سعيد عقل بين اللغة والشعر المطابقة والمجانسة
تسود المقابلة أو المطابقة والمجانسة كثيرًا من قصائد الشاعر سعيد عقل، ومن المعلوم أن الشاعر مغرم بالمحسّنات البلاغية وجماليات القصيدة، وهذا ما نلاحظه في معظم ما نظمه من شعر، كما لقّب بشاعر الجمالية، ولم تقتصر قصائد عقل على هذا النسق البلاغي، بل إنها تعمر بمعظم الأنساق البلاغية التي أغنت المعاني، علاوة على أن الموسيقى كانت أكثر اهتمامات الشاعر، وهو في شعره خادم المعاني والصور.
لا يظننّ أحد أن احتفاء عقل باللهجة اللبنانية ودعوته إليها كانتا عائقًا أمام بوحه الشاعري، فمناداته هذه - برأيي - لم تكن إلا زوبعة في فنجان، حتى هو لم يطرحها بديلًا عن الشعر الموزون المقفى وشعر التفعيلة، إنما كانت مزاجية خاصة عبّر فيها عن لون من الشعر لم يهدف إلى إحلاله مكان شيء آخر.
والدليل أن سعيد عقل وشهرته اللبنانية العربية كانت في دواوينه الشعرية المقفاة، وظهر فيها من أبرز وأهم شعراء العربية. قلنا إن سعيد عقل بلاغي بامتياز، لا يرضى أن تمر الفكرة دون أن يلبسها حلّة جميلة، أو يزخرفها بسانحة حلوة وضمة شعر غضة، شغف بالأوزان القصيرة المعبّرة بأقل كلمات وأغنى معنى، كما يقول من ديوان «أجمل منك لا»:
كالطيف أنا حسٌ مبهم
يعلمني الليل ولا يعلم
أو قوله بالديوان نفسه:
بأيما أحمر، كالنار كالوهلة، كمشتهى القبلة
ومن دون شك، فإن العيش بين دواوين سعيد عقل رحلة ماتعة وسفرة غنية، فهو يبحر في اللغة دون خوف، ويتناولها بثقة ومعرفة.
قال عنه هنري زغيب، بعد ماراثون شعري أدبي لغوي دام خمسين ساعة، «خمسون ساعة معه، كأنها تبدأ الآن»، وقال فيه بولس سلامة:
ملك يراعك يا سعيد
والخلدُ أيسر ما تريد
كُتِب عنه الكثير، لكن ربما ليس بأكثر مما كتبه هو عن نفسه، وفي شعره فِقه العربية وبلاغتها، ولطالما حرص عليهما.
والمطابقة والمجانسة في شعر سعيد عقل أحد وجوه هذا الفقه، كان يستيقظ كل يوم قبل الشمس لكي يرسم مسيرتها من الظلمة إلى النور، ويكون أول موقّع على ولادتها.
ذات يوم، وخلال لقاء جانبي عقب الأفول من مهرجان شعري له في العاصمة بيروت، سألته عن تاريخ الشعر، فقال لي بكل ثقة: منذ ولد لبنان وُلد الشعر. قالها ولوَّح لي مودعًا (إلى اللقاء).
سعيد عقل، كانت البلاغة أساس جماليات شعره، وأحدها المطابقة والمجانسة، أي الجناس والطباق. وكان لبنان تاجه وزحلة ملهمته.
يولي الشاعر سعيد عقل أهمية كبيرة للجماليات في شعره، فهو يهندس القصيدة ويحقنها بمظاهر الأبّهة والجمال، وهي عماد التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وسوى ذلك من عناصر الجمالية، والمطابقة والمجانسة من أهم هذه العناصر، وقد بُنِيَتْ من العناصر الأساسية التي بنيت عليها قصائد سعيد عقل.
وفي قصيدته «النهران» من ديوانه «الأعمدة» كَمٌ مُعبر من العناصر البلاغية تتصدرها المجانسة والمطابقة، إذ يقول:
ولدت سريري ضفة النهر فالنهر
تآخى وعمري مثلما الورد والشهر
أبي كان كالموج يهدر مرة
يُدحرج من صخر وأنا هو الصخر
ففي الصخر والصخر مجانسة لطيفة وكناية مستحبة عن القوة والبأس، علاوة على التشبيه اللطيف في قوله وكان أبي كالموج، واستعارة جميلة عندما استعار السرير للنهر، فالنهر هو السرير، بيتان صغيران، لكنهما غنيان بعناصر البلاغة عماد الجمالية في النصوص.
وسعيد عقل لا يفتأ يقدم أطباقه الجمالية في كل قصيدة من قصائده، وفي معظم دواوينه التي كانت العناصر البلاغية أهم ركائزها وعمارتها الجمالية.
وفي ديوان «دلزى» سياحة غنية في عالم الجماليات:
وترتعشين أن أسكت
أحبكَ بعدي وقربي
كما الشوك في القلب شكّي
كما الزهر في الريح هبّي
أنا أنت، أهمس سرًا
سماء وحفنة شهبِ
في هذه اللمحات الشعرية، جمع سعيد عقل الطباق والجناس والتشبيه والاستعارة في وقت واحد، صور جمالية خلابة تعيش التناقض والتواصل، والبعد والقرب كما هو وارد، حيث وقعت المطابقة بين بُعدي وقربي، وبين أنا وأنت، وبين الزهر والشوك، وهناك مجانسة معنوية بين الهمس والسر.
وقلّما تمر قصيدة من قصائد سعيد عقل دون أن يكون للجماليات النصيب الأوفر، ففي ديوان «كما الأعمدة» محطات جمالية كثيرة تكشف عن روح عقل المحبة للجمال، ومنها هذان البيتان:
وأعز ربي الناس كلهم
بيضًا فلا فرّقت أو سودا
لا قفرة إلا وتخصبها
إلا ويعطي العطر لا عودا
وتقع المطابقة هنا بين (بيض وسود، وبين قفرة وخصب وبين العطر وعودا (دلزى 37).
ويكاد يكون لهذين العنصرين البلاغيين (المطابقة والمجانسة) نصيب وافر في كل ديوان من دواوين سعيد عقل، ففي قصيدة «أجمل منك لا» سيل من الصور البلاغية يسيطر على أجواء القصيدة كلها، مزينًا مصورًا مهندسًا في وفرة من الصور المتنوعة، ومنها المقابلة الضدية التي يسميها العرب «الطباق»، أولاهما حمراء قانية والثانية بيضاء، فالمطابقة وقعت بين أولاهما، والثانية بين بيضاء وحمراء.
ويجتمع التجانس مع الطباق في ديوان «أجمل منك لا»:
يبني على الغمام قصرًا، مَرَّ وما مرَّا في خاطر اليمام
اللون من علو، والحجر الصارع من عتو
أشبه بي أنور، يأخذ عني الجور
من صدري المرمر، من نهدي البلور
وقعت المجانسة والمطابقة مجتمعتين في قوله مر وما مر، فهي في الوقت نفسه جناس وطباق، لما يقع في المثل الأول من مشابهة ضدية.
وتقع المطابقة أيضًا بين كلمتي نور وجور، لتشابههما في جميع الحروف ما عدا حرف واحد، واستعمل الاستعارة في قوله خاطر اليمام، والأمر نفسه في قصيدة «لأننا في الوجود» من ديوان «رندلى»، كمٌّ من صور المطابقة وألوان أخرى من البلاغة، خاصة الاستعارة والتشبيه والكناية، وهذا دليل على سعة فضاء الشاعر الدلالي والغني، حيث يقول: كذلك في «سألتك لا تسألي»، «روى ما روى حكاية الجمال»، «رائح حبنا وغاد»، حيث تجلت صور المطابقة والمجانسة في الوقت نفسه في المثل الأول، وصورة المطابقة في رائح وغاد، وفي «بعض ما أنت».
ومن ديوانه «دلزى» كمٌّ كبير من صور البلاغة تكاد تجدها في كل بيت من قصائده، يقول:
حبي الذي رحت منذ الدهر أحجبه
إلا عن العطر حبي اليوم مُعتلِنُ
فالمطابقة هنا وقعت بين أحجبه وبين معتلن.
ويقول:
أنت كذبت فقلت الفجر واحد
لِمَ أنا لي فجران؛ ناه وناهد؟
وتسبح إحدى القصائد في صور المطابقة الجميلة والاستعارة الموحية في قوله:
آخذها بيد، وبيد أنثرها أنثرها بدد
وأقحواتي تقول إنك لا تحبني للعمر للأبد
وفي ديوان «أجمل منك» كمٌّ كبير من هذه الصور البلاغية الجميلة، كما نرى في قصيدة عنوانها «زهرة الزهور»:
كن أنت للبيض وللسمر
ما همني حبي أن يبقى
سعيدة به وإن أشقى
تحبني أو لا تحب. أنت أنت العُمْرُ
في سطرين لا غير تبحر القصيدة بصورها البلاغية وهي فاتحة القصيدة، ويتجلى الطباق أو المطابقة بين البيض والسمر، والسعادة والشقاء، وتحبني أو لا تحب، على هذه المداميك البلاغية يبني الشاعر سعيد عقل قصوره الجميلة.
وفي الصفحة 112 مجانسة في المعنى ومطابقة في اللفظ «هواك أطيب وأشهى»، ألذ من الديوان نفسه هذه المطابقة المتوازية، حيث يقول فيه:
لا تنسني... لا تنسنا
لي أنت أم لا، أنا لك
في لا تنسني... لا تنسنا، مطابقة ومجانسة في الوقت نفسه.
كذلك في الجزء الثاني من البيت: لي أنت أم لا، أنا لك، شطران متناقضان من حيث المعنى ومتجانسان (جناس) من حيث اللفظ، وهي صور رائعة في تشكيلها الموسيقي الجمالي.
ومن قصيدة «أزلف» (ديوان دلزى) صور نابضة بالحياة، تتلاقى فيها المجانسة بالمطابقة في انسياب شعري جميل:
بيتٌ قصيد هو فليقرأ
ويقرأ نبلُ
تقوله من كلماتي جزؤه والكل
كم مرة خفضت من رأس
وكان يعلو
في هذين البيتين صور مضيئة تتجلى فيها عناصر بلاغية جميلة، كالمجانسة والمطابقة في قوله فليقرأ ويقرأ، والمطابقة في قوله جزؤه والكل، وبين خفضت ويعلو، أي بين الجزء والكل وبين العلو والانخفاض.
والرحلة طويلة مع شاعر النغم الجميل والموسيقى العذبة والبلاغة الموحية، في شعره عذوبة الانسياب وسلاسة المعنى مع قوته وروعة الموسيقى الحية التي تعم معظم القصائد، شعر يُقرأ ويُحب، وهو - أي الشاعر - لاعب لغوي ماهر يطوّع اللغة بين يديه، ولا يخاف من استعمال لفظة عامية أحيانًا أو اشتقاق ما نادر ولا يجوزه غيره، فاللغة عنده متعة وثقافة وحضارة وجماليات.
وفي ديوان «كما الأعمدة» يقول:
مثلما السهل حبيبي يندري
مثلما القمة يعلو ويغيب
في هذا البيت الشعري مجموعة صور جميلة تتعاضد لتشكل هذا النسيج البلاغي بما فيه من مقابلات، أو كما يسميها البلاغيون تضاد وطباق، وذلك عندما يجمع الشاعر في البيت بين السهل والجبل، وبين العلو والغياب، وبين السهل والقمة، حيث إن المطابقة واضحة جلية تشكّل روح البيت الجمالي.
وفي القصيدة نفسها يحلّق الشاعر في سماء اللغة:
قبلك التاريخ في ظلمة
بعدك استولى على الشهب
هنا يقع التضاد أو المطابقة بين قبل وبعد، وبين الظلمة والشهب.
أما في البيت الأول من قصيدة «بالغار كللتِ» فقد جمع بين الجناس مع الطباق والمشابهة مع الاستعارة في وقت واحد:
بالغار كللتِ أم بالنار يا شام؟
أنت الأميرة تعلو باسمك إلهام
أواه بضع غمامات مشردةٍ
في الأفق بعض رؤى والبعض أحلام
والمطابقة هنا تقع بين الغار والنار، وبين رؤى وأحلام، أما المجانسة فقد وقعت بين شام وهام لتشابههما بلفظتين.
وفي القصيدة نفسها «بالغار كللتُ» نماذج من هذه المطابقة الجميلة:
ختام تشرين هل ناسٍ أوائله
إذ هَبَّ يعتصر العنقود كرام
يا شام ذقت مذاقًا ما يكون إذا
بملء كفك دفقًا أفرغ الشام
والبلاغة متجلية هنا، وتحديدًا في المطابقة بين ختام وأوائل، «ويملأ كفك وأفرغ» صور لأداء جماليّ خلاب.
وقصيدة ترحيب مليئة بصور الجماليات وعناصر البلاغة، خاصة ما نحن بصدده؛ أعني المطابقة والمجانسة:
أومئي تومئ الحياة
وتنهض بنا الذرى
فالمجانسة والمطابقة وقعتا في وقت واحد بين أومئ وتومئ. وفي قوله «اسمعيني مما حكى» مطابقة واضحة بينهما، أي السماع والحكي.
وفي قصيدة «وجع الدلب»، وهي من ورد وعطر ودلب وأطياب وجداول لا من كلمات، هكذا تتحول الأشياء عند سعيد عقل إلى طفرة في الخيال:
لا تمري هذا المساء على الدلب
انتهى أمس وانتهيت كتابي
أنا أنزلت فيه مُرَّك في الرو
ضِ، وكيف احلولت ورود الروابي
منْ عليها طفرت خلتك من رق
فراش أو من هبوب ضباب
تتجلى في هذه الأبيات روح البلاغة وجمالها، ونلاحظ هذه المجانسة، ففي قوله:
«بيني وبين الربيع تلمس العنصرين معًا، فهما متجانسان لفظًا متناقضان معنى.
وعلى هذا النحو قوله:
وردك ثوب مرهق الغوى
معلّق به عمر وموت
فالمطابقة هنا بين عمر وموت، وفي قوله «والكون بعد في خاطري وعد» مجانسة واضحة لجهة تقارب الألفاظ.
هذا بعض ما في سعيد عقل من الفرادة الشعرية والحضور الباهر والثقافة الجامعة والمزاج الأدبي الذي أغنى العربية وحملها إلى العالم، في الوقت الذي كانت «اللبنانية» كما يسميها إحدى أهم خصائصه الذاتية. وبشكل عام، لا يخذلك سعيد عقل أنّى قصدته، ففي جعبته ما لذَّ من جميل الشعر وروعة المعاني.
صنع لنفسه مجدًا خاصًا وأغنى اللغة العربية بأجمل القصائد وأروع النثريات، وهو وإن تغنى باللبنانية حينًا وبغيرها أحيانًا، فإن ذلك لم يضعف إبداعه واحتضانه الفصحى التي ظلت قاموسه الذي أنتج من خلاله أكثر من ثلاثين ديوانًا شعريًا للأمة واللغة، وكان في حياته حديث الصالونات والمنتديات والصحف والمجلات، ذلك لمزاجه الشخصي وفرادة أساليبه وحضوره الإعلامي اللبناني والعربي، وقد أغنت زحلة بما فيها من مشاهد جميلة وأنهار وحدائق روح الشاعر وحِسّه الأدبي، فلم يترك فنًا بلاغيًا إلا وأجاد فيه وتحدث عنه، جاعلًا من قصائده مطارح سحر ودهشة.
سعيد عقل، شخصية ربما لا تتكرر كل يوم .