رحلة إلى «التّبت» الصغرى «لاداخ» أرض الممرات الوعرة

رحلة إلى «التّبت» الصغرى «لاداخ»  أرض الممرات الوعرة

لا بأس من الحديث عن الفشل الجميل في بعض الأحيان، إذ إن رحلتنا الفوتوغرافية لولاية جامو وكشمير لم تَسِر كما خططنا لها، فقد فرضت الحكومة الهندية حظر التجوال في أثناء وجودنا فيها، بعد أن صدر مرسوم رئاسي في الـ 5 من أغسطس 2019 يلغي المادة 370 من الدستور التي تمنح حكماً ذاتيًا خاصًا لولاية جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة.

 

كان الوضع يرتسم بشكل كارثي على ملامح الناس، إذ إن مناخ الخوف كان هو العلامة الحاكمة في كل شيء، حتى رجال الشرطة لم يكن خوفهم أقل من الناس العادية المشحونة بجحيم فاغرة من الغيظ والغضب، كنت أراقب المشهد من خلال شرفة الفندق المطلة على الشارع الحيوي لأهم أسواق محافظة كارجيل.  
كثّفت الحكومة الهندية، آنذاك، تدابيرها الأمنية خشية اندلاع أعمال عنف وشغب، فقد كان هذا شيئًا متوقعًا، إذ أعلنت كل الرموز السياسية، بجميع أطيافها وطوائفها ذات الغالبية المسلمة في كشمير، معارضتها للقرار مهما كلّف الأمر. 
لهذا كان علينا تقييم الوضع واتخاذ القرار في شأن استمرار الرحلة أو تعليقها وحزم معداتنا للعودة إلى الوطن، فقد أخبرنا نزار حسين (ممثّل المكتب المنظِّم لرحلاتنا الداخلية) بصعوبة السير على البرنامج المعدّ للتصوير في تقسيم «سريناغار»، العاصمة السياسية لكشمير، ويسميها البعض عاصمة كشمير الصيفية، لكنها - في ظرف سياسي بهذا الحجم وبجَردة سريعة لتاريخ الصدامات السياسية فيما بين أناس ذلك التقسيم والحكومة الهندية، وبحسب وصف بعض المراقبين في الإعلام المحلي الهندي - تعدّ الدائرة الأشرس والأكثر رعباً ودموية.
لهذا كان لزامًا عليه أيضًا - أقصد نزارًا - إطلاعنا على آخر المستجدات على الأرض، التي كان أبرزها إعلان الحكومة مقتل أكثر من 10 مسلحين على الأقل كانوا يحاولون الهجوم على قواتها، ومطالبتها السياح بضرورة العودة إلى ديارهم فورًا، كما عُلّقت خدمات الإنترنت، وسْط أنباء عن اعتقال عدد من كبار الشخصيات، وفرض الإقامة الجبرية على آخرين، كان من بينهم عمر عبدالله، وهو رئيس وزراء سابق لـ «جامو وكشمير». 
كان تفكيري حينها، بعد سماع كل تلك التفاصيل، في حجم معدات التصوير وأجهزة الكمبيوتر التي ستشكل تهديدًا صريحًا لسلامتنا، كنا خمسة فوتوغرافيين؛ أنا وحسن الطيف (التانغو) عرّاب الرحلة، والصديق إبراهيم الفرحان، وناهي علي، ومجتبى سلّمت، الكل أجمع حينها على قرار العودة إلى الديار، وتفادي أي فكرة تشي بالاستمرار، خصوصًا بعد أن تلقينا خبرًا يشبه الاحتجاز لفريق الفوتوغرافي العماني حمد الغمبوصي من الجهات الأمنية التي طلبت منهم مغادرة سريناغار في أسرع وقت ممكن... كانت كل تلك المعطيات كفيلة بتعزيز فكرة تعليق الرحلة. 

خيبة وإحباط 
خيبة ثقيلة وإحباط لا مثيل له ساد أَنْفُسَ رفاق الرحلة، أشعل كلٌّ من «التانغو» وإبراهيم الفرحان سيجارة لاستيعاب الموقف، لكنّ الأول دخن بشراهة، سيجارة وراء أخرى كأنه كان يصوغ بيان الرفض لفكرة تعليق الرحلة والعودة بخفّي حُنَين، كما يقال، خرجت منه كلمة واحدة «ما بنرجع»، كنت قد ترجمتها في الحين: إذا رغبت في أن تكون مصورًا حقيقيًا فإنه يتعين عليك أن تكون شجاعًا بما يكفي لخوض المغامرة، كما يتعين عليك أيضًا أن تكون مجنونًا جدًا لتعزيز فكرة البقاء بالقرب من العاصفة، لكنه لم يُبقِ كلمته مبهمة، بل أفصح بقوله: «سنغيّر مسار الرحلة»، لنبتعد عن مسارات التوتر.
جلسنا حينها مع نزار لإعادة صياغة مسار الرحلة، بعد تداول المقترحات وتصنيف الدوائر بحسب المناطق التي من المتوقع لها أن تشهد حالات من التوتر والعنف، لتكون الوجهة دير Rangdum الواقع على رأس وادي Suru، بالقرب من قرية صغيرة تدعى Julidok.
لم نكن نعرف أي شيء عن هذا الدير أو هذه المنطقة، ولم يكن في وسعنا البحث في تفاصيلها، بسبب العزلة الكونية التي عشناها بسبب انقطاع خدمة الإنترنت، ما نعرفه فقط هو أنه يقع على ارتفاع 4031 مترًا فوق مستوى سطح البحر.
أسرّ لنا نزار وقتها بأنه يمكن التوفر على شريحة إنترنت خاصة بالمناطق غير المشمولة بقرار قطع خدمة الإنترنت، فقط علينا الاستعجال في الخروج من المنطقة قبل اشتعالها بالتظاهرات التي لا يمكن التكهن بحجمها ولا طبيعتها، كانت الطرقات مشحونة برجال الأمن المزودين بالعصيّ والقضبان الحديدية وبعض البنادق.

المتخيل صورة
في الصباح الباكر حزمنا الحقائب والمعدات ووضعناها في السيارات، أخذ كلٌّ منا مكانه، كان التانغو وإبراهيم الفرحان ونزار حسين في السيارة الأولى، وكنا أنا وناهي ومجتبى في السيارة الثانية، إلا أن الأخير، وأعني هنا الفوتوغرافي مجتبى، أسرّ للكون كله بصوت عال: «يعني ما بنتريق؟»، في إشارة إلى وجبة الفطور، فكان الرد من التانغو بمزاج هادئ: خلّ نطلع يا أخي... ضحكنا حينها، وانطلقنا نحو الممرات المقترحة للخروج من كارجيل.
تخطينا أول نقطة أمنية، وصولًا إلى آخر نقطة وحاجز أمني؛ الحقيقي منها والوهمي أيضًا، لم يكن صعبًا الخروج من تلك المناطق المشحونة بفتيل التوتر، بل كان الأصعب هو دخول ناس كشمير إليها.
خرجنا بسلام، ليأتي صوت الصديق مجتبى، بعد أن قطعنا مسافة بالسيارة: «كارجيل بعيدة الآن، لنتناول وجبة الفطور»، ضحكنا حينها كالمجانين، هذا الرجل لا يصدّق... شهيته مفتوحة طوال الوقت، كأنه أراد أن يقول لنا نحن الآن في هذا الفضاء أحرار تمامًا، لا قلق لا خوف ولا ظلّ شرطي أو رجل أمن.  
لنستمتع بهذا الفضاء البديع في كل شيء... جبال خضراء ووديان ساحرة، مشاهد وصور لا تكفّ عن التخلّق، ولا يمكنك بلوغ اكتمالها.
لنتوقف قليلًا، قال مجتبى... قلت في داخلي حينها سنتأخر وربما يهبط سواد المساء سريعًا، وفي هذا شيء من الخطورة، لكن... نعم لنستمتع بهذا الفضاء الذي يستدعي الخيال الحرّ وسط تلك الوديان والجبال التي تكتظ وتفيض بـحركة الماء، التي كانت أشبه بشرايين لآلة موسيقية تعزف مقطوعتها الطبيعة، فقط عليك أن تغمض عينيك وتختبر ثقافة الإصغاء لديك واستنفار المخيّلة، فالمتخيل صورة أيضًا.

موسيقى الماء
أذكر أنني كنت منشغلًا باستحضار مقطوعة «موسيقى الماء» التي ألّفها الإنجليزي جورج فريدريك هانْدل، بطلب من الملك جورج الأول، وهي عبارة عن مجموعة من حركات الأوركسترا عزفها 50 موسيقيًا على متن زورق في نهر التيمز، استمعت واستمتعت بها في أثناء بحثي عن مشاركة فرقة قلالي البحرينية في مهرجان «أصوات البحر» في برلين 2014. 
فَجأة سمعت صوت مجتبى وهو يصرخ مكرّرًا اسمه، ومختبرًا ترداد صوته: مجتبى، مجتبى، مجتبى، أدرت رأسي نحوه، وإذا به قد صعد حافة جبلية صغيرة، فاردًا ذراعيه ومستمتعًا بارتطام الهواء البارد في كتلته الجسدية، كان الصديق ناهي يكرر تحذيره له: أيها المجنون «العقل زينة أصوات البحر» انزل بسلام.
ضحكت وأنا أراقب المشهد، وخاطبته: كفّ عن تكرار اسمك، فقد لوّثت به روعة المكان وسكينته، لكن ردّه كان سريعًا: صدقني أيها القميش، الحياة أقصر ممّا تتصور، اصعد وسجّل في تاريخك شرف التجربة... لم أتردد وصعدت رغم الخوف والارتباك، إذ لم أكن شجاعًا بما يكفي لفعل ذلك، لكنني فعلتها وأنا أردد في داخلي مقولة الكاتبة الأمريكية هيلين كيلر «الحياة إما مغامرة جريئة أو لا شيء»، وبالفعل كانت تجربة أداء الصراخ الحرّ أكثر من رائعة.
 
ممرات معتمة
فضّل التانغو وإبراهيم الفرحان ونزار حسين عدم التوقف، إذ ليس من المحبّب السير في الظلام، خوفًا من خطورة الممرات المعتمة وصعوبتها وتقلبات الطقس وتفاديًا لحوادث الانزلاقات الجبلية أو الترابية، استأنفنا المسير نحو Rangdum، لكن توقّعات حسن التانغو في محلّها، فعلى الرغم من تقدمهم علينا بساعة تقريبًا، فإننا وجدناهم عالقين أمام سيول المياه المنهمرة من أعلى الجبل، حيث أصبح من الصعب مرور السيارات. 
اقترح نزار أن نترجّل وترك سائقي السيارات يبحثون أمر العبور، كان علينا أن نعبر خلال المياه، وبالفعل حاول كل واحد منا إيجاد طريقه للطرف الآخر من المعبر، البعض منّا انتزع الحذاء الذي كان ينتعله، لكنني لم أفعل، فضّلت أن أمرّ وأنا منتعل إياه، لأنني لا أثق بمجهول باطن الماء، لهذا شعرت بتجمد حاد ومضاعف في قدمي طوال مسار الرحلة، إذ لم أكن موفقًا في هذا القرار بكل تأكيد. 
بعد تجاوز عدد من الممرات المظلمة في تلك الأَوْدِيَة وصلنا النُّزُلُ، كان متواضعًا جدًا لكنه الأوحد في هذه المنطقة، كما أنه مزود بورقة إرشادية كُتب فيها: هناك طريقة واحدة تعد الأمثل للنوم في هذا النزل، هي أن تلقي بنفسك كجثة، أنا هنا أمزح طبعًا، لكن هذا ما فعلناه، فالتعب لم يكن يوصَف ساعتها. 

ذوو القبعات الصُّفر
عند الظهيرة، قصدنا دير Rangdum، وكان البعض من رهبانه يقفون في استقامة وصمت، وقد ارتدوا الزي الخاص بالرهبنة، كان من بينها الرداء الأصفر الذهبي والرداء الأرجواني الداكن والآخر البرتقالي، أخبرنا نزار بأنهم يعيشون حالة حداد، فقد فقدوا منذ أيام قليلة أحد رهبانهم. 
هو دير بوذي يعد من بين الأقدم والأشهر في منطقة التبت - أضاف نزار - حيث يعود تأسيسه إلى أواخر القرن السادس عشر، كما أنه ينتمي إلى طائفة Gelugpa المعروفة أيضًا باسم ذوي القبعات الصفر، يقال إن الفيلسوف جي تسونغكهابا (1357 – 1419) هو من وضع قواعد وفلسفة تلك الطائفة. 
دخلنا الرواق الأول للمعبد، كان علينا أن نضع في اعتبارنا ثقافة احترام الأماكن المقدسة، والالتزام بالآداب الإنسانية العامة، وتفادي كل ما يمكنه أن يسيء إلى حُرمة تلك الطائفة ومعتقداتها.
الثقافات تختلف، لهذا عليك الحذر في أن تكون سببًا أو مصدرًا في خدش فضاء العبادة هناك. خلعنا أحذيتنا كي يُسمح لنا بدخول الرواق الرئيسي للمعبد، كنت أمعن النظر في تفاصيل المكان... جدران المعبد، والبوابات العتيقة المزخرفة التي كانت تتخللها، وقطع القماش الملونة المتدلية من سقف المعبد، والأجراس الصغيرة ورايات الصلاة المكتظة برسوم الحيوانات وبعض النصوص التي كتبها بوذا.
كنت ألمح الكثير من الرايات على طول الممرات الجبلية التي مررنا بها، يسمونها «رايات الصلاة»، ويسمونها أيضًا بـ «الأعلام المباركة»، لكن بركاتها لا تأتي من الرب، كما أنه لا وجود لبرزخ أو مبعث أو جحيم فاغرة من العذابات أو آخرة، فقط عليهم الإيمان بذلك الرجل المتيقظ (بوذا).
كانت السكينة أرفع من أي شيء في هذا المعبد، لهذا لن أكون مبالغًا إذا تورطت في مقاربة تلك الحالة بفلسفة الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسووا في كتابه «القلق» حول فكرة «المكان»، ذلك لأن مفهوم «المكان» عنده دائمًا ما يصاغ بالمعنى المجاوز لـ «المكان» بماديته المحسوسة، ليشكل مدخلًا إلى الـ «لا مكان». 
كنت أتلفّت ممعنًا النظر في سقف المعبد، تفاصيله الصغيرة، زواياه الخشبية المكتظة بعدد من الطبول والأبواق الطويلة وأشياء أخرى، ليأتي صوت الصلوات موغلًا فيما يشبه العويل الطويل، ربما خيّل لي ذلك كونهم يعيشون حالة الفقد، ليتشكّل بعدها ما يمكن وصفه بموسيقى استغراق الروح المرتحلة برشاقة إلى «مكان» آخر.


الـ «بروكباس» عاشوا غرباء
«الأمم مثل السرديات تفقد جذورها في أساطير الزمن»، هكذا كان يقول أستاذ الدراسات الثقافية الهندي هومي بابا، كنت أتحدث حينها لرفيق الرحلة الفوتوغرافي ناهي، ونحن نمر بمنحدرات ولاية لاداخ الوعرة والصعبة (أرض الممرات)، كما يحلو لكثيرين تسميتها بإقليم جامو وكشمير، قاصدين توثيق حياة قبائل الـ «بروكباس»، آخر ما تبقى من جيش الإسكندر حين غزا الهند في ربيع عام 326 ق.م.
قبائل خلفها الإسكندر هناك بعد موته، تفرقت امبراطوريته ليكونوا آخر ما تبقّى من أثره.. ضلوا طريق العودة، كما يشاع، فعاشوا هناك غرباء، لتتشكّل طبائعهم بطبائع المكان، ولتتحول ظروفهم وتستقر بحسب التأثيرات التي فرضوها كقبائل وعاشوها هناك.
محطتنا هذه لم تكن سهلة أبدًا، فقد كانت انطلاقتنا من مدينة «ليه»، أكبر مدن هذه الولاية الواقعة على هضبة التبت الصغرى، القريبة من الصين، إذ لم يكن لقائي الأول معها مريحًا، فخلال مسيرنا متجهين للمسكن شعرت بضيق في التنفس ونزف في الأنف، وشيء من الإجهاد، بسبب قلة الأكسجين، عرفت فيما بعد أنني أصبت بداء المرتفعات، المعروف أيضًا باسم مرض الجبال الحاد، لكونها تمثّل أعلى هضبة في ولاية كشمير، التي يقع معظمها على ارتفاع أكثر من 3000 م عن سطح البحر. الكل كان يتجمل بشيء من الصلابة وعدم الاعتراف بالهزيمة البدنية، لكن واقع الحالة التي كان يعيشها الفريق كانت تقول غير ذلك. 
كان لمجتبى سلمت أثر إيجابي في إدارة لعبة الفكاهة للتخفيف عنّا، وتحويل ضغط المرتفعات إلى عنصر من عناصر الإيجابية، للدخول في دائرة التأقلم مع مثل هذه الظروف. 
هو فيلسوف تقنيات الإضاءة، كما أحببت أن أصفه... وصاحب أكبر قدر من المعلومات في مجال التصوير الفوتوغرافي، كان دائم المناكفة والنقاش الحاد مع ناهي «العارف بكل شيء»، كما يقول عنه الأصدقاء في سياق المزاح، فقد تحدث الأخير عن طبيعة حياة تلك القبائل بشيء من المبالغة، من وجهة نظر البعض منّا، وبمنطق سردي غير معقول واستعاري أيضًا بشكل مفرط، حيث خلق نوعًا من أنواع الصور النمطية المبالغ فيها التي نصوغها في العادة عن الآخر الذي نجهله أو ذلك المختلف، لنمنحه أوصافًا وطبائع وعادات غير تلك التي فيه، ثم نعتقد أن ذلك كله الحقيقة الكاملة.
رحلتنا هذه كانت أشبه بالبحث في تلك السياقات السردية للتاريخ الوجودي لهذه القبائل التي تسكن وادي آريان، نسبة إلى العرق «الآري»، إذ يبلغ تعداد نسماتها نحو الـ2500، متوزعة على خمس قرى صغيرة في مقاطعتي «ليه» البوذية و«كارجيل» ذات الأغلبية المسلمة، ضمن النطاق المتنازع عليه بين الهند وباكستان، والتي تبدأ بقرية «دها» و«هانو»، و«بيما»، و«دارشيك»، وصولًا إلى قرية «غاركوني».
قلت لهم في سياق فضّ حدة النقاش - ونحن نمرّ على جرف جبلي حاد، ويخالجنا شيء من الخوف، وحالة من القلق بسبب الرغبة العشوائية لدى الفوتوغرافي مجتبى في التقاط كل تفاصيل المكان، الأمر الذى كان مصدر إرباك بالنسبة للفوتوغرافي «التانغو» تحديدًا، لكونه المعني بمراقبة الوقت وضبطه، كما أنه يخشى أكثر ما يخشى تحولات الطقس والانزلاقات الجبلية التي تسببها الأمطار الغزيرة وخطورة المسير ليلًا - إن أغلب تلك السرديات التي شكّلت صورة «الآريين» الـ «بروكباس» في الهند بعوالمها التي كان فيها المُتَخَيّل حاكمًا في صياغة كل شيء، ترتسم بشيء من الغموض وعدم الوضوح والضبابية، ربما انطلاقًا من النزعة التي دفعتهم نحو تحصين أنفسهم كجماعة متمايزة عن سكان الهند الأصليين ذوي البشرة «السوداء»، لهذا كانت مفردة «آري» منطلقًا لهذا التمايز، إذ إنها مفردة سنسكريتية الأصل، معناها الإنسان «النبيل» ذو البشرة البيضاء والعرق النقي. 
وهنا تقترن مفردة «المُتَخَيّل» السردي لقصة وحياة قبائل الـ «بروكباس» بما يمكن الاصطلاح عليه بـ «الحقيقة القلقة» التي تكون بمنزلة نقطة بداية لرحلة الحقائق المضافة أو المختلقة، التي تستثمر في الدوائر المجهولة في حياة تلك المجموعة البشرية، لتعمل على كشف ما هو مخفي فيها ومقاربتها من خلال ما هو واقعي إلى ما هو غير واقعي، لتنشط كل أفعال وأدوات المتخيل، لتفرض نوعًا آخر من الصور التي تختلف باختلاف مقاصد وطبيعة الاشتغال الخاص بمنتجيها، إلا أنها في الغالب الأعم تتقصد تقريب صورة ما أو إبعاد صورة أخرى بشكل أو بآخر.
 
تبادل الزوجات 
أثناء التصوير الذي طال كل تفاصيل الحياة في تلك القرى، كانت الأفكار والتساؤلات تتقاسم اللحظة، كيف حافظت تلك القبائل على عرقها الأبيض «الآري» منذ غزا الإسكندر الهند في ربيع عام 326 ق. م؟ خصوصًا أن هناك عددًا من السرديات الغريبة في هذا الشأن، وكان من بينها أن قبائل الـ «بروكباس» كانوا، منذ قرون، يمارسون تبادل الزوجات فيما بينهم، استغربت تلك السردية، ولم أصدقها، ولا يمكنني تصورها، فالعقل أيضًا بطبيعته لا يمكنه أن يتقبل هذا الأمر.
ظلت الصور المتخيلة تتشابك في أذهان أصدقاء الرحلة، كانت تلك الصور التي يرسمونها تخيلات محمومة بالشيء الكثير من الضحك الشبق، الأقرب إلى البورنوغرافيا التي اخترعها الرسام اليوناني بارازيوس عام 410.   
الغريب في الأمر أن الكاتب والمؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، أكد في كتابه «حضارات الهند»، تلك السردية بالقول إن أهل لَدَّاخ يعمدون إلى «تعدد الأزواج من الذكور، وينشأ انتحالهم لهذه العادة عن فقرهم، ففي لَدَّاخ يجتمع خمسة إخوة أو ستة، في الغالب؛ ليعولوا امرأة، ويؤلِّفوا أسرة»، طبيعة هذا الزواج قد تشكّل صدمة بالنسبة للكثيرين منّا، لكن تلك القبائل تجده عاديًا جدًا في طبيعته، على الرغم من تفاصيله المعقّدة، إذ ينص هذا الزواج على ما يمكن تسميته بالملكية المشتركة، وهذا عائد بالدرجة الأولى لأسباب خاصة بإدارة العيش من الجانب الاقتصادي، والمحافظة على نقاء العرق «الآري» وحمايته من الاختلاط.  
وعلى الرغم من قسوة الصورة المتخيلة في تحمّل المرأة ستة إخوة كزوجة، فإنها تمثل أيضًا ذلك الثقل الحاكم في إدارة العائلة داخل هذه القبيلة والحفاظ على تماسكها، فهي بحسب أستاذة الدراسات الأنثروبولوجية بجامعة دلهي، فينا بهاسين، في كتابها TRIBALS OF LADAKH تمثّل العمود الفقري للهيكل الاقتصادي، ذلك لأن نظام الإنتاج يعتمد على قوة إدارتها للمجموعة والموارد الاقتصادية المزروعة، أو تلك التي تكون منتجة من خلال تربية المواشي.
 
شعيرة التنقية
كان الصديق الفوتوغرافي مجتبى سلمت أكثر الرفقة تأملًا في أوضاع تلك القبائل من حيث تفاصيلها المعيشية، لمحته من بعيد يدخن غليونه الإلكتروني تحت ظل شجرة، خاطبته متسائلًا حينها: توقفت عن التصوير!؟ أجابني على وجه السرعة: كيف يمكن للأطفال أن تعيش في هذه البيئة النتنة؟ لم أرغب في التفلسف واقتراح إجابة يمكنها أن تغلق المعنى الحقيقي لإنسانيته، فقط ابتسمت... لأترك سطر السرد الذي ساقه الرسام والروائي الأمريكي هنري ميللر في روايته «مدار السرطان» يمر في ذاكرتي، على لسان بوريس، حين اكتشف أنه قَمِلَ.. ليكون سؤاله: كيف يمكن للمرء أن يقمل في مكان جميل كهذا؟
كان أفراد قبائل الـ «بروكباس» يتجنبون الاغتسال، تقول فينا بهاسين: كجزء من اعتقاد ديني، لكنهم يتطهرون من خلال إقامة شعيرة يسمونها
بـ «التنقية»، فتحرق بعض أغصان شجرة العرعر، كما أنه لا يجوز غسل الملابس حتى تهترئ.
كانت النظافة بالنسبة إلى تلك القبائل بمنزلة الرفاهية، لكن هذا الأمر لم يستمر، إذ إن الجيل الجديد داخل تلك القبائل أخذ في التفلّت من تلك المعتقدات، مع أول فرصة سمحت له باكتشاف العالم الحديث نسبيًا، إذا ما قيس بحداثة الهند المتواضعة آنذاك، فقد كان نزاع كشمير فيما بين دولتي الهند وباكستان عام 1947 بمنزلة الشرارة الأولى لذلك الانزياح الثقافي بالنسبة إلى ذلك الجيل.
فعلى الرغم من تأكيد قادة قبائل البروكباس ضرورة التمسك بموروثاتها ومعتقداتها والتحذير من خطورة الانفتاح على الآخر، فإنها، في نهاية الأمر، فضّلت بحث فكرة الكفاح من أجل إيجاد الحد الأدنى للتوازن بين الحداثة والقيم التقليدية لها، إذ إن مخاوفهم تتضاعف عامًا بعد عام، بسبب زواج الجيل الجديد من خارج تلك القبائل والهجرة 
(بــحثًا عن مصادر الرزق) والتحول الديني، واعتناق الكثير منهم الإسلام أو الهندوسية وغيرها من الديانات ■

 

على ضفاف الممرات المائية لوادي سورو، بالقرب من قرية جوليدوك، تكثر مناظر وجود الياك، ويسمى أيضًا القوتاش، وهو حيوان مجترّ يعيش على امتداد المناطق الجبلية لولاية جامو وكشمير 

 

سوق تقسيم «ليه» بولاية جامو وكشمير، ويعد أحد أكثر الأماكن جمالًا وازدحامًا وأكثرها حيوية ونبضًا بالحياة، السوق مقسم بواسطة ممرات صغيرة وأخرى جانبية، مع أقسام مخصصة لأشياء مثل الحرف اليدوية والتوابل والملابس والمصنوعات اليدوية والطعام والهدايا التذكارية. ومن الأشياء التي يشتهر بها هذا السوق الملابس الحريرية والصوفية المنسوجة يدويًا 

 

في مزارع قرية ساليسكوت بمحافظة كارجيل التابعة لولاية جامو وكشمير الهندية، تجلس مجموعة من الأطفال خارج منازلها للهو واللعب، في حين تنشغل عوائلهم من نساء ورجال بعملية حصاد القمح، فجلّ طعام الولاية يعتمد على القمح  

 

سيدة آرية، من قبائل البروكباس، تجلس في فناء منزلها الذي تسوره مجموعة من أشجار المشمس التي يشتهر بها وادي آريان، وتظهر السيدة وعلى رأسها مجموعة من الزهور الملونة وقطعة حليّ معدنية تزيّن رأسها

 

«الغونشا»... قبّعة مصنوعة من الحرير والديباج أو المخمل، يتم تطريزها بالخيوط الفضية أو الذهبية، تعتمرها نساء لاداخ كجزء من أسلوب حياة، كما أنها امتداد لموروث ثقافي عليهن الحفاظ عليه

 

 سيدتان آريّتان من قبائل البروكباس تقفان في حقل للقمح بقرية هانو، حيث تنهمك نسوة تلك القبائل في الأول من أغسطس من كل عام في جني محصول القمح، ليتم نقل البعض منه إلى محال البيع في أسواق منطقة لاداخ، وتخزين بعضه لفصل الشتاء

 

فتاة بوذية تجلس في ركن قصيّ من غرفتها، ممسكة مسبحة مصنوعة من الخرز المنتظم في خيط تستخدم كوسيلة للتعبّد والصلاة 

 

نساء قبائل البروكباس، آخر ما تبقّى من جيش الإسكندر، يرتدين الفراء الثقيلة وغطاء يستر الرأس بشكل جزئي يطلق عليه اسم «تيبي»، وهو الجزء الذي يميّز لباسهن عن لباس نساء ولاية لاداخ، وهو عبارة عن مجموعة من الزهور الملونة المرصعة ببعض التمائم الممتدة للعنق والمحملة بالخرز وبعض الأحجار الكريمة والقطع المعدنية ونحوه، ويقصد منها في الغالب حماية النفس من العين، أو وقايتها من الأرواح الشريرة

 

راهب مسنّ يتعكز على عصا خشبية لمحته داخلًا دير رانغدوم، كان يجرّ خطواته المتعبة على مهل قاصدًا حلقة الصلاة... وتظهر الصور في الصفحة المقابلة ثلاثة رهبان أثناء تأديتهم مراسم الصلاة

 

راهب ينتمي إلى طائفة جيلوغبا التبتية يؤدي مراسم الصلاة في دير رانغدوم، الواقع على رأس وادي سورو بالقرب من قرية جوليدوك... وفي الإطار صورة لعباءة أحد أفراد عائلة المعبد ممن فارقوا الحياة آنذاك