ابن المقفع و«كليلة ودمنة» قراءة أخرى

ابن المقفع و«كليلة ودمنة» قراءة أخرى

لا‭ ‬يعرف‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬القطع‭ ‬ما‭ ‬لابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬وما‭ ‬ليس‭ ‬له‭. ‬فالشائع‭ ‬أن‭ ‬أصول‭ ‬الكتاب‭ ‬هندية،‭ ‬وأنه‭ ‬نُقل‭ ‬لاحقًا‭ ‬إلى‭ ‬الفارسية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭. ‬لكن‭ ‬الترجمة‭ ‬الفارسية‭ ‬فُقدت‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬بالتالي‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬فعله‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭: ‬فهل‭ ‬نقل‭ ‬الأصل‭ ‬بأمانة،‭ ‬أم‭ ‬تصرف‭ ‬إزاءه‭ ‬فأضاف‭ ‬إليه‭ ‬وحذف‭ ‬منه،‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬واضعًا‭ ‬لكتاب‭ ‬جديد‭ ‬حاكى‭ ‬الأصل‭ ‬أو‭ ‬استأنس‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬نهج‭ ‬نهجه؟

الواقع‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬إجابة‭ ‬شافية‭ ‬عن‭ ‬مجمل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬‮«‬فارسية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬هندية‮»‬‭ ‬اليوم،‭ ‬وإنما‭ ‬هناك‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬‮«‬عربية‮»‬‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬باستثناء‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المستشرقين‭ ‬عثروا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬فصول‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬الهندية‭ ‬القديمة‭ ‬الموضوعة‭ ‬باللغة‭ ‬السنسكريتية‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬الكتاب‭ ‬بها‭ ‬أساسًا‭. 

أما‭ ‬الكتاب‭ ‬كما‭ ‬نعرفه‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬والذي‭ ‬يتضمن‭ ‬في‭ ‬صفحته‭ ‬الأولى‭: ‬‮«‬نقله‭ ‬عن‭ ‬الفارسية‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬المقفع‮»‬،‭ ‬فالأكيد‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬الفارسي‭ ‬القديم‭ ‬لم‭ ‬يحفظه‭. ‬ويمكن‭ ‬قول‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬التراث‭ ‬الهندي‭ ‬القديم،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬عن‭ ‬عثور‭ ‬المستشرقين‭ ‬على‭ ‬فصول‭ ‬منه‭. ‬فالنص‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬الباقي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬وهو‭ ‬يشتمل‭ ‬على‭ ‬31‭ ‬بابًا‭ ‬منها،‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬البعض،‭ ‬اثنا‭ ‬عشر‭ ‬بابًا‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬هندي‭ ‬وثلاثة‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬فارسي‭. ‬أما‭ ‬الأبواب‭ ‬الستة‭ ‬الباقية‭ ‬فلا‭ ‬توجد،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬الفارسي‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬الهندي،‭ ‬بل‭ ‬ينفرد‭ ‬بها‭ ‬النص‭ ‬العربي،‭ ‬وهي‭: ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭ ‬وينسبها‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬المعروف‭ ‬بعلي‭ ‬بن‭ ‬الشاه‭ ‬الفارسي‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬تأليف‭ ‬الكتاب‭ ‬أول‭ ‬مرة،‭ ‬يليها‭ ‬باب‭ ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬استقدام‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬إلى‭ ‬فارس‭ ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬كسرى‭ ‬أنوشروان،‭ ‬ثم‭ ‬مدخل‭ ‬بقلم‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬عرض‭ ‬فيه‭ ‬لمضمون‭ ‬الكتاب‭ ‬وأغراضه‭. ‬ثم‭ ‬باب‭ ‬الفحص‭ ‬عن‭ ‬أمر‭ ‬‮«‬دمنة‮»‬،‭ ‬وباب‭ ‬‮«‬الناسك‭ ‬والضيف‮»‬،‭ ‬وباب‭ ‬‮«‬مالك‭ ‬الحزين‭ ‬والبطة‮»‬،‭ ‬وباب‭ ‬‮«‬الحمامة‭ ‬والثعلب‭ ‬ومالك‭ ‬الحزين‮»‬‭. ‬

ويميل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأبواب‭ ‬التي‭ ‬ينفرد‭ ‬بها‭ ‬النص‭ ‬العربي،‭ ‬هي‭ ‬أو‭ ‬بعضها‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬البيروني‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬تحقيق‭ ‬ما‭ ‬للهند‭ ‬من‭ ‬مقولة‮»‬‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬لاحظ‭ ‬الاضطراب‭ ‬والتداخل‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭. ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬كلامه‭ ‬عن‭ ‬كتب‭ ‬الهند‭: ‬‮«‬وبودّي‭ ‬أن‭ ‬كنت‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬بنج‭ ‬تنترا‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬المعروف‭ ‬عندنا‭ ‬بكتاب‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬فإنه‭ ‬تردّد‭ ‬بين‭ ‬الفارسية‭ ‬والهندية‭ ‬ثم‭ ‬العربية‭ ‬والفارسية‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬قوم‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬تغييرهم‭ ‬إياه‭ ‬كعبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬زيادته‭ ‬باب‭ ‬برزويه‭ ‬فيه‭ ‬قاصدًا‭ ‬تشكيك‭ ‬ضعاف‭ ‬العقائد‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬وكسرهم،‭ ‬للدعوى‭ ‬إلى‭ ‬مذهب‭ ‬المانوية،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬متهمًا‭ ‬فيما‭ ‬زاد،‭ ‬لم‭ ‬يخل‭ ‬عن‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نقل‮»‬‭.‬

ويُفهم‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬البيروني‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬ناقل‭ ‬بري‮»‬‭ ‬للكتاب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬ناقلًا‭ ‬مُغرضًا،‭ ‬فقد‭ ‬تصرف‭ ‬في‭ ‬النقل،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬التأليف،‭ ‬على‭ ‬الأصح،‭ ‬بقصد‭ ‬تشكيك‭ ‬ضعاف‭ ‬العقائد‭ ‬في‭ ‬الدين،‭ ‬والدعوة‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬مذهب‭ ‬المانوية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عليه‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يأخذه‭ ‬البيروني‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬نية‭ ‬في‭ ‬وضعه‭ ‬لباب‭ ‬برزويه،‭ ‬يسعف،‭ ‬مع‭ ‬أسباب‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬سنشير‭ ‬إليها،‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬من‭ ‬رتبة‭ ‬‮«‬مترجم‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬‮«‬مؤلف‮»‬‭. ‬فهو،‭ ‬في‭ ‬الأعم‭ ‬الأغلب،‭ ‬واضع‭ ‬للكتاب‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬ناقل‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الفارسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجيدها‭ ‬بحكم‭ ‬انتسابه‭ ‬إلى‭ ‬الفرس،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬كتاب‭ ‬عربي‭ ‬لا‭ ‬فارسي‭ ‬ولا‭ ‬هندي،‭ ‬وأن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬أشار‭ ‬متعمدًا‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬الكتاب‭ ‬الهندية‭ ‬والفارسية‭ ‬لغرض‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬اليوم‭. ‬

فربما‭ ‬وجد،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التقية،‭ ‬أنه‭ ‬يحسن‭ ‬نسبة‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬مؤلف‭ ‬أجنبي‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يضار‭ ‬مؤلفه‭ ‬المحلي‭ ‬أو‭ ‬الحالي،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُساءل‭ ‬مؤلفه‭ ‬بسببه‭. ‬فالكتاب،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬كتاب‭ ‬للتسلية‭ ‬أو‭ ‬للقراءة‭ ‬البسيطة‭ ‬غير‭ ‬الهادفة،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬ملتزم‭ ‬ولمؤلفه‭ ‬غرض‭ ‬من‭ ‬تأليفه‭. ‬وقد‭ ‬اشترط‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬صراحةً،‭ ‬لقراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬شروطًا‭ ‬ذات‭ ‬مغزى،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ينبغيات‮»‬‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬التنبه‭ ‬إليها،‭ ‬وهي‭ ‬بتعبيرنا‭ ‬المعاصر‭:‬

‭- ‬ينبغي‭ ‬لقارئ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الوجوه‭ (‬الأغراض‭) ‬التي‭ ‬وُضعت‭ ‬له،‭ ‬وألاّ‭ ‬تكون‭ ‬غايته‭ ‬التصفح‭ ‬لتزاويقه‭.‬

‭- ‬ينبغي‭ ‬لقارئ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬إعمال‭ ‬الرويّة‭ ‬فيما‭ ‬يقرأ،‭ ‬والقارئ‭ ‬العاقل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعلم‭ ‬غرضه‭ ‬ظاهرًا‭ ‬وباطنًا‭.‬

‭- ‬ينبغي‭ ‬لقارئ‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬يديم‭ ‬فيه‭ ‬النظر‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ضجر،‭ ‬ويلتمس‭ ‬جواهر‭ ‬معانيه،‭ ‬ولا‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬نتيجته‭ ‬الإخبار‭ ‬عن‭ ‬حيلة‭ ‬بهيمتين‭ ‬أو‭ ‬محاورة‭ ‬سبع‭ ‬لثور،‭ ‬فينصرف‭ ‬بذلك‭ ‬عن‭ ‬الغرض‭ ‬المقصود‭.‬

‭- ‬ينبغي‭ ‬لقارئ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬بما‭ ‬علم،‭ ‬ويجعله‭ ‬مثالًا‭ ‬لا‭ ‬يحيد‭ ‬عنه‭ ‬ودستورًا‭ ‬يقتدي‭ ‬به‭.‬

‭- ‬ينبغي‭ ‬للناظر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬أنه‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬أغراض،‭ ‬صرّح‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬بثلاثة‭ ‬منها‭ ‬‮«‬تضليلًا‮»‬‭. ‬أما‭ ‬الغرض‭ ‬الرابع‭ ‬فلم‭ ‬يصرّح‭ ‬به،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬الأقصى‮»‬‭ ‬و«مخصوص‭ ‬بالفيلسوف‭ ‬خاصة‮»‬‭. ‬فما‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الغرض‭ ‬الأقصى‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬كاتبًا‭ ‬ملتزمًا‭ ‬معارضًا‭ ‬للسلطة‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬زمانه،‭ ‬وهي‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية،‭ ‬أي‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬تنويري‭ ‬بالمعنى‭ ‬المتداول‭ ‬اليوم؟

 

 ‭ ‬البنجاتنترا ‭

نترك‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬للدكتور‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬التراث‭ ‬القصصي‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬‭. ‬فعنده‭ ‬أننا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬أيدينا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الغرض‭ ‬إذا‭ ‬وقفنا‭ ‬على‭ ‬أسباب‭ ‬وضع‭ ‬الكتاب،‭ ‬كما‭ ‬زعمها‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬عن‭ ‬قصد،‭ ‬لأن‭ ‬الأصل‭ ‬الهندي‭ (‬البنجاتنترا‭) ‬الذي‭ ‬ادعى‭ ‬أنه‭ ‬نقل‭ ‬عنه‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬الزعم‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬إن‭ ‬الهند‭ ‬اختارت‭ ‬رجلًا‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬تثق‭ ‬به‭ ‬وملّكته‭ ‬عليها،‭ ‬وحال‭ ‬أن‭ ‬استقر‭ ‬له‭ ‬الملك‭ ‬طغى‭ ‬وبغى‭ ‬وتجبّر‭ ‬وتكبّر‭. ‬فلما‭ ‬رأى‭ ‬بيدبا‭ (‬الفيلسوف‭) ‬الملك،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬للرعية،‭ ‬فكّر‭ ‬في‭ ‬صرفه‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬وردّه‭ ‬إلى‭ ‬العدل‭ ‬والإنصاف،‭ ‬وجمع‭ ‬تلامذته‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والحكماء‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭ ‬البراهمة،‭ ‬للتفكير‭ ‬في‭ ‬حيلة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الملك،‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬أن‭ ‬الواجب‭ ‬على‭ ‬العلماء‭ ‬تقويم‭ ‬الملوك‭ ‬بألسنتهم‭ ‬ليرتدعوا‭ ‬عما‭ ‬هم‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الاعوجاج‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬العدل،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬فرض‭ ‬واجب‭ ‬على‭ ‬الحكمــاء‭ ‬لملــوكهم‭ ‬ليوقظوهم‭ ‬من‭ ‬رقدتهم‮»‬‭. ‬

فلما‭ ‬وافقه‭ ‬تلامذته‭ ‬واجه‭ ‬الملك‭ ‬برأيه،‭ ‬فاستشاط‭ ‬غضبًا‭ ‬لجرأته‭ ‬وأمر‭ ‬عندئذ‭ ‬أن‭ ‬يُقتل‭ ‬بيدبا‭ ‬ويُصلب‭. ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬الليالي‭ ‬ذ‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬ذ‭ ‬سهد‭ ‬الملك‭ ‬سهدًا‭ ‬شديدًا‭ ‬فبعث‭ ‬فأخرج‭ ‬بيدبا‭ ‬من‭ ‬السجن،‭ ‬ولم‭ ‬يُقتل،‭ ‬وعفا‭ ‬عنه،‭ ‬وتطورت‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما‭ ‬بالإيجاب‭. ‬وعندئذ‭ ‬جلس‭ ‬الملك‭ ‬‮«‬لردّ‭ ‬المظالم‭ ‬ووضع‭ ‬سنن‭ ‬العدل‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬ازدادت‭ ‬الصلة‭ ‬وتأكدت‭ ‬الثقة‭ ‬بينهما،‭ ‬فطلب‭ ‬إليه‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬كتابًا‭ ‬بليغًا‭ ‬يستفرغ‭ ‬فيه‭ ‬عقله،‭ ‬يكون‭ ‬ظاهره‭ ‬سياسة‭ ‬العامة‭ ‬وتهذيبها،‭ ‬وباطنه‭ ‬أخلاق‭ ‬الملوك‭ ‬وسياستها‭ ‬للرعية‭. ‬فاستجاب‭ ‬بيدبا‭ ‬ورتّب‭ ‬فيه‭ (‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬المفقع‭) ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬بابًا،‭ (‬مع‭ ‬أن‭ ‬الأصل‭ ‬الهندي‭ ‬خمسة‭ ‬فقط‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬جعله‭ ‬على‭ ‬ألسن‭ ‬البهائم‭ ‬والسباع‭ ‬والطير‭ ‬ليكون‭ ‬ظاهره‭ ‬لهوًا‭ ‬للخواص‭ ‬والعوام،‭ ‬وباطنه‭ ‬رياضة‭ ‬لعقول‭ ‬الخاصة‮»‬‭. ‬

 

دعوة‭ ‬سافرة

مثل‭ ‬هذا‭ ‬الغرض‭ ‬الأقصى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليخفى‭ ‬على‭ ‬عقل‭ ‬سياسي‭ ‬داهية‭ ‬مثل‭ ‬أبي‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور،‭ ‬المؤسس‭ ‬الحقيقي‭ ‬للدولة‭ ‬العباسية،‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬ذات‭ ‬الحدّين،‭ ‬لعبة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬والسلطة،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسمح‭ ‬لأحد‭ ‬ذ‭ ‬بله‭ ‬مولى‭ ‬من‭ ‬الموالي‭ ‬ذ‭ ‬أن‭ ‬يشقّ‭ ‬عليه‭ ‬عصا‭ ‬الطاعة‭. ‬فلما‭ ‬بلغه‭ ‬أمر‭ ‬الكتاب،‭ ‬وتيقّن‭ ‬أنه‭ ‬دعوة‭ ‬سافرة‭ ‬لمعارضة‭ ‬حكمه،‭ ‬وهو‭ ‬خليفة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬استشاط‭ ‬غضبًا‭ ‬وسلّط‭ ‬عليه‭ ‬واليه‭ ‬على‭ ‬البصرة‭ ‬سفيان‭ ‬بن‭ ‬معاوية‭ ‬الذي‭ ‬استقدمه‭ ‬لمحاكمته،‭ ‬بحجة‭ ‬الزندقة‭. ‬فلما‭ ‬قدم‭ ‬عليه‭ ‬أمر‭ ‬بتنور‭ ‬فسجر،‭ ‬ثم‭ ‬أخذ‭ ‬يقطع‭ ‬جسده‭ ‬عضوًا‭ ‬فعضوا‭ ‬ويرمي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬التنور‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬حتى‭ ‬لفظ‭ ‬أنفاسه،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬الوزراء‭ ‬والكتاب،‭ ‬وعمره‭ ‬عندئذ‭ ‬ثلاثون‭ ‬عامًا‭ ‬فقط‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬سيرة‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬كمؤلف‭ ‬وكاتب،‭ ‬تجعله‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬المعارض‭ ‬للسلطة‭ ‬العباسية‭ ‬والداعية‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬عليها،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬‮«‬الناشر‭ ‬والمروّج‭ ‬للقيم‭ ‬الكسروية‭ ‬وأيديولوجيا‭ ‬الطاعة‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬شُبّه‭ ‬للمفكر‭ ‬العربي‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬الذي‭ ‬اتهمه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬الأخلاقي‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬بذلك‭. ‬وعنده‭ ‬أن‭ ‬نصوص‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬التي‭ ‬تمجّد‭ ‬الطاعة‭ ‬وردت‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬‮«‬الأبواب‭ ‬الفارسية‮»‬‭ ‬من‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬أضاف‭ ‬أن‭ ‬الأبواب‭ ‬الهندية‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬خالية‭ ‬أو‭ ‬تكاد‭ ‬من‭ ‬هاجس‭ ‬تكريس‭ ‬الطاعة‭ ‬والحثّ‭ ‬عليها‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬فيها‭ ‬عبارات‭ ‬تندّد‭ ‬بالطغيان‭ ‬وتحذّر‭ ‬من‭ ‬‮«‬مصاحبة‭ ‬السلطان‮»‬‭. ‬‮«‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف‭ ‬الذي‭ ‬يبلغ‭ ‬درجة‭ ‬التناقض‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬الموروث‭ ‬الهندي‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬هاجس‭ ‬الطاعة،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬من‭ ‬خصوصيات‭ ‬الموروث‭ ‬الفارسي‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬إضافات‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ (‬كذا‭). ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬بهذا،‭ ‬لأن‭ ‬نصوصًا‭ ‬أخرى‭ ‬لابن‭ ‬المقفع‭ ‬‮«‬كالأدب‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬و«الأدب‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬تتسم‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬بهذا‭,‬‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التناقض،‭ ‬بل‭ ‬لربما‭ ‬كان‭ ‬التحذير‭ ‬من‭ ‬صحبة‭ ‬السلطان‭ ‬راجحًا‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الحث‭ ‬على‭ ‬الطاعة‮»‬‭.‬

ولكننا‭ ‬نستطيع‭ ‬نحن‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬بأن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬مجمل‭ ‬ما‭ ‬كتب،‭ ‬وبخاصة‭ ‬كتابه‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة،‭ ‬كان‭ ‬كاتبًا‭ ‬معارضًا‭ ‬للسلطة،‭ ‬لا‭ ‬كاتبًا‭ ‬مواليًا‭ ‬لها،‭ ‬ولا‭ ‬داعية‭ ‬لطاعتها،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬تنويري‭ ‬مبكر‭ ‬تجاوز‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬السلطان‭ ‬إلى‭ ‬إرساء‭ ‬قيم‭ ‬فكرية‭ ‬تربّى‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬البصرة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مجتمع‭ ‬تلاقح‭ ‬بين‭ ‬ثقافات‭ ‬شتى‭ ‬منها‭ ‬العربية‭ ‬والفارسية‭ ‬والهندية‭ ‬واليونانية‭ ‬فُجع‭ ‬بغيابها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المنصور‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬شقيقه‭ ‬المعروف‭ ‬بالسفّاح‭. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬الطاعة‭ ‬لسلطان‭ ‬جائر،‭ ‬بل‭ ‬الثورة‭ ‬عليه‭. ‬ويمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يلتمس‭ ‬قيمًا‭ ‬فكرية‭ ‬كثيرة‭ ‬تضع‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬التنويرين‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬تراثنا،‭ ‬منها‭ ‬نقد‭ ‬التعصب‭ ‬الديني‭ ‬وتمجيد‭ ‬العقل‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لاحظه‭ ‬الباحث‭ ‬التونسي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المؤدب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬رهان‭ ‬على‭ ‬الحضارة‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬منشورات‭ ‬سوي‮»‬‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬

فقد‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الأخلاق‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬المعتقد‭ ‬الديني‭. ‬فالمرء‭ ‬قد‭ ‬يتظاهر‭ ‬بالإيمان‭ ‬والورع‭ ‬وأداء‭ ‬الشعائر،‭ ‬ولكنه‭ ‬يمارس‭ ‬الغش‭ ‬أو‭ ‬السرقة‭ ‬وبقية‭ ‬الموبقات‭ ‬والرذائل‭. ‬

ويرى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المؤدب‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬يرهص‭ ‬بكانط‭. ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬كانط‭ ‬هو‭ ‬فيلسوف‭ ‬التنوير‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بعد‭ ‬فولتير‭ ‬وروسو‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬يدعو‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬طاعة‭ ‬السلطان‭ ‬ونشر‭ ‬القيم‭ ‬الكسروية،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬إعلاء‭ ‬شأن‭ ‬العقل‭ ‬والعقلانية‭ ‬والالتزام‭ ‬بأحكامهما،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بثّه‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬غيورًا‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬المنصور‭ ‬الذي‭ ‬عاصره،‭ ‬أو‭ ‬داعيًا‭ ‬إلى‭ ‬طاعته‭. ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬موت‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬هذا‭ ‬الخليفة‭. ‬ففي‭ ‬سيرته‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬كاتبًا‭ ‬لعيسى‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬ابن‭ ‬أخي‭ ‬المنصور،‭ ‬حين‭ ‬خرج‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬يدعي‭ ‬أنه‭ ‬أحق‭ ‬بالخلافة‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬أخيه‭ ‬المنصور‭. ‬ولما‭ ‬قضى‭ ‬المنصور‭ ‬على‭ ‬ثورته‭ ‬هرب‭ ‬إلى‭ ‬أخيه‭ ‬سليمان‭ ‬وهو‭ ‬عند‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬فكتبا‭ ‬إلى‭ ‬المنصور‭ ‬أن‭ ‬يؤمنهما‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬عمهما‭ ‬الثائر،‭ ‬وكان‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬كاتبًا‭ ‬له،‭ ‬فتولّى‭ ‬صيغة‭ ‬الأمان‭ ‬فشدّد‭ ‬فيه‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬المنصور‭ ‬مشترطًا‭ ‬عليه‭ ‬شروطًا‭ ‬مهينة‭ ‬إن‭ ‬هو‭ ‬غدر‭ ‬بالأمان،‭ ‬منها‭: ‬‮«‬ومتى‭ ‬غدر‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬بعمّه‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬فنساؤه‭ ‬طوالق‭ ‬ودوابه‭ ‬حبس‭ ‬وعبيده‭ ‬أحرار‭ ‬والمسلمون‭ ‬على‭ ‬حلّ‭ ‬من‭ ‬بيعته‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬أثار‭ ‬غضب‭ ‬المنصور‭ ‬فانتقم‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬كاتب‭ ‬نص‭ ‬الأمان،‭ ‬بأن‭ ‬أوعز‭ ‬بقتله‭. ‬فهل‭ ‬يكون‭ ‬والحالة‭ ‬هذه‭ ‬محسوبًا‭ ‬على‭ ‬الخليفة،‭ ‬ومن‭ ‬دعاة‭ ‬طاعته،‭ ‬أم‭ ‬محسوبًا‭ ‬على‭ ‬الحرية؟

الشائع‭ ‬بين‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ومنهم‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عزام،‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬مقدمة‭ ‬إحدى‭ ‬طبعات‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬منقول‭ ‬من‭ ‬الفارسية‭ ‬إلى‭ ‬لغتنا‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬باحثين‭ ‬آخرين‭ ‬معاصرين‭ ‬لنا،‭ ‬شكّوا‭ ‬بنسبة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬العربية‭. ‬

كتاب‭ ‬عربي‭ ‬الهوية

قال‭ ‬هؤلاء‭ ‬ومنهم‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار،‭ ‬أستاذ‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬سابقًا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬انتفع‭ ‬بلا‭ ‬ريب‭ ‬بما‭ ‬قرأ‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬الحيوان‭ ‬باللغة‭ ‬الفارسية‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬عليها،‭ ‬ولكن‭ ‬كتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬عربي‭ ‬الهوية‭: ‬‮«‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لأن‭ ‬نعيد‭ ‬لكتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬هويته‭ ‬العربية‭ ‬كاملة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظل‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬قرنًا‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬مشكوكًا‭ ‬في‭ ‬نسبه‭ ‬ونسبته،‭ ‬في‭ ‬نسبه‭ ‬إلى‭ ‬الإبداع‭ ‬القصصي‭ ‬العربي،‭ ‬وفي‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬مؤلفه‭ ‬الحقيقي‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬الذي‭ ‬شاع‭ ‬خطأً‭ ‬أنه‭ ‬ناقله‭ ‬لا‭ ‬مبدعه،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬يصرح‭ ‬بترجمة‭ ‬الكتاب،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬استنتاج‭ ‬استنتجه‭ ‬القدماء‭ ‬من‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬سطر‭ ‬من‭ ‬تقديمه‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬كتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬وهو‭ ‬مما‭ ‬وضعه‭ ‬علماء‭ ‬الهند‮»‬،‭ ‬مشيرًا‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬أمور‭ ‬منها‭ ‬التنبه‭ ‬إلى‭ ‬مصادره‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬الكتاب،‭ ‬كما‭ ‬تقتضي‭ ‬الحقيقة‭ ‬العلمية،‭ ‬ومنها‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬ترويج‭ ‬الكتاب‭ ‬وإضفاء‭ ‬قيمة‭ ‬أدبية‭ ‬عليه‭ ‬بنسبته‭ ‬إلى‭ ‬علماء‭ ‬الهند‭ ‬المعروفين‭ ‬آنذاك‭ ‬ببراعتهم‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬كتب‭ ‬الحكمة‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الحيوان،‭ ‬وذلك‭ ‬أمر‭ ‬كان‭ ‬شائعًا،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الجاحظ،‭ ‬بين‭ ‬كتّاب‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬أيضًا،‭ ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬يؤلفون‭ ‬الكتب‭ ‬وينحلونها‭ ‬غيرهم‭. ‬

ولفت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬من‭ ‬بينهم،‭ ‬مكتفين‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬دورهم‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬النقل‭ ‬أو‭ ‬التفسير،‭ ‬ترويجًا‭ ‬وذيوعًا‭ ‬لها،‭ ‬وحتى‭ ‬يكثر‭ ‬انتساخها‭ ‬بين‭ ‬الملوك‭ ‬والسوقة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الدليل‭ ‬التاريخي،‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬لم‭ ‬يدّعِ‭ ‬الترجمة‭ ‬حذر‭ ‬السلطة‭ ‬ومداراة‭ ‬لها‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن،‭ ‬فقد‭ ‬أصدر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والتربوي،‭ ‬ومنها‭ ‬رسالة‭ ‬الصحابة‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬السياسة‭ ‬ونظم‭ ‬الحكم،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬مندوحة‭ ‬بالهرب،‭ ‬إذا‭ ‬شاء،‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬أبي‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غضب‭ ‬عليه،‭ ‬وهو‭ ‬المعروف‭ ‬بقوة‭ ‬بطشه‭ ‬بالخصوم‭ ‬وشدة‭ ‬فتكه‭ ‬بمعارضيه‮»‬‭.‬

إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬أشار‭ ‬ابن‭ ‬عمر‭ ‬اليمني‭ (‬400‭ ‬هجرية‭) ‬إذ‭ ‬راح‭ ‬ينكر‭ ‬زعم‭ ‬وادعاء‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬بنقل‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬الفارسية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الهندية،‭ ‬وأنه‭ ‬نسبه‭ ‬إلى‭ ‬الفرس‭ ‬لغايات‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬مادية‭ ‬ومعنوية،‭ ‬إبّان‭ ‬الصراعات‭ ‬الشعوبية‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والعجم‭. ‬وذكر‭ ‬ابن‭ ‬عمر‭ ‬اليمني‭ ‬صراحة‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬‮«‬وضع‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬وأن‭ ‬مصادره‭ ‬متعددة،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬صنيع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭. ‬وهذا‭ ‬نص‭ ‬اليمني‭:‬

‮«‬‭.. ‬هذا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع،‭ ‬ناقل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬بزعمه،‭ ‬من‭ ‬الفارسية،‭ ‬هو‭ ‬واضعه‭ ‬وناسبه‭ ‬إلى‭ ‬الفرس‭ ‬تشييدًا‭ ‬بذكرها،‭ ‬وتنبيهًا‭ ‬على‭ ‬مآثرها،‭ ‬لعنايتها‭ ‬بنقل‭ ‬حكم‭ ‬الأولين،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬هو‭ ‬مؤلف‭ ‬الكتاب،‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬أخذ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬أشعار‭ ‬المتقدمين‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬فنثرها،‭ ‬وألف‭ ‬عليها‭ ‬كتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة،‭ ‬كما‭ ‬رأينا‭ ‬سهل‭ ‬بن‭ ‬هارون‭ ‬أخذ‭ ‬أمثال‭ ‬العرب‭ ‬المشهورة‭ ‬وحكمها‭ ‬المنشورة‭ ‬فألف‭ ‬عليها‭ ‬كتاب‭ ‬النمر‭ ‬والثعلب‭ ‬وكتاب‭ ‬ثعلة‭ ‬وعفراء‮»‬‭!‬

ويؤكد‭ ‬عمر‭ ‬اليمني‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬‭.. ‬قد‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع‭ ‬المدعي‭ ‬نقل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الفارسية‭ ‬هو‭ ‬واضعه‮»‬‭ ‬وابن‭ ‬المقفع‭ ‬‮«‬أخذ‭ ‬معاني‭ ‬أشعار‭ ‬حكماء‭ ‬العرب‭ ‬فنثرها‭ ‬وألف‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‮»‬‭.‬

 

دليل‭ ‬تاريخي

أما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الكتاب‭ ‬عربيًا،‭ ‬تأليفًا‭ ‬وإبداعًا،‭ ‬شكلًا‭ ‬ومضمونًا،‭ ‬هدفًا‭ ‬وغاية،‭ ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الدليل‭ ‬التاريخي‭ ‬السابق‭. ‬وهذا‭ ‬أيضًا‭ ‬ما‭ ‬بدأ‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الدراسات‭ ‬المقارنة،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬الأصول‭ ‬الأولى‭ ‬للكتاب‭ ‬والتي‭ ‬أفاد‭ ‬منها‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬وقد‭ ‬ترجمت‭ ‬حديثًا‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬ومنها‭ ‬الكتاب‭ ‬الهندي‭ ‬الذائع‭ ‬الصيت‭: ‬أسفار‭ ‬الحكمة‭ ‬الخمسة،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬البنجاتنترا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬واعتمد‭ ‬عليها‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ترجمتها‭ ‬الفارسية‭ (‬البهلوية‭ ‬القديمة‭). ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬البيروني‭ ‬أن‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬البنجاتنترا‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يودّ‭ ‬أن‭ ‬ينقلها‭ ‬من‭ ‬الهندية‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬سبقه‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وأضاف‭ ‬إليها‭ ‬فصولًا‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره‭. ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬1876‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬الترجمة‭ ‬السريانية‭ ‬للبنجاتنترا‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬السريان‭ ‬سنة‭ ‬570‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬الفارسية‭ ‬أي‭ ‬البهلوية‭ ‬القديمة‭.‬

هذا‭ ‬حول‭ ‬‮«‬عروبة‮»‬‭ ‬كتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬وجدارته‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬أما‭ ‬مؤلفه‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع،‭ ‬فانتماؤه‭ ‬واضح‭ ‬إلى‭ ‬الفرس،‭ ‬وقد‭ ‬تربى‭ ‬على‭ ‬لغتهم‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬سن‭ ‬المراهقة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدرس‭ ‬العربية‭ ‬ويتقنها‭ ‬كما‭ ‬أتقن‭ ‬الفارسية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬البصرة‭ ‬التي‭ ‬ازدهرت‭ ‬فيها‭ ‬ثقافات‭ ‬ولغات‭ ‬مختلفة‭ ‬وكانت‭ ‬بداية‭ ‬انفتاح‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬سواهم‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬والأقوام‭ ‬ويختلف‭ ‬باحثون‭ ‬عرب‭ ‬محدثون‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬شخصيته‭. ‬

ومن‭ ‬أطرف‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مستشرق‭ ‬يحسن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والفارسية‭ ‬ويبذل‭ ‬جهدًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬فيوفق‭ ‬كثيرًا‭ ‬ويُخطئ‭ ‬أحيانًا‭.‬

 

رأي‭ ‬طه‭ ‬حسين

‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬باحثون‭ ‬آخرون‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يصوغ‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬عربي‭ ‬اعتُبر،‭ ‬عن‭ ‬صواب‭ ‬أو‭ ‬خطأ،‭ ‬مثلًا‭ ‬أعلى‭ ‬في‭ ‬البلاغة،‭ ‬وأن‭ ‬نصوصه‭ ‬تُتداول‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مضمونها،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أسلوبها،‭ ‬وأنها‭ ‬كانت‭ ‬تؤخذ‭ ‬كنماذج‭ ‬لتعليم‭ ‬الكتابة،‭ ‬أي‭ ‬‮«‬الإنشاء‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭ ‬رأيًا‭ ‬آخر‭. ‬فعنده‭ ‬أننا‭ ‬عندما‭ ‬نقرأ‭ ‬كتابة‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬الالتواء‭ ‬والدوران،‭ ‬ونحسّ،‭ ‬عندما‭ ‬نقرأ،‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يجد‭ ‬مشقة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬يحسّها،‭ ‬ونحسّ‭ ‬هذا‭ ‬الضعف‭ ‬الذي‭ ‬يكلفه‭ ‬الكاتب‭ ‬للعربية،‭ ‬نحسّه‭ ‬لا‭ ‬بعقولنا‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬بآذاننا،‭ ‬فنجد‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬يكلف‭ ‬النحو‭ ‬العربي‭ ‬تكاليف‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬النحو‭ ‬العربي‭ ‬مستعدًا‭ ‬لأن‭ ‬يتحملها‭!‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬آخرين‭ ‬ينعتونه‭ ‬بأنه‭ ‬زعيم‭ ‬الكتّاب‭ ‬وصاحب‭ ‬الآيات‭ ‬وواضع‭ ‬المثل‭ ‬الأعلى‭ ‬للكتابة،‭ ‬فإن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬‮«‬عظيم‭ ‬الحظ‭ ‬من‭ ‬الفصاحة‭ ‬والنحو‭ ‬العربي‮»‬‭. ‬ولكنه‭ ‬يفسّر‭ ‬‮«‬ضعفه‮»‬‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬عهد‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭ ‬بالوجود‭. ‬فليس‭ ‬غريبًا‭ ‬ألاّ‭ ‬يستقيم‭ ‬له‭ ‬النثر‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يستقيم‭ ‬لرجل‭ ‬كعبد‭ ‬الحميد‭ ‬الكاتب‭.‬

ولكن‭ ‬لعبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع‭ ‬فضائل‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬يشر‭ ‬إليها‭ ‬ناقدوه،‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬بلغة‭ ‬العرب‭ ‬بعد‭ ‬القرآن،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬طُبع‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬الطبعات‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬شتى،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬يُطبع‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬ويُدَرَّس‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬ويُتداول‭ ‬بين‭ ‬القراء‭. ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬ذو‭ ‬فائدة‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬النشء‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬وفي‭ ‬كون‭ ‬تأثيره‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬فألهم‭ ‬كتّابًا‭ ‬كثيرين‭ ‬فيه،‭ ‬في‭ ‬طليعتهم‭ ‬لافونتين‭ ‬الفرنسي،‭ ‬قصصًا‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬الحيوان،‭ ‬شبيهة‭ ‬بقصص‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭.‬

ولا‭ ‬يزال‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬سيرةً‭ ‬وأدبًا،‭ ‬يثير‭ ‬جدلًا‭ ‬واسعًا‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المؤدب‭ ‬في‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬التنوير‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬حضاري‭ ‬قوامه‭ ‬إلباس‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬الناشئة‭ ‬لباس‭ ‬الدولة‭ ‬الساسانية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬نصوصه‭ ‬تخلو‭ ‬تمامًا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬عناصر‭ ‬إسلامية‭ ‬أو‭ ‬عربية‭. ‬فلا‭ ‬ذكر‭ ‬لآية‭ ‬قرآنية‭ ‬ولا‭ ‬لحديث‭ ‬ولا‭ ‬لقولة‭ ‬صحابي،‭ ‬أو‭ ‬لشيء‭ ‬عربي،‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬السكوت‭ ‬المطبق‭ ‬والمتعمد‭ ‬عن‭ ‬المرجعيات‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬يوازيه‭ ‬ويعضده‭ ‬السكوت‭ ‬عن‭ ‬المرجعيات‭ ‬الفارسية‭. ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬لا‭ ‬أردشير‭ ‬ولا‭ ‬أنوشروان‭ ‬ولا‭ ‬بزرجمهر،‭ ‬ولا‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مرجعية‭ ‬فارسية،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬‮«‬قال‭ ‬حكيم‭ ‬فارسي‮»‬،‭ ‬وبرأي‭ ‬الجابري‭ ‬هذا‭ ‬السكوت‭ ‬غير‭ ‬بريء،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُفسّر‭ ‬إلا‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السكوت‭ ‬عن‭ ‬المرجعيات‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭.‬

 

مشروع‭ ‬تنويري

ويتفق‭ ‬المؤدب‭ ‬والجابري‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬منوّرًا‭ ‬أو‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬تنويري‭ ‬حضاري،‭ ‬ولكنهما‭ ‬يختلفان‭ ‬في‭ ‬مضمون‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭. ‬فالمؤدب‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬ينتقد‭ ‬التعصب‭ ‬الديني‭ ‬ويمجّد‭ ‬العقل،‭ ‬بل‭ ‬ويصل‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الأخلاق‭ ‬مستقلة‭ ‬عن‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الديني‭. ‬فهو‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬‮«‬مدني‮»‬‭ ‬و«علماني‮»‬‭ ‬بالتعبير‭ ‬الحديث،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬مطالبته‭ ‬بغير‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنه‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬اعتنق‭ ‬الإسلام‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬مذهب‭ ‬المانوية‭. ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬مطالبة‭ ‬المانوي‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬مرجعيات‭ ‬عربية‭ ‬أو‭ ‬إسلامية،‭ ‬فهو‭ ‬مجرد‭ ‬مثقف‭ ‬أو‭ ‬كاتب‭ ‬منفتح‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬كثيرة،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬كاتب‭ ‬عربي‭ ‬مثل‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬سواه‭. ‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬عندما‭ ‬دعا،‭ ‬أو‭ ‬روّج،‭ ‬للقيم‭ ‬الكسروية،‭ ‬فإن‭ ‬دعوته‭ ‬هذه‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬اعتقادنا‭ ‬عن‭ ‬دعوة‭ ‬مثقفين‭ ‬عرب‭ ‬معاصرين‭ ‬لنا‭ ‬اليوم،‭ ‬إلى‭ ‬الانتفاع‭ ‬بالنظم‭ ‬والقيم‭ ‬والمؤسسات‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬لبناء‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭. ‬

كانت‭ ‬بغداد‭ ‬العباسية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬مدينة‭ ‬ناشئة‭ ‬مفتقرة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬‮«‬القيم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬أو‭ ‬الحاضرة‭ ‬الساسانية،‭ ‬فطمح‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬الليبرالي‭ ‬الكوسموبوليتي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬جسر‭ ‬بين‭ ‬ثقافتين‭ ‬وحضارتين،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تستفيد‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الناشئة‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬دولة‭ ‬أجنبية‭ ‬عريقة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دأب‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬إليه‭ ‬مفكرو‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬ومفكرون‭ ‬عرب‭ ‬كثيرون‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬دعا‭ ‬مرةً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سمّاه‭ ‬الجابري‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬أيديولوجيا‭ ‬الطاعة‮»‬‭ ‬للحاكم،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬التناقضات‭ ‬التي‭ ‬وقع‭ ‬فيها‭ ‬الكتاب‭ ‬عادةً،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬الحاكم‭ ‬العباسي‭ ‬وموقف‭ ‬هذا‭ ‬الحاكم‭ ‬منه‭.‬

ونحن‭ ‬نميل‭ ‬إلى‭ ‬تقييم‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المؤدب‭. ‬فابن‭ ‬المقفع‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬تنويري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجمل‭ ‬ما‭ ‬كتب‭. ‬وهذا‭ ‬المشروع‭ ‬موجّه‭ ‬إلى‭ ‬الجمهور‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬بلغته‭ ‬وعاش‭ ‬بينه،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬العرب،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينفي‭ ‬أحد‭ ‬تشبّع‭ ‬صاحبه‭ ‬بلغته‭ ‬الفارسية‭ ‬وتأثره‭ ‬بآدابها‭. ‬ولم‭ ‬يخطئ‭ ‬الجابري‭ ‬عندما‭ ‬لاحظ‭ ‬خلوّ‭ ‬أدبه‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مرجعية‭ ‬عربية‭ ‬أو‭ ‬إسلامية،‭ ‬وكأنما‭ ‬الدين‭ ‬عنده‭ ‬له‭ ‬ميدانه‭ ‬الخاص‭. ‬فهو‭ ‬مشرّع‭ ‬للعبادات‭ ‬وبعض‭ ‬المعاملات‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فصلًا‭ ‬بين‭ ‬شؤون‭ ‬الدين‭ ‬وشؤون‭ ‬الحياة،‭ ‬وهذا‭ ‬الفصل‭ ‬اقتضته‭ ‬الإرادة‭ ‬الإلهية،‭ ‬‮«‬وذلك‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬جعل‭ ‬قوام‭ ‬الناس‭ ‬وصلاح‭ ‬معاشهم‭ ‬ومعادهم‭ ‬في‭ ‬خلتين‭: ‬الدين‭ ‬والعقل‭. ‬الدين‭ ‬شُرّع‭ ‬لأمور‭ ‬العبادة‭ ‬وبعض‭ ‬أمور‭ ‬المعاش‭ ‬وترك‭ ‬الباقي‭ ‬وهو‭ ‬كثير‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬‮«‬للعقل‮»‬‭. ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬شرّع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬لكانوا‭ ‬قد‭ ‬كُلّفوا‭ ‬غير‭ ‬وسعهم،‭ ‬ولحارت‭ ‬عقولهم‭ ‬وألبابهم‭ ‬التي‭ ‬امتن‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬عليهم‭ ‬ولكانت‭ ‬لغوًا‭ ‬لا‭ ‬يحتاجون‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬شيء‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬يتفق‭ ‬الجابري‭ ‬مع‭ ‬المؤدب‭ ‬الذي‭ ‬لاحظ‭ ‬انتقاد‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬للتعصب‭ ‬الديني‭ ‬وتمجيده‭ ‬للعقل‭.‬

ويبقى‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬كاتبًا‭ ‬ليبراليًا‭ ‬مبكرًا‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أول‭ ‬كاتب‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحديث‭ ‬للكلمة‭. ‬فما‭ ‬زالت‭ ‬كتاباته‭ ‬تنبض‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬شاخت‭ ‬كتابات‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬زمنه‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الأزمنة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بعده،‭ ‬وفي‭ ‬طليعة‭ ‬كتاباته‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يصول‭ ‬على‭ ‬القدم‭ ‬ويأبى‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬قاعات‭ ‬التعليم‭ ‬ويقرأ‭ ‬الناس‭ ‬حكاياته‭ ‬بشغف‭ ‬وكأنه‭ ‬كُتب‭ ‬في‭ ‬مطالع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬لا‭ ‬قبل‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬‭.