تجديد النقد العربي بين المشاريع المجهضة والآفاق المأمولة
لا يخفى على القاصي والداني ما يعيشه النقد العربي من أزمة خانقة تعصف بالكثير من مكتسباته التي راكمها لسنوات وعقود خلت، حيث ظل يتغذّى على براديغمات كونية في انعطافاتها المنهجية، وبقي لعقود متابعًا بأقصى درجات الانتباه والترقّب لما يستجد في الساحة الغربية من أجل الترجمة والتطبيق، وتبرير الأهمية، والتمثّل والاستنبات. وحقيقة الأمر أنه لا يمكن أن نتصور بشكل من الأشكال خلوّ هذه المراحل السابقة من لحظات مشرقة ومضيئة، ومن عبقريات فردية استجابت لراهنيّة فترات تاريخية معيّنة، وإن بقدر من التأخر الزمني الكافي للفهم والاستيعاب.
لعل من المنطق ألا نفيض في وصف الوضع الراهن ورصد أبعاده الحالية لما أنتج حول ذلك من مقالات وكتب، وما حبّر فيها شرحًا وتبريرًا من مؤلفات مباشرة في نقد النقد، أو بشكل غير مباشر في النقود والأبحاث الأدبية التي تموقع تيارًا، أو تمهد لاتجاه /منهج وتتجاوز آخر.
النقد العربي وسؤال الأزمة
وبذلك يراودنا، ونحن نخوض مثل هذا الموضوع، تساؤل ملحّ بنوع من القلق الموضوعي عن مستلزمات مثل هذا الواقع وكيفية تجاوزه.
وفي هذه المحاولة هناك بذرة حلم ومشروع ما فتئ يتشكّل أجنة ويجهض لدى عديد من الباحثين. لكن قدرنا ألا نستسلم، وألا نضع صخرة سيزيف عنا ونترك المهمة إلى إشعار آخر؛ فالحمل ثقيل والرغبة عارمة والأمل لا ينضب في أن نقضي في الطريق أو نفيَه بحثًا عن سبيل غير مرسوم المعالم، وممشى غير مطروق.
ومن هنا، يصبح الأمر الأكثر إلحاحًا هو البحث عن سبل للخروج من هذه الأزمة التي نرى أنها شمولية لم تقتصر على نوع من النقد دون آخر، وإنمّا توغلت في ثنايا النقود العربية المعاصرة، وتفاقمت في عصرنا الحاضر عن سابقاتها في عصور خلت، وذلك لمسببات هيكلية انتصبت في أغلب الحالات حاجزًا دون انبثاق رؤى تجديدية أصيلة متحررة، ودون استمرار أخرى توافرت فيها الجدة والجرأة ورغبة التحرر، لكنّها لم تصمد أمام تيارات المقاومة العاتية؛ فظلّت المحاولات إرهاصات لم تكتمل، ولم يكتب لها أن تضع لمساتها الخاصة على النقد العربي، فبالأحرى العالمي، لا لنقص فيها أو في عبقرية أصحابها، بل لظروف أودت بحيويّتها وأضعفت بريقها، ولم تُعد المجالَ المناسب لتناميها وتطورها لدى المتلقين والمبدعين على حد سواء.
وحريّ بنا، قبل الشروع في رسم معالم المشروع النقدي التجديدي، أن نبسط الحديث - في اقتضاب - عن هذه البيئة العدائية التي حاصرت التجارب والمحاولات السابقة، وحادت بها عن السبق في التجديد والابتكار إلى الضمور أو السقوط في منحدر التبعية الغربية بتقديس الآخر الزمني القديم، أو الآخر الثقافي الغربي؛ فلقد عانى المجددون الأمرّين وهم ينافحون عن منطق التجديد والإضافة بدل الاستكانة إلى الموروث، أو لما تسمح به الترجمات واستنساخ الأفكار الغربية أو السعي إلى تبيئتها على أكثر تقدير.
التجديد بقبّعة الغرب
بحث النقاد العرب فوجدوا في النظريات الغربية جدة لم يعهدوها، وفي فورة حماس رأوا أنهم وضعوا أياديهم على مفاتيح الأدب، وأن ما استُغلق على أسلافهم أو كاد، أصبح في متناول أقلامهم ولم يعد للأدب ما يخفيه ولا ما يُعجزهم ملاحقته داخلاً وخارجًا.
لكن يقينيات الأمس ما فتئت تضحي عاجزة عن الاحتواء والتفسير، ومحاصرة بسيل لا ينقضي من الأسئلة والشكوك، وتقلّب النقاد المعاصرون بين عديد المناهج تنقطع بهم الأنفاس والسبل كلّما قضوا من الزمن ردحًا في التبرير والتمهيد فالتأسيس، وجدوا ما عملوا قد تداعى في الغرب وشُرِع في منظور جديد، فيتهافتون بحثًا عما استجدّ يظلون عليه عاكفين نظرًا وتقليبًا وإعجابًا فترجمة واستنباتًا؛ الشيء الذي جعل النقد المعاصر يسقط في سلسلة فخاخ تحدُ من انطلاقه، فاتحة هوامش الإنتاج وقراءة النصوص الإبداعية على واجهتين: الغرب أو التراث؛ فاستحكمت عقدة التفوق الغربي لدى البعض من جهة، والإحساس بالمرارة والذنب تجاه التراث العربي من جهة أخرى مولّدة تيارات نقدية عربية محدودة التوجه والآفاق بشهادة النقاد أنفسهم الذين انبروا يصيحون في كل مناسبة أن النقد، كما الأدب، في خطر داهم، وواقع أسود مدلهمّ.
بينما بقي التجديد محطة مأمولة تطلّع إليها الكل بشغف وترقّب، دون أن يصلوا إليها، أو يقفوا عند عتباتها بالشكل الذي رغبوا فيه وتصوروه في تنظيراتهم العديدة.
فقد ظلّ هاجس التميز زمانًا وثقافة ملحًّا على الدوام، ويطرح، للمساءلة عن الغاية والجدوى، كلَ ما يُنتَج من نقود تطبيقية، وما تصحبها أو تتقدمها أو تليها من شذرات تنظيرية متفاوتة في العمق والثبات والاستمرارية.
خطوات عملية
كما ظل البحث عن الهوية الحضارية العربية مطلبًا لا يخمد في دراسة الأدب ونقده في الكتابات العربية المعاصرة، وبالموازاة مع ذلك تنامت التصورات والطروحات التي تسعى إلى ملامسة مكامن الخلل واقتراح خطوات عملية أو شبه عملية للتجاوز. ومنها نذكر ما جاء في كتاب د. طلال حرب في حديثه عن الحفاظ على ملامح الشخصية العربية والنموذج الحضاري العربي في النقد والأدب، حيث حدد إمكان إسهامنا الحضاري على مستوى النقد في العمل، وفق رؤية نسقيّة تقوم على المعالم الآتية:
- رفض إشكالية الغرب والتأسيس لإشكاليات نقدية عربية.
- التجرّد التام من المنطلقات السابقة، والأحكام الجاهزة.
- أوليّة النص على كل عنصر آخر.
- نسبيّة الحقيقة ولا نهائيتها.
- تعدُّد العوامل وعدم القبول بأحادية المنظور.
- المحلية والتركيز على الخصوصيات الإقليمية والثقافية.
- المرحلة التاريخية وطوابعها الفنيّة والنقدية.
- الديمقراطية النقدية، وعدم القبول بالهيمنة والغلبة غير المبررة لمنهج أو تصوّر على غيره.
- الاجتهاد أو التأويل بما يفرض تمكّنًا أعلى للناقد على القارئ العادي.
ورغم وجاهة هذه الآراء واتّسامها بكثير من الصدق والحماس، فقد ظلت حبيسة تناولات معدودة وغير معمّمة، وبقيت في طيّاتها مجهودات فردية لا تستفيد في صياغتها وتنزيلها من قوة الفعل الجماعي والروح التنظيمية الاستراتيجية.
النقد العربي وطموح التجاوز
لهذا يلزمنا، ونحن نتلمّس طريقنا نحو التجديد، أن نحرص على تفادي المسارات المتعرّجة، والمنعطفات المعرقلة التي أودت أو كادت بالمحاولات السابقة، ومنها هذه النظرة الأحادية التي طغت على معظم منظّري النقد العربي الحديث وممارسيه، بحيث أصبح في نظرهم إمّا تماهيًا مع تصور عالمي صرف يأتي استجابة لتيار أو مذهب غربي وتعزيزًا له، وإمّا تحصّنًا بمرجعيات تراثية ترى العبقرية والإبداع فيمن سلف، وأن دور الخلف هو أن يتّبعوا ما وجدوا عليهم آباءهم، وينظروا من خلاله إلى الواقع وإلى اللغة والأدب في عصر يتجدد كل وقت وحين، وإما أن يسعى النقاد إلى التوفيق بين المرجعيتين، فتكون النظرة عبر منظار مزدوج كل عدسة فيه بلون واتجاه.
وما فاتنا، في تصوري البسيط، هو أن نتوجه إلى هذا المنتوج الأدبي ونراه مباشرة، وأن نتخلّى عن الظلال وعن المنظار مكتفين بالاقتراب منه وتلمّس هذه النصوص في حينها وبنظرة خالية من التبجيل والتقديس لأي مرجعية أو طرف، ومن التقزّم والإحساس بالذنب تجاه الذات. لقد آن الأوان أن تكون لنا سبلنا الخاصة في نقد الأدب العربي وتناوله، وابتكار المناهج والنظريات بعقليات متفتحة طموحة تمتلك الجرأة اللازمة للتجاوز والتغيير والبحث عن منافذ ومداخل جديدة للنص الأدبي، بما يحقق معادلة النقد في كشف جماليات الإبداع وتمحيص الجيد من الرديء دون وصاية فجة، أو تساهل مائع يسحب من النقد سلطته وهيبته.