الكاتب السوداني طارق الطيب: الشِّعر ينحسر من خريطة العرض ولم أكتب شيئًا أندم عليه

الكاتب السوداني طارق الطيب:  الشِّعر ينحسر من خريطة العرض  ولم أكتب شيئًا أندم عليه

طارق الطيب، كاتب سوداني يعيش فـي النمسا منذ عقود، ولد في القاهرة عام 1959، ثم انتقل للإقامة في فيينا عام 1984، حيث أنهى دراسته في فلسفة الاقتصاد، ويعمل إلى جانب الكتابة في عدد من الجامعات هناك. يشارك في عدد من الملـــتـــقـــيات الأدبـــــية العالمية، وتم تعيينه سفيرًا للنمسا لعام الحوار الثقافي الأوربي عام 2008، وحصل في العام نفسه على وسام الجمهورية النمساوية تقديرًا لمنجزه الأدبي والتواصل الأدبي داخليًّا وعالميًّا، كما حصل على جائزة الشعر الكبرى في رومانيا عام 2007. من أعماله الروائية: «مدن بلا نخيل»، و«بيت النخيل»، و«الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا»، و«نهارات فيينا»، و«أطوف عاريًا».
ومن أعماله الشعرية: «ليس إثمًا»، و«بعض الظن»، و«غبار الظل»، و«بعنا الأرض»، و«فرحنا بالغبار». كما كتب سيرته الذاتية تحت عنوان «محطات من السيرة الذاتية». وهنا حوار معه...

 

‭-‬بدأت‭ ‬شاعرًا‭ ‬ثمّ‭ ‬انتقلت‭ ‬لكتابة‭ ‬الرواية‭. ‬ألم‭ ‬يتّسع‭ ‬الشّعر‭ ‬لما‭ ‬تودّ‭ ‬أن‭ ‬تقوله‭ ‬لهذا‭ ‬العالم؟

‭- ‬الصحيح‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬بدأت‭ ‬بنشر‭ ‬النثر‭ ‬أولاً؛‭ ‬نشرت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مدن‭ ‬بلا‭ ‬نخيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬عام‭ ‬1992،‭ ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬الأسانسير‮»‬‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬ثم‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬الجمل‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬خلف‭ ‬إشارة‭ ‬حمراء‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أيضًا‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بـ6‭ ‬أعوام‭ ‬نشرت‭ ‬أول‭ ‬ديوان‭ ‬شعري‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬حقيبة‭ ‬مملوءة‭ ‬بحمام‭ ‬وهديل‮»‬‭ ‬بالعربية‭ ‬والألمانية‭ ‬في‭ ‬فيينا،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬2002‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬تخليصات‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتاريخ‭ ‬النشر‭ ‬والبدايات،‭ ‬وهي‭ ‬كما‭ ‬ترى‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬النثر،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬قد‭ ‬سار‭ ‬منذ‭ ‬البدايات‭ ‬متوازيًا‭ ‬مع‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭.‬

ليس‭ ‬هناك‭ ‬أيّ‭ ‬فن‭ ‬يستطيع‭ ‬بمفرده‭ ‬أن‭ ‬يغطي‭ ‬رغبة‭ ‬الكاتب‭ ‬فيما‭ ‬يعرضه‭ ‬للعالم،‭ ‬فالكاتب‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يستريح‭ ‬لنوع‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬فكرة‭ ‬معيّنة؛‭ ‬فينتقل‭ ‬لبوابة‭ ‬خروج‭ ‬أخرى‭ ‬يسافر‭ ‬منها‭ ‬وفيها‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬جديد‭.‬

لا‭ ‬أؤمن‭ ‬بمقولة‭ ‬التخصص‭ ‬في‭ ‬الإبداع؛‭ ‬فالأمر‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاختصاص‭ ‬الأكاديمي‭. ‬الفن‭ ‬براحٌ‭ ‬واسع‭ ‬يمكن‭ ‬للكاتب‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬فيه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نوع،‭ ‬والمسألة‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬الإخلاص‭ ‬للنوع‭ ‬مقابل‭ ‬خيانة‭ ‬التنوع،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬أيضًا‭ ‬بطولة‭ ‬أو‭ ‬تفرّدًا‭. ‬الفن‭ ‬حاجة‭ ‬ملحّة‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬المبدع‭ ‬تحفّزه‭ ‬ليخلق‭ ‬عبر‭ ‬دروب‭ ‬عدة‭ ‬ما‭ ‬يشعر‭ ‬أنه‭ ‬قريب‭ ‬منه‭ ‬وراغب‭ ‬فيه‭ ‬وقادر‭ ‬عليه‭.‬

‭-‬تستخدم‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬أعمالك‭ ‬الروائية‭... ‬فهل‭ ‬تركت‭ ‬القصيدة‭ ‬ولم‭ ‬تترك‭ ‬الشعر؟

‭- ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬لها‭ ‬مستويات‭ ‬عديدة،‭ ‬وتتسرب‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬بالضرورة‭ ‬وبكل‭ ‬بساطة‭. ‬ربما‭ ‬الإغراق‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬مستساغًا‭ ‬للبعض،‭ ‬إلا‭ ‬بشروط‭ ‬الانتقال‭ ‬لنهج‭ ‬كالملحمة‭ ‬مثلاً‭. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الروائي،‭ ‬ولا‭ ‬أراها‭ ‬تمثّل‭ ‬عائقًا‭ ‬أو‭ ‬إقحامًا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭.‬

لا‭ ‬أعي‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬أستخدم‭ ‬أنا‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬نثري،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أنني‭ ‬أبرزها‭ ‬متعمدًا‭ ‬أو‭ ‬أقحمها‭ ‬بلا‭ ‬ضرورة‭ ‬فنية‭.‬

‭-‬هل‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬الشعراء‭ ‬أقدر‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬رواية؟

‭- ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬شاعرٌ‭ ‬روايةً‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬روائي‭ ‬وقد‭ ‬يصوغها‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬روائي‭ ‬مبتدئ‭. ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بكونه‭ ‬شاعر‭ ‬ليتبوأ‭ ‬أفضلية‭ ‬نثرية‭. ‬لكني‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬رهافة‭ ‬الشاعر‭ ‬ولغته‭ ‬المنتقاة‭ ‬قد‭ ‬تسمحان‭ ‬له‭ ‬بالخوض‭ ‬في‭ ‬نسج‭ ‬رواية‭ ‬بلا‭ ‬صعوبات‭ ‬تذكر؛‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يغرقها‭ ‬بافتعال‭ ‬أو‭ ‬بتُخمة‭ ‬شعرية‭. ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لديه‭ ‬بالفعل‭ ‬ما‭ ‬يود‭ ‬أن‭ ‬يسرده‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬لا‭ ‬يتسع‭ ‬لها‭ ‬رداء‭ ‬الشعر‭.‬

روح‭ ‬الشعر‭ ‬حين‭ ‬تطبع‭ ‬نفسها‭ ‬بذكاء‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬الرواية‭ ‬ستشف‭ ‬بالتأكيد‭ ‬جمالاً‭ ‬إضافيًّا‭.‬

‭-‬هناك‭ ‬إقبال‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ما‭ ‬تفسيرك‭ ‬لظاهرة‭ ‬أن‭ ‬الكل‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬روائيًّا؟‭ ‬

‭- ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬تعليله‭ ‬مفهوم‭. ‬فالشعر‭ ‬ينحسر‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬من‭ ‬خريطة‭ ‬العرض‭ ‬أولًا‭ ‬كمنتج‭ ‬مادي‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬كتاب،‭ ‬ثم‭ ‬كمنتج‭ ‬ذهني‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬أمسية‭ ‬مثلًا،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬وهن‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬الاقتناء‭ ‬والشراء؛‭ ‬بينما‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬تعدد‭ ‬الجوائز‭ ‬المادية‭ ‬‮«‬الكبيرة‮»‬‭ ‬نسبيًّا‭ ‬والمخصصة‭ ‬للرواية‭ ‬تحديدًا‭. ‬ربما‭ ‬يُقبل‭ ‬الكثيرون‭ ‬على‭ ‬كتابتها‭ ‬ليُسر‭ ‬الشروط‭ ‬المطلوبة،‭ ‬أو‭ ‬لغياب‭ ‬الشروط‭ ‬المعوقة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الأمر‭ ‬يبدو‭ ‬كأنه‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬الجميع‭.‬

أظن‭ - ‬وبعض‭ ‬الظن‭ ‬إثم‭ - ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عددًا‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكاتبين‮»‬‭ ‬يتقدمون‭ ‬للرواية‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬العائد‭ ‬المادي‭ ‬العظيم‭ ‬نسبيًّا‭. ‬العيب‭ ‬الذي‭ ‬أراه‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬تجريب‭ ‬من‭ ‬يدخلون‭ ‬الحلبة‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬الحظ‭ ‬و«اليانصيب‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬بقصد‭ ‬المشاركة‭ ‬الجادة‭ ‬برواية‭ ‬متينة‭.‬

 

الحراك‭ ‬‮«‬الجوائزي‮»‬

‭-‬هل‭ ‬ساهمت‭ ‬الجوائز‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬أخيرًا‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬تغذية‭ ‬حلم‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية؟

‭- ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬الجوائز‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬أخيرًا‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تغذية‭ ‬حلم‭ ‬كتابتها،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬سكانها‭ ‬الأصليين‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬الأنواع‭ ‬الكتابية‭ ‬الأخرى،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬الحقيقيين‭ ‬من‭ ‬الشباب،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الطارئين‭ ‬الجدد‭ ‬المجربين‭ ‬عبر‭ ‬بوابة‭ ‬الحظ‭.‬

لكن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬هذا‭ ‬الحراك‭ ‬‮«‬الجوائزي‮»‬‭ - ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬لي‭ ‬استعمال‭ ‬هذا‭ ‬
التعبير‭- ‬هو‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬الأمد‭ ‬الطويل،‭ ‬ففي‭ ‬ظل‭ ‬تحكيم‭ ‬نزيه‭ ‬وحريّة‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬النصوص‭ ‬الصافية،‭ ‬والتعامل‭ ‬معها‭ ‬باعتبارها‭ ‬خلقًا‭ ‬إبداعيًّا‭ ‬وليس‭ ‬موضوعات‭ ‬للمحاسبة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬أو‭ ‬الاصطفاء‭ ‬الأيديولوجي؛‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬الجيدة‭ ‬ستطرد‭ - ‬مع‭ ‬الوقت‭ - ‬الرواية‭ ‬الرديئة‭ ‬من‭ ‬السوق،‭ ‬كاستعارة‭ ‬عكسية‭ ‬للقانون‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الشهير‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬جريشام‮»‬‭.‬

‭-‬تعيش‭ ‬في‭ ‬النمسا‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭... ‬ماذا‭ ‬أعطتك‭ ‬الغربة‭ ‬وماذا‭ ‬أخذت‭ ‬منك؟

‭- ‬هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬فأنا‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬النمسا‭ ‬منذ‭ ‬خمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬عامًا،‭ ‬وهو‭ ‬عمر‭ ‬طويل‭ ‬نسبيًّا‭. ‬لا‭ ‬أسميها‭ ‬غربة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬وجودي‮»‬‭ ‬وبأحاسيسي‭. ‬

كانت‭ ‬هناك‭ ‬ضغوط‭ ‬نفسية‭ ‬ووجودية‭ ‬قبل‭ ‬السفر‭ ‬دفعت‭ ‬بي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬مصر،‭ ‬لكني‭ ‬اخترت‭ ‬طوعًا‭ ‬مكان‭ ‬الوصول‭ ‬والإقامة‭ ‬الدائمة،‭ ‬ووتّدت‭ ‬خيمتي‭ ‬وبدأت‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬حبو‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬الألمانية‭ ‬وتفهُّم‭ ‬لعادات‭ ‬جديدة‭ ‬وتقاليد‭ ‬وسط‭ ‬أوربية،‭ ‬ومن‭ ‬ارتباط‭ ‬حقيقي‭ ‬وتواصل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فيينا‭ ‬تحديدًا،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬ريف‭ ‬شمال‭ ‬النمسا‭ ‬بانتظام،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬المتواصلة‭ ‬وفي‭ ‬الانشغال‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬عملي‭ ‬الأكاديمي‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬النمسا‭.‬

كل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬يأخذ‭ ‬منا‭ ‬بقدَر‭ ‬ويعطينا‭ ‬بقدَر‭. ‬الخطأ‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬الظن‭ ‬بأن‭ ‬مكان‭ ‬الميلاد‭ ‬أو‭ ‬الوطن‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعطينا‭ ‬أكثر‭ ‬أو‭ ‬الأفضل،‭ ‬هذه‭ ‬بديهية‭ ‬غير‭ ‬صائبة‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الوجداني‭ ‬والعاطفي‭. ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العامة‭ ‬بحلوها‭ ‬ومرّها‭ ‬صارت‭ ‬‮«‬معولمة‮»‬‭ ‬وأبعد‭ ‬عن‭ ‬المحلية،‭ ‬والقصد‭ ‬أعني‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬الاغتراب‭ ‬مسألة‭ ‬ليست‭ ‬شرطية‭ ‬والوطنية‭ ‬أيضًا‭ ‬كذلك؛‭ ‬فلا‭ ‬يعني‭ ‬وجود‭ ‬المرء‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬أنه‭ ‬يمتلك‭ ‬وطنية‭ ‬أعلى،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬غادر‭ ‬قد‭ ‬غادر‭ ‬جلده‭ ‬وأبناء‭ ‬جلدته،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬هويته‭ ‬قد‭ ‬تلوثت‭ ‬بتشوه‭ ‬الابتعاد‭. ‬فالارتباط‭ ‬بالأصل‭ ‬والجذور‭ ‬والوطن‭ ‬شيء‭ ‬نسبي،‭ ‬وهو‭ ‬بالضرورة‭ ‬مكون‭ ‬أساسي‭ ‬للهوية،‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬الغربة‭ ‬تأخذ‭ ‬فهي‭ ‬معطاءة‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬نحتسب‭!‬

‭-‬أحداث‭ ‬رواياتك‭ ‬‮«‬وأطوف‭ ‬عاريًا‮»‬‭ ‬تتوزع‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬والنمسا‭... ‬ما‭ ‬علاقتك‭ ‬بالمكان؟

‭- ‬تكويني‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬ينتمي‭ ‬لهذه‭ ‬الأمكنة‭ ‬الثلاثة‭ ‬مصر‭ (‬الأم‭) ‬السودان‭ (‬الأب‭) ‬النمسا‭ (‬الزوجة‭)‬،‭ ‬بتعبير‭ ‬حقيقي‭ ‬ومجازي،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تتواشج‭ ‬كتاباتي‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬عمقًا‭ ‬مع‭ ‬أرض‭ ‬هذه‭ ‬الأمكنة‭ ‬الثلاثة‭ ‬المتصلة‭ ‬المنفصلة‭. ‬لكنني‭ ‬أتناول‭ ‬أمكنة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬كتاباتي،‭ ‬مثل‭ ‬إيطاليا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬في‭ ‬روايتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬وأطوف‭ ‬عاريًا‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬نصيب‭ ‬الأسد‭ ‬مكانيًا‭ ‬لمصر‭ (‬حيث‭ ‬المولد‭ ‬والنشأة‭ ‬والحياة‭ ‬لربع‭ ‬قرن‭ ‬فيها‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬النمسا‭ (‬لحياة‭ ‬امتدت‭ ‬لخمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬عامًا‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.

الأشخاص‭ ‬يظهرون‭ ‬في‭ ‬رواياتي‭ ‬حاملين‭ ‬أمكنتهم‭ ‬على‭ ‬أكتافهم،‭ ‬ويضفون‭ ‬على‭ ‬الأمكنة‭ ‬معانيها الحكاية‭) ‬بلغاتهم‭ ‬وعاداتهم‭ ‬وتقاليدهم‭ ‬وتاريخهم،‭ ‬والمكان‭ ‬يعود‭ ‬ليؤطر‭ ‬الحكاية‭ ‬بناسها‭.‬

‭-‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬مدى‭ ‬أنت‭ ‬حريص‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬أو‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬السوداني؟

‭- ‬ليس‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬السوداني‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬معه‭ ‬المصري‭ ‬والنمساوي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يفيد‭ ‬الكتابة‭ ‬وما‭ ‬أراه‭ ‬ضروريًّا؛‭ ‬فليس‭ ‬الأمر‭ ‬التزامًا‭ ‬قسريًّا‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬دغدغة‭ ‬مشاعر‭ ‬أو‭ ‬محاولة‭ ‬إثبات‭ ‬وطنية‭ ‬رنانة،‭ ‬ليس‭ ‬أيضًا‭ ‬مجرد‭ ‬ديكور‭ ‬أو‭ ‬توابل‭ ‬توضع‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬لتكون‭ ‬لها‭ ‬نكهة‭ ‬قومية‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجية‭ ‬كما‭ ‬يرغب‭ ‬البعض‭ ‬أو‭ ‬يزعم‭ ‬أو‭ ‬يدعي‭.‬

الكتابة‭ ‬ليست‭ ‬وصفًا‭ ‬سطحيًّا‭ ‬لعرض‭ ‬فولكلوري،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬سعي‭ ‬لكشف‭ ‬أغوار‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية‭ ‬لأقصى‭ ‬مدى‭ ‬ممكن‭.‬

‭-‬هل‭ ‬أنت‭ ‬على‭ ‬اطلاع‭ ‬على‭ ‬النتاجات‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الرواية‭ ‬والشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬المسائل؟

‭- ‬الآن‭ ‬أصبحت‭ ‬الشبكة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬توفّر‭ ‬لنا‭ ‬كمًّا‭ ‬معقولاً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬نتاجات‭ ‬العالم،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بالشكل‭ ‬المرجو‭ ‬للمتخصص‭ ‬أو‭ ‬للراغب‭ ‬في‭ ‬ازدياد‭.‬

أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬مطّلعًا‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬والشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى،‭ ‬لكنّي‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬المزيد‭ ‬بالتأكيد‭.‬

كتابات‭ ‬السودان‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭ ‬منثورة‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ (‬هل‭ ‬أقول‭ ‬مشردة،‭ ‬وهو‭ ‬التعبير‭ ‬الأقرب؟‭). ‬هناك‭ ‬حصة‭ ‬كبيرة‭ ‬نسبيًّا‭ ‬تنتج‭ ‬أو‭ ‬تنشر‭ ‬خارج‭ ‬السودان،‭ ‬وكثير‭ ‬مما‭ ‬ينشر‭ ‬خارجه‭ ‬يجد‭ ‬طريقه‭ ‬بصعوبة‭ ‬للداخل،‭ ‬وما‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬يرى‭ ‬القليل‭ ‬منه‭ ‬نور‭ ‬المعارض‭ ‬العربية،‭ ‬ولن‭ ‬أبالغ‭ ‬وأقول‭ ‬العالمية‭.‬

 

الرحلة‭ ‬797

‭-‬في‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬الرحلة‭ ‬797‮»‬‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬آدم‮»‬‭ ‬يعمل‭ ‬مرمّم‭ ‬كتب،‭ ‬وقد‭ ‬رمم‭ ‬قلب‭ ‬البطلة‭ ‬‮«‬ليلى‮»‬‭ ‬بالحب‭... ‬فهل‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬الحب‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يمور‭ ‬بالحروب‭ ‬والصراعات‭ ‬والإرهاب؟

‭- ‬حتمًا‭ ‬وبكل‭ ‬تأكيد‭!‬

لو‭ ‬اختفى‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬الوجود؛‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬للحياة‭ ‬معنى‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬تعادلية‮»‬‭. ‬الحب‭ ‬موجود،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬عنه،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يجده‭ ‬ويفرط‭ ‬فيه‭ ‬بغفلة،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬ينتبه‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬أقرب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬حبل‭ ‬الوريد،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لديه‭ ‬وفرة‭ ‬فيه،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬لديه‭ ‬حرمان‭ ‬منه‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يزرع‭ ‬الحب‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يحصده،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يحرق‭ ‬الحصاد‭.‬

في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الرحلة‭ ‬797‭ ‬المتجهة‭ ‬إلى‭ ‬فيينا‮»‬،‭ ‬رمّم‭ ‬آدم‭ ‬قلب‭ ‬ليلى‭ ‬بقلبه‭ ‬ورمّمت‭ ‬بدورها‭ ‬قلبه‭ ‬بقلبها،‭ ‬ولم‭ ‬يشعر‭ ‬للحظة‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬علاقاته‭ ‬ببطولة‭ ‬أو‭ ‬فحولة‭ ‬شرقية‭ ‬أو‭ ‬جنوبية‭ ‬معلولة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬ترى‭ ‬قلبه‭ ‬فيراها‭.‬

الرواية‭ ‬أسيء‭ ‬فهمها‭ ‬من‭ ‬الرقيب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬فبادر‭ ‬بمنعها‭ ‬ككتاب‭ ‬وبمنعها‭ ‬من‭ ‬عبور‭ ‬الحدود‭ ‬لاعتقاده‭ ‬بتجاوزها‭ ‬الحدود،‭ ‬وظنًّا‭ ‬منه‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬أدبًا،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬قلّة‭ ‬أدب‮»‬‭. ‬لكن‭ ‬الزمن‭ ‬كفيل‭ ‬وجدير‭ ‬باستعادتها،‭ ‬فمنذ‭ ‬متى‭ ‬والأفكار‭ ‬تموت؟‭!‬

‭-‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬تغذية‭ ‬رصيدك‭ ‬الروائي‭ ‬بالجديد‭ ‬سنويًّا،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬رواياتك‭ ‬من‭ ‬الصنف‭ ‬الذي‭ ‬يميل‭ ‬كثيرًا‭ ‬باتجاه‭ ‬السِّيَر‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬التفاصيل،‭ ‬أي‭ ‬جهد‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يبذله‭ ‬الروائي‭ ‬كي‭ ‬يحقق‭ ‬إنجازًا‭ ‬كهذا؟

‭- ‬ربما‭ ‬تصح‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬على‭ ‬رصيدي‭ ‬الكتابي‭ ‬ككل،‭ ‬رواياتي‭ ‬أربع‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬كتبتُ‭ ‬إجمالاً،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬بقينا‭ ‬عند‭ ‬الرواية،‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬التفاصيل‭ ‬تكون‭ ‬قطعًا‭ ‬مهمة‭. ‬تفاصيل‭ ‬مختارة‭ ‬بعناية‭ ‬تلقي‭ ‬بأضواء‭ ‬مهمة‭ ‬وبانعكاسات‭ ‬ضرورية‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الرواية،‭ ‬فمن‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬الحشو‭ ‬المتعسف‭ ‬يضر‭ ‬بالعمل‭ ‬الأدبي،‭ ‬وليس‭ ‬الحشو‭ ‬كمّيًّا‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬بزيادة‭ ‬عدد‭ ‬الصفحات،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬رواية‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬صفحة‭ ‬ومملة‭ ‬ومكتظة‭ ‬بحشو‭ ‬مضجر،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬أربعمئة‭ ‬صفحة‭ ‬وشائقة‭ ‬للغاية‭.‬

أحتاج‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬مطالعة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬والبيانات،‭ ‬بل‭ ‬والزيارات‭ ‬الميدانية‭ ‬لبعض‭ ‬الأمكنة،‭ ‬حتى‭ ‬أضيف‭ ‬فقرة‭ ‬أو‭ ‬بضعة‭ ‬أسطر‭ ‬إلى‭ ‬العمل،‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬ضرورة‭ ‬وفائدة‭ ‬وتمتزج‭ ‬بالعمل‭ ‬بغير‭ ‬تعطيل‭ ‬للتشويق‭ ‬ولا‭ ‬تحمل‭ ‬أخطاء‭ ‬أو‭ ‬تناقضات‭ ‬جوهرية‭. ‬العيب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ينساق‭ ‬الروائي‭ ‬للفرعيات‭ ‬ولحشو‭ ‬هوامش‭ ‬عادمة‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬الرواية‭ ‬بلا‭ ‬داع،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يتباهى‭ ‬بالاستعراض‭ ‬بعلومه‭ ‬أو‭ ‬قراءاته‭.‬

وأخيرًا،‭ ‬فليس‭ ‬غريبًا‭ ‬وليست‭ ‬بطولة‭ ‬أن‭ ‬يحتاج‭ ‬فصل‭ ‬واحد‭ ‬مني‭ ‬إلى‭ ‬بضعة‭ ‬شهور‭ ‬لضبط‭ ‬معلوماته‭ ‬وسياقه‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬سليم‭. ‬

‭-‬كيف‭ ‬هي‭ ‬علاقتك‭ ‬بأشخاص‭ ‬رواياتك؟‭ ‬هل‭ ‬تتستر‭ ‬خلفهم،‭ ‬وهل‭ ‬تنشأ‭ ‬بينك‭ ‬وبينهم‭ ‬علاقة‭ ‬ود،‭ ‬أم‭ ‬علاقة‭ ‬ند؟

‭- ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬لي‭ ‬حقيقة‭ ‬إلى‭ ‬التستر‭ ‬خلف‭ ‬أشخاص‭ ‬رواياتي،‭ ‬فما‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكتبه‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬بوضوح‭ ‬أسرده‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وقد‭ ‬فعلت‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬محطات‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬أود‭ ‬توصيله‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬يأتي‭ ‬عبر‭ ‬شخصياتها،‭ ‬فلا‭ ‬أهمية‭ ‬للكاتب‭ ‬داخل‭ ‬عمله‭ ‬بل‭ ‬خارجه،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اتخذ‭ ‬نفسه‭ ‬نموذجًا‭ ‬واقعيًّا‭ ‬داخل‭ ‬كتابته‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الكاتب‭ ‬بشخصياته‭ ‬الروائية‭ ‬أو‭ ‬القصصية؛‭ ‬ففي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬يكون‭ ‬للكاتب‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬الكتابة‭ ‬سيطرة‭ ‬على‭ ‬شخصياته‭ ‬الروائية،‭ ‬وربما‭ ‬تتمرد‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مسار‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬يتطلب‭ ‬العمل‭ ‬إضافة‭ ‬شخوص‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬حذف‭ ‬شخصيات،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تتمرد‭ ‬شخصية‭ ‬على‭ ‬مصيرها‭ ‬بحجة‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬حجة‭ ‬الكاتب‭. ‬ربما‭ ‬يقبل‭ ‬الراوي‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬ديمقراطية‭ ‬المنفعة‭ ‬الفنية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الرواية‭ ‬ومن‭ ‬إثارتها،‭ ‬وربما‭ ‬يرفض‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬الدكتاتورية‭ ‬الأدبية‮»‬‭ ‬باعتباره‭ ‬سيد‭ ‬روايته‭.‬

‭-‬صدر‭ ‬لك‭ ‬‮«‬محطات‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‮»‬‭... ‬ما‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬والرواية؟‭ ‬وهل‭ ‬كتبت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬سيرتك‭ ‬الذاتية؟

‭- ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬هي‭ ‬اختيار‭ ‬ملامح‭ ‬وفترات‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬حياة‭ ‬الكاتب‭ ‬وآخرين‭ ‬معه‭ ‬وعرضها،‭ ‬وهي‭ ‬سيرة‭ ‬تُعنى‭ ‬بمسار‭ ‬وبحياة،‭ ‬وهي‭ ‬ذاتية‭ ‬لأنها‭ ‬تخصه‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬وفي‭ ‬رؤيته‭ ‬وفيمن‭ ‬يراهم‭ ‬يستحقون‭ ‬الوجود‭ ‬والإبراز‭ ‬في‭ ‬عمله‭.‬

أما‭ ‬الرواية‭ ‬فقد‭ ‬تحمل‭ ‬قبسًا‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬وملامح‭ ‬كاتبها‭ ‬بسرد‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬وقد‭ ‬ينتفي‭ ‬أي‭ ‬ملمح‭ ‬منه‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬لكنها‭ ‬بالضرورة‭ ‬تحمل‭ ‬نهجه‭ ‬وهدفه‭ ‬ووعيه‭.‬

لم‭ ‬أكتب‭ - ‬بالطبع‭ - ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬سيرتي‭ ‬الذاتية،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أتمنى،‭ ‬ولا‭ ‬يهمني‭ ‬الحساب‭ ‬الشخصي‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بما‭ ‬يخصني،‭ ‬المعضلة‭ ‬في‭ ‬حقائق‭ ‬ووقائع‭ ‬تخص‭ ‬الآخرين‭ ‬والأخريات‭ ‬لن‭ ‬يتقبلها‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الشرقي،‭ ‬وسيؤلم‭ ‬ويوجع‭ ‬أصحابها‭ ‬بها،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬صاحباتها؛‭ ‬لأن‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬لو‭ ‬بانت‭ ‬‮«‬إنسانيتها‮»‬‭ ‬كاملة،‭ ‬فستكون‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬بعض‭ ‬القراء‭ ‬مدانة‭ ‬ومخطئة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬سيقع‭ ‬عليها‭ ‬التجريس‭ ‬والنبذ‭ ‬والتشويه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭.‬

‭-‬الكــتّاب‭ ‬الــغــربيون‭ ‬يكـــتبون‭ ‬وفـــقًا‭ ‬لمـــشروع‭ ‬لديهم‭... ‬فهل‭ ‬طارق‭ ‬الطيب‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع؟

‭- ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المشروع‭ ‬يقصد‭ ‬به‭ ‬رؤية‭ ‬وفكر،‭ ‬فليس‭ ‬فقط‭ ‬الكتّاب‭ ‬الغربيون‭ ‬هم‭ ‬حصرًا‭ ‬من‭ ‬يكتبون‭ ‬وفق‭ ‬مشروع‭.‬

هناك‭ ‬أمور‭ ‬تهمني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬انتقلت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬أوربا‭ ‬وعشت‭ ‬فيه‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬ونصف‭ ‬العقد‭ ‬بلا‭ ‬انقطاع‭. ‬مجتمع‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬رؤيتي‭ ‬له،‭ ‬ومن‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬كلمتي‭ ‬فيه‭ ‬بلا‭ ‬خوف،‭ ‬وهو‭ ‬مجتمع‭ ‬مثل‭ ‬معظم‭ ‬المجتمعات‭ ‬يكتظ‭ ‬بحشد‭ ‬من‭ ‬محبة‭ ‬فريدة‭ ‬وعنَت‭ ‬كبير‭ ‬وظلم‭ ‬بائن‭ ‬وفن‭ ‬عظيم‭ ‬وتاريخ‭ ‬مائز‭ ‬وعنصرية‭ ‬متفردة‭ ‬واحتواء‭ ‬بالغ‭ ‬ورفض‭ ‬عنيد‭ ‬وانسجام‭ ‬لافت‭ ‬وتناقض‭ ‬بيّن‭ ‬ورفق‭ ‬ورحمة‭ ‬وزيف‭ ‬وأصالة‭ ‬وجبروت‭ ‬وتسلط‭... ‬إلخ‭.‬

تلك‭ ‬أمور‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بالطبع،‭ ‬لكن‭ ‬الرغبة‭ ‬الأصيلة‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬والبوح‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬وهذا‭ ‬المكان‭ ‬ونقلها‭ ‬بأمانة‭ ‬الفن‭ ‬واقتداره،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الوتر‭ ‬الإنساني‭ ‬الجامع‭ ‬اللامس‭ ‬للغالبية‭ ‬المهيمنة‭ ‬أو‭ ‬للأقلية‭ ‬المضطهدة‭.‬

‭-‬هل‭ ‬أنت‭ ‬مشغول‭ ‬بالمجد؟

‭- ‬لكلمة‭ ‬مجد‭ ‬في‭ ‬مفهومي‭ ‬معنيان‭: ‬الأول‭ ‬يعنى‭ ‬بالنّبل‭ ‬والعظمة‭ ‬والشرف‭ ‬والعزة‭ ‬والمكانة‭ ‬المرموقة‭ ‬والمكارم‭ ‬المأثورة‭ ‬عن‭ ‬السلف‭. ‬وهي‭ ‬أشياء‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مكتسبة‭ ‬أو‭ ‬مورثّة،‭ ‬وهذا‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬أسعى‭ ‬إليه‭ ‬ولا‭ ‬أبحث‭ ‬عنه‭!‬

وربما‭ ‬يعني‭ ‬المجد‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الخلود‭ ‬والتميّز،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يشغلني‭ ‬ولا‭ ‬يهمني‭.‬

الباحث‭ ‬عن‭ ‬المجد‭ ‬سيفنى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدركه،‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يدركه‭!‬

‭-‬ترجمت‭ ‬أعمالك‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬عديدة‭. ‬كيف‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬كتاباتك‭ ‬وهي‭ ‬تسافر‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬أخرى؟

‭- ‬نعم‭ ‬ترجمت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬لغة،‭ ‬منها‭ ‬ثماني‭ ‬لغات‭ ‬أوربية‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬كتاب‭ ‬خاص‭ ‬بي،‭ ‬كما‭ ‬ترجمت‭ ‬للغات‭ ‬أخرى‭ ‬ضمن‭ ‬أنطولوجيات‭ ‬عالمية‭ ‬ودوريات‭ ‬أدبية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وأميركا‭ ‬الشمالية‭ ‬والجنوبية‭ ‬وآسيا‭.‬

وقد‭ ‬سحبتني‭ ‬هذه‭ ‬الترجمات‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬لغاتها‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬ممثّلًا‭ ‬للسودان‭ ‬ولمصر‭ ‬وللنمسا‭ ‬مرات‭ ‬ومرات؛‭ ‬فنلت‭ ‬معارف‭ ‬ثرية‭ ‬وصداقات‭ ‬حقيقية‭ ‬ومحبات‭ ‬مستمرة‭ ‬هي‭ ‬الأغلى‭ ‬في‭ ‬مسيرتي‭ ‬الأدبية‭.‬

الترجمة‭ ‬أراض‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الواسع‭ ‬لك‭ ‬فيها‭ ‬نصيب،‭ ‬وفضاء‭ ‬لك‭ ‬فيه‭ ‬نجوم‭ ‬تضيء‭. ‬هي‭ ‬أملاك‭ ‬مجازية‭ ‬مشتركة‭ ‬لها‭ ‬إحساس‭ ‬الغبطة‭ ‬والنعيم‭ ‬والزهد‭.‬

‭-‬ما‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬تكتبها‭ ‬بشكل‭ ‬مغاير؟

‭- ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬شيئًا‭ ‬وندمت‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬النشر،‭ ‬فقط‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬أنظر‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تضاف‭ ‬إليه‭ ‬فقرة‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يحذف‭ ‬منه‭ ‬سطران‭ ‬أو‭ ‬فقرتان،‭ ‬وهذا‭ ‬إحساس‭ ‬زماني‭ ‬طبيعي،‭ ‬ويعتمد‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬تراكم‭ ‬الخبرات‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ ‬وعلى‭ ‬قلقه‭ ‬الصحي‭ ‬الضروري‭ ‬للإتقان‭ ‬والتجويد‭. ‬لكني‭ ‬أفضّل‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬جديدًا،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أرمم‭ ‬قديمًا‭ ‬انتهى‭ ‬■