ظاهرة الإرهاب وتعدُّد المقاربات التفسيرية... وقفة للتأمل
درج عدد من الباحثين ومراكز البحث والدول في العالم، ومختلف الفاعلين الذين يتصدون للفكر الإرهابي، على مقاربة ظاهرة الإرهاب، انطلاقًا من المستند الديني الثقافي والفكري الأيديولوجي ، أو مقولة «ردكلة الإسلام» جيل كيبيل - 2015 ، أو من خلال المدخل الاجتماعي بالربط الميكانيكي بين الفقر والهشاشة وانتعاش الفكر المتطرف، أو حينما يتم التركيز على المدخل السيكولوجي الذي يقوم على فرضية قابلية الشخص للمرض النفسي البارانوريا والإقدام على الانتحار الحيدري - 2015، أو من خلال المدخل السياسي الجيواستراتيجي، الذي يفترض نظرية المؤامرة كنظرية لتفسير الفعل الإرهابي، خصوصًا في الربط بين الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين، وبروز الشعور بالإهانة وسط الأجيال الحالية، مما يؤدي إلى استضمار الحقد والحنق الدفينين التاريخيين، ويدفع باتجاه تبني مقولة الانتقام للتاريخ وللمسلمين، وهي الأطروحة التي يدافع عنها الباحث الفرنسي فرانسوا بيرغا .
كل تلك الأطروحات، أو المداخل التفسيرية لظاهرة الإرهاب العالمي، التي رشحت أخيرًا، تجعل المتتبع لهذه الأطروحات، يستخلص تضاربًا في وجهات النظر، إلى حد تناقضها. بل أكثر من ذلك، يعاد السؤال المحرق: هل يمكن اعتبار ظاهرة الإرهاب عصيّة على الفهم والتفسير؟ أم أن المشكل مرتبط بالمنهج؟ وأخيرًا ألا يمكن القول إن حجم الظاهرة وتركيبيتها يحتمان مدخلًا أكثر تفسيرية، وبمقاربات متعددة التخصصات، أو ما نحب أن نسميّه المقاربة البديلة؟
من الناحية المنهجية، سنعمل على بسط كل نظرية على حدة، وبعدها ننتقل إلى إبراز حدودها التفسيرية. في هذا السياق، يمكن البدء بأهم نظرية شغلت عديدًا من الباحثين وصنّاع القرار، هي المقاربة الثقافية/ الدينية للإرهاب، إذ تمثّل هذه المقاربة واحدة من أكثر المقاربات التي يتم الاستناد إليها في تفسير الفعل الإرهابي، وهي تقوم على فرضية أن القراءة النصية والحرفية لبعض النصوص الدينية )القرآنية والحديثية(, هي التي تغذّي مقولات العنف والإرهاب، وذلك بربطهما بشكل متسرّع، ومن دون إعمال القراءة السياقية والمقاصدية، بمفهوم الجهاد.
وقد برزت هذه القراءات في سياق متحول في العالم العربي والإسلامي، لعل من بين خصائصه الكبرى، بروز الفكر المتطرف المستند إلى القراءات التأويلية للنصوص الدينية، والذي تفجّر مع الفورة الإعلامية التي عرفها العالم بأسره، والتي استغلت المعطى الديني في تغذية الفكر الإرهاب والعنفي، خصوصًا في ظل تراجع المعرفة الدينية، سواء للأجيال المتعاقبة للمسلمين، أو من خلال فئة المتحولين إلى الدين الإسلامي في بقية مناطق العالم.
جينية عنفية
وقد اعتمد عديد من الباحثين (جيل كيبيل على سبيل المثال لا الحصر)، ومراكز التفكير والمؤسسات الرسمية وصنّاع القرار، على هذه الفرضية، إلى حد أن اعتبروها «مسلّمة» في تفسير وفهم الظاهرة الإرهابية. بيد أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، هل يمكن الاستسلام لهذه الفرضية؟ هل من المعقول أن نجاري القول بأن الدين أو الأديان تتضمن في محمولاتها الأيديولوجية نصوصًا تدعو إلى العنف، بالشكل الذي يجعلنا نتماهى مع مواقف الإدانة وتحميلها المسؤولية، كما هو الشأن مع جيل كيبيل الذي يستخلص قارئ مشروعه، أن الأديان - وبشكل خاص الدين الإسلامي - يتضمن «جينية عنفية»، تدفع معتنقيها إلى الدخول في عملية «الردكلة» المتطرفة، ومن ثم الإرهاب الديني؟ (انظر، حوار ساري حنفي مع فرانسوا بيرغا، 2018، إضافات).
إن الجواب عن هذا السؤال هو بالنفي، لأن النصوص لا تتحرك وحدها من دون تفاعل سياقي ونسقي بينها وبين البنيات الثقافية للخرائط الدينية المجتمعية.
اعتبارًا لكل ذلك، يمكن القول إن القراءة السطحية والاختزالية للإرهاب بربطه بالنص الديني، تقفز على معطيات موضوعية عدة. وهذه القراءة تستبعد بشكل غير مفهوم مختلف الديناميات التي تعتمل في الواقع وفي المخيال، والتي هي من التعقيد والتركيب، ما يدفع هؤلاء الباحثين والمهتمين وصنّاع القرار إلى إعادة النظر في هذه الفرضية، ومن جهة أخرى، في تنسيب أحكام القيمة، التي أصبحت تلصق بالدين الإسلامي، عبر ما يُسمّى اليوم في الأدبيات الأكاديمية بـ «الإسلاموفوبيا».
مدخل سيكولوجي
بالموازاة مع هذه المقاربة، برز المدخل السيكولوجي، الذي يعد واحدًا من المداخل التي تمكّن الباحثين من فهم العديد من الظواهر الإنسانية، ومن بينها الظاهرة الإرهابية، لما تمثّله من تداخل بين ما هو نفسي واجتماعي واقتصادي. وقد أضحى البُعد النفسي، اليوم، مثار عدد من الباحثين والعلماء والمهتمين، خصوصًا بعد الثورات المعرفية التي عرفها هذا الحقل، فيما يعرف اليوم بـ «علم النفس المعرفي». بيد أن ذلك لا يعني مطلقًا أننا بتنا أمام تخصص يقدم الجواب النهائي لكل أدواء المجتمع.
طبعًا لا يمكن أن نتصور أن أي فرد هو مشروع انتحاري؟ من دون أن تقوم وسائط التنشئة الاجتماعية والنفسية بتغذية هذه القابليات، خصوصًا عندما يحصل للفرد، بعض الإحباطات الكبرى في حياته، ولا يجد ما يسعفه لتحقيق الذات.
وقد يتسلل إليه الإحساس بالعدمية، وهي شعور قوي يهجم على النفس البشرية، فيجعلها تستجيب لبعض القرارات غير المنطقية عقليًّا، لكنها مبررة من الناحية النفسية، لأنها تشكّل «تعويضًا» عن الإحباط السيكولوجي الذي يتخبط فيه الفرد/ أو الجماعة، وهو ما يظهر في القيام بعمليات إرهابية، يتخيل فيها الفرد، أنه يقوم
بـ «واجب» ديني وتاريخي تجاه نفسه وتجاه «أمته».
طبعًا قد يصطدم هذا التحليل بمجموعة من الاعتراضات التي تبين مدى محدودية تفسيره، لأننا لو جارينا هذا التحليل، وحاولنا أن نطبّقه على كل «الحالات الإرهابية»، لتبين أننا أمام تفسير غير مطابق لواقع معقّد. من ذلك مثلاً، أننا في العالم العربي والإسلامي، نعيش حالة من الاحتقان وانسداد الأفق لا مثيل لها، مما قد يعتقد معه البعض أن كل الأفراد والحساسيات هي عناصر إرهابية بامتياز، بيد أن الواقع لا يفضي إلى ذلك، ولا يؤدي دائمًا إلى النتائج نفسها.
فهم الواقع المركّب
قد يحصل أن يكون شخصان يعيشان الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسيكولوجية نفسها، لكن تصرفهما لا يفضي إلى النتائج ذاتها، مما يشكّك في تفسيرية هذه النظريات، ويجعلها غير قادرة على النفاذ إلى فهم الواقع المركّب للمجتمعات ولمختلف الديناميات التي تعتمل فيه.
وكما أكّد روا في نقده لهذه المقاربة، عندما قال: «واختصارًا فإن الحدود بين الجنون والتطرفية ضبابية، وهذا سبب إضافي لفهم لماذا يستميل داعش أفرادًا مختلفين.
في حين تمثّل المقاربة الجيواستراتيجية إغراء لعديد من الباحثين، إذ - رغم كونها تمتح من نظرية المؤامرة - فإن تفحُّص منطلقاتها كفيل بفهم بعض ما لا يظهر في التحليل العام لظاهرة الإرهاب العالمية، إذ إن أهم فكرة تركز عليها هذه المقاربة، هي أن الصراع التاريخي والحضاري بين المسلمين والمسيحيين واليهود، هو الذي غذى ويغذي وسيغذي الفكر الإرهابي في العالم.
فيجب ألا ننسى أن ترسبات الماضي لا تذوب بسرعة وتبقى حاضرة في المخيال والوجدان، وتعتمل في اللاشعور بشكل قد لا يفهمه حتى الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات متعددة ثقافيًّا، وهو ما يحصل لعديد من المتحولين من ديانات أخرى، إلى الدين الإسلامي، علاوة على استمرار الحروب والصراعات في المنطقة الشرق أوسطية، حيث يتم تقديم تفسير بسيط، لكنه نافذ إلى عقول وقلوب عديد من الشباب المسلم اليوم، مفاده، أن الغرب الأورو - أمريكي، ما دام يواصل هجومه على «الحضارة والدين الإسلاميين» في المنطقة، فإن ذلك ما يعكس حقيقة «العداء للإسلام والمسلمين».
استحضار المُعطى الديني
ولهذا تم التركيز في هذا التحليل على الخطابات الرسمية التي كان الرؤساء الأمريكيون (جورج بوش الأب مثلاً) يلقونها عندما يتحدثون عن دواعي الحرب على العراق، باستحضار المعطى الديني والحضاري، ممثلًا في «الحروب المقدسة». وهذا الأمر تم تأويله على أنه «حروب صليبية جديدة».
ولهذا نجد عديدًا من الباحثين (فرانسوا بيركا ، وجيرار برونور ، يتحدثون عن «انتقام المسلمين لله وللأمة»، عندما يقومون بعمليات إرهابية ضد المنشآت والمباني والسفارات الأمريكية أو الأوربية، إلا أنه تبيّن من خلال الانتقادات التي وجّهت لهذا التوجه، أنه لا توجد علاقة منطقية بين من يقوم بالعمليات الإرهابية وبين الأشخاص الذين يشعرون بالإحباط من جراء الهجمات الأورو - أمريكية على مناطق الشرق الأوسط.
وأخيرًا، فإن المقاربة الـسوسيواجتماعية للإرهاب، تشكّل إحدى المقاربات التي تتردد في وسائل الإعلام بشكل كبير، وعلى ألسن الباحثين والناس العاديين، لدرجة أنها أصبحت تشكل الجواب الجاهز، كلما وقعت حادثة إرهابية ما بأي مكان في العالم. والحاصل أن هذه المقاربة التي أطلقنا عليها المقاربة «السوسيواجتماعية»، تغري بالتبني، لكونها تستند إلى معطيات موضوعية وقابلة للمعاينة. فواقع الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، يؤدي إلى بروز عديد من المظاهر والظواهر، ليس آخرها ظاهرة الإرهاب.
أزمة مزدوجة
في ظل ظروف التهميش التي تطول عديدًا من أحزمة المدن العربية والإسلامية، بل وحتى في الدول الأوربية، حيث نجد أن الأفراد يعيشون «أزمة مزدوجة» تتمثّل في أنهم يعيشون في مجتمعات تسير بوتائر تنموية متعددة المسارات. إذ في الوقف الذي لا يجد فيه الشاب العاطل عن العمل، والذي لا يتوفّر على مؤهل مهني ومعرفي يساعده على الاندماج في سوق الشغل والحياة الاجتماعية، يتوافر لديه عبر التدفق الإعلامي الإلكتروني، عديد من المغريات والإغراءات التي تحفزه على الانخراط في مغامرة البحث عن تحقيق الأمن المادي والاجتماعي والنفسي والعاطفي، حيث إن العديد من الأبحاث والدراسات والاستقصاءات، بيّنت هذا الربط بين الهشاشة الاجتماعية وعدم القدرة على الإشباع النفسي والاجتماعي والعاطفي، مما يدفع في اتجاه البحث عن حلول ممكنة لتحقيق ذلك، ولو عن طريق الإرهاب.
وبالموازاة مع هذا التحليل، يضاف عامل آخر، والمتعلق بالمسلمين الموجودين بالديار الأوربية، وهي مسألة الاندماج، وفشل بعض الدول في إقرار سياسية إدماجية ومندمجة، مثل (فرنسا وبلجيكا وإسبانيا)، مما يغذي عناصر التوتر بين هذه الجاليات وبين المجتمع، ويدفع في تأجيج الصراع والصراع المضاد. وهو ما يتجلى في استقطاب «داعش» لآلاف من المسلمين (سواء الأصليين أو المتحوّلين) لصفوفه، باللعب على هذا الوتر الحساس، وهو التشكيك في جدوى المواطنة وتحقق الأمن الاجتماعي.
بين الهشاشة والتطرف
بيد أنه بالرغم من «وجاهة» هذا التفسير، فإن عديدًا من الدراسات والأبحاث بيّنت أنه لا يمكن الاستسلام لهذا الربط بين الهشاشة الاجتماعية واللااندماج، وبروز الفكر الإرهابي والعمل العنفي، بديل أننا نجدد عددًا من الحالات تعيش في أوضاع مزرية جدًّا، لكنها لا تنخرط في الإرهاب. وقد نجد حالات مندمجة للغاية وتعيش وضعًا مريحًا، لكنها تنخرط في الإرهاب.
وهذا يعني أننا قد نجد حالات من الشباب المسلم الذي يعيش في أوربا، يعيش باندماج ويتمتع بحقوقه كاملة، ولا يشعر بأي نوع من الوصم الاجتماعي، أو الإقصاء أو التمييز، لكنه في الوقت نفسه ينخرط في الحركات الإرهابية، مما يجعلنا نستنتج أننا أمام براديغم تحليلي جديد، يقطع مع الكليشيهات التي كانت تلصق بالإرهابيين، والتي تربط ربطًا كسولًا بين الهشاشة والتطرف.
بناء على ما سبق، يتضح من خلال المقاربات السابقة، أنها بقدر ما تساعد الباحثين وصنّاع القرار في العالم، على تلمُّس واضح لظاهرة مركبّة جدًّا، حتى لا نقول معقّدة، فإنها تزيد من ضبابية الرؤية، خصوصًا إذا اعتقد البعض أن مدخلاً من هذه المداخل يعد «الأقوم» والأقدر على تقديم التفسير المناسب.
وقد بيّنا أن الأمر يفوق هذا المستوى، نظرًا لكون الظاهرة ترتبط بكل محمولات الإنسان، وبكل ما يعتمل في بيئته وواقعه ومحيطه الصغير أو الكبير، ولهذا فإن أهم فكرة يمكن التقاطها من هذه المساهمة الأوّلية والمتواضعة، هو أننا بحاجة إلى تعديد مداخل الفهم والتفسير، بتجاوز المقاربات الاختزالية إلى مقاربة أشمل وأكثر اتساعًا، ومن منطلق تعدد التخصصات. فلا علم الاجتماع يستطيع أن يقدم رؤية كاملة عن الموضوع، ولا علم النفس، ولا الأنثروبولوجيا ولا علم السياسة، بل إننا ندعو إلى تجمّع لكل التخصصات للدول، في مقاربة بديلة.
وأخيرًا، وبما أن الأمر يقتضي تغيير المقاربة/ المقاربات التي اعتمدت في الآونة الأخيرة لمواجهة الفكر المتطرف، وذلك عندما تم التركيز على خطاب دفاعي تبريري، إما بإظهار أن الإسلام/ الدين لا يحمل بذور التعصب والتطرف والإرهاب، أو من خلال تبرير أن الدين براء من الإرهاب، وأن المشكل ينطوي على مسألة التأويل المغرض للنصوص. أو من خلال تقديم بديل تنموي مطابق، يكون بمنزلة الجواب عن الهشاشة الاجتماعية والإقصاء والتمييز، أو حتى من خلال تبني خطاب يدعو إلى السّلم والتعايش والكفّ عن «صناعة الإرهاب» بوقف كل أشكال العنف المادي في المنطقة الشرق أوسطية.
خطاب هجومي
فإن ذلك في تصورنا لا يعد كافيًا، بل إننا نتصور أن يتم الانتقال إلى منطق أو براديغم تحليلي آخر، يقوم على ما يسمى بـ «المقاربة البديلة»، وهي المقاربة التي تنبني على معطيات علمية وبأدوات تجريبية وبخبرة ميدانية، يتم استجلاؤها من الميدان، أو عبر الوقوف عند الخطاب المروّج في مختلف الوسائط التي يروّجها التيار الداعشي أو الإرهابي بصفة عامة. وفي مرحلة ثانية، يتم تقديم خطاب هجومي وليس دفاعيًّا، تأسيسي وليس تبريريًّا، إقناعيّ وليس عاطفيًّا، واضح وليس ملتبسًا، عبر مختلف الوسائط المتاحة والممكنة، وبشكل أكثر بالتركيز على الوسائط التربوية، وعلى رأسها الإعلام، لتقديم صورة واضحة عن الظاهرة.
وبما أن المستهدف الأول والأخير هو شخصية الإنسان المسلم/ سواء العربي أو العالمي، فإن الخطاب يجب أن يتوجه إلى هذه الشخصية التي تحمل عديدًا من التوترات، وعلى رأسها مسألة التصالح مع الذات، وثانيًا عبر إبراز الخاصية الكونية للدين، بدل التقوقع المفضي إلى الانغلاق والشوفينية .
جيل كيبيل