العين المبدعة بين السارد والرائي
تمثل العين للسارد، ولفن السرد عمومًا، تلك الإضاءة المطلة لاستكشاف العالم ببعديه الظاهري الملموس، والباطني المحسوس، الذي يستنطق الأول في حالة من التأثير والتأثر، ومن ثم إنتاج الدلالة الحية على الوجود حتى في أشد حالات صمته وسكونه وجموده، فهي التي تغطي مساحات شاسعة وتنفذ إلى أغوار بعيدة شديدة الخصوصية واللماحية، لتعبر عن الجانب الظاهري/ الخفي في الوقت ذاته عن كثير من الأعين الراصدة أو المترقبة لمشهدية الوجود في المعتاد.
كما تمثل حالة الرائي/ المستبطن لما وراء تلك الحركات المشهدية التي تغدو وتروح أمامها لتشكل ضفيرة من الوجود المرئي وغير المرئي بهذه الاستحالة التي يعبر عنها الأدب، لتصب في النهاية في عين المتلقي (الناقد) العين الثالثة التي تكتمل بها أضلاع المثلث الرئيسة التي تمثل هيئة الإبداع، بهذه السمة التكاملية التي لولاها لفقد الأدب والإبداع معيارية وحاكمية وجوده على مستوى الوعي الإنساني، أو الغاية التي يتغياها من أجل إعادة إنتاج الواقع، أو الوقوع في حيز مواز لذاك الواقع سواء كان حقيقيًا أو متخيلًا.
شعاع العين
يمثل شعاع العين الذي ينطلق منها نحو معانقة الأشياء ذ بدايةً - حجر زاوية ومحركا مهما جدًا لاصطياد اللحظة المرتهنة بالمكان/ الكادر، الذي يترجم حالة من حالات الوجود عبر سرد/ رصد التفاصيل التي تكمن فيها الحالة، ولنا أن نطلق العنان لتلك البؤرة المشعة التي تمتطي عنصري المكان والزمان كي تعبر عن لا مألوف/ مألوف مغاير على حد السواء، لتكون عينًا ساردة بامتياز تعتمد على أركان الصورة/ المشهد، وزاوية التقاط البؤر التي ينعكس عليها هذا الشعاع ليعبر عن تلك الخصوصية التي تمتح منها الشخوص المتحركة في هذا الحيز ببعديه الفيزيقيين اللذين يمثلان إحداثيات العلاقة الأفقية في المكان، والرأسية في تصاعد حركة الزمن بالمرور إلى الأمام في سرد الحالة، أو الرجوع إلى الخلف في حكي التفاصيل بالاسترجاع، وهي تلك المساحة المشحونة بالتفاصيل، التي ترتحل إليها العين كي تسبر غور الماضي، سواء بسرد الوقائع أو بالمتخيل.
إذن، فالمتخيل هنا هو عنصر من عناصر الإبهار الذي يأتي بها شعاع العين ليحد من البصر، وينطلق إلى مجازات أخرى، والعين هنا مشارك متورط في الحركة التي يشحذها ذهن السارد، متكئا على التفاصيل المعطاة لتعقد جدلية/ حتمية العلاقة بين المرسل والمستقبل بنوعـــــيه، فنحـــــن إذا تتـــــبعنا ذ على سبـــيل المثال - بداية قصة «نظرة» ليوسف إدريس، كعلامة من علامات القصة العربية، وهي إحدى قصص مجموعته «أرخص ليالي»؛ فإننا ندرك منذ الوهلة الأولى هذه الحركة المباغتة التي يبادر بها السارد العليم/ الشاهد على التفاصيل، هذه البنت الصغيرة التي تقتنصها العين ويخرقها شعاع عين السارد، وهي تمر حاملة الصاج في ظل المكان والزمان المختارين لهذه العلاقة التي تتأسس بين ذهن السارد وعينه من جهة، وجسم الفتاة المادي المتحرك وما تحمله ذ ماديًا ومعنويًا - من جهة أخرى.
«ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلا كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيرًا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه. لست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل. كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي».
عين الرائي النافذة
تتمثل في عملية الرصد والمتابعة، تلك اللماحية العجيبة التي تصنع تأسيسًا للمشهد، كما تصنع تاريخًا للفتاة من خلال تلك الحركة المرصودة، التي تنبئ عن شريحتها الاجتماعية ووقوعها في حيز القهر بكلمة واحدة تختصر معنى العبودية، وهي كلمة «ستي» تلك التي تعطي عمقًا دلاليًا ينوب عن الشرح ويستبطن الحالة الشعورية التي تعاني منها الفتاة بتلك النظرة التي تتحول من الشعاع الخارجي الراصد، إلى الشعاع النافذ في عمق الشخصية المأزومة، بتبصير زاوية السارد وزاوية المتلقي الذي يتحول إلى عين جديدة (ثالثة) ترصد مع السارد تداعيات الحالة وتفاصيل المشهد الذي تلتهمه العينان التهامًا، وتشارك في تشكيل الوعي بمدركات العين اللاقطة، التي تلعب دورا حاسما في تحديد بنية النص وأركانه.
«وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلا حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة».
تلعب التفاصيل المرصودة هنا دورًا فاعلًا في تجسيد أزمة الفتاة الصغيرة، حيث تلتقمها عدسة الكاميرا المسلطة فيما يقرب من تقنية «الزووم إن»، ليحدث للسارد حالة من حالات التورط في متابعة الفتاة، ثم التعمق والاستغراق في كل ما يجري لها، ما يجعله يتحول إلى عين الرائي التي ترى ما تحت الجلد من مخاوف وارتعاشات وهواجس تترجمها العين الواعية التي تمتلك حساسية الغوص فيما وراء الواقع/ الصورة، ليتجسد الحس الميتافيزيقي الرؤيوي الذي يعبر عن درجة حساسية العين الساردة (الكاتب) على المستويين المادي الظاهر والمعنوي الغاطس في ذات الفتاة.
مجهر كبير
هنا تتحول العين إلى مجهر كبير يتلصص على حركات ونأمات الفتاة الصغيرة ما يصل به حد التقمص والتوحد، وهي صورة من صور تمثلات الذات في السرد، حيث تمثل الهواجس والمتخيلات بعضًا من الترجمة النفسية أو التحليل الذهني لتلك الذات المجبولة على القهر، التي يتشارك معها كل من السارد والمتلقي الشعور نفسه بالقهر والعجز ورقة الحال، ما يورط الكتابة في هذا التعاطف الذي يصل إلى درجة التوقع/ الحدس البغيض، والتنبؤ بسقوط الفتاة في أي وقت دلالة على مدى الاستغراق في الحالة والتلبس بها والتحول إلى عين أخرى داخلية لا تستطيع الانفصال عن الفتاة الصغيرة، وتشاركها في مكونها الإنساني على مستوى الحس والحدس على حد السواء.
«وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون».
هنا تلتقط العين مشهدًا جديدًا مطمئنًا على سلامة خط سير الطفلة، التي تحولت في تبادلية/ رد فعل مواز لحركة عين السارد نحوها، وهي التي لا تدري به في مفارقة من مفارقات النص القصصي العبقري، إلى عين أخرى تشاهد وتقارن ـ بطريقة غير مباشرة ـ وفي حالة ثبات تخفي حالة حركة داخلية موازية أيضا لحركة أترابها وهم يمارسون حقهم الطبيعي في اللعب، وهي إحالة شديدة الذكاء والأهمية على هذا التاريخ الغاطس للفتاة من خلال نظرتها المنكسرة في مقابل نظرات الأطفال الضاحكة المعبرة عن حالة مضادة لحالتها، وفي الوقت ذاته كملمح آخر من ملامح المفارقة التي يلعب عليها النص، ويجسد من خلالها تلك الانعكاسات شديدة التباين التي تكون أثرا مباشرا لتركيز العين/ العدسة اللاقطة لكاميرا السرد على إبراز خفايا الذات، ما حولها من اعتراك شديد الغرابة والاعتياد في الوقت نفسه.
وذلك يجعل مغامرة العين/ مغامرة السرد القصصي لا تتوقف عند الحد الذي تتشبث به عين الفتاة في حالة جمود وسكون أمام المشهد الضاغط على وعيها بتكريس إحساسها لفقد طفولتها ومرحها، في علاقة نفسية شديدة الغور استطاعت عين الرائي أن تجسدها بشكل غير مباشر ولا سطحي، ولا ممعن في المأساوية، حيث تبلغ درجة الثبات الانفعالي التي تبديها الفتاة الصغيرة حدًا من العجب وإحداث المفارقة الحسية/ الصادمة لما هي عليه من قناعة حتى من خلال النظرة التي لم يتبادلها وعيها مع نظرة السارد.
«ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة».
واستمرت النظرة تتوازى بين السارد/ المسرود عنه في تبادلية عجيبة، من دون أن تلتقي أشعتا عينيهما، ولا لمرة واحدة ربما انتصارا لمبدأ أن الأشياء المتوازية لا تتلاقى... ليأتي الوصف من خلال شعاع عين السارد الذي قاده للاحتفاظ بآخر ملامح للبنت، وهي التي عبر عنها
بـ «مخالبها الدقيقة»، تشبيها لها بالقطة التي تتوازى معها حياتها اللامرئية للعين الساردة، وتوحدها مع حملها ببعده الدلالي العميق لذاتها وشخصيتها وتاريخها المجهول معا، ليبتلع المكان/ الحارة، آخر شعاع للعين الراصدة بعمق، كما تبتلع استدارة البنت وانصرافها كلية وبمعدل الثبات الانفعالي نفسه، لآثار شعاع عينيها اللتين غاصتا في عمق المكان/ الحارة أيضًا، لتلعب العين دورًا ثلاثي الأبعاد يجسد لتلك العلاقة المتكاملة بين السارد والمسرود عنه والمتلقي الذي كانت عينه تلتهم المشهد وتظل مصرة على إكماله بفعل حرفية الرؤية العالية لعين السارد أو عدسته البارعة .