التغيّر المناخي ومصير البَشَر

ضمن فعاليات الدورة السادسة للمنتدى الدولي للاتصال الحكومي التي عقدت في إكسبو الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، أواخر شهر مارس 2017م، حضرت جلسة حوارية مهمّة بعنوان «التغيّر المناخي... هل من حلول؟» تحدث فيها نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، رئيس ومؤسس مشروع «الواقع المناخي»، آل غور، الذي تفرّغ بعد ابتعاده عن عالم السياسة لقضايا عالَم البيئة، وبخاصة ظاهرة التغيّر المناخي التي اعتبرها تهديدًا للسّلْم العالمي، وقد نبّه آل غور إلى خطورة غياب الوعي بقضية التغيّر المناخي على مستوى المجتمع، ومدى تأثير ذلك على مستقبل المناخ على المستوى العالمي، لأن الجهود التي تبذل لن تحقق غاياتها المنشودة دون وجود وعي مجتمعي وإدراك على مستوى الأفراد.
تذكرتُ تفاصيل الجلسة الحوارية المذكورة، وعدتُ إلى الأوراق التي دوّنت فيها ملاحظاتي، بعد أن تناقلت وسائل الإعلام في بداية شهر يوليو الماضي أخبار موجة الحر الشديدة التي ضربت قارة أوربا ستّة أيام كاملة، قيل إنها ناجمة عن كتل هوائية ساخنة قدمت من الصحراء الكبرى.
ففي بعض مناطق فرنسا تجاوزت درجة الحرارة 45 درجة مئوية، وفي ألمانيا سجلت 39 درجة، أما في إسبانيا فقد احترق 3500 هكتار في إقليم كتالونيا خلال 6 ساعات فقط، وقال وزير داخلية الإقليم ميكيل بوك: لم نواجه حريقًا بهذه الخطورة منذ 20 عامًا. ونال العديد من الدول الأوربية نصيبها من موجة الحر، بما فيها الدول الإسكندنافية، إذ وصلت الحرارة في مناطق من الدنمارك والسويد إلى 30 درجة مئوية.
تحرُّك جماعي
قدّم آل غور رؤيته التشخيصية لواقع التغيّر المناخي، الذي وصفه بأنه صِدام مباشر للحضارة البشرية مع كوكب الأرض، نتيجة التقدم التكنولوجي وتنامي عدد السكان، مضيفًا أن عديدًا من البلدان تواجه تحديات كبيرة، مثل الأعاصير وارتفاع مستوى البحر وانتشار الأمراض، وكلها نتائج للتغيّر المناخي، وهي جميعًا عوامل تخلق ظروفًا تهدد السّلم العالمي، ونحن يجب علينا أن نخلق عالمًا أفضل للأطفال، لا أن نورثّهم عالمًا مليئًا بالفوضى وغير مستقر، فمثلاً توجد قضايا عدة تصنّف كتداعيات للتغير المناخي، ومنها الجفاف الذي يؤدي إلى نزوح الناس والهجرة، وهو ما يشكّل تحديًا أمنيًّا لكثير من الدول في العالم.
وقد أشاد آل غور بالجهود التي بذلتها منظمة الأمم المتحدة حتى تمكنت من التوصل إلى اتفاق للقضاء على انبعاثات الغازات الدفيئة، لكنّ الجهود الأممية لن تكفي من دون تعاون دول العالم كافة، مما يتطلب ضرورة التحرك السريع لتغيير نمط التفكير السائد في العالم حاليًا، ودور المعرفة والعلم أساسي في هذا المجال.
وبيّن نائب الرئيس الأمريكي السابق أن الاستقرار السياسي مهم لتعزيز منظومة التعاون الدولي، بهدف وضع الحلول للحد من تداعيات التغير المناخي، موضحًا أن الأديان السماوية جميعها (الإسلام والمسيحية واليهودية) تشجّع على ثقافة الحياة وتدين ثقافة الموت، ومؤكدًا ضرورة تبنّي شعوب العالم ثقافة الحياة والتوعية العامة لفهم خطورة الموقف الراهن، وأنه يجب على الجميع التحرك معًا لحماية الكوكب، كشرط لاستمرار الحياة للأجيال القادمة.
غلاف رقيق
وفي نبرة مليئة بمشاعر من لامس حجم الأزمة التي يعيشها العالم، قال آل غور في هذا الإطار: االإنسان يميل إلى إنكار ما يزعجه، لكننا اليوم لا نستطيع إنكار التهديد القائم، ولا نريد اختبار غضب الطبيعةب.
وتوقف عند محاولات البعض ممن يحاولون الهيمنة على التفكير العام وتضليله، مستشهدًا بما قامت به شركات التبغ التي وجّهت أطباء وعلماء لينشروا معلومات مفادها أنه لا إثبات علميًّا على خطورة التدخين، في حين أنه، منذ سنوات مضت، اكتشف العلم أن التدخين سبب رئيس لأمراض القلب والرئتين وسواهما، لكنّ شركات التبغ الكبرى حاولت تقويض هذا التوافق العلمي، وأضاف أن هناك من يحاول في زمننا الحالي القيام بالشيء ذاته عندما نتحدث عن التغيّر المناخي، وهنا يأتي دور العلم الحقيقي والجامعات والمؤسسات الأكاديمية لإثبات عكس ذلك.
وأضاف آل غور: اقد تبدو لنا السماء بوابة لفضاء فسيح، لكنها في الحقيقة غلاف رقيق يعاني خطر التداعي كل يوم، نتيجة انبعاث أكثر من 110 أطنان من الملوثات التي يتلقّاها الجو، وتؤدي بشكل مباشر إلى اتّساع ثقب الأوزون، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة ومنسوب مياه البحرب.
وعن التدهور الحاصل في البيئة، استشهد بتقرير للبنك الدولي أُعدّ بالتعاون مع معهد المقاييس والتقييم الصحي الصادر في سبتمبر 2016، يشير إلى أن تلوث الهواء يكلف الاقتصاد العالمي أكثر من 225 مليار دولار، بسبب غياب الموظفين عن العمل، والتكاليف المستحقة للرعاية الصحية، كما أشار التقرير أيضًا إلى أن 5.5 ملايين حالة وفاة في عام 2013م كانت نتيجة مباشرة لتلوث الهواء.
شمس العرب... طاقة وفيرة
كان من الطبيعي بعد نهاية كلمة آل غور، أن تنهال الأسئلة التي انصبّ معظمها على أفضل الحلول الممكنة لمواجهة مخاطر التغيّر المناخي، وخاصة أن التداعيات المتوقّعة خطيرة، في ظل إجماع كثير من الخبراء حول العالم على استمرارية ارتفاع درجات الحرارة في الكرة الأرضية، وتمدد الموجات الحارة القياسية، لتصل إلى أماكن لم تصل إليها من قبل.
في البداية، رأى آل غور أن المدخل لبداية الحل يبدأ بأن تجيب الحكومات كافة على ثلاثة أسئلة رئيسة في سعيها إلى فهم المشكلة وإيجاد الحلول لها، وهي: كيف سيتم التغيير؟ وماذا يمكن أن تفعله ليتم التغيير؟ ومتى سنبدأ بالتغيير؟ مشددًا على ضرورة التحرك العالمي وتسخير كل الجهود لحماية كوكب الأرض.
وأشار آل غور إلى أن بعض الحكومات في قارة أوربا والأمريكتين بدأت بوضع ضريبة على الكربون، وكانت لفتة ذكية منه عندما ربط بين أهمية الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والدور الذي تستطيع الحكومات القيام به في منطقة الخليج لتعزيز مسيرة التنمية المستدامة، لكونها تمتلك إمكانات كبيرة لتوليد الطاقة الشمسية في شبكة كهربية شمسية متكاملة، وأن الإمارات تحديدًا تسير بخطى صحيحة في هذا المجال، قائلًا اإن تجربتها جديرة بالاتباع والتكرار في أرجاء المنطقة كافةب.
لقد أصاب آل غور عندما ذكر أهمية الطاقة الشمسية في منطقة مضيئة تتمتع بخزين لا ينضب من شمس لا تفارقها سوى لفترات محدودة جدًا.
وأوضح أن الطاقة المتجددة أقل تكلفة من الوقود الأحفوري، وتتناسب مع مختلف مناخات الدول وجغرافيّتها، فهناك الطاقة المولّدة من الرياح ومن المياه الجارية ومن الشمس، والتطور التكنولوجي اليوم يتيح فرصة لمعالجة الآثار الناجمة عن التغيّر المناخي وتبعاته.
مستقبل الحضارة البشرية
لقد شكلت تلك الجلسة الحوارية مع نائب الرئيس الأمريكي محطة مهمّة من محطات متابعاتي لأخبار التحولات العميقة في مناخ الكرة الأرضية ومستقبل الحضارة البشرية التي انحصرت مخاوفها في خطر انتشار أسلحة الدمار الشامل والحروب وتلوّث البحار والمحيطات، ونقص الموارد، وأشياء أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي جميعها - أي تلك المخاطر السابقة - تحظى باهتمام بالغ، نظرًا لارتباطها بعالمَي السياسة والاقتصاد، إلا أن الخطر الأكبر الذي لا يفرّق بين قارات العالم، وهو التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض - وليس منطقة بعينها - أصبح قريبًا جدًّا.
لقد سجّل معهد الأرصاد الجوية الفرنسي في قرية غالارغو لومونتيو، القريبة من مدينة مونبيلييه، درجة 45.9 مئوية، مما أدى إلى رفع حالة التأهب من الحر إلى الدرجة القصوى لأول مرة في تاريخه، ومنذ البدء بتدوين سجلات الطقس في القرن التاسع عشر، سجلت الأرصاد الجوية الفرنسية 45.9 درجة مئوية، نحن هنا نتحدث عن فرنسا لا الكويت!
كانت المحطة الأولى لي مع قضايا البيئة قد تمثّلت في جريمة إحراق قوات الجيش العراقي أكثر من سبعمئة بئر نفطية قبل اندحارها في حرب تحرير الكويت عام 1991م، وهنا لن أتحدث عن الآثار البيئية المدمرة التي أصابت الكويت أرضًا وبحرًا وجوًّ، لكنني سأشير إلى حركة الغيوم السوداء الكثيفة التي حملتها حركة الرياح لتلفّ العالم وتصل إلى الصين واليابان وجزر هاواي، بعد أن استمرت آبار النفط في الاشتعال نحو ثمانية أشهر، حتى تم إطفاء آخر بئر في السادس من نوفمبر 1991م، تلك التجربة القاسية تعلّمنا منها أن كل ما يحصل في العالم، وخصوصًا على الصعيد البيئي، يمسّنا بصورة أو بأخرى، ومن هنا تأتي أهمية التحرك الجماعي في مواجهة التغيّر المناخي واعتباره خطرًا داهمًا يواجه مستقبل الحضارة البشرية.
صدمات بيئية
إن ذلك الخطر البيئي، رغم الاتفاقيات الدولية، وآخرها اتفاق باريس الذي انسحبت منه الولايات المتحدة الأمريكية، لا يزال سوى بداية التحرك الجماعي على مستوى الحكومات، ونجاحها مرهون بمؤشرات انخفاض درجات حرارة الأرض، لكن ماذا عن الشعوب ودرجة وعيها بحقيقة ما يحصل؟
هي بالـتأكيد ليست على مستوى واحد من الإدراك، ولكن كيف يمكن أن نطلب من شعوب الدول غير الصناعية أن تساهم في التخفيف من آثار مشكلة لم تساهم هي في خلقها؟ وكيف لأحد أن يتوقع صناعة وعي في مناطق لا تحظى بأوضاع معيشية وتعليمية ملائمة؟ أعتقد أن هذه العملية لن تحقق مرادها دون صدمات بيئية تعيد ترتيب أولويات المخاطر التي تواجه العالم.
إن موجات الحر التي أصابت أوربا، والدول الصناعية البارزة فيها على وجه التحديد، لم تكن شرًّا بالمطلق، إذ يمكن أن نرى فيها جانبًا آخر يصبّ في اتجاه اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تقلل من مخاطر النشاط الصناعي، وتعيد توزيع أنصبة المواد الإعلامية في وسائل الإعلام المختلفة، حيث تحظى قضية التغيّر المناخي بنصيب أكبر، كما ستحظى أحزاب البيئة بدعم أكبر من القواعد الجماهيرية، ليس فقط من أجل الانتخابات، لكن من أجل أن تتبنى بقية الأحزاب قضايا البيئة بشكل حقيقي، وليس فقط أثناء الحملات الانتخابية. الجامعات والمراكز البحثية والمخترعون سيحظون، بدورهم، بفرص أكبر نحو اكتشاف المزيد من المخترعات الصديقة للبيئة.
البندقية تُغرق المالديف
إن صبر الكرة الأرضية على عبث الإنسان بالبيئة أسطوري ولا مثيل له منذ بداية الثورة الصناعية، مرورًا بإنشاء المصانع ورمي مخلفاتها في البحر، وانتهاء بصناعة القنابل الذرية وتفجيرها فوق سطح الأرض وفي باطنها، لكنّها تعبّر عن غضبها بين الحين والآخر، في مكان وآخر، من خلال ظواهر قد يجد لها بعض العلماء تفسيرات، مثل الزلازل أو ثورات البراكين، وقد لا يجدون لها تفسيرات قاطعة مثل الـ اتسوناميب، الذي ارتفعت فيه أمواج المحيط الهندي إلى 15 مترًا لتضرب الشواطئ في عدة دول، وتقتل أكثر من مئة وخمسين ألف إنسان.
إن البشر يلوّثون البحار التي يأكلون منها، ويدفنون النفايات النووية في الأرض التي يعيشون فوقها، ويقطعون الأشجار التي يتنفسون منها الأوكسجين، والأرض تحاول منذ عشرات السنين التكيّف مع العبث الإنساني الذي أخلّ بتوازنها قدر الإمكان، لكن يبدو أن الكأس فاضت، وها هي موجات الحر تضرب الدول الباردة، ومعدل ذوبان الجليد في الأماكن المتجمدة يزداد، وهو ما يعني أن المياه ستغمر الأراضي المنخفضة وبعض الجزر، البندقية الإيطالية مثلاً تغرق، وجزر المالديف كذلك، الشيء اللافت في هذا الجانب هو أن تلك التغييرات التي تحصل تتم بمعدلات أسرع مما يتوقعه العلماء.
في الوقت متّسع
لقد أوجدت الحروب من ناحية والأوضاع الاقتصادية السيئة في بعض الدول من ناحية أخرى، مشكلة الهجرة التي تشتكي منها قارة أوربا اليوم، ومن الممكن توقّع انحسارها بتوقّف حالة الحرب وعودة الاستقرار، لكن كيف يمكن مواجهة المهاجرين بسبب الجفاف؟
ومما ذكره آل غور أن من تداعيات التغير المناخي، الجفاف الذي يؤدي إلى نزوح الناس، وهو ما يشكّل تحديًّا أمنيًّا لكثير من الدول في العالم، هذه الصور المتلاحقة للمستقبل تعني أن الكثير من القضايا الدولية المتشابكة أصلاً سيدخل من ضمنها آثار التغيّر المناخي، وقد سجّل التاريخ الكثير من الهجرات نتيجة التصحر؛ إما لعوامل طبيعية أو من صنع الإنسان، ومع تزايد البشر وتقلّص المساحة الزراعية لن تكون الوجهة سوى للمناطق الوفيرة بالماء والطعام والأمان.
في الختام، هذه ليست سوى دعوة إلى إعادة ترتيب جدول المخاطر التي تواجه البشرية برمّتها، لأن الصدام مع الطبيعة هو صدام شامل غير تقليدي مع الوجود البشري على الكرة الأرضية، ولحُسن الحظ أنه لا يزال في الوقت متّسع لتجنبه والوعي الجمعي بإدراك مخاطره يسير ببطء في الاتجاه الصحيح .