المفكر التونسي عبدالمجيد الشرفي: النهضة العربية الثانية لن تتحقق إلا بالعقلانية والحرية

أنجز المفكر التونسي عبدالمجيد الشرفي مهام عدّة في الهياكل العلمية والتربوية، وساهم في تفعيل مراكز البحث والمؤسسات العلمية في تونس. شغل كرسي «اليونسكو» للأديان المقارنة بين عامي 1999 و2003، وهو أول شخصية في العالم العربي تشغل هذا المنصب. يترأس منذ عام 2015 المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة بقرطاج). صدر له: «الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر»، «الإسلام والحداثة»، «الإسلام بين الرسالة والتاريخ»، «تحديث الفكر الإسلامي» «لبِنات»، «مرجعيات الإسلام السياسي»، «الثورة والحداثة والإسلامي». نشر عشرات المقالات والبحوث العلمية، وترجمت بعض أعماله إلى لغات عدة؛ أهمها الفرنسية والفارسية.
في حواره مع مجلة العربي، يتحدث الشرفي عن معوقات الحداثة المعرفية في العالم العربي وعن معايير النهوض الحضاري عندنا، إضافة إلى إشكاليات الإصلاح الديني في الإسلام وأسس النهضة العربية الثانية والانغلاق الثقافي، ومفاهيم «المابعديات» في الفضاء الثقافي الغربي، ودور النخب العربية في قراءة الأحداث التي تفجرت بدءًا من عام 2011. وفيما يأتي تفاصيل الحوار:
-أخذت الحداثة موقعًا رئيسًا في تنظيرك الفكري، وقد أوليت هذا المفهوم اهتمامًا واضحًا في مؤلفاتك، خصوصًا كتابك «لبِنات» الذي خلصت فيه إلى أنه: «إذا كانت هناك صفة جامعة يمكن في ضوئها فهم المسار العام للحداثة، فهي من دون شك الجرأة على كسر حدود المعرفة. كان منتهى أمل الإنسان قديمًا استيعاب علوم القدماء والاستظهار بها، مع الشرح والتعليل والتوفيق والترجيح، بينما زالت في نطاق الحداثة المناطق المحرمة التي يسلم بها الإنسان دون بحث وتمحيص». انطلاقًا مما تقدمت به، لماذا ما زالت المعرفة في العالم العربي مقيدة وغير قادرة على تجاوز المحرّم؟ ومن أين علينا أن نبدأ من أجل تجاوز التأخر المعرفي؟
- لا أظن أن هناك عائقًا واحدًا يحول دون الوصول إلى المعرفة بمواصفاتها الحديثة. فمن بين الأسباب الرئيسة أن أنماط الإنتاج في العالم العربي مازالت في أغلبها أنماطًا تقليدية، ولم يساعد الريع البترولي ولا تقسيم العمل على المستوى العالمي على عصرنة هذه الأنماط. يختلف المؤرخون عمومًا في تحديد أسباب التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حصل في الغرب بداية من القرن التاسع عشر؛ واعتقادي أن ثمة علاقة جدلية بين الأوضاع المادية وطرق التفكير والسلوك. فلولا اكتشاف الطباعة واكتشاف القارة الأمريكية ما كان لحركة التنوير في القرن الثامن عشر أن تظهر، وفي المقابل كانت النهضة الأوربية في إيطاليا ثم في الأقطار الأوربية الأخرى عاملًا مؤثرًا في الثورة المعرفية في الغرب.
ومما يزيد في تأخر العالم العربي على هذا الصعيد أن هناك تسارعًا كبيرًا في الحركة العلمية في الغرب تجعل من العسير استيعاب كل ما أتى به وما ينفكّ يأتي به من جديد، فضلًا عن غياب العرب عن الإسهام في إنتاج المعرفة الكونية. ولعل شيوع العقلانية، على غرار ما حصل في الصين وفي عدد من بلدان أقصى آسيا، هو الكفيل بكسر الحلقة المفرغة التي يولّد فيها الواقع المادي المتخلف تفكيرًا متحجرًا لا يستجيب لمتطلبات العصر الحديث.
-حددت مجموعة من المعايير يجب أن تنهض عليها الحداثة في كتابك نفسه، من بينها الكونية (المعيار الكوني) الذي يتضمن قيمًا مثل الحرية والمساواة والعدالة. كيف تنظرون إلى واقعنا العربي اليوم بناء على هذه الثلاثية التي أشرت إليها؟
- العالم العربي أبعد ما يكون عن الانسجام في هذا النطاق. وفيه بلا شك فئات تؤمن بالقيم الكونية، مثل الحرية والمساواة والعدل، ولكن أغلب الفئات الاجتماعية لا تؤمن بها، أو بالأحرى لم تدخْلِنْها بما فيه الكفاية. فمن مقتضيات الحرية استقلال شخصية الفرد وعدم وقوعه تحت أي وصاية لم يخترها اختيارًا واعيًا، ولذلك فهو شخص يحمّل المسؤولية للغير: الحاكم أو المفتي أو الإمام... إلخ. وليس مستعدًا نفسانيًّا لتحمّل تبعات حريته ومسؤوليته.
ومن أهم مظاهر الإيمان بالمساواة قبول عدم التمييز بين الرجال والنساء في كل شيء، أما العدل فيعني التسوية بين الغني والفقير، ومن يتمتع بسلطة ما أو هو خلوّ منها، فيكون القانون منطبقًا على الجميع من دون أيّ تمييز مهما كان نوعه، خلافًا لنظام التعزير الذي فيه تمييز وفق المكانة الاجتماعية والنسب وما إلى ذلك. ومتى استتب العدل انعدمت كل الخروق التي تنهش الجسم الاجتماعي برمته.
-ما هو أفق النهضة العربية الثانية التي كتب عنها العديد من المفكرين في العالم العربي؟ وما الأسس التي يجب أن تنهض عليها من وجهة نظرك؟
- أفق النهضة العربية الثانية، أو بالأحرى آفاقها، إن قدّر لها أن تتحقق في المستقبل المتوسط أو البعيد، لا يمكن أن تكون إلا آفاقًا إنسانية تستجيب لمعايير العصر وقِيمه، بعيدًا من الخصوصية الزائفة والماضويّة المرضية. والأسس التي يجب أن تنهض عليها هي الأسس نفسها التي تقوم عليها الحضارة الحديثة التي بدأت غربية وأضحت اليوم كونية. ومن أهم تلك الأسس العقلانية في التفكير والسلوك، وتكريس قيمة الفرد في حدّ ذاته، بصرف النظر عن جنسه وثروته ومعتقداته ولونه، وغير ذلك من مظاهر التمييز، وشيوع الحرية التي لا حدّ لها سوى حرية الآخرين، والإيمان بحق المواطنين والمواطنات في المشاركة بالحياة العامة في نطاق أشكال التنظيم التي يرتؤونها، أي إرساء قيم الديمقراطية والمواطنة والمساواة في القانون وأمامه.
وإذا تحققت هذه الشروط انعدمت العقبات التي تقف في وجه التقدم والتوحّد والمناعة والإسهام في إنتاج المعرفة والإفادة من مكتسبات العلم والمعرفة. ومن أهم العقبات، تلك المتمثلة بالانتماءات الضيقة والولاءات البدائية، وفي الجهل والأمية الثقافية، وفي الاستبداد واستئثار أسر أو جماعات بالسلطة بجميع أنواعها، كما في التضحية بطاقات النساء الخلاقة بتعلّات واهية.
نظرة نقدية
-يمر العالم العربي في مرحلة من الانغلاق الثقافي، بحيث أننا نواجه ثقافة متصلبة تواجه تحديات المستقبل والحاضر بالعودة إلى التراث... ما رأيك في ذلك؟
- رأيي أن هذه الظاهرة مسؤولة إلى حد بعيد عن تأخر العالم العربي وعجزه عن اللحاق بركب الحضارة الحديثة. إنها جواب خاطئ عن سؤال حقيقي. فالعرب - مع الأسف - لم يهتدوا إلى الحل الذي يخرجهم من التأخر والتبعية وحتى الذل والهوان، وارتموا في أحضان التراث وأوهام العظمة الماضية وكمال السلف الصالح. ولو اعتبروا بسلوك اليابانيين ثم الصينيين لما تردّدوا في أن ينظروا إلى ماضيهم وإلى تراثهم نظرة نقدية، وألا يحتفظوا منهما إلا بما يصلح لحاضرهم ولمستقبلهم، فيطرحوا ما تجاوزه الزمن وما لا يتلاءم ومقتضيات العصر. لقد بقوا رهينة لحلول الماضي، مثلهم كمثل من يحصّن مدينته بالأسوار العالية في عهد الطائرات النفاثة والصواريخ العابرة للقارات. ولم يهتدوا بالخصوص إلى أن وظيفة التعليم الأساسية هي تكوين المواطن الواعي بحقوقه وواجباته، ذكرًا كان أو أنثى، لا حشو الأدمغة بما يدعم «الهويّات القاتلة» على حد عبارة أمين معلوف، والخضوع والطاعة العمياء والخوف من كل جديد وغير مألوف، بما يمنع تحقيق الذات واستقلال الشخصية والمغامرة والاكتشاف والابتكار.
-يرى البعض أن التأخر الحضاري في العالم العربي يرتبط بالعقلية التي تسيطر على المجتمعات العربية. هل بالإمكان الحديث عن عقل عربي مستقيل وإرجائي؟
- إن التأخر الحضاري يرتبط لا محالة بالعقلية التي تسيطر على المجتمعات العربية، لكن ينبغي ألا ننسى أن تلك العقلية في علاقة جدلية بالظروف التي تعيشها هذه المجتمعات، أي أن الظروف التاريخية العامة تفرِز نمطًا من العقلية والتخلف، بقدر ما يفرِز هذا النمط تلك الظروف، في حلقة جهنمية يعسر كسرها والتخلص من أسرها، رغم ضرورة الخروج من هذا الوضع. ولا أظن أن السبب هو العقل العربي المستقيل والإرجائي، فأنا لا أؤمن بوجود عقل عربي أو عقل إسلامي - على خلاف صديقيّ المرحومين محمد عابد الجابري ومحمد أركون - بل بوجود عقل بشري مشترك بين جميع الناس وتكيّفه الظروف والخيارات السياسية والمجتمعية ليكون إما مستقيلًا أو فاعلًا إيجابيًّا. ولعل أقوى دليل على ذلك أنك يكفي أن تحرّر المرأة العربية وتعترف بمساواتها بالرجل في كل المجالات حتى تنتِج في جيل واحد عقلًا عربيًّا منفتحًا ومختلفًا عن العقل المتحجر السائد. وهذا ما يستخلص من تجارب الأمم مهما كان دِينها وثقافتها وماضيها، ولكنّ أغلب العرب لا يريدون - مع الأسف - الاعتراف بهذه الحقيقة البديهية الدامغة، ويفضلون الهروب إلى المبرّرات الدينية المزعومة على مواجهة الواقع المرير بالحلول الجذرية.
-إن تطور العلوم الإنسانية في الغرب أبرز رؤى جديدة على مستوى التنظير والأفكار، فنجد مصطلحات: ما بعد التاريخ، ما بعد الحداثة، ما بعد العلمانية. كيف تقرأون هذه «المابعديات» في مجالها المعرفي الأوربي؟
- لقد عبّرت «بعد» عن موقفي فيما يخص ما يسمى بــ «ما بعد الحداثة»، فأنا لا أؤمن بأن هناك حضارة جديدة قطعت مع مكتسبات الحداثة في معناها العام. كل ما هنالك أن الوضعية التي سادت في فترة معيّنة تبين الآن أنها لا تفي بكل أبعاد الإنسان، ولا سيما المتخيل والرمز، وما إلى ذلك مما لا يحتكم إلى العقل وحده. إلا أن العقل هو الذي أدى إلى إعادة النظر هذه؛ فهو المَلَكة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان أن يتبيّن حدود معرفته وإدراكه للواقع المتشعب الذي يستعصي على التحليل العقلاني وحده. وإذا كان الغربيون عمومًا يستطيعون تجاوز العقلانية الصارمة فإنّنا في عالمنا العربي والإسلامي لا بد أن نمرّ بهذه المرحلة العقلانية قبل أن نتأثر بالمقولات التي تعيد النظر في حدودها. إن المرور إلى المابعديات لا يمكن أن يتم إلا بعد استيعاب ما هو مكرّس في تفكير الغربيين وسلوكهم ومؤسساتهم المجتمعية، وهي مرحلة لم نصل إليها بعد، بل مازلنا بعيدين عنها.
-تبدو بعض النخب الفكرية العربية في حالة من الكمون والصمت إزاء التحولات التي يشهدها العالم العربي بدءًا من عام 2011، بحيث أننا لم نلاحظ مطالعات لافتة إلا بشكل استثنائي. كيف تفسرون ذلك؟
- لابد في هذا المجال من الانتباه إلى الثورة الرقمية والمعلوماتية التي يعرفها العالم منذ عقدين من الزمن. فقد كان المفكرون وقادة الرأي يؤثرون في الأحداث عندما كانت وسائل الاتصال محدودة. أما الآن فإن أي صوت، مهما كانت قيمته، يضيع في خضم الآراء المعبّر عنها في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأحداث التي تتابعها المحطات الإذاعية والتلفزيونية في أرجاء المعمورة كافة. ولهذا فإن دور النخب لا يمكن إلا أن يتقلص في هذه الظروف الجديدة. المهم الآن أن تتبنّى بنى المجتمع المدني الجديدة الأفكار التقدمية وتدافع عنها، بحيث تخلق نوعًا من الإجماع حول القيم غير التقليدية، في انتظار أن تتبلور في قوانين، وأن تفرض نفسها على المسؤولين السياسيين. إن الأفكار التحديثية موجودة قبل 2011 وبعد هذا التاريخ، ولكن لابد من وجود البنى التي تتبنى تلك الأفكار وتبلغها إلى أكثر ما يمكن من الجماهير. فالمشكل موجود في مستوى القوى المبلّغة لهذه الأفكار أكثر مما هو موجود في الأفكار ذاتها.
-تبرز في المغرب العربي أقلام نسوية مهمة في حقل الإسلام والمعرفة الدينية والقراءة النقدية للمدونة التراثية. كيف تقيِّمون هذه التجارب النسوية، لا سيما في تونس؟
- إنّني شخصيًّا فخور بهذه الأقلام النسوية، ولاسيما أنّني ساهمت في تكوينها وتأطيرها. وأعتبر أنّها تعبّر عن ضرورة تاريخية، بما أن البحث في الموضوعات الدينية من تفسير وفقه بالخصوص، كان حكرًا على الرجال دون النساء، ولا يمكن ألا يتأثر بمصالح الرجال على حساب النساء. والأهم من ذلك أن النساء التونسيات ينخرطن ضمن تيار عالمي يُعيد النظر في التوازنات التي كانت قائمة لمصلحة الرجال. وهذا أمر إيجابي باعتبار أن المجتمعات الإسلامية كانت مكسورة الجناح، ولا يمكنها أن تطير إلا بجناحين، كما تقتضيه طبيعة الحياة. ومعروف أن مساهمة المرأة في الإنتاج في عالمنا العربي هي من أضعف النسب في العالم، وهو ما يفسر إلى حد بعيد التأخر التاريخي الذي تعانيه هذه المجتمعات.
-ما هي مشاريعك المستقبلية في حقل الكتابة والتأليف؟
- لا أرغب في الحديث عن مشاريع مستقبلية متى لم يتمّ إنجازها. إنّني الآن مشغول بتفعيل المجمع التونسي، بعد أن مرّ بفترة كاد يخلو فيها من النشاط الأكاديمي، وأعتبر أن تشجيعي للكفاءات النسوية والتحديثية عمومًا، إسهام في العمل على تغيير المجتمعات العربية نحو الأفضل. فتغيير الذهنيات ليس أمرًا سهلًا، ويتطلب تضافر جهود كل المخلصين للواجب ولمصالح مجتمعاتهم على المدى المتوسط وحتى البعيد■