صراع الطواويش... وحكمة الشيخ مبارك
أستطيع القول بأن الكويت عاشت على اللؤلؤ والتمور منذ بداية حياتها حتى عام 1950، مع اتّساع تصدير النفط وتحقيق عائد يغطي احتياجات الدولة ويوظّف معظم الأطياف من سكانها.
شيّد الكويتيون كيانًا في منتصف القرن الثاني عشر، مبنيًّا على علاقة خاصة مع البحر، فعندما جاء الروّاد إلى موقع الكويت لم يجدوا فيه ما يؤمّن حياتهم، فلا ماء ولا غذاء ولا واحات، مجرّد ساحل رملي وخليج صغير وظّفه هؤلاء الرواد كمصدر للحياة، بالإصرار على بناء سفن متعددة الأحجام، تتناسب مع احتياجاتهم آنذاك، فإذا كانت الأرض الجرداء، فلا مفرّ من البحر، لهذا تمكّنوا بالإصرار على البقاء وبالعزم على استغلال خزائن البحر واقتحامها وتطويعها كمصدر يوفّر لهم أبسط متطلبات الحياة، وصار الغوص على اللؤلؤ مهنة يتولاها الكويتيون صيفًا، بالذهاب إلى مواقع المحار الموجودة في محاذاة البحرين وسواحل الكويت الجنوبية حول منطقة الجليعة.
كانت مهمة شاقّة لها نظامها الخاص، غواص يذهب إلى الأعماق في البحر بلا آليات، يجمع المحار في كيس، ويسحبه واحد على ظهر السفينة، يديرها ربّان متمكّن، يبيع الحصاد على رجل تاجر اسمه االطواشب عمله تاجر لؤلؤ، يتاجر به في عواصم أوربا ويربح منه، ويتم توزيع الحصيلة على جميع الأطراف في هذه المهنة الشاقة.
يتميز هذا الدور لتاجر اللؤلؤ بالحساسية الاجتماعية، فمن دونه لا يصل اللؤلؤ إلى من يسعى إلى الحصول عليه من المجتمعات الأوربية، ولا يجد اللؤلؤ من يؤمّن وصوله إلى أسواقه العالمية، ومن دونه أيضًا يضيع الغواص، وتتوقف السفينة، وتنتشر البطالة، وتتأثر خزينة الدولة التي تفرض ضريبة الغوص على هؤلاء التجار.
كان الغوص هو القناة الأولى للاقتصاد الكويتي في بداية العهد، وجاء السفر إلى الهند وشرق إفريقيا كقناة ثانية بعد كساد اللؤلؤ، ثم اتسعت لتصبح الأولى، وإذا كان الطواش لاعبًا استراتيجيًّا في الاقتصاد الكويتي، فإن تاجر التمور الكويتي هو العامل الموفر للسفن الكويتية ما تحمله من تمور إلى الهند وإفريقيا، ومن دونه لا تجد سفن الكويت الشراعية ما تحمله في رحلتها إلى هناك.
هذه المجموعة الثنائية اتاجر اللؤلؤ - الطواشب واتاجر التمورب في البصرة هي منبع الاقتصاد الكويتي، فكلّ شعب الكويت حتى 1950، مرتبط بشبكة الغوص وشبكة البحر، وقليل منه في صيد الأسماك أو العمل في البناء والمزارع.
كسب تجار اللؤلؤ وتجار التمور مقعدًا استثنائيًّا في حياة الكويت الاقتصادية، ونتج عنها مكانة سياسية ونفوذ تمتّع به هؤلاء التجار المقرّبون من حكام الكويت لنفوذهم اقتصاديًّا وترابطهم اجتماعيًّا.
أزمة عام 1910
رغم التصاقهم بالحاكم، فإن العلاقات تعرّضت لأزمات، أبرزها أزمة عام 1910، حين اتخذ الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت السابع، قراره بمنع الغوص في ذلك العام، لأن الشيخ مبارك ملتزم بأعباء المواجهة ضد بعض أمراء المناطق ومسؤوليها لمسببات خاصة برؤية الحاكم في مسؤولية الحكم، ومن هذا المنطلق زادت أعباء الحكم إداريًّا واقتصاديًّا، ومن أجل الوفاء بهذه الالتزامات التي يحرص عليها الشيخ مبارك الصباح كان لا مفرّ من زيادة الضرائب، وهو قرار فيه قساوة على الدورة الاقتصادية الداخلية التي ترتكز على عطاء التجار، خاصّة تجار اللؤلؤ، وكانت هذه الضرائب المتصاعدة لمواجهة أعباء الدفاع تشكّل ثقلًا على أصحاب الدكاكين الصغيرة وعلى البسطاء من أصحاب الحرف والمداخيل المحدودة.
كان طموح الشيخ مبارك الصباح إقليميًّا يستوجب توفّر دخل أكبر مما يحصل عليه، ولهذا كانت اختياراته في زيادة الضرائب تفرز اعتراضات لم يتجاهلها الشيخ مبارك، لكنّه كان مجبرًا على حمل المسؤولية، خاصة في دعم الحلفاء من القبائل، ومن أمثال الشيخ خزعل حاكم المحمرة التي يتعرّض لمواجهات أمنية لا يقدر عليها بمفرده.
يذكر مؤلف كتاب هجرة طواويش الكويت، بدر ناصر المطيري في الصفحة 73، أن مبادرة جمع التبرعات من التجار وأصحاب الدكاكين التي كانت حصيلتها 30 ألف ليرة عثمانية قد تسببت في إشاعة كثير من السخط.
ومع ذلك فرض الشيخ مبارك ضريبة على الغوص تعادل حصة غواص، وتساوي ثلاثة أسهم من محصول كل سفينة، وتسمى اقلاطة الشيوخب.
ضغوط واحتجاجات
تمشيًّا مع نهج زيادة الضرائب لتمويل قوات الشيخ مبارك في معاركه مع خصومه شمالًا وجنوبًا، تعرّض تجار اللؤلؤ إلى ضغوط فجّرت الاحتجاجات على هذه السياسة.
وفجّرت أزمة غير مسبوقة عرّضت الحياة التجارية إلى التوقف مع جمود الحياة فيها يرافقها فزع تسيُّد المجموعات التي تتعامل مع الغوص.
كما يسجل بدر ناصر المطيري في كتابه هجرة طواويش - ص 87:
اسادت بسبب جبايات الشيخ مبارك حالة من التذمر، فلا شك في أن قسمًا كبيرًا من رأسمال الكويت قد تم استهلاكه للصرف على استعدادات الشيخ لمواجهة الخصوم، وقد تم إبقاء القوة العسكرية الكويتية المستنفرة على مشارف البادية طوال شهور الصيف والخريف وحتى الشتاء، وأصبح الإنفاق عليها وإمدادها مصدر نزف مستمر لثروة التجارب.
وقد تسبب تجهيز قوة الغزو مرتين - يشير الكاتب إلى معركة هدية التي خسرها الشيخ مبارك وتصميمه على الثأر- إلى استهلاك كل المخزون المحلي من عدة الإبل والسلاح والملابس، مما سبب ارتفاعًا في الأسعار.
كان الشيخ مبارك قد خسر معركة هدية في يوم 17 مارس 1910، فصمم على الثأر، وأعد جيشًا كبيرًا استعان في بنائه بمجموعة من رجال البادية، كما تمت تعبئة المجتمع الكويتي بكل أطيافه لهذا الثأر، ومع اقتراب موسم الغوص الذي يبدأ عادة في بداية مايو، اتخذ الشيخ مبارك قراره بمنع خروج الكويتيين للغوص، وتم تجنيد رجال الغوص للمعركة، فتحرّك كبار الطواويش لحثّ الشيخ مبارك على إعادة النظر بقراره منع الغوص، لأن له عواقب كارثية على الكويت وأهلها، لأن الغوص كان آنذاك أبرز مورد للأرزاق.
فقام ثمانية من أبرز الطواويش بمقابلة الشيخ مبارك وشرحوا نتائج القرار، لكنّ الشيخ رفض طلبهم، وكان الوفد يضم نجوم تجارة اللؤلؤ، هلال المطيري، وشملان بن علي الرومي، وإبراهيم المضف، وحمد الخالد وآخرين.
توتّر وعدم اتفاق
لم يتم الاتفاق على التأجيل، فقد رفض الشيخ مبارك إلغاء قرار المنع، كما ساد التوتر في العلاقات، لاسيما بين هؤلاء الثلاثة (المطيري والرومي والمضف) وبين الشيخ مبارك.
وهنا يشير تقرير الوكيل البريطاني في الكويت إلى أن الثلاثة اتصلوا بالسلطات البريطانية في البحرين للاستفادة من الحماية البريطانية لهم ولنواخذتهم وبحّارتهم، لأنهم عزموا على ترك الكويت والاستقرار بأي مكان تخصصه لهم السلطات البريطانية، بعيدًا عن نفوذ الشيخ مبارك، ويوفّر لهم حريّة ممارسة الغوص.
كما حملوا معهم ما توفّر من النقد، وقد وعد هلال المطيري مجموعته من الغاصة والبحارة بإسقاط الديون وتسهيل سكنهم من أجل تأمين العدد الكافي لمزاولة هذه المهنة من المقر الجديد.
توجه المطيري والمضف إلى البحرين، وذهب شملان إلى جزيرة اجنةب ومعه راشد بورسلي، وأحمد المناعي، وسعد الناهض السهلي، وصالح المسباح، وعيسى العصفور، وناصر النجدي وغيرهم.
وكان الوكيل البريطاني شكسبير قد أرسل تقريرًا عن مقابلته مع كل من المطيري والمضف يوم 29 أغسطس 1910، شرح فيه أسباب الهجرة، وهي الضيق من إجراءات المنع وتعطيل الحياة الاقتصادية، واقترابهم من الإفلاس، بسبب أعباء الإعداد للثأر وإدامته، وأن هناك 200 سفينة كويتية لن تعود إلى الكويت.
وهنا يعلّق الوكيل البريطاني بأن كل ثروة الكويت تأتي من تجارة اللؤلؤ، وأن هؤلاء الطواويش يملكون ما بين مليونين و3 ملايين روبية، وبين 200 و300 سفينة، ويتبعهم ما بين 6 و8 آلاف رجل، لذلك فإن تأثيرهم على الاقتصاد الكويتي قاتل.
وقد تم اللقاء في البحرين تقديرًا من الوكيل البريطاني في الكويت، الذي ذهب إلى هناك لمقابلتهما، لضرورة عودة هؤلاء الطواويش إلى بلدهم.
إلغاء التعبئة
غضب الشيخ مبارك من هذا الإجراء، وأرسل سفينته الخاصة إلى منطقة الغوص، ليقف على رأي النواخذة الكويتيين الموجودين فيها، وفي ضوء ذلك الإجراء، قرر يوم 30 أغسطس إلغاء قوة الغزو والتعبئة، كما أرسل رسائل إلى شملان بن علي يشرح له الوضع، ويحثّه والآخرين على العودة.
كانت الرقّة واللطافة تميّزان هذه الرسالة، وتزيلان الكثير من الاستياء الذي سبّبه اللقاء الأخير بينه وبين كبار الطواويش، والذي سادته لهجة المواجهة.
جاء هذا التواصل من قناعة الشيخ مبارك بأن هؤلاء الطواويش هم أعمدة الاقتصاد الكويتي، وهم الملّاك لقنوات العمل، وأن غيابهم سيفجّر التوتر الاجتماعي الذي قد يجر إلى مشاكل تخرج عن السيطرة.
وعن هذا التطور يسجل المعتمد البريطاني شكسبير، في تقريره خلال سبتمبر 1910، ملاحظاته بأن الشيخ مبارك أصبح مستعدًا لتقبّل الرأي الآخر، بعد أن وقف على الاحتمالات المؤذية للكويت.
ومن هذا التحليل الذي سجّله الأرشيف البريطاني يمكن لنا أن نرصد كيف نشر الشيخ مبارك بذور الواقعيّة في أسلوب الحكم الذي اتّبعه حكام الكويت من بعده، لاسيما الشيخ أحمد والشيخ عبدالله السالم من بعده، وكذلك الآخرون الذين أتقنوا فنون الإبحار وسط العواصف التي تهبّ على الكويت ولم تتوقف منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، نتيجة للصراع الحاد بين الإمبراطورية البريطانية والدولة العثمانية حول مستقبل المنطقة.
مساعٍ حميدة
انسجامًا مع قناعة الشيخ مبارك بضرورة عودتهم، لم تتوقف الاتصالات مع كبار الطواويش، فقد أوفد كلّا من الوجيه ناصر البدر، والطواش حسين بن علي الرومي إلى البحرين لبذل المساعي الحميدة، لكنّ الاثنين عادا يوم 4 سبتمبر دون تحقيق أي تقدّم، لأن عقدة الضمان بسلامة العودة لم تكتمل بعد، ولم يقتنع هؤلاء الطواشة بصلابة الضمان من الأذى عند عودتهم.
لم يتوقف الشيخ مبارك في جهوده أمام عقدة الرفض، فاستدعى ابنه الشيخ سالم الذي كان في قرية الفنطاس، وأرسله يوم 7 سبتمبر 1910 إلى جزيرة العماير على ظهر المركب التجاري الخاص بالشيخ مبارك.
ويسجل المؤرخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه اتاريخ الكويتب أن الشيخ سالم المبارك وصل إلى جزيرة اجنةب، حيث التقى كلًّا من شملان الرومي وراشد بورسلي وأحمد المناعي وسعد ناهض وصالح المسباح، وأظهر تأثّره الشديد بما حصل، ورجا الجميع غضّ النظر عما مضى، فأظهر الجميع الاقتناع ما عدا شملان، الذي أراد التنسيق مع هلال المطيري، وبعدها تم ترتيب اجتماع بين الشيخ سالم المبارك وبين إبراهيم المضف وهلال المطيري في مجلس الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين، فطلب هلال الضمان التام على حياته، وكان الرد من الشيخ سالم بأنه غير مخوّل بأي ضمان، ولذلك رأى هلال البقاء في البحرين، بينما عاد الجميع مع الشيخ سالم على ظهر المركب يوم 14 سبتمبر 1910، بعد أسبوعين من هجرتهم.
وبقي هلال في البحرين يمارس نشاطه التجاري منذ سبتمبر 1910 حتى سبتمبر 1911.
موقف متردد
في ضوء هذا الموقف المتردد الذي أظهره هلال المطيري في العودة، قام السيد شملان بن علي بزيارة الشيخ مبارك الصباح، وشرح له ضرورة وجود هلال في الكويت، لأنه يمنح ما لا يقل عن خمسين ألف روبية للفقراء والمحتاجين، وأن عودته إلى الكويت ضمان لموسم الكويت القادم عام 1911، فتأثر الشيخ مبارك بهذا الشرح، وتشاور مع المقرّبين منه، واستخلص الشيخ مبارك من هذه الاتصالات ضرورة قيامه شخصيًّا بالسفر إلى البحرين لإعادة هلال المطيري، وكل ذلك انطلاقًا من قناعته بأهمية وجود هؤلاء الطواويش في حياة الكويت الاقتصادية والسياسية والأمنية.
توجّه الشيخ مبارك إلى البحرين يوم 6 يوليو 1911 وعاد منها يوم 18 منه، وسافر معه أصدقاء هلال من الطواشة، وهم شملان الرومي، وإبراهيم المضف، وناصر البدر، ونجح الشيخ مبارك بعد لقائه هلال، بوجود الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، حاكم البحرين، وبعد اطمئنان هلال إلى كل الضمانات التي وفّرها الشيخ مبارك.
عاد إلى الكويت أغنى تاجر لؤلؤ في كلّ الخليج، وبذلك تمّ تأمين سلاسة تجارية لمحصول عام 1911، وأغلقت أبواب الاضطراب والفتنة.
4 دروس مهمة
نستخلص مما سبق 4 دروس مهمة، أولاً: أن السلطة التي تضحّي برصيدها المالي الوطني تدخل في ارتباكات سياسية واجتماعية وأمنيّة لا يمكن التكهّن بنتائجها، وقد كشفت أزمة الطواويش ما شكّله هؤلاء المواطنون من ثقل مالي ورصيد اقتصادي ونفوذ سياسي لعب دورًا مميّزًا في استقرار الكويت وتأمين مسيرتها والحفاظ على كيانها واستقلالها، اعتمادًا على إمكاناتها الذاتية.
ثانيًا: أن الشيخ مبارك، رغم قوة مكانته ورسوخ حكمه وسطوة قراراته، فقد ضرب مثالًا على ضرورات الواقعيّة السياسية، التي تتطلب رجاحة العقل والترفع عن العواطف والاستنجاد بالتحليل الموضوعي لتجاوز الصعوبات، واضعًا مصلحة الكويت فوق كل الاعتبارات الأخرى، بما فيها مشاعره الخاصة.
ثالثًا: غرس سلوك الشيخ مبارك في أزمة الطواويش نهج الواقعية في فنون حكم الكويت، وإدارتها وفق الحسابات العاقلة، التي تراعي قدرة البلد والابتعاد عن الانزلاق نحو المجابهة والمغامرة بمصير الوطن.
رابعًا: سجّل التاريخ أن الاعتماد على مصدر واحد للدخل القومي لا يضمن سلامة الاستمرار دون بروز تأثيرات خارج سيطرة الحاكم، وأن التنوع والبحث عنه من أولويات مسؤولية الحاكم، ومن ضرورات متانة أعمدة الاستقرار.
ويمكن أن تستخلص الكويت العِبَر من أزمة الطواويش مع مخاطر البقاء على مصدر واحد، ورغم أن النفط بدّل كل شيء، ومن أهم ضحاياه مهنة الغوص كمصدر ممول للدولة، لكنّه يبقى السلعة الفريدة في تمويل حياة الكويت، وفي التأثير على مسار الحياة فيها.
كانت أزمة الطواويش مأزق وطن فيه اختبار لجدارة الحكم وواقعيّته واحترام صوت الشعب في ضرورات الحلول المناسبة واستجابة الحاكم لها، الأمر الذي حافظ على مسار الوطن الآمن.
كان الغوص هو القناة الأولى للاقتصاد الكويتي في بداية العهد