ظاهرة الإرهاب وتعدُّد المقاربات التفسيرية... وقفة للتأمل

ظاهرة الإرهاب وتعدُّد المقاربات التفسيرية... وقفة للتأمل

درج‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬ومراكز‭ ‬البحث‭ ‬والدول‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ومختلف‭ ‬الفاعلين‭ ‬الذين‭ ‬يتصدون‭ ‬للفكر‭ ‬الإرهابي،‭ ‬على‭ ‬مقاربة‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإرهاب،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬المستند‭ ‬الديني‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬،‭ ‬أو‭ ‬مقولة ‭ ‬‮«‬ردكلة‭ ‬الإسلام‮»‬‭ ‬جيل‭ ‬كيبيل‭ - ‬2015 ‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المدخل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بالربط‭ ‬الميكانيكي‭ ‬بين‭ ‬الفقر‭ ‬والهشاشة‭ ‬وانتعاش‭ ‬الفكر‭ ‬المتطرف،‭ ‬أو‭ ‬حينما‭ ‬يتم‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬المدخل‭ ‬السيكولوجي‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬فرضية‭ ‬قابلية‭ ‬الشخص‭ ‬للمرض‭ ‬النفسي‭ ‬البارانوريا‭ ‬ والإقدام‭ ‬على‭ ‬الانتحار ‭‬الحيدري‭ - ‬2015‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المدخل‭ ‬السياسي‭ ‬الجيواستراتيجي،‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة‭ ‬كنظرية‭ ‬لتفسير‭ ‬الفعل‭ ‬الإرهابي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي‭ ‬لبلاد‭ ‬المسلمين،‭ ‬وبروز‭ ‬الشعور‭ ‬بالإهانة‭ ‬وسط‭ ‬الأجيال‭ ‬الحالية،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬استضمار‭ ‬الحقد‭ ‬والحنق‭ ‬الدفينين‭ ‬التاريخيين،‭ ‬ويدفع‭ ‬باتجاه‭ ‬تبني‭ ‬مقولة‭ ‬الانتقام‭ ‬للتاريخ‭ ‬وللمسلمين،‭ ‬وهي‭ ‬الأطروحة‭ ‬التي‭ ‬يدافع‭ ‬عنها‭ ‬الباحث‭ ‬الفرنسي‭ ‬فرانسوا‭ ‬بيرغا‭ .‬

كل‭ ‬تلك‭ ‬الأطروحات،‭ ‬أو‭ ‬المداخل‭ ‬التفسيرية‭ ‬لظاهرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬العالمي،‭ ‬التي‭ ‬رشحت‭ ‬أخيرًا،‭ ‬تجعل‭ ‬المتتبع‭ ‬لهذه‭ ‬الأطروحات،‭ ‬يستخلص‭ ‬تضاربًا‭ ‬في‭ ‬وجهات‭ ‬النظر،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬تناقضها‭. ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬يعاد‭ ‬السؤال‭ ‬المحرق‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬عصيّة‭ ‬على‭ ‬الفهم‭ ‬والتفسير؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬المشكل‭ ‬مرتبط‭ ‬بالمنهج؟‭ ‬وأخيرًا‭ ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬حجم‭ ‬الظاهرة‭ ‬وتركيبيتها‭ ‬يحتمان‭ ‬مدخلًا‭ ‬أكثر‭ ‬تفسيرية،‭ ‬وبمقاربات‭ ‬متعددة‭ ‬التخصصات،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬نحب‭ ‬أن‭ ‬نسميّه‭ ‬المقاربة‭ ‬البديلة؟

من‭ ‬الناحية‭ ‬المنهجية،‭ ‬سنعمل‭ ‬على‭ ‬بسط‭ ‬كل‭ ‬نظرية‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬وبعدها‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬إبراز‭ ‬حدودها‭ ‬التفسيرية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يمكن‭ ‬البدء‭ ‬بأهم‭ ‬نظرية‭ ‬شغلت‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬وصنّاع‭ ‬القرار،‭ ‬هي‭ ‬المقاربة‭ ‬الثقافية‭/ ‬الدينية‭ ‬للإرهاب،‭ ‬إذ‭ ‬تمثّل‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المقاربات‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬الاستناد‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الفعل‭ ‬الإرهابي،‭ ‬وهي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬فرضية‭ ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬النصية‭ ‬والحرفية‭ ‬لبعض‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ )‬القرآنية‭ ‬والحديثية‭(‬, هي‭ ‬التي‭ ‬تغذّي‭ ‬مقولات‭ ‬العنف‭ ‬والإرهاب،‭ ‬وذلك‭ ‬بربطهما‭ ‬بشكل‭ ‬متسرّع،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬إعمال‭ ‬القراءة‭ ‬السياقية‭ ‬والمقاصدية،‭ ‬بمفهوم‭ ‬الجهاد‭.‬

وقد‭ ‬برزت‭ ‬هذه‭ ‬القراءات‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬متحول‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬لعل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬خصائصه‭ ‬الكبرى،‭ ‬بروز‭ ‬الفكر‭ ‬المتطرف‭ ‬المستند‭ ‬إلى‭ ‬القراءات‭ ‬التأويلية‭ ‬للنصوص‭ ‬الدينية،‭ ‬والذي‭ ‬تفجّر‭ ‬مع‭ ‬الفورة‭ ‬الإعلامية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬بأسره،‭ ‬والتي‭ ‬استغلت‭ ‬المعطى‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬تغذية‭ ‬الفكر‭ ‬الإرهاب‭ ‬والعنفي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تراجع‭ ‬المعرفة‭ ‬الدينية،‭ ‬سواء‭ ‬للأجيال‭ ‬المتعاقبة‭ ‬للمسلمين،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فئة‭ ‬المتحولين‭ ‬إلى‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬مناطق‭ ‬العالم‭. ‬

 

جينية‭ ‬عنفية

وقد‭ ‬اعتمد‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ (‬جيل‭ ‬كيبيل‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭)‬،‭ ‬ومراكز‭ ‬التفكير‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬وصنّاع‭ ‬القرار،‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬اعتبروها‭ ‬‮«‬مسلّمة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬وفهم‭ ‬الظاهرة‭ ‬الإرهابية‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬الاستسلام‭ ‬لهذه‭ ‬الفرضية؟‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬نجاري‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬الأديان‭ ‬تتضمن‭ ‬في‭ ‬محمولاتها‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬نصوصًا‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬العنف،‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتماهى‭ ‬مع‭ ‬مواقف‭ ‬الإدانة‭ ‬وتحميلها‭ ‬المسؤولية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬جيل‭ ‬كيبيل‭ ‬الذي‭ ‬يستخلص‭ ‬قارئ‭ ‬مشروعه،‭ ‬أن‭ ‬الأديان‭ - ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ -  ‬يتضمن‭ ‬‮«‬جينية‭ ‬عنفية‮»‬،‭ ‬تدفع‭ ‬معتنقيها‭ ‬إلى‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬الردكلة‮»‬‭ ‬المتطرفة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الإرهاب‭ ‬الديني؟‭ (‬انظر،‭ ‬حوار‭ ‬ساري‭ ‬حنفي‭ ‬مع‭ ‬فرانسوا‭ ‬بيرغا،‭ ‬2018،‭ ‬إضافات‭).‬

إن‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬هو‭ ‬بالنفي،‭ ‬لأن‭ ‬النصوص‭ ‬لا‭ ‬تتحرك‭ ‬وحدها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفاعل‭ ‬سياقي‭ ‬ونسقي‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬البنيات‭ ‬الثقافية‭ ‬للخرائط‭ ‬الدينية‭ ‬المجتمعية‭.‬

اعتبارًا‭ ‬لكل‭ ‬ذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬القراءة‭ ‬السطحية‭ ‬والاختزالية‭ ‬للإرهاب‭ ‬بربطه‭ ‬بالنص‭ ‬الديني،‭ ‬تقفز‭ ‬على‭ ‬معطيات‭ ‬موضوعية‭ ‬عدة‭. ‬وهذه‭ ‬القراءة‭ ‬تستبعد‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مفهوم‭ ‬مختلف‭ ‬الديناميات‭ ‬التي‭ ‬تعتمل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وفي‭ ‬المخيال،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬التعقيد‭ ‬والتركيب،‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الباحثين‭ ‬والمهتمين‭ ‬وصنّاع‭ ‬القرار‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬تنسيب‭ ‬أحكام‭ ‬القيمة،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تلصق‭ ‬بالدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬يُسمّى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الإسلاموفوبيا‮»‬‭.‬

مدخل‭ ‬سيكولوجي

بالموازاة‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة،‭ ‬برز‭ ‬المدخل‭ ‬السيكولوجي،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬المداخل‭ ‬التي‭ ‬تمكّن‭ ‬الباحثين‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الظاهرة‭ ‬الإرهابية،‭ ‬لما‭ ‬تمثّله‭ ‬من‭ ‬تداخل‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬نفسي‭ ‬واجتماعي‭ ‬واقتصادي‭. ‬وقد‭ ‬أضحى‭ ‬البُعد‭ ‬النفسي،‭ ‬اليوم،‭ ‬مثار‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والعلماء‭ ‬والمهتمين،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬الثورات‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬هذا‭ ‬الحقل،‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬علم‭ ‬النفس‭ ‬المعرفي‮»‬‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬مطلقًا‭ ‬أننا‭ ‬بتنا‭ ‬أمام‭ ‬تخصص‭ ‬يقدم‭ ‬الجواب‭ ‬النهائي‭ ‬لكل‭ ‬أدواء‭ ‬المجتمع‭. ‬

طبعًا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬فرد‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬انتحاري؟‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬وسائط‭ ‬التنشئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية‭ ‬بتغذية‭ ‬هذه‭ ‬القابليات،‭ ‬خصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬يحصل‭ ‬للفرد،‭ ‬بعض‭ ‬الإحباطات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يسعفه‭ ‬لتحقيق‭ ‬الذات‭.‬

وقد‭ ‬يتسلل‭ ‬إليه‭ ‬الإحساس‭ ‬بالعدمية،‭ ‬وهي‭ ‬شعور‭ ‬قوي‭ ‬يهجم‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬فيجعلها‭ ‬تستجيب‭ ‬لبعض‭ ‬القرارات‭ ‬غير‭ ‬المنطقية‭ ‬عقليًّا،‭ ‬لكنها‭ ‬مبررة‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬النفسية،‭ ‬لأنها‭ ‬تشكّل‭ ‬‮«‬تعويضًا‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الإحباط‭ ‬السيكولوجي‭ ‬الذي‭ ‬يتخبط‭ ‬فيه‭ ‬الفرد‭/ ‬أو‭ ‬الجماعة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بعمليات‭ ‬إرهابية،‭ ‬يتخيل‭ ‬فيها‭ ‬الفرد،‭ ‬أنه‭ ‬يقوم‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬واجب‮»‬‭ ‬ديني‭ ‬وتاريخي‭ ‬تجاه‭ ‬نفسه‭ ‬وتجاه‭ ‬‮«‬أمته‮»‬‭. ‬

طبعًا‭ ‬قد‭ ‬يصطدم‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الاعتراضات‭ ‬التي‭ ‬تبين‭ ‬مدى‭ ‬محدودية‭ ‬تفسيره،‭ ‬لأننا‭ ‬لو‭ ‬جارينا‭ ‬هذا‭ ‬التحليل،‭ ‬وحاولنا‭ ‬أن‭ ‬نطبّقه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬‮«‬الحالات‭ ‬الإرهابية‮»‬،‭ ‬لتبين‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬تفسير‭ ‬غير‭ ‬مطابق‭ ‬لواقع‭ ‬معقّد‭. ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬مثلاً،‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬نعيش‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الاحتقان‭ ‬وانسداد‭ ‬الأفق‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها،‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يعتقد‭ ‬معه‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الأفراد‭ ‬والحساسيات‭ ‬هي‭ ‬عناصر‭ ‬إرهابية‭ ‬بامتياز،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬ولا‭ ‬يؤدي‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬النتائج‭ ‬نفسها‭.‬

 

فهم‭ ‬الواقع‭ ‬المركّب

‭ ‬قد‭ ‬يحصل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شخصان‭ ‬يعيشان‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسيكولوجية‭ ‬نفسها،‭ ‬لكن‭ ‬تصرفهما‭ ‬لا‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬النتائج‭ ‬ذاتها،‭ ‬مما‭ ‬يشكّك‭ ‬في‭ ‬تفسيرية‭ ‬هذه‭ ‬النظريات،‭ ‬ويجعلها‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬المركّب‭ ‬للمجتمعات‭ ‬ولمختلف‭ ‬الديناميات‭ ‬التي‭ ‬تعتمل‭ ‬فيه‭.‬

‭ ‬وكما‭ ‬أكّد‭ ‬روا‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬لهذه‭ ‬المقاربة،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬‮«‬واختصارًا‭ ‬فإن‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الجنون‭ ‬والتطرفية‭ ‬ضبابية،‭ ‬وهذا‭ ‬سبب‭ ‬إضافي‭ ‬لفهم‭ ‬لماذا‭ ‬يستميل‭ ‬داعش‭ ‬أفرادًا‭ ‬مختلفين‮.

في‭ ‬حين‭ ‬تمثّل‭ ‬المقاربة‭ ‬الجيواستراتيجية‭ ‬إغراء‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬إذ‭ - ‬رغم‭ ‬كونها‭ ‬تمتح‭ ‬من‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة‭ - ‬فإن‭ ‬تفحُّص‭ ‬منطلقاتها‭ ‬كفيل‭ ‬بفهم‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬العام‭ ‬لظاهرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬العالمية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬أهم‭ ‬فكرة‭ ‬تركز‭ ‬عليها‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬والمسيحيين‭ ‬واليهود،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬غذى‭ ‬ويغذي‭ ‬وسيغذي‭ ‬الفكر‭ ‬الإرهابي‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬

فيجب‭ ‬ألا‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬ترسبات‭ ‬الماضي‭ ‬لا‭ ‬تذوب‭ ‬بسرعة‭ ‬وتبقى‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬والوجدان،‭ ‬وتعتمل‭ ‬في‭ ‬اللاشعور‭ ‬بشكل‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يفهمه‭ ‬حتى‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬متعددة‭ ‬ثقافيًّا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬المتحولين‭ ‬من‭ ‬ديانات‭ ‬أخرى،‭ ‬إلى‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬استمرار‭ ‬الحروب‭ ‬والصراعات‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تقديم‭ ‬تفسير‭ ‬بسيط،‭ ‬لكنه‭ ‬نافذ‭ ‬إلى‭ ‬عقول‭ ‬وقلوب‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬المسلم‭ ‬اليوم،‭ ‬مفاده،‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬الأورو‭ - ‬أمريكي،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬يواصل‭ ‬هجومه‭ ‬على‭ ‬‮«‬الحضارة‭ ‬والدين‭ ‬الإسلاميين‮»‬‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬حقيقة‭ ‬‮«‬العداء‭ ‬للإسلام‭ ‬والمسلمين‮»‬‭.‬

 

استحضار‭ ‬المُعطى‭ ‬الديني

ولهذا‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬على‭ ‬الخطابات‭ ‬الرسمية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الرؤساء‭ ‬الأمريكيون‭ (‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬الأب‭ ‬مثلاً‭) ‬يلقونها‭ ‬عندما‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬دواعي‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬العراق،‭ ‬باستحضار‭ ‬المعطى‭ ‬الديني‭ ‬والحضاري،‭ ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحروب‭ ‬المقدسة‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬تم‭ ‬تأويله‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬حروب‭ ‬صليبية‭ ‬جديدة‮»‬‭. ‬

ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ (‬فرانسوا‭ ‬بيركا‭ ‬،‭ ‬وجيرار‭ ‬برونور‭ ‬،‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬انتقام‭ ‬المسلمين‭ ‬لله‭ ‬وللأمة‮»‬،‭ ‬عندما‭ ‬يقومون‭ ‬بعمليات‭ ‬إرهابية‭ ‬ضد‭ ‬المنشآت‭ ‬والمباني‭ ‬والسفارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬أو‭ ‬الأوربية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬تبيّن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الانتقادات‭ ‬التي‭ ‬وجّهت‭ ‬لهذا‭ ‬التوجه،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬علاقة‭ ‬منطقية‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يقوم‭ ‬بالعمليات‭ ‬الإرهابية‭ ‬وبين‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يشعرون‭ ‬بالإحباط‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬الهجمات‭ ‬الأورو‭ - ‬أمريكية‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭.‬

وأخيرًا،‭ ‬فإن‭ ‬المقاربة‭ ‬الـسوسيواجتماعية‭ ‬للإرهاب،‭ ‬تشكّل‭ ‬إحدى‭ ‬المقاربات‭ ‬التي‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬وعلى‭ ‬ألسن‭ ‬الباحثين‭ ‬والناس‭ ‬العاديين،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬تشكل‭ ‬الجواب‭ ‬الجاهز،‭ ‬كلما‭ ‬وقعت‭ ‬حادثة‭ ‬إرهابية‭ ‬ما‭ ‬بأي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬والحاصل‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬التي‭ ‬أطلقنا‭ ‬عليها‭ ‬المقاربة‭ ‬‮«‬السوسيواجتماعية‮»‬،‭ ‬تغري‭ ‬بالتبني،‭ ‬لكونها‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬معطيات‭ ‬موضوعية‭ ‬وقابلة‭ ‬للمعاينة‭. ‬فواقع‭ ‬الهشاشة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬بروز‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المظاهر‭ ‬والظواهر،‭ ‬ليس‭ ‬آخرها‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإرهاب‭.‬

 

أزمة‭ ‬مزدوجة

في‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬التهميش‭ ‬التي‭ ‬تطول‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬أحزمة‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الأفراد‭ ‬يعيشون‭ ‬‮«‬أزمة‭ ‬مزدوجة‮»‬‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬أنهم‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬تسير‭ ‬بوتائر‭ ‬تنموية‭ ‬متعددة‭ ‬المسارات‭. ‬إذ‭ ‬في‭ ‬الوقف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬الشاب‭ ‬العاطل‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يتوفّر‭ ‬على‭ ‬مؤهل‭ ‬مهني‭ ‬ومعرفي‭ ‬يساعده‭ ‬على‭ ‬الاندماج‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الشغل‭ ‬والحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬يتوافر‭ ‬لديه‭ ‬عبر‭ ‬التدفق‭ ‬الإعلامي‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المغريات‭ ‬والإغراءات‭ ‬التي‭ ‬تحفزه‭ ‬على‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬مغامرة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬الأمن‭ ‬المادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والنفسي‭ ‬والعاطفي،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأبحاث‭ ‬والدراسات‭ ‬والاستقصاءات،‭ ‬بيّنت‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الهشاشة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الإشباع‭ ‬النفسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والعاطفي،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬ممكنة‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬ولو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإرهاب‭.‬

وبالموازاة‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التحليل،‭ ‬يضاف‭ ‬عامل‭ ‬آخر،‭ ‬والمتعلق‭ ‬بالمسلمين‭ ‬الموجودين‭ ‬بالديار‭ ‬الأوربية،‭ ‬وهي‭ ‬مسألة‭ ‬الاندماج،‭ ‬وفشل‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬إقرار‭ ‬سياسية‭ ‬إدماجية‭ ‬ومندمجة،‭ ‬مثل‭ (‬فرنسا‭ ‬وبلجيكا‭ ‬وإسبانيا‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬يغذي‭ ‬عناصر‭ ‬التوتر‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الجاليات‭ ‬وبين‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويدفع‭ ‬في‭ ‬تأجيج‭ ‬الصراع‭ ‬والصراع‭ ‬المضاد‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬استقطاب‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬لآلاف‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ (‬سواء‭ ‬الأصليين‭ ‬أو‭ ‬المتحوّلين‭) ‬لصفوفه،‭ ‬باللعب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوتر‭ ‬الحساس،‭ ‬وهو‭ ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬جدوى‭ ‬المواطنة‭ ‬وتحقق‭ ‬الأمن‭ ‬الاجتماعي‭.‬

 

بين‭ ‬الهشاشة‭ ‬والتطرف

‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬‮«‬وجاهة‮»‬‭ ‬هذا‭ ‬التفسير،‭ ‬فإن‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والأبحاث‭ ‬بيّنت‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستسلام‭ ‬لهذا‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الهشاشة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬واللااندماج،‭ ‬وبروز‭ ‬الفكر‭ ‬الإرهابي‭ ‬والعمل‭ ‬العنفي،‭ ‬بديل‭ ‬أننا‭ ‬نجدد‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬أوضاع‭ ‬مزرية‭ ‬جدًّا،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬الإرهاب‭. ‬وقد‭ ‬نجد‭ ‬حالات‭ ‬مندمجة‭ ‬للغاية‭ ‬وتعيش‭ ‬وضعًا‭ ‬مريحًا،‭ ‬لكنها‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬الإرهاب‭. ‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬قد‭ ‬نجد‭ ‬حالات‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬المسلم‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬يعيش‭ ‬باندماج‭ ‬ويتمتع‭ ‬بحقوقه‭ ‬كاملة،‭ ‬ولا‭ ‬يشعر‭ ‬بأي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الوصم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أو‭ ‬الإقصاء‭ ‬أو‭ ‬التمييز،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ينخرط‭ ‬في‭ ‬الحركات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬مما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نستنتج‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬براديغم‭ ‬تحليلي‭ ‬جديد،‭ ‬يقطع‭ ‬مع‭ ‬الكليشيهات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلصق‭ ‬بالإرهابيين،‭ ‬والتي‭ ‬تربط‭ ‬ربطًا‭ ‬كسولًا‭ ‬بين‭ ‬الهشاشة‭ ‬والتطرف‭. ‬

بناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المقاربات‭ ‬السابقة،‭ ‬أنها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تساعد‭ ‬الباحثين‭ ‬وصنّاع‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬على‭ ‬تلمُّس‭ ‬واضح‭ ‬لظاهرة‭ ‬مركبّة‭ ‬جدًّا،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقول‭ ‬معقّدة،‭ ‬فإنها‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬ضبابية‭ ‬الرؤية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬اعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬مدخلاً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المداخل‭ ‬يعد‭ ‬‮«‬الأقوم‮»‬‭ ‬والأقدر‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬التفسير‭ ‬المناسب‭.‬

وقد‭ ‬بيّنا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يفوق‭ ‬هذا‭ ‬المستوى،‭ ‬نظرًا‭ ‬لكون‭ ‬الظاهرة‭ ‬ترتبط‭ ‬بكل‭ ‬محمولات‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬يعتمل‭ ‬في‭ ‬بيئته‭ ‬وواقعه‭ ‬ومحيطه‭ ‬الصغير‭ ‬أو‭ ‬الكبير،‭ ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬أهم‭ ‬فكرة‭ ‬يمكن‭ ‬التقاطها‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المساهمة‭ ‬الأوّلية‭ ‬والمتواضعة،‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعديد‭ ‬مداخل‭ ‬الفهم‭ ‬والتفسير،‭ ‬بتجاوز‭ ‬المقاربات‭ ‬الاختزالية‭ ‬إلى‭ ‬مقاربة‭ ‬أشمل‭ ‬وأكثر‭ ‬اتساعًا،‭ ‬ومن‭ ‬منطلق‭ ‬تعدد‭ ‬التخصصات‭. ‬فلا‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬رؤية‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬الموضوع،‭ ‬ولا‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬ولا‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬ولا‭ ‬علم‭ ‬السياسة،‭ ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬ندعو‭ ‬إلى‭ ‬تجمّع‭ ‬لكل‭ ‬التخصصات‭ ‬للدول،‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬بديلة‭. ‬

وأخيرًا،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يقتضي‭ ‬تغيير‭ ‬المقاربة‭/ ‬المقاربات‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الفكر‭ ‬المتطرف،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬خطاب‭ ‬دفاعي‭ ‬تبريري،‭ ‬إما‭ ‬بإظهار‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭/ ‬الدين‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬بذور‭ ‬التعصب‭ ‬والتطرف‭ ‬والإرهاب،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تبرير‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬براء‭ ‬من‭ ‬الإرهاب،‭ ‬وأن‭ ‬المشكل‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مسألة‭ ‬التأويل‭ ‬المغرض‭ ‬للنصوص‭. ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقديم‭ ‬بديل‭ ‬تنموي‭ ‬مطابق،‭ ‬يكون‭ ‬بمنزلة‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬الهشاشة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والإقصاء‭ ‬والتمييز،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تبني‭ ‬خطاب‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬السّلم‭ ‬والتعايش‭ ‬والكفّ‭ ‬عن‭ ‬‮«‬صناعة‭ ‬الإرهاب‮»‬‭ ‬بوقف‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬العنف‭ ‬المادي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية‭.‬

 

خطاب‭ ‬هجومي

فإن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تصورنا‭ ‬لا‭ ‬يعد‭ ‬كافيًا،‭ ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬نتصور‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬أو‭ ‬براديغم‭ ‬تحليلي‭ ‬آخر،‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المقاربة‭ ‬البديلة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬المقاربة‭ ‬التي‭ ‬تنبني‭ ‬على‭ ‬معطيات‭ ‬علمية‭ ‬وبأدوات‭ ‬تجريبية‭ ‬وبخبرة‭ ‬ميدانية،‭ ‬يتم‭ ‬استجلاؤها‭ ‬من‭ ‬الميدان،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬الخطاب‭ ‬المروّج‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الوسائط‭ ‬التي‭ ‬يروّجها‭ ‬التيار‭ ‬الداعشي‭ ‬أو‭ ‬الإرهابي‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭. ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬ثانية،‭ ‬يتم‭ ‬تقديم‭ ‬خطاب‭ ‬هجومي‭ ‬وليس‭ ‬دفاعيًّا،‭ ‬تأسيسي‭ ‬وليس‭ ‬تبريريًّا،‭ ‬إقناعيّ‭ ‬وليس‭ ‬عاطفيًّا،‭ ‬واضح‭ ‬وليس‭ ‬ملتبسًا،‭ ‬عبر‭ ‬مختلف‭ ‬الوسائط‭ ‬المتاحة‭ ‬والممكنة،‭ ‬وبشكل‭ ‬أكثر‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬الوسائط‭ ‬التربوية،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الإعلام،‭ ‬لتقديم‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬عن‭ ‬الظاهرة‭. ‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬المستهدف‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬هو‭ ‬شخصية‭ ‬الإنسان‭ ‬المسلم‭/ ‬سواء‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬العالمي،‭ ‬فإن‭ ‬الخطاب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتوجه‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬التوترات،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬مسألة‭ ‬التصالح‭ ‬مع‭ ‬الذات،‭ ‬وثانيًا‭ ‬عبر‭ ‬إبراز‭ ‬الخاصية‭ ‬الكونية‭ ‬للدين،‭ ‬بدل‭ ‬التقوقع‭ ‬المفضي‭ ‬إلى‭ ‬الانغلاق‭ ‬والشوفينية‭ .

 

جيل‭ ‬كيبيل