بتقنياتها‭ ‬الهائلة‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة،‭ ‬وكتابًا‭ ‬مفتوحًا‭ ‬لأغلب‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬أحترمه‭ ‬وأتفهّم‭ ‬دوافعه‭ ‬سمعته‭ ‬كثيرًا،‭ ‬لكنني‭ ‬وجدت‭ ‬واقعًا‭ ‬في‭ ‬معارض‭ ‬الكتب‭ ‬العربية‭ ‬وأخبار‭ ‬الإصدارات‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬لنا‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬فئة‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬من‭ ‬كتّاب‭ ‬تخصصوا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأدب‭ ‬وكتّاب‭ ‬وشعراء‭ ‬وروائيين‭ ‬وأساتذة‭ ‬جامعيين‭ ‬ساهموا‭ ‬بكتاب‭ ‬أو‭ ‬كتب‭ ‬عدة،‭ ‬آخرهم‭ ‬الروائي‭ ‬الليبي‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الفقيه،‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬دنيانا‭ ‬أوائل‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬الماضي،‭ ‬ولديه‭ ‬4‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭.‬

 

مَن‭ ‬بقي‭ ‬ليس‭ ‬كمن‭ ‬قطع‭ ‬الأقطار

سأعود‭ ‬إلى‭ ‬رأي‭ ‬الأستاذ‭ ‬فؤاد‭ ‬قنديل،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أتناول‭ ‬موضوع‭ ‬أهمية‭ ‬الرحلة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬أضيف‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬الرحلة‭ ‬مفيدة‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الماضية،‭ ‬وبسبب‭ ‬التطورات‭ ‬التي‭ ‬قربت‭ ‬المسافات‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬انتفت‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭ ‬كمورد‭ ‬للمعلومات؟

يقول‭ ‬الرحّالة‭ ‬والمؤرخ‭ ‬والجغرافي‭ ‬أبوالحسن‭ ‬المسعودي‭ ‬ 896م‭ - ‬957م‭ : ‬‮ : ليس‭ ‬من‭ ‬لزم‭ ‬جهة‭ ‬وطنه‭ ‬وقنع‭ ‬بما‭ ‬نمى‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬من‭ ‬إقليمه‭ ‬كمن‭ ‬قسّم‭ ‬عمره‭ ‬على‭ ‬قطع‭ ‬الأقطار‭.. ‬ووزع‭ ‬بين‭ ‬أيامه‭ ‬تقاذف‭ ‬الأسفار‭ ‬واستخرج‭ ‬كل‭ ‬دقيق‭ ‬من‭ ‬معدنه،‭ ‬وأثار‭ ‬كل‭ ‬نفيس‭ ‬من‭ ‬مكمنه‮.‬

وفقًا‭ ‬لهذا‭ ‬الرأي‭ ‬لصاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مروج‭ ‬الذهب‭ ‬ومعادن‭ ‬الجوهر‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬المسعودي‭ ‬يفرّق‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬وزّع‭ ‬أيامه‭ ‬على‭ ‬الأسفار،‭ ‬والأخبار‭ ‬التي‭ ‬أتى‭ ‬على‭ ‬ذكرها،‭ ‬أفهمها‭ ‬قياسًا‭ ‬على‭ ‬زمانه‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أحوال‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد،‭ ‬وليست‭ ‬أخبار‭ ‬الولاة‭ ‬والولايات‭ ‬وما‭ ‬يستدعي‭ ‬نشره‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬عاجلة،‭ ‬وتلك‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬مهام‭ ‬الرحّالة‭ ‬الذين‭ ‬يسيرون‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬وفقًا‭ ‬لمخططاتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬على‭ ‬الأغلب،‭ ‬وحتى‭ ‬ابن‭ ‬فضلان‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬وفد‭ ‬بتكليف‭ ‬من‭ ‬الخليفة‭ ‬المقتدر‭ ‬بالله‭ ‬إلى‭ ‬ملك‭ ‬الصقالبة،‭ ‬تبدل‭ ‬مسار‭ ‬رحلته‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬إسكندنافيا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬

 

عالَم‭ ‬متغيّر‭ ‬وأحوال‭ ‬تتبدل

يعتبر‭ ‬الأديب‭ ‬واللغوي‭ ‬المصري‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬1910م‭ - ‬2005م‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬‮«‬من‭ ‬أهم‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬موضحًا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الرحلات‮»‬‭ ‬بأنه،‭ ‬أي‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬‮ «‬خير‭ ‬رد‭ ‬على‭ ‬التهمة‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬اتّهم‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬الأدب،‭ ‬ونقصد‭ ‬تهمة‭ ‬قصوره‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬القصة،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬شك‭ ‬من‭ ‬يتهمونه‭ ‬هذه‭ ‬التهمة‭ ‬لم‭ ‬يقرأوا‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬كتب‭ ‬الرحلات‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬عن‭ ‬زنوج‭ ‬إفريقية‭ ‬وعرائس‭ ‬البحر‭ ‬وحجاج‭ ‬الهند‭ ‬وأكلة‭ ‬لحوم‭ ‬البشر‭ ‬وصناع‭ ‬الصين‭ ‬وسكان‭ ‬نهر‭ ‬الفولجا‭ ‬وعبَدَة‭ ‬النار‭ ‬والإنسان‭ ‬البدائي‭ ‬والراقي‭ ‬مما‭ ‬يصور‭ ‬الحقيقة‭ ‬حينًا،‭ ‬ويرتفع‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬خيالي‭ ‬حينًا‭ ‬آخر‮»‬‭. ‬

وقد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭ ‬إن‭ ‬رأي‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬يخص‭ ‬حالة‭ ‬محددة‭ ‬استدعته‭ ‬للرد،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬المرحلة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬صدر‭ ‬فيها‭ ‬كتابه‭ ‬عام‭ ‬1956م،‭ ‬تحاكي‭ ‬واقعًا‭ ‬ليس‭ ‬موجودًا‭ ‬اليوم‭ ‬بفضل‭ ‬تطور‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬والتواصل،‭ ‬وردّي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬بشر‭ ‬ودول،‭ ‬عالَم‭ ‬متغير‭ ‬مليء‭ ‬بالتحولات‭ ‬واكتشاف‭ ‬جزء‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬معيّن‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬سيتجمد‭ ‬على‭ ‬الهيئة‭ ‬التي‭ ‬رآها‭ ‬فيها‭ ‬الرحالة،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬عاد‭ ‬هو‭ ‬أو‭ ‬غيره‭ ‬للمكان‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬وجده‭ ‬على‭ ‬الحال‭ ‬نفسها‭ ‬المذكورة‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬وهناك‭ ‬مثال‭ ‬أجده‭ ‬جديرًا‭ ‬بالذكر‭ ‬للتدليل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أقوله‭.‬

لقد‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬أعتز‭ ‬به‭ ‬وأحدّث‭ ‬عنه‭ ‬كلما‭ ‬وجدت‭ ‬الفرصة‭ ‬سانحة،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬رحلات‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬مدرس‭ ‬أول‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بمدرسة‭ ‬القبة‭ ‬الثانوية،‭ ‬محمد‭ ‬ثابت،‭ ‬وعنوانه‭ ‬‮«‬جولة‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬آسيا‮»‬‭ ‬وصدر‭ ‬عام‭ ‬1936م،‭ ‬دوّن‭ ‬فيه‭ ‬ثلاث‭ ‬رحلات‭ ‬للصين‭ ‬والهند‭ ‬واليابان،‭ ‬وزوّده‭ ‬بصور‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬أعتبرها‭ ‬قفزة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬كتب‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭.‬

هنا‭ ‬سأركز‭ ‬على‭ ‬رحلة‭ ‬اليابان،‭ ‬لأنها‭ ‬أعطت‭ ‬صورة‭ ‬مهمة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الدولة‭ ‬الناهضة‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬من‭ ‬قلم‭ ‬عربي‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬اليابان‭ ‬قبل‭ ‬نشوب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية ‭ ‬1939م‭ - ‬1945م‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬ولأنه‭ ‬حمل‭ ‬رؤية‭ ‬مبكرة‭ ‬تطلب‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬التجربة‭ ‬اليابانية‭ ‬في‭ ‬النهوض‭.‬

يقول‭ ‬ثابت‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭: ‬‮«‬هأنذا‭ ‬أقدّم‭ ‬للوطن‭ ‬المحبوب‭ ‬ولأبنائه‭ ‬المخلصين‭ ‬أولى‭ ‬جولاتي‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬الشرق‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تقدمتها‭ ‬جولتي‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬أوربا‭‬،‭ ‬راجيًا‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬أصبت‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬في‭ ‬تفهّم‭ ‬تلك‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تربطنا‭ ‬بها‭ ‬روابط‭ ‬عريقة‭ ‬توثقها‭ ‬العاطفة،‭ ‬وإني‭ ‬لأصورها‭ ‬هنا‭ ‬كما‭ ‬رأتها‭ ‬عينٌ‭ ‬مصرية‭ ‬شرقية‭ ‬غير‭ ‬مغرضة،‭ ‬لا‭ ‬تبتغي‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬النفع‭. ‬

وقد‭ ‬حاولت‭ ‬جهدي‭ ‬استقرار‭ ‬عناصر‭ ‬نهوضها‭ ‬وقعودها‭ ‬علّنا‭ ‬نستنير‭ ‬بطرائقها‭ ‬الموفقة‭ ‬فنهتدي،‭ ‬وعسانا‭ ‬نعتبر‭ ‬بما‭ ‬أصابها،‭ ‬فنأمن‭ ‬العثار‭ ‬الذي‭ ‬يتهدد‭ ‬الأمم‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬نهوضها‭ ‬وطور‭ ‬انتقالها،‭ ‬ونحن‭ ‬أحوج‭ ‬ما‭ ‬نكون‭ ‬إلى‭ ‬المُثل‭ ‬العليا‭ ‬نترسم‭ ‬خطاها،‭ ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬أسوة‭ ‬حسنة،‭ ‬فلنسلك‭ ‬نهجها،‭ ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬وما‭ ‬يحوط‭ ‬نهوضها‭ ‬من‭ ‬قذى‭ ‬وشباك‭ ‬أكبر‭ ‬العِبر،‭ ‬سدد‭ ‬الله‭ ‬خطانا،‭ ‬وهدى‭ ‬الوطن‭ ‬وأبناءه‭ ‬سبيلاً‭ ‬رشدًا‮‬‭.‬

وعن‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬كتب‭ ‬ثابت‭: ‬‮«‬وقد‭ ‬نشط‭ ‬التعليم‭ ‬منذ ‭ ‬1869م‭ ‬حين‭ ‬أقسم‭ ‬الامبراطور‭ ‬يقصد‭ ‬ميجي‭ ‬ أنه‭ ‬سيعمل‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬التعليم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬عائلة‭ ‬جاهلة‮»‬،‭ ‬وعن‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬أوضح‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أنشأت‭ ‬المصانع‭ ‬وأوفدت‭ ‬الطلبة‭ ‬للخارج‭ ‬كي‭ ‬يتعلموا‭ ‬الصناعة‭ ‬والتجارة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬استقدمت‭ ‬الخبرات‭ ‬الأجنبية‭ ‬للاستفادة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬ولعل‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬التنويرية‭ ‬يتضمن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬نهضة‭ ‬اليابان‭ ‬الأولى،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬صيغ‭ ‬توفيقية‭ ‬بين‭ ‬الموروث‭ ‬والعادات،‭ ‬وبين‭ ‬الأساليب‭ ‬الجديدة‭ ‬المستوردة‭ ‬في‭ ‬النظم‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والإدارية‭.‬

الآن‭ ‬لنسأل‭ ‬لو‭ ‬تسنّت‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬ثابت‭ ‬رحلة‭ ‬ثانية‭ ‬لليابان‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬سيجد‭ ‬طوكيو‭ ‬والمدن‭ ‬والمناطق‭ ‬التي‭ ‬تجول‭ ‬فيها‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬كما‭ ‬رآها‭ ‬أول‭ ‬مرة؟‭ ‬

أدب‭ ‬يستوعب‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء

تزخر‭ ‬المكتبة‭ ‬العربية‭ ‬بكتب‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وقد‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬اقتناء‭ ‬عدد‭ ‬وافر‭ ‬منها،‭ ‬أستزيد‭ ‬من‭ ‬زادها‭ ‬وأتجول‭ ‬في‭ ‬عوالمها،‭ ‬ووجدت‭ ‬فيها‭ ‬تنوعًا‭ ‬جميلًا‭ ‬يستحق‭ ‬التوقف‭ ‬عنده،‭ ‬فهذه‭ ‬الكتب‭ ‬أولًا‭ ‬ليست‭ ‬مقصورة‭ ‬على‭ ‬جيل‭ ‬أو‭ ‬جنس‭ ‬معيّن،‭ ‬الأمر‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬المساهمات‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬أقلام‭ ‬اشتهرت‭ ‬بهويّاتها‭ ‬الغالبة،‭ ‬مثل‭ ‬شاعر‭ ‬أو‭ ‬روائي‭... ‬إلخ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلني‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬يستوعب‭ ‬الجميع،‭ ‬طالما‭ ‬تم‭ ‬الالتزام‭ ‬بأهم‭ ‬ركنين‭ ‬من‭ ‬أركانه،‭ ‬وهما‭ ‬بالترتيب‭ ‬الرحلة‭ ‬والأدب،‭ ‬لأن‭ ‬الرحلة‭ ‬بمشاقّها‭ ‬هي‭ ‬الانطلاقة‭ ‬الفعلية‭ ‬نحو‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سيحصل‭ ‬فيها‭.‬

لا‭ ‬أذكر‭ ‬أني‭ ‬قرأت‭ ‬نقدًا‭ ‬قيل‭ ‬فيه‭ ‬لهذا‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الروائي‭: ‬لماذا‭ ‬خضت‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬غير‭ ‬بحرك؟‭ ‬كما‭ ‬يحصل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬عندما‭ ‬يطرق‭ ‬أحد‭ ‬باب‭ ‬الرواية‭ ‬وهو‭ ‬الضليع‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬آخر‭!‬

أما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬فنجد‭ ‬أن‭ ‬خليطًا‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬المتمرسين‭ ‬يضيف‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬نكهة‭ ‬خاصة‭ ‬لنصه‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬المرشدين‭ ‬السياحيين‭ ‬الذين‭ ‬اختلط‭ ‬عليهم‭ ‬الأمر‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬مثلًا‭ ‬عن‭ ‬أسعار‭ ‬فندق‭ ‬أمبوس‭ ‬موندوس‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الكوبية‭ ‬هافانا،‭ ‬وبين‭ ‬قيمته‭ ‬الثقافية‭ ‬كمكان‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬الروائي‭ ‬الأمريكي‭ ‬آرنست‭ ‬هيمنغواي‭ ‬أول‭ ‬أيامه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬مزرعته‭ ‬خارج‭ ‬هافانا‭.‬

لقد‭ ‬اخترت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬ثلاثة‭ ‬نماذج‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬شدتني‭ ‬دوافع‭ ‬كتّابها‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬جميعهم‭ ‬شعراء‭ ‬نحو‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية،‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬للشاعر‭ ‬الأردني‭ ‬أمجد‭ ‬ناصر‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬تحت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سماء‭... ‬رحلات‭ ‬إلى‭ ‬اليمن،‭ ‬لبنان،‭ ‬عُمان،‭ ‬سورية،‭ ‬المغرب‭ ‬وكندا‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬ناصر‭ ‬عن‭ ‬رحلاته‭: ‬‮«‬هاجس‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬هو‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالمكان‭ ‬وشخوصه‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬المرور‭ ‬بهما ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬للرحلة‭ ‬غرض‭ ‬آخر‭ ‬مرور‭ ‬الكرام‭. ‬

إنها‭ ‬محاولة‭ ‬للتوقف‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬وأمامه‭ ‬والإنصات‭ ‬إلى‭ ‬أصواته‭ ‬الكبيرة‭ ‬والصغيرة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ويحلو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أزعم‭ ‬أن‭ ‬نداءات‭ ‬أصواته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التي‭ ‬بالكاد‭ ‬تبلغ‭ ‬السجلات‭ ‬والقيود‭ ‬والمصنفات،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تشدني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬سماعها‭ ‬من‭ ‬مبعدة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تسوغ،‭ ‬دائمًا،‭ ‬عناء‭ ‬الرحلة‭... ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬‮«‬وعثاء‭ ‬السفر‮»‬‭.‬

الكتاب‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬‮«‬شذى‭ ‬الأمكنة‮»‬‭ ‬ للشاعر‭ ‬العماني‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سيف‭ ‬الرحبي‭ ‬يبوح‭ ‬بما‭ ‬تراكم‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬للسفر‭ ‬والترحال‭ ‬‮«‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬أرضًا‭ ‬أخرى،‭ ‬أشعر‭ ‬أنها‭ ‬تنتمي‭ ‬لغيرنا‭... ‬غامر‭ ‬أجدادنا‭ ‬بالسفر،‭ ‬ففتحت‭ ‬لهم‭ ‬موانئ‭ ‬الأرض‭ ‬أذرعها‭ ‬محتضنة‭ ‬إياهم‭: ‬بحارة‭ ‬وربابنة‭ ‬وتجارًا‭ ‬وباحثين‭ ‬عن‭ ‬لقمة‭ ‬عيش‭...‬‮»‬‭.‬

ويكمل‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭ ‬‮«‬حدثتني‭ ‬نفسي‭ ‬بالارتحال‭... ‬والاكتشاف،‭ ‬والسير‭ ‬نحو‭ ‬مجاهل‭ ‬جديدة،‭ ‬هي‭ ‬مجاهل‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إضاءة‭ ‬بالسفر،‭ ‬الأمكنة‭ ‬مزروعة‭ ‬في‭ ‬بقعة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬دواخلنا،‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬وغير‭ ‬مرئية،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬مدينة‭ ‬ما‭ ‬لنضع‭ ‬المتخيل‭ (‬في‭ ‬داخلنا‭) ‬بالواقع‭ (‬في‭ ‬الأمكنة‭ ‬الأصلية‭)... ‬بفرح‭ ‬الاكتشاف‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬في‭ (‬داخلنا‭) ‬يطابق‭ (‬ما‭ ‬تراه‭ ‬أعيننا‭ ‬ندرك‭ ‬حجم‭ ‬ما‭ ‬أنجزناه‮.‬

الكتاب‭ ‬الثالث‭ ‬‮ عين‭ ‬وجناح‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬العماني‭ ‬محمد‭ ‬الحارثي‭ ‬الذي‭ ‬اختير‭ ‬كتابه‭ ‬للفوز‭ ‬بالمركز‭ ‬الأول‭ ‬للرحلة‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬الدورة‭ ‬الأولى‭ ‬لجائزة‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬للأدب‭ ‬الجغرافي،‭ ‬‮ فالترحال‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة‭ ‬خاص‭ ‬خبره‭ ‬البدو‭ ‬في‭ ‬مفازة‭ ‬الربع‭ ‬الخالي،‭ ‬كما‭ ‬خبرته‭ ‬قبائل‭ ‬‮«‬الماساي‮»‬‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬إفريقيا‭... ‬تلك‭ ‬القبائل‭ ‬التي‭ ‬اعتبرت‭ ‬الترحال‭ ‬وطنًا‭ ‬متحققًا‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الغاية‭ ‬منه‭ ‬ارتحالاً‭ ‬أبديًّا‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬وطن‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬ولن‭ ‬يتحقق‭ ‬أبدًا‮»‬‭.‬

وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أختم‭ ‬هنا‭ ‬بذكر‭ ‬فصل‭ ‬كامل‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الشاعر‭ ‬البحريني‭ ‬قاسم‭ ‬حداد‭ ‬‮«‬ورشة‭ ‬الأمل‮»‬‭ ‬سجّل‭ ‬فيه‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬الجبل‭ ‬الأخضر‭ ‬بسلطنة‭ ‬عمان،‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬عباءة‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬وقد‭ ‬تمنيت‭ ‬عليه،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مرافقتي‭ ‬له‭ ‬عندما‭ ‬زار‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬2016م،‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬ألمانيا‭ ‬التي‭ ‬يمضي‭ ‬فيها‭ ‬أوقاتًا‭ ‬طويلة‭ ‬خلال‭ ‬السنة‭.‬

‭ ‬

تعزيز‭ ‬نقاط‭ ‬الفهم‭ ‬والتلاقي

نعود‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬رأي‭ ‬الأستاذ‭ ‬فؤاد‭ ‬قنديل‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬أوشك‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬تراثًا‭ ‬فقط،‭ ‬وأرجع‭ ‬ذلك‭ ‬لسببين‭ ‬رئيسين؛‭ ‬هما‭ ‬تيسّر‭ ‬السفر‭ ‬والانتقال‭ ‬لكل‭ ‬إنسان،‭ ‬وقدرة‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬بتقنياتها‭ ‬الهائلة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭.‬

إن‭ ‬تيسُّر‭ ‬السفر‭ ‬والانتقال‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬قاعدة‭ ‬الرحّالة‭ ‬المعاصرين،‭ ‬وضاعف‭ ‬من‭ ‬خياراتهم‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬أبعد‭ ‬وأغرب،‭ ‬إن‭ ‬رحالة‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬كان‭ ‬ينفّذون‭ ‬رحلة‭ ‬يتيمة‭ ‬في‭ ‬حياتهم،‭ ‬وسط‭ ‬مخاطر‭ ‬ومشاقّ‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬أما‭ ‬رحّالة‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬فأمامهم‭ ‬فرص‭ ‬كثيرة‭ ‬للسفر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬إثراء‭ ‬المكتبة‭ ‬العربية‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬التي‭ ‬تعزز‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬الفهم‭ ‬والتلاقي‭ ‬وفتح‭ ‬طريق‭ ‬جديد‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭. ‬

إن‭ ‬عملاقًا‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬مثل‭ ‬الصين‭ ‬يُتوقع‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬حضورًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية،‭ ‬فهل‭ ‬سنكتفي‭ ‬بما‭ ‬ينقل‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬أجنبية‭ ‬عن‭ ‬بلد‭ ‬مفتوح‭ ‬وقريب‭ ‬منّا؟‭ ‬

إن‭ ‬التطور‭ ‬المتسارع‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬والتواصل‭ ‬واقع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكاره‭ ‬أو‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه،‭ ‬وهذا‭ ‬الواقع‭ ‬يطرح‭ ‬سؤالاً‭ ‬ثقيلاً،‭ ‬هو‭: ‬مَن‭ ‬يصنع‭ ‬ذلك‭ ‬الإعلام؟‭ ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬العرب،‭ ‬أم‭ ‬الدول‭ ‬الغربية؟‭ ‬الجواب‭ ‬معروف‭ ‬ويجعلنا‭ ‬كعرب‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬التلقي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القرية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وأدب‭ ‬الرحلات‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬تكتب‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬العرب،‭ ‬فهل‭ ‬نتخلى‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأداة؟

هل‭ ‬تلغي‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬نموذج‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بابها‭ ‬المخصص‭ ‬للاستطلاعات‭ ‬الصحافية،‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬قناة‭ ‬أجنبية‭ ‬تبث‭ ‬أفلامًا‭ ‬وثائقية‭ ‬تحاكي‭ ‬مضمون‭ ‬ذلك‭ ‬الباب‭ ‬نفسه؟‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لنستفد‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الآخرين،‭ ‬ولتطوّر‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬رحلاتها‭ ‬لتشمل‭ ‬بعثة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬تعمل‭ ‬بالتوازي‭ ‬معها‭.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬الحارثي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬عين‭ ‬وجناح‮»‬‭ ‬عن‭ ‬سلسلة‭ ‬السندباد‭ ‬الجديد‭: ‬‮«‬أعادت‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬كاد‭ ‬ينسى،‭ ‬وغم‭ ‬أن‭ ‬أسلافنا‭ ‬كانوا‭ ‬روّادًا‭ ‬وسباقين‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬حياتية‭ ‬أقسى‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬متاح‭ ‬لنا‭ ‬اليوم‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬كوكبنا‭ ‬هذا‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ستظل،‭ ‬أبدًا،‭ ‬تلك‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬اكتشافنا‭ ‬لها‭ ‬وارتحالنا‭ ‬بين‭ ‬شعابها‮»‬‭.‬

 

تكرار‭ ‬الرحلة‭... ‬لذة‭ ‬إعادة‭ ‬الاكتشاف

إن‭ ‬للاكتشاف‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬لذة‭ ‬لا‭ ‬توصف؛‭ ‬سواء‭ ‬للأمكنة‭ ‬المجهولة‭ ‬أو‭ ‬الشعوب‭ ‬المنعزلة،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬لذة‭ ‬إعادة‭ ‬الاكتشاف؟،‭ ‬مَن‭ ‬منّا‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬مدينة‭ ‬البتراء‭ ‬الأثرية‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬لقد‭ ‬أسست‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬زمنية‭ ‬غاب‭ ‬ذكرها،‭ ‬حتى‭ ‬أعاد‭ ‬اكتشافها‭ ‬المستشرق‭ ‬السويسري‭ ‬يوهان‭ ‬بركهارت‭ ‬عام‭ ‬1812م،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬ليعرفها‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬خلاله‭. ‬إن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬تم‭ ‬اكتشافها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لا‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الرحلة‭ ‬وكاتبها،‭ ‬بل‭ ‬يضيف‭ ‬إليها‭ ‬أبعادًا‭ ‬أخرى‭ ‬تبعًا‭ ‬لاختلاف‭ ‬ثقافات‭ ‬الكتّاب‭ ‬ومشاربهم‭.‬

‭ ‬في‭ ‬الختام،‭ ‬لأدب‭ ‬الرحلات‭ ‬قوى‭ ‬حقيقية‭ ‬موجودة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬لكنها‭ ‬متباعدة،‭ ‬وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التوحد‭ ‬لكي‭ ‬تخلق‭ ‬زخمها‭ ‬الذي‭ ‬سيعيد‭ ‬رسم‭ ‬ملامح‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي،‭ ‬ويضع‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬الصحيح‭ .‬