العين المبدعة بين السارد والرائي

العين المبدعة بين السارد والرائي

تمثل‭ ‬العين‭ ‬للسارد،‭ ‬ولفن‭ ‬السرد‭ ‬عمومًا،‭ ‬تلك‭ ‬الإضاءة‭ ‬المطلة‭ ‬لاستكشاف‭ ‬العالم‭ ‬ببعديه‭ ‬الظاهري‭ ‬الملموس،‭ ‬والباطني‭ ‬المحسوس،‭ ‬الذي‭ ‬يستنطق‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إنتاج‭ ‬الدلالة‭ ‬الحية‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬حالات‭ ‬صمته‭ ‬وسكونه‭ ‬وجموده،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬وتنفذ‭ ‬إلى‭ ‬أغوار‭ ‬بعيدة‭ ‬شديدة‭ ‬الخصوصية‭ ‬واللماحية،‭ ‬لتعبر‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الظاهري‭/ ‬الخفي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأعين‭ ‬الراصدة‭ ‬أو‭ ‬المترقبة‭ ‬لمشهدية‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬المعتاد‭. ‬

كما‭ ‬تمثل‭ ‬حالة‭ ‬الرائي‭/ ‬المستبطن‭ ‬لما‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬المشهدية‭ ‬التي‭ ‬تغدو‭ ‬وتروح‭ ‬أمامها‭ ‬لتشكل‭ ‬ضفيرة‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬المرئي‭ ‬وغير‭ ‬المرئي‭ ‬بهذه‭ ‬الاستحالة‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬عنها‭ ‬الأدب،‭ ‬لتصب‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬المتلقي‭ (‬الناقد‭) ‬العين‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬تكتمل‭ ‬بها‭ ‬أضلاع‭ ‬المثلث‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬هيئة‭ ‬الإبداع،‭ ‬بهذه‭ ‬السمة‭ ‬التكاملية‭ ‬التي‭ ‬لولاها‭ ‬لفقد‭ ‬الأدب‭ ‬والإبداع‭ ‬معيارية‭ ‬وحاكمية‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني،‭ ‬أو‭ ‬الغاية‭ ‬التي‭ ‬يتغياها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الواقع،‭ ‬أو‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬حيز‭ ‬مواز‭ ‬لذاك‭ ‬الواقع‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬حقيقيًا‭ ‬أو‭ ‬متخيلًا‭.‬

‭ ‬

شعاع‭ ‬العين

يمثل‭ ‬شعاع‭ ‬العين‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬منها‭ ‬نحو‭ ‬معانقة‭ ‬الأشياء‭ ‬ذ‭ ‬بدايةً‭ - ‬حجر‭ ‬زاوية‭ ‬ومحركا‭ ‬مهما‭ ‬جدًا‭ ‬لاصطياد‭ ‬اللحظة‭ ‬المرتهنة‭ ‬بالمكان‭/ ‬الكادر،‭ ‬الذي‭ ‬يترجم‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الوجود‭ ‬عبر‭ ‬سرد‭/ ‬رصد‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬فيها‭ ‬الحالة،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬العنان‭ ‬لتلك‭ ‬البؤرة‭ ‬المشعة‭ ‬التي‭ ‬تمتطي‭ ‬عنصري‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬كي‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬لا‭ ‬مألوف‭/ ‬مألوف‭ ‬مغاير‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬السواء،‭ ‬لتكون‭ ‬عينًا‭ ‬ساردة‭ ‬بامتياز‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬أركان‭ ‬الصورة‭/ ‬المشهد،‭ ‬وزاوية‭ ‬التقاط‭ ‬البؤر‭ ‬التي‭ ‬ينعكس‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬الشعاع‭ ‬ليعبر‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الخصوصية‭ ‬التي‭ ‬تمتح‭ ‬منها‭ ‬الشخوص‭ ‬المتحركة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحيز‭ ‬ببعديه‭ ‬الفيزيقيين‭ ‬اللذين‭ ‬يمثلان‭ ‬إحداثيات‭ ‬العلاقة‭ ‬الأفقية‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬والرأسية‭ ‬في‭ ‬تصاعد‭ ‬حركة‭ ‬الزمن‭ ‬بالمرور‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬الحالة،‭ ‬أو‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬في‭ ‬حكي‭ ‬التفاصيل‭ ‬بالاسترجاع،‭ ‬وهي‭ ‬تلك‭ ‬المساحة‭ ‬المشحونة‭ ‬بالتفاصيل،‭ ‬التي‭ ‬ترتحل‭ ‬إليها‭ ‬العين‭ ‬كي‭ ‬تسبر‭ ‬غور‭ ‬الماضي،‭ ‬سواء‭ ‬بسرد‭ ‬الوقائع‭ ‬أو‭ ‬بالمتخيل‭.‬

‭ ‬إذن،‭ ‬فالمتخيل‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬عنصر‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الإبهار‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بها‭ ‬شعاع‭ ‬العين‭ ‬ليحد‭ ‬من‭ ‬البصر،‭ ‬وينطلق‭ ‬إلى‭ ‬مجازات‭ ‬أخرى،‭ ‬والعين‭ ‬هنا‭ ‬مشارك‭ ‬متورط‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬يشحذها‭ ‬ذهن‭ ‬السارد،‭ ‬متكئا‭ ‬على‭ ‬التفاصيل‭ ‬المعطاة‭ ‬لتعقد‭ ‬جدلية‭/ ‬حتمية‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المرسل‭ ‬والمستقبل‭ ‬بنوعـــــيه،‭ ‬فنحـــــن‭ ‬إذا‭ ‬تتـــــبعنا‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬سبـــيل‭ ‬المثال‭ - ‬بداية‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬نظرة‮»‬‭ ‬ليوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬كعلامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬القصة‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬قصص‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬أرخص‭ ‬ليالي‮»‬؛‭ ‬فإننا‭ ‬ندرك‭ ‬منذ‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬المباغتة‭ ‬التي‭ ‬يبادر‭ ‬بها‭ ‬السارد‭ ‬العليم‭/ ‬الشاهد‭ ‬على‭ ‬التفاصيل،‭ ‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تقتنصها‭ ‬العين‭ ‬ويخرقها‭ ‬شعاع‭ ‬عين‭ ‬السارد،‭ ‬وهي‭ ‬تمر‭ ‬حاملة‭ ‬الصاج‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬المختارين‭ ‬لهذه‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تتأسس‭ ‬بين‭ ‬ذهن‭ ‬السارد‭ ‬وعينه‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وجسم‭ ‬الفتاة‭ ‬المادي‭ ‬المتحرك‭ ‬وما‭ ‬تحمله‭ ‬ذ‭ ‬ماديًا‭ ‬ومعنويًا‭ - ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬

‮«‬ولم‭ ‬تطل‭ ‬دهشتي‭ ‬وأنا‭ ‬أحدق‭ ‬في‭ ‬الطفلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬الحيرى،‭ ‬وأسرعت‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الحمل‭ ‬وتلمست‭ ‬سبلا‭ ‬كثيرة،‭ ‬وأنا‭ ‬أسوي‭ ‬الصينية‭ ‬فيميل‭ ‬الحوض،‭ ‬وأعدل‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬الصاج‭ ‬فتميل‭ ‬الصينية،‭ ‬ثم‭ ‬أضبطهما‭ ‬معا‭ ‬فيميل‭ ‬رأسها‭ ‬هي‭. ‬ولكنني‭ ‬نجحت‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬تثبيت‭ ‬الحمل،‭ ‬وزيادة‭ ‬في‭ ‬الاطمئنان‭ ‬نصحتها‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الفرن،‭ ‬وكان‭ ‬قريبًا‭ ‬حيث‭ ‬تترك‭ ‬الصاج‭ ‬وتعود‭ ‬فتأخذه‭. ‬لست‭ ‬أدري‭ ‬ما‭ ‬دار‭ ‬في‭ ‬رأسها،‭ ‬فما‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬لها‭ ‬رأسًا‭ ‬وقد‭ ‬حجبه‭ ‬الحمل‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬أنها‭ ‬انتظرت‭ ‬قليلا‭ ‬لتتأكد‭ ‬من‭ ‬قبضتها‭ ‬ثم‭ ‬مضت‭ ‬وهي‭ ‬تغمغم‭ ‬بكلام‭ ‬كثير‭ ‬لم‭ ‬تلتقط‭ ‬أذني‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬كلمة‭ ‬ستي‮»‬‭.‬

 

عين‭ ‬الرائي‭ ‬النافذة

تتمثل‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الرصد‭ ‬والمتابعة،‭ ‬تلك‭ ‬اللماحية‭ ‬العجيبة‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬تأسيسًا‭ ‬للمشهد،‭ ‬كما‭ ‬تصنع‭ ‬تاريخًا‭ ‬للفتاة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬المرصودة،‭ ‬التي‭ ‬تنبئ‭ ‬عن‭ ‬شريحتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ووقوعها‭ ‬في‭ ‬حيز‭ ‬القهر‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭ ‬تختصر‭ ‬معنى‭ ‬العبودية،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬ستي‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعطي‭ ‬عمقًا‭ ‬دلاليًا‭ ‬ينوب‭ ‬عن‭ ‬الشرح‭ ‬ويستبطن‭ ‬الحالة‭ ‬الشعورية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬الفتاة‭ ‬بتلك‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬من‭ ‬الشعاع‭ ‬الخارجي‭ ‬الراصد،‭ ‬إلى‭ ‬الشعاع‭ ‬النافذ‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الشخصية‭ ‬المأزومة،‭ ‬بتبصير‭ ‬زاوية‭ ‬السارد‭ ‬وزاوية‭ ‬المتلقي‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬جديدة‭ (‬ثالثة‭) ‬ترصد‭ ‬مع‭ ‬السارد‭ ‬تداعيات‭ ‬الحالة‭ ‬وتفاصيل‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬تلتهمه‭ ‬العينان‭ ‬التهامًا،‭ ‬وتشارك‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬بمدركات‭ ‬العين‭ ‬اللاقطة،‭ ‬التي‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬وأركانه‭.‬

‭ ‬‮«‬وراقبتها‭ ‬في‭ ‬عجب‭ ‬وهي‭ ‬تنشب‭ ‬قدميها‭ ‬العاريتين‭ ‬كمخالب‭ ‬الكتكوت‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وتهتز‭ ‬وهي‭ ‬تتحرك‭ ‬ثم‭ ‬تنظر‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬بالفتحات‭ ‬الصغيرة‭ ‬الداكنة‭ ‬السوداء‭ ‬في‭ ‬وجهها،‭ ‬وتخطو‭ ‬خطوات‭ ‬ثابتة‭ ‬قليلة،‭ ‬وقد‭ ‬تتمايل‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬ولكنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تستأنف‭ ‬المضي‭. ‬راقبتها‭ ‬طويلا‭ ‬حتى‭ ‬امتصتني‭ ‬كل‭ ‬دقيقة‭ ‬من‭ ‬حركاتها‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬أتوقع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ثانية‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬الكارثة‮»‬‭.‬

تلعب‭ ‬التفاصيل‭ ‬المرصودة‭ ‬هنا‭ ‬دورًا‭ ‬فاعلًا‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬أزمة‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬حيث‭ ‬تلتقمها‭ ‬عدسة‭ ‬الكاميرا‭ ‬المسلطة‭ ‬فيما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬تقنية‭ ‬‮«‬الزووم‭ ‬إن‮»‬،‭ ‬ليحدث‭ ‬للسارد‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬التورط‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬الفتاة،‭ ‬ثم‭ ‬التعمق‭ ‬والاستغراق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬لها،‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬الرائي‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬تحت‭ ‬الجلد‭ ‬من‭ ‬مخاوف‭ ‬وارتعاشات‭ ‬وهواجس‭ ‬تترجمها‭ ‬العين‭ ‬الواعية‭ ‬التي‭ ‬تمتلك‭ ‬حساسية‭ ‬الغوص‭ ‬فيما‭ ‬وراء‭ ‬الواقع‭/ ‬الصورة،‭ ‬ليتجسد‭ ‬الحس‭ ‬الميتافيزيقي‭ ‬الرؤيوي‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬درجة‭ ‬حساسية‭ ‬العين‭ ‬الساردة‭ (‬الكاتب‭) ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬المادي‭ ‬الظاهر‭ ‬والمعنوي‭ ‬الغاطس‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الفتاة‭. ‬

 

مجهر‭ ‬كبير

هنا‭ ‬تتحول‭ ‬العين‭ ‬إلى‭ ‬مجهر‭ ‬كبير‭ ‬يتلصص‭ ‬على‭ ‬حركات‭ ‬ونأمات‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬ما‭ ‬يصل‭ ‬به‭ ‬حد‭ ‬التقمص‭ ‬والتوحد،‭ ‬وهي‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬تمثلات‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬حيث‭ ‬تمثل‭ ‬الهواجس‭ ‬والمتخيلات‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬النفسية‭ ‬أو‭ ‬التحليل‭ ‬الذهني‭ ‬لتلك‭ ‬الذات‭ ‬المجبولة‭ ‬على‭ ‬القهر،‭ ‬التي‭ ‬يتشارك‭ ‬معها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬السارد‭ ‬والمتلقي‭ ‬الشعور‭ ‬نفسه‭ ‬بالقهر‭ ‬والعجز‭ ‬ورقة‭ ‬الحال،‭ ‬ما‭ ‬يورط‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التعاطف‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬التوقع‭/ ‬الحدس‭ ‬البغيض،‭ ‬والتنبؤ‭ ‬بسقوط‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الاستغراق‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬والتلبس‭ ‬بها‭ ‬والتحول‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬أخرى‭ ‬داخلية‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وتشاركها‭ ‬في‭ ‬مكونها‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الحس‭ ‬والحدس‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬السواء‭.‬

‮«‬وحين‭ ‬وصلت‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‭ ‬والحوض‭ ‬والصينية‭ ‬في‭ ‬أتم‭ ‬اعتدال،‭ ‬أما‭ ‬هي‭ ‬فكانت‭ ‬واقفة‭ ‬في‭ ‬ثبات‭ ‬تتفرج،‭ ‬ووجهها‭ ‬المنكمش‭ ‬الأسمر‭ ‬يتابع‭ ‬كرة‭ ‬المطاط‭ ‬يتقاذفها‭ ‬أطفال‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬حجمها‭ ‬وأكبر‭ ‬منها،‭ ‬وهم‭ ‬يهللون‭ ‬ويصرخون‭ ‬ويضحكون‮»‬‭.‬

هنا‭ ‬تلتقط‭ ‬العين‭ ‬مشهدًا‭ ‬جديدًا‭ ‬مطمئنًا‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬خط‭ ‬سير‭ ‬الطفلة،‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬في‭ ‬تبادلية‭/ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬مواز‭ ‬لحركة‭ ‬عين‭ ‬السارد‭ ‬نحوها،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مفارقة‭ ‬من‭ ‬مفارقات‭ ‬النص‭ ‬القصصي‭ ‬العبقري،‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬أخرى‭ ‬تشاهد‭ ‬وتقارن‭ ‬ـ‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬ـ‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬ثبات‭ ‬تخفي‭ ‬حالة‭ ‬حركة‭ ‬داخلية‭ ‬موازية‭ ‬أيضا‭ ‬لحركة‭ ‬أترابها‭ ‬وهم‭ ‬يمارسون‭ ‬حقهم‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬اللعب،‭ ‬وهي‭ ‬إحالة‭ ‬شديدة‭ ‬الذكاء‭ ‬والأهمية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬الغاطس‭ ‬للفتاة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظرتها‭ ‬المنكسرة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬نظرات‭ ‬الأطفال‭ ‬الضاحكة‭ ‬المعبرة‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬مضادة‭ ‬لحالتها،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬كملمح‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬المفارقة‭ ‬التي‭ ‬يلعب‭ ‬عليها‭ ‬النص،‭ ‬ويجسد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تلك‭ ‬الانعكاسات‭ ‬شديدة‭ ‬التباين‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬أثرا‭ ‬مباشرا‭ ‬لتركيز‭ ‬العين‭/ ‬العدسة‭ ‬اللاقطة‭ ‬لكاميرا‭ ‬السرد‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬خفايا‭ ‬الذات،‭ ‬ما‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬اعتراك‭ ‬شديد‭ ‬الغرابة‭ ‬والاعتياد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

وذلك‭ ‬يجعل‭ ‬مغامرة‭ ‬العين‭/ ‬مغامرة‭ ‬السرد‭ ‬القصصي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬تتشبث‭ ‬به‭ ‬عين‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬جمود‭ ‬وسكون‭ ‬أمام‭ ‬المشهد‭ ‬الضاغط‭ ‬على‭ ‬وعيها‭ ‬بتكريس‭ ‬إحساسها‭ ‬لفقد‭ ‬طفولتها‭ ‬ومرحها،‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬نفسية‭ ‬شديدة‭ ‬الغور‭ ‬استطاعت‭ ‬عين‭ ‬الرائي‭ ‬أن‭ ‬تجسدها‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬ولا‭ ‬سطحي،‭ ‬ولا‭ ‬ممعن‭ ‬في‭ ‬المأساوية،‭ ‬حيث‭ ‬تبلغ‭ ‬درجة‭ ‬الثبات‭ ‬الانفعالي‭ ‬التي‭ ‬تبديها‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬حدًا‭ ‬من‭ ‬العجب‭ ‬وإحداث‭ ‬المفارقة‭ ‬الحسية‭/ ‬الصادمة‭ ‬لما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قناعة‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتبادلها‭ ‬وعيها‭ ‬مع‭ ‬نظرة‭ ‬السارد‭.‬

‮«‬ولم‭ ‬تلحظني،‭ ‬ولم‭ ‬تتوقف‭ ‬كثيرًا،‭ ‬فمن‭ ‬جديد‭ ‬راحت‭ ‬مخالبها‭ ‬الدقيقة‭ ‬تمضي‭ ‬بها،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تنحرف‭ ‬استدارت‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬واستدار‭ ‬الحمل‭ ‬معها،‭ ‬وألقت‭ ‬على‭ ‬الكرة‭ ‬والأطفال‭ ‬نظرة‭ ‬طويلة‭ ‬ثم‭ ‬ابتلعتها‭ ‬الحارة‮»‬‭.‬

واستمرت‭ ‬النظرة‭ ‬تتوازى‭ ‬بين‭ ‬السارد‭/ ‬المسرود‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬تبادلية‭ ‬عجيبة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلتقي‭ ‬أشعتا‭ ‬عينيهما،‭ ‬ولا‭ ‬لمرة‭ ‬واحدة‭ ‬ربما‭ ‬انتصارا‭ ‬لمبدأ‭ ‬أن‭ ‬الأشياء‭ ‬المتوازية‭ ‬لا‭ ‬تتلاقى‭... ‬ليأتي‭ ‬الوصف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شعاع‭ ‬عين‭ ‬السارد‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬للاحتفاظ‭ ‬بآخر‭ ‬ملامح‭ ‬للبنت،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬عبر‭ ‬عنها‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬مخالبها‭ ‬الدقيقة‮»‬،‭ ‬تشبيها‭ ‬لها‭ ‬بالقطة‭ ‬التي‭ ‬تتوازى‭ ‬معها‭ ‬حياتها‭ ‬اللامرئية‭ ‬للعين‭ ‬الساردة،‭ ‬وتوحدها‭ ‬مع‭ ‬حملها‭ ‬ببعده‭ ‬الدلالي‭ ‬العميق‭ ‬لذاتها‭ ‬وشخصيتها‭ ‬وتاريخها‭ ‬المجهول‭ ‬معا،‭ ‬ليبتلع‭ ‬المكان‭/ ‬الحارة،‭ ‬آخر‭ ‬شعاع‭ ‬للعين‭ ‬الراصدة‭ ‬بعمق،‭ ‬كما‭ ‬تبتلع‭ ‬استدارة‭ ‬البنت‭ ‬وانصرافها‭ ‬كلية‭ ‬وبمعدل‭ ‬الثبات‭ ‬الانفعالي‭ ‬نفسه،‭ ‬لآثار‭ ‬شعاع‭ ‬عينيها‭ ‬اللتين‭ ‬غاصتا‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬المكان‭/ ‬الحارة‭ ‬أيضًا،‭ ‬لتلعب‭ ‬العين‭ ‬دورًا‭ ‬ثلاثي‭ ‬الأبعاد‭ ‬يجسد‭ ‬لتلك‭ ‬العلاقة‭ ‬المتكاملة‭ ‬بين‭ ‬السارد‭ ‬والمسرود‭ ‬عنه‭ ‬والمتلقي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬عينه‭ ‬تلتهم‭ ‬المشهد‭ ‬وتظل‭ ‬مصرة‭ ‬على‭ ‬إكماله‭ ‬بفعل‭ ‬حرفية‭ ‬الرؤية‭ ‬العالية‭ ‬لعين‭ ‬السارد‭ ‬أو‭ ‬عدسته‭ ‬البارعة‭ ‬‭.