الصحراء الجزائرية.. عند عروس الزيبان... والمدينة الغافية

الصحراء الجزائرية.. عند عروس الزيبان... والمدينة الغافية

«إن مجلة العربي تنشر في هذا الاستطلاع الصحفي عن حياة جيش التحرير في ذلك القطر العربي الحبيب، صورًا رائعة، لمعانٍ رائعة، تنبعث من قلوب بحبّ الوطن والاستمساك بالعروبة عامرة» (مجلة العربي). 
 أُدرجت هذه الكلمات في أول استطلاع صحفي أجرته «العربي» في عددها الأول الصادر في ديسمبر 1958، بعنوان «تحيّة إلى جيش التحرير الجزائري»، وتترتب المعطيات والظروف لتحط المجلة بأرض الجزائر في مارس عام 2018، بدعوة كريمة من بلدية بسكرة، للمشاركة في ملتقى الإتحاف الأدبي السابع، الذي خصص لأدب الطفل في العالم العربي. وما كان لنا إلا أن ننتهز الفرصة للكشف عن إحدى الولايات الجزائرية الأصيلة التي يشعر فيها المواطن العربي أيًّا كانت جنسيته بانتمائه لها، ففي أرضها تجد صحراء كصحراء نجد، وبين أبنائها ينهمر عليك الكرم الطائي، إذ لاتزال قلوب أهلها عامرة بحب الوطن والعروبة.  

كانت‭ ‬رحلة‭ ‬برية‭ ‬طويلة،‭ ‬ناهزت‭ ‬الـ‭ ‬9‭ ‬ساعات،‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬هواري‭ ‬بومدين‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الجزائرية‭ ‬إلى‭ ‬ولاية‭ ‬بسكرة،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬إليها‭ ‬برحلة‭ ‬جوية‭ ‬داخلية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تعارض‭ ‬موعد‭ ‬إقلاعها‭ ‬مع‭ ‬مشاركتنا‭ ‬بالملتقى‭ ‬حتّم‭ ‬علينا‭ ‬السفر‭ ‬برًّا،‭ ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الخبر‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬مزعجًا‭ ‬لنا،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬مدة‭ ‬الرحلة‭ ‬طويلة،‭ ‬ووسيلة‭ ‬النقل‭ ‬غير‭ ‬مخصصة‭ ‬للسفر‭ ‬البري،‭ ‬لكنّ‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬جعلنا‭ ‬ممتنين‭ ‬لذلك،‭ ‬فقد‭ ‬شاهدت‭ ‬العين‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تره‭ ‬قطّ‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬البكر،‭ ‬والهدوء‭ ‬الصامت‭ ‬السلس،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬التأمل‭ ‬بجمال‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭. ‬

العاصمة‭ ‬الجزائرية‭ ‬حالها‭ ‬حال‭ ‬أي‭ ‬عاصمة‭ ‬عالمية،‭ ‬تنتصب‭ ‬بها‭ ‬المباني‭ ‬السكنية‭ ‬الشاهقة،‭ ‬والمنشآت‭ ‬الحكومية‭ ‬الضخمة‭ ‬ومؤسسات‭ ‬الدولة،‭ ‬ومجمعات‭ ‬التسوق‭ ‬الحديثة‭ ‬بالشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬وعلّقت‭ ‬الإعلانات‭ ‬الملونة‭ ‬للعلامات‭ ‬التجارية‭ ‬العالمية،‭ ‬على‭ ‬لوحات‭ ‬كبيرة،‭ ‬حتى‭ ‬خيّل‭ ‬إلينا‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭. ‬

وبالفعل،‭ ‬فقد‭ ‬شيدت‭ ‬الجزائر‭ ‬العاصمة،‭ ‬المدينة‭ ‬الساحلية،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬الأوربية،‭ ‬وتشابهت‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل،‭ ‬وللحظات‭ ‬ينتابك‭ ‬شعور‭ ‬أنك‭ ‬وسط‭ ‬طرقات‭ ‬العاصمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬باريس‭. ‬إن‭ ‬شعرت‭ ‬بذلك‭ ‬فلا‭ ‬ضير‭ ‬من‭ ‬تعطّل‭ ‬الحركة‭ ‬المرورية‭ ‬مع‭ ‬انتهاء‭ ‬ساعات‭ ‬العمل،‭ ‬وتقبّل‭ ‬الأمر‭ ‬كما‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬عالمية،‭ ‬لكن‭ ‬الاختناقات‭ ‬المرورية‭ ‬كانت‭ ‬تتقاصر‭ ‬كلما‭ ‬ابتعدنا‭ ‬عنها‭ ‬باتجاه‭ ‬الجنوب‭ ‬الشرقي‭ ‬نحو‭ ‬وجهتنا‭ ‬المقصودة‭. ‬

في‭ ‬أثناء‭ ‬الطريق‭ ‬تكشّف‭ ‬لنا‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة،‭ ‬الذي‭ ‬تكامل‭ ‬مع‭ ‬اعتدال‭ ‬الطقس‭ ‬وميله‭ ‬إلى‭ ‬البرودة‭ ‬أحيانًا‭. ‬لقد‭ ‬بدت‭ ‬الشوارع‭ ‬متسعة،‭ ‬واكتست‭ ‬جوانبها‭ ‬بغطاء‭ ‬نباتي‭ ‬أخضر‭ ‬اللون‭ ‬خالطته‭ ‬ألوان‭ ‬الزهور‭ ‬الصفراء،‭ ‬حتى‭ ‬بدت‭ ‬لنا‭ ‬كلوحة‭ ‬فنية‭ ‬رُسمت‭ ‬بعناية‭ ‬شديدة‭ ‬لإضافة‭ ‬البهجة‭ ‬على‭ ‬نفوس‭ ‬المسافرين‭ ‬برًّا‭. ‬وعلى‭ ‬مسافة‭ ‬300‭ ‬إلى‭ ‬400‭ ‬كيلومتر‭ ‬صفّت‭ ‬بتنسيق‭ ‬ربّاني‭ ‬تضاريس‭ ‬جغرافية‭ ‬متنوعة،‭ ‬تباينت‭ ‬بأشكالها‭ ‬واتفقت‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الصحراء‭. ‬غروب‭ ‬الشمس،‭ ‬كان‭ ‬لوحة‭ ‬ناطقة،‭ ‬أعلنت‭ ‬تغيّر‭ ‬المشهد‭ ‬عن‭ ‬بَكرة‭ ‬أبيه،‭ ‬حيث‭ ‬حلّت‭ ‬نسمات‭ ‬باردة‭ ‬جافة،‭ ‬واكتسح‭ ‬لون‭ ‬أصفر‭ ‬ساطع،‭ ‬وارتكزت‭ ‬جبال‭ ‬شاهقة‭ ‬من‭ ‬تراب‭ ‬منهمر،‭ ‬ولم‭ ‬تمانع‭ ‬احتضان‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الشجيرات‭ ‬المتناثرة‭ ‬أو‭ ‬بركة‭ ‬ماء‭ ‬لامعة،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يثني‭ ‬جذوع‭ ‬النخيل‭ ‬المتصلبة‭ ‬ذات‭ ‬الثمار‭ ‬المتدلية‭. ‬

كان‭ ‬جمال‭ ‬جزائر‭ ‬العرب‭ ‬جمالًا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭ ‬تتضخم‭ ‬تفاصيله‭ ‬بقسوة‭ ‬الطقس‭ ‬والمناخ،‭ ‬ودفعنا‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬التوقف‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬لالتقاط‭ ‬الصور‭ ‬الفوتوغرافية،‭ ‬والمشي‭ ‬على‭ ‬الرمال‭ ‬الذهبية‭ ‬واعتلاء‭ ‬المرتفعات‭ ‬تارة‭ ‬للتأمل‭ ‬بقدرة‭ ‬بديع‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬لملء‭ ‬النفس‭ ‬وإشباعها‭ ‬بجمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬البكر‭. ‬اللافت‭ ‬للنظر‭ ‬أن‭ ‬المساحات‭ ‬الغنّاء‭ ‬تكاد‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مبانٍ‭ ‬حديثة‭ ‬وأسوار‭ ‬ملكية،‭ ‬باستثناء‭ ‬مساجد‭ ‬صغيرة‭ ‬وبسطات‭ ‬متواضعة‭ ‬لبيع‭ ‬الفواكه‭ ‬والخضراوات‭ ‬كزاد‭ ‬للمارة‭. ‬

 

في‭ ‬بوابة‭ ‬الصحراء‭ ‬الكبرى

‮«‬مرحبًا‭ ‬بكم‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬بسكرة‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬الجملة‭ ‬الترحيبية‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬السائق‭ ‬على‭ ‬مسامعنا‭ ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬السكوت‭ ‬الذي‭ ‬خيّم‭ ‬علينا،‭ ‬كما‭ ‬خيّم‭ ‬الظلام‭ ‬على‭ ‬الأجواء‭. ‬كان‭ ‬ما‭ ‬لمحناه‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬النافذة‭ ‬شيئًا‭ ‬لا‭ ‬يذكر،‭ ‬مما‭ ‬دفعنا‭ ‬إلى‭ ‬فتحها،‭ ‬حتى‭ ‬لفحنا‭ ‬هواء‭ ‬بارد‭ ‬جدًّا،‭ ‬اخترق‭ ‬العتمة‭ ‬والتعب‭ ‬لينعش‭ ‬أجسادنا‭ ‬المرهقة‭. ‬أطلّت‭ ‬أضواء‭ ‬خافتة‭ ‬لدكاكين‭ ‬ومحالّ‭ ‬صغيرة،‭ ‬وظهرت‭ ‬أعمدة‭ ‬إنارة‭ ‬الشوارع‭ ‬وتزايدت‭ ‬كلما‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬المساكن‭ ‬والبيوت،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬لحظة‭ ‬إنعاش‭ ‬وانتعاش‭ ‬لنفوسنا،‭ ‬فوصولنا‭ ‬إلى‭ ‬بسكرة‭ ‬ورؤية‭ ‬ما‭ ‬سمح‭ ‬لنا‭ ‬الليل‭ ‬برؤيته‭ ‬أيقظا‭ ‬تساؤلًا‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬تسميتها‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم،‭ ‬ووفقًا‭ ‬لمعلوماته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة،‭ ‬أسرع‭ ‬قائلًا‭ ‬بعفوية‭: ‬إنها‭ ‬بسكرة‭ ‬السُّكَّرة،‭ ‬الحلوة‭ ‬بحلاوة‭ ‬تمور‭ ‬نخيلها،‭ ‬بسكرة‭ ‬مليئة‭ ‬بالنخيل‭ ‬وتنتج‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الرطب‭ ‬والتمر‭ ‬والبلح‭. ‬

كان‭ ‬السائق‭ ‬يجيب‭ ‬بحبّ‭ ‬عن‭ ‬مدينته،‭ ‬وتستشعر‭ ‬الفخر‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬وأجداده‭ ‬إليها،‭ ‬سرد‭ ‬لنا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬عنها،‭ ‬من‭ ‬الحكايا‭ ‬الشعبية‭ ‬المتداولة‭ ‬بين‭ ‬سكانها،‭ ‬والمواقع‭ ‬الأثرية‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬أحداثًا‭ ‬مضى‭ ‬عليها‭ ‬وطر‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬والسامع‭ ‬لحديث‭ ‬السائق‭ ‬يلمس‭ ‬حرصه‭ ‬على‭ ‬إثبات‭ ‬بسكرية‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬أعيننا،‭ ‬وجزائرية‭ ‬تاريخها‭ ‬وإن‭ ‬ابتعدت‭ ‬المسافات‭ ‬بينهما‭. 

بسكرة،‭ ‬شغلتنا‭ ‬بمعناها،‭ ‬ومسمياتها،‭ ‬التي‭ ‬وإن‭ ‬تعددت‭ ‬فلا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬نطاق‭ ‬تاريخ‭ ‬وجغرافيا‭ ‬واقتصاد‭ ‬الولاية،‭ ‬كان‭ ‬التفسير‭ ‬الأول‭ ‬والشائع‭ ‬بين‭ ‬أهاليها،‭ ‬أنها‭ ‬مستقاة‭ ‬من‭ ‬حلاوة‭ ‬تمور‭ ‬نخيلها،‭ ‬وكما‭ ‬يقولون‭ ‬عنها‭ ‬سكّرة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬قِدَم‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأهميتها‭ ‬حتّما‭ ‬ذكرها‭ ‬بالكتب‭ ‬التاريخية‭ ‬تحت‭ ‬مسميات‭ ‬عدة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬فيسيرا‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬المحطة‭ ‬أو‭ ‬مقر‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري،‭ ‬لكونها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الصحراء‭ ‬وذات‭ ‬موقع‭ ‬جغرافي‭ ‬مميز‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب‭ ‬والشرق‭ ‬والغرب‭. ‬و«بيسينام‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أدبيسينام‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬رومانية‭ ‬كانت‭ ‬تطلق‭ ‬على‭ ‬حمام‭ ‬الصالحين‭. ‬وفي‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬عروس‭ ‬الزيبان‮»‬،‭ ‬ويقال‭ ‬إنها‭ ‬كلمة‭ ‬أمازيغية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬فسّرته‭ ‬دائرة‭ ‬المعارف‭ ‬الإسلامية‭ ‬الجزائرية‭ ‬بأن‭ ‬الزيبان‭ ‬جمع‭ ‬للزاب،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬السهل‭ ‬المنبسط‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬ببسكرة،‭ ‬وطوله‭ ‬125‭ ‬ميلًا‭ ‬من‭ ‬الشرق،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬30‭ ‬و40‭ ‬ميلًا‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬بأن‭ ‬وصف‭ ‬المنطقة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الزاب‮»‬‭ ‬موجود‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وهو‭ ‬نهر‭ ‬صغير،‭ ‬ويعد‭ ‬ثالث‭ ‬روافد‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭. ‬

إن‭ ‬ولاية‭ ‬بسكرة‭ ‬تعتبر‭ ‬نموذجًا‭ ‬مثاليًّا‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬كلمة‭ ‬صحراء،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬أنها‭ ‬تتمركز‭ ‬وسط‭ ‬الصحراء‭ ‬الجزائرية‭ ‬نجد‭ ‬بها‭ ‬تنوعًا‭ ‬تضاريسيًّا‭ ‬للمرتفعات‭ ‬الرملية‭ ‬والصخرية،‭ ‬فالسفوح‭ ‬الجنوبية‭ ‬للأوراس‭ ‬وجبال‭ ‬الزاب‭ ‬تتمركز‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬بسكرة،‭ ‬وسهول‭ ‬لوطاية،‭ ‬والدوسن،‭ ‬وطولقة‭ ‬وسيدي‭ ‬عقبة،‭ ‬وتمتد‭ ‬على‭ ‬محور‭ ‬شرق‭ ‬الولاية‭ ‬وغربها،‭ ‬وكذلك‭ ‬الهضاب‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬الناحية‭ ‬الغربية‭ ‬وتشمل‭ ‬دائرتي‭ ‬أولاد‭ ‬جلال‭ ‬وسيدي‭ ‬خالد‭.‬

وهذه‭ ‬الارتفاعات‭ ‬تعزز‭ ‬الطقس‭ ‬الصحراوي‭ ‬الجاف،‭ ‬ففي‭ ‬الشتاء‭ ‬بارد‭ ‬وفي‭ ‬الصيف‭ ‬حار‭ ‬مع‭ ‬انخفاض‭ ‬معدلات‭ ‬الرطوبة،‭ ‬وشحّ‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬الأمطار‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العام،‭ ‬باستثناء‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬جفاف‭ ‬المنطقة،‭ ‬فإن‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬توالت‭ ‬عليها‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تلبّي‭ ‬احتياجاتها‭ ‬الأساسية‭ ‬بما‭ ‬أنعم‭ ‬الله‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬طبيعية،‭ ‬محققين‭ ‬الاكتفاء‭ ‬الذاتي،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬الأخرى‭ ‬المحيطة‭ ‬بهم‭. ‬

وقد‭ ‬ساهمت‭ ‬الأودية،‭ ‬مثل‭ ‬واديَي‭ ‬بسكرة‭ ‬وجدي،‭ ‬والمياه‭ ‬الجوفية‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬الولاية‭ ‬منطقة‭ ‬ملائمة‭ ‬لممارسة‭ ‬الأنشطة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬حيث‭ ‬تربية‭ ‬الماشية‭ (‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الجنوب‭ ‬الغربي‭)‬،‭ ‬وزراعة‭ ‬النخيل‭ ‬وأشجار‭ ‬التين‭ ‬والكروم‭ ‬والزيتون‭ ‬والقمح‭ ‬وغيرها،‭ (‬منطقة‭ ‬الزاب‭ ‬الغربي‭ ‬تنتج‭ ‬أجود‭ ‬أنواع‭ ‬التمور،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تشتهر‭ ‬منطقة‭ ‬الزاب‭ ‬الشرقي‭ ‬بزراعة‭ ‬النخيل‭ ‬والخضراوات‭)‬،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬لها‭ ‬اليوم‭ ‬بتصدير‭ ‬منتجاتها‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬الولاية‭. ‬

 

بين‭ ‬بسكرة‭ ‬والبسكريين

إن‭ ‬التعاملات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وما‭ ‬يتولد‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬تترك‭ ‬لدينا‭ ‬الانطباعات‭ ‬الأوّلية‭ ‬لمجتمع‭ ‬ما،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬الفكرة‭ ‬شبه‭ ‬الثابتة‭ ‬عن‭ ‬شعوبها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬عمومًا‭ ‬وبوابة‭ ‬الصحراء‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭.‬

فمن‭ ‬خلال‭ ‬دعوة‭ ‬كريمة‭ ‬من‭ ‬بلدية‭ ‬بسكرة‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬الدورة‭ ‬السابعة‭ ‬لملتقى‭ ‬الإتحاف‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬الطفل‭ ‬أغنية‭ ‬الحياة‭... ‬فالكم‭ ‬عند‭ ‬صغاركم‮»‬‭ ‬تلمّسنا‭ ‬العناية‭ ‬البالغة‭ ‬بفئة‭ ‬عمرية‭ ‬تشكّل‭ ‬شريحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬الأطفال،‭ ‬حيث‭ ‬خصص‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬الملتقى‭ ‬3‭ ‬أيام‭ (‬من‭ ‬20‭ ‬إلى‭ ‬22‭ ‬مارس‭ ‬2018‭) ‬بالفترتين‭ ‬الصباحية‭ ‬والمسائية،‭ ‬لبحث‭ ‬ومناقشة‭ ‬مدى‭ ‬جودة‭ ‬وتوافق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأدب‭ ‬والعلوم‭ ‬للصغار‭.‬

وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬أجواء‭ ‬المحاضرات‭ ‬والفعاليات‭ ‬الثقافية،‭ ‬فإن‭ ‬الحاضر‭ ‬والمحاضر‭ ‬فيها‭ ‬يشعران‭ ‬بالحرص‭ ‬الشديد‭ ‬والوعي‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬البسكري‭ ‬البسيط‭ ‬الذي‭ ‬شاهدناه‭ ‬يحضر‭ ‬للاستماع‭ ‬والإفادة‭ ‬برفقة‭ ‬أطفاله،‭ ‬رغم‭ ‬قلة‭ ‬وسائل‭ ‬العرض‭ ‬الجاذبة‭ ‬لانتباه‭ ‬الصغار،‭ ‬تجدهم‭ ‬يستمعون‭ ‬ويشاركون‭ ‬بالأسئلة‭ ‬والتعقيب‭ ‬بثقة‭ ‬عالية‭ ‬بالنفس‭ ‬وبلاغة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭. ‬

العناية‭ ‬والرعاية‭ ‬تلقيناهما‭ ‬من‭ ‬الجميع؛‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬والي‭ ‬بسكرة‭ ‬أحمد‭ ‬كروم،‭ ‬الذي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬استضافتنا‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬البلدية،‭ ‬والحضور‭ ‬شخصيًّا‭ ‬في‭ ‬افتتاح‭ ‬الملتقى،‭ ‬ومرورًا‭ ‬برئيس‭ ‬اتحاد‭ ‬الكُتّاب‭ ‬الجزائريين ‭ ‬فرع‭ ‬بسكرة‭ ‬ محمد‭ ‬الكامل‭ ‬بن‭ ‬زيد،‭ ‬ولفيف‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والأكاديميين‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬بسكرة،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬المواطن‭ ‬البسكري‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬الاستضافة‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬التآخي‭ ‬العربي‭ ‬بأروع‭ ‬صوره،‭ ‬ومنها‭ ‬التقارب‭ ‬الثقافي‭ ‬وأخذ‭ ‬أمور‭ ‬تطويرها‭ ‬والتعاون‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الجد،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬وحال‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬ومنطقة‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭. ‬

إن‭ ‬المواطن‭ ‬البسكري‭ ‬يمتاز‭ ‬برحابة‭ ‬وسعة‭ ‬الصدر‭ ‬والعقل،‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬الكمّ‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬الاختلافات‭ ‬والتناقضات‭ ‬فيما‭ ‬تمت‭ ‬مناقشته،‭ ‬داعمًا‭ ‬وساعيًا‭ ‬لما‭ ‬يقرب‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬ويعزّز‭ ‬نقاط‭ ‬الالتقاء‭. ‬وقد‭ ‬حرص‭ ‬البسكريون‭ ‬على‭ ‬الالتقاء‭ ‬اليومي‭ ‬بضيوفهم‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬الملتقى؛‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬متواضع‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬إقامة‭ ‬الضيوف،‭ ‬لطرح‭ ‬قضايا‭ ‬فكرية‭ ‬وأدبية‭ ‬وبحثها،‭ ‬منتهزين‭ ‬فرصة‭ ‬وجود‭ ‬أهل‭ ‬المشرق‭ ‬والخليج‭ ‬العربي‭ ‬معهم‭. ‬

إن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أهالي‭ ‬بسكرة‭ ‬بمختلف‭ ‬أصولهم‭ ‬وبكل‭ ‬طوائفهم‭ ‬وبجميع‭ ‬مستوياتهم‭ ‬الثقافية‭ ‬يشع‭ ‬تواضعًا‭ ‬ورقيًّا،‭ ‬حيث‭ ‬سماحة‭ ‬الوجه‭ ‬وبشاشته‭ ‬وحسن‭ ‬الخلق‭ ‬وسعد‭ ‬الملافظ‭ ‬تجدها‭ ‬لدى‭ ‬المثقف‭ ‬والأكاديمي‭ ‬ولدى‭ ‬عامل‭ ‬الشارع‭ ‬البسيط‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الكرم‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬حاتم‭ ‬الطائي،‭ ‬فإكرام‭ ‬الضيف‭ ‬للبسكريين،‭ ‬الذين‭ ‬احتضنوا‭ ‬ضيوفهم‭ ‬وقاموا‭ ‬بواجبات‭ ‬الضيافة‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه‭. ‬إن‭ ‬الحاصل‭ ‬في‭ ‬بسكرة،‭ ‬يترجم‭ ‬عالمية‭ ‬الأخلاق‭ ‬السامية‭ ‬وإنسانية‭ ‬القيم‭ ‬الجليلة،‭ ‬كما‭ ‬يعكس‭ ‬صورةً‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬الأعراق‭ ‬وتقبُّل‭ ‬الآخر‭ ‬بكل‭ ‬اختلافاته‭. ‬تشير‭ ‬الدراسات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬السكان‭ ‬الأوائل‭ ‬في‭ ‬بسكرة‭ ‬هم‭ ‬الليبيون‭ ‬والإثيوبيون‭ ‬والجيتوليون ‭‬قبائل‭ ‬بربر‭ ‬قديمة‭  ‬أيضًا،‭ ‬وخلال‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامي‭ ‬كانت‭ ‬القبائل‭ ‬الأمازيغية‭ ‬تستوطن‭ ‬المنطقة،‭ ‬والشاهد‭ ‬أن‭ ‬سكان‭ ‬بسكرة‭ ‬اليوم‭ ‬هم‭ ‬خليط‭ ‬متجانس‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬والبربر،‭ ‬والمولدين ‭‬سكان‭ ‬الأندلس‭‬،‭ ‬والغوارة،‭ ‬والقادمين‭ ‬من‭ ‬واد‭ ‬ريغ‭ ‬ذوي‭ ‬البشرة‭ ‬السوداء‭ ‬والملامح‭ ‬الإفريقية‭. ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬السمات‭ ‬الشكلية،‭ ‬فإن‭ ‬لأهالي‭ ‬بسكرة‭ ‬أخلاق‭ ‬عالية‭ ‬رفيعة،‭ ‬أخلاق‭ ‬عربية‭ ‬أصيلة‭ ‬وإنسانية‭ ‬سامية،‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬متمسكين‭ ‬بها،‭ ‬يتناقلونها‭ ‬جيلًا‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭. ‬

 

معالم‭ ‬بسكرية‭ ‬يفخر‭ ‬بها‭ ‬الجزائريون

حين‭ ‬كنا‭ ‬نخبر‭ ‬أصدقاءنا‭ ‬الجزائريين‭ ‬عن‭ ‬رحلتنا‭ ‬إلى‭ ‬بسكرة،‭ ‬يسردون‭ ‬لنا‭ ‬قائمة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬السياحية‭ ‬التي‭ ‬علينا‭ ‬زيارتها،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬المساجد‭ ‬والأضرحة،‭ ‬أو‭ ‬الزوايا‭ ‬والجوامع،‭ ‬أو‭ ‬الحمامات‭ ‬والمتاحف‭. ‬لكن‭ ‬قصر‭ ‬المدة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬قضيناها‭ ‬حددت‭ ‬زيارتنا‭ ‬لبعض‭ ‬المعالم،‭ ‬فقد‭ ‬حرصنا‭ ‬على‭ ‬التعرّف‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬الجزائري،‭ ‬فكان‭ ‬المتحف‭ ‬الجهوي‭ ‬للمجاهد،‭ ‬أول‭ ‬وجهة‭ ‬لنا،‭ ‬وفيه‭ ‬رصّت‭ ‬صور‭ ‬ومقتنيات‭ ‬لأعلام‭ ‬المقاومة‭ ‬والنضال‭ ‬السياسي‭ ‬الذين‭ ‬قدّموا‭ ‬صورًا‭ ‬خالدة‭ ‬لتضحياتهم‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الثورة‭ ‬الجزائرية‭ ‬بمواجهة‭ ‬المستعمر‭ ‬الفرنسي‭. ‬والمدهش‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعجّ‭ ‬بالزوار‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن‭ ‬صغارًا‭ ‬وكبارًا،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬المرافقين‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب‭ ‬العربي،‭ ‬يتمعنون‭ ‬بتفاصيل‭ ‬اللوحات‭ ‬التشكيلية‭ ‬والصور‭ ‬الفوتوغرافية،‭ ‬ولا‭ ‬تعجب‭ ‬إن‭ ‬استرق‭ ‬لمسامعك‭ ‬دعواتهم‭ ‬لأولئك‭ ‬الأبطال‭ ‬الذين‭ ‬يكنّون‭ ‬لهم‭ ‬العرفان‭ ‬والشكر‭ ‬والتقدير‭ ‬لما‭ ‬تحظى‭ ‬به‭ ‬بلادهم‭ ‬اليوم‭.‬

وبينما‭ ‬كنا‭ ‬نتطلع‭ ‬لرؤية‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالقادر‭ ‬الجزائري‭ ‬والمناضلة‭ ‬جميلة‭ ‬بوحيرد،‭ ‬لكونهما‭ ‬الاسمين‭ ‬اللذين‭ ‬ذاع‭ ‬صيتهما‭ ‬كعلمين‭ ‬عربيين‭ ‬قاوما‭ ‬ذات‭ ‬المستعمر‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬متباعدة،‭ ‬فقد‭ ‬وجدنا‭ ‬المئات‭ ‬منهم‭ ‬مثل‭ ‬العقيد‭ ‬محمد‭ ‬شعباني‭ ‬ابن‭ ‬بسكرة،‭ ‬وحسيبة‭ ‬بن‭ ‬بوعلي‭ ‬رمز‭ ‬المرأة‭ ‬الجزائرية‭ ‬الحرّة‭ ‬المناضلة،‭ ‬وعبدالحميد‭ ‬باديس‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬الإصلاح‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬ورائد‭ ‬النهضة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬وآخرين‭. ‬المتحف‭ ‬الجهوي‭ ‬ببسكرة‭ ‬قبلة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬وطلبة‭ ‬العلم،‭ ‬لكونه‭ ‬يوثّق‭ ‬نضال‭ ‬الجزائريين‭ ‬عمومًا‭ ‬والبسكريين‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬المحتل،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬أرض‭ ‬بسكرة‭ ‬ساحة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬المعارك‭ ‬والانتفاضات،‭ ‬مثل‭ ‬معركة‭ ‬مشونش‭ ‬1844م،‭ ‬ثورة‭ ‬الشيخ‭ ‬الصادق‭ ‬بلحاج‭ ‬1858م‭.‬

يفخر‭ ‬أهالي‭ ‬بسكرة‭ ‬بالمعالم‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬تنتشر‭ ‬في‭ ‬صحرائهم،‭ ‬ولا‭ ‬تفاجأ‭ ‬حين‭ ‬يسرد‭ ‬لك‭ ‬المواطن‭ ‬البسكري‭ ‬العادي‭ ‬تاريخ‭ ‬أحد‭ ‬الأماكن‭ ‬الأثرية‭ ‬بدقّة‭ ‬متناهية‭ ‬تتضمن‭ ‬أسماء‭ ‬شخوص،‭ ‬وأحداثًا‭ ‬مرت‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬الغابرة‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬معلمًا‭ ‬دينيًّا‭ ‬أو‭ ‬ضريحًا‭ ‬لأحد‭ ‬الأولياء‭ ‬الصالحين،‭ ‬فستعيش‭ ‬مع‭ ‬أحاديث‭ ‬أهالي‭ ‬بسكرة‭ ‬المعجزات‭ ‬وستحظى‭ ‬بالبركات،‭ ‬وما‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬لشغف‭ ‬البسكريين‭ ‬بالحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬ورموزها‭ ‬الذين‭ ‬وطئت‭ ‬أقدامهم‭ ‬موطنهم‭. ‬

 

عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭... ‬ضريح‭ ‬ومسجد‭ ‬ومدينة

صوت‭ ‬الأذان‭ ‬يرتفع،‭ ‬ويتوافد‭ ‬المصلون‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬إلى‭ ‬مدخل‭ ‬المسجد،‭ ‬أطفال‭ ‬صغار‭ ‬يملأون‭ ‬ساحته‭ ‬بحركتهم‭. ‬إنها‭ ‬أجواء‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع،‭ ‬والذي‭ ‬قصد‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬الملتقى‭ ‬أن‭ ‬نزوره‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬لنحظى‭ ‬بمنظر‭ ‬يعج‭ ‬بالحياة‭ ‬تحت‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬الحارة‭. ‬يتكلم‭ ‬البسكريون‭ ‬عن‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬الفهري‭ ‬باعتزاز‭ ‬كبير،‭ ‬وكيف‭ ‬لا،‭ ‬فهو‭ ‬فتح‭ ‬كل‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬والجزائر،‭ ‬وتونس،‭ ‬والمغرب‭ ‬الأقصى،‭ ‬وكما‭ ‬يقال‭ ‬إنه‭ ‬عندما‭ ‬بلغ‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي‭ ‬أدخل‭ ‬فرسه‭ ‬في‭ ‬مياهه،‭ ‬مشيرًا‭ ‬بسيفه‭ ‬وقائلاً‭ ‬عبارته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬رب‭ ‬وعزتك‭ ‬وجلالك‭ ‬لولا‭ ‬هذا‭ ‬البحر‭ ‬لمضيت‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬مجاهدًا‭ ‬في‭ ‬سبيلك،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعبد‭ ‬سواك‮»‬‭.‬

إن‭ ‬اسم‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬مخلّد‭ ‬بدول‭ ‬المغرب‭ ‬العربي،‭ ‬وله‭ ‬جامع‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬يحمل‭ ‬اسمه،‭ ‬لكونه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬بناه،‭ ‬كما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬جامع‭ ‬القيروان‭ ‬الكبير‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬القيروان‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬بسكرة‭ ‬فقد‭ ‬بُني‭ ‬المسجد‭ ‬حول‭ ‬ضريح‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع،‭ ‬تكريمًا‭ ‬وتخليدًا‭ ‬لذكراه،‭ ‬حيث‭ ‬استشهد‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬فتح‭ ‬بسكرة،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬جنوبها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تهودة،‭ ‬عندما‭ ‬حاصرته‭ ‬جيوش‭ ‬بربرية،‭ ‬وتم‭ ‬دفنه،‭ ‬ومحاوطة‭ ‬قبره‭ ‬بحائط‭ ‬مستدير،‭ ‬وفي‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬مسجدًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬أقواس‭ ‬من‭ ‬العرعار‭ ‬وخشب‭ ‬النخيل‭ ‬المدعمة‭ ‬بالحجر‭ ‬والكلس‭ ‬الجيري‭ ‬والطوب،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1800م،‭ ‬ثم‭ ‬شهد‭ ‬عمليات‭ ‬توسعة‭ ‬وترميم‭ ‬كبيرة‭ ‬بعدة‭ ‬حِقَب،‭ ‬شملت‭ ‬أيضًا‭ ‬تزيين‭ ‬زوايا‭ ‬المسجد‭ ‬وأجنحته،‭ ‬فيجد‭ ‬الزائر‭ ‬محرابًا‭ ‬خشبيًّا‭ ‬منحوتًا‭ ‬بأشكال‭ ‬هندسية‭ ‬ذات‭ ‬زخارف‭ ‬مميزة‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬سقفه‭ ‬اللونان‭ ‬الأحمر‭ ‬والأخضر،‭ ‬وزيّن‭ ‬بفوانيس‭ ‬نحاسية‭ ‬قديمة،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬المحراب‭ ‬والمئذنة‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬المآذن‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي،‭ ‬لكون‭ ‬المسجد‭ ‬ثالث‭ ‬أقدم‭ ‬مسجد‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬أيضًا‭. ‬وللمسجد‭ ‬باب‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬السدر،‭ ‬له‭ ‬طابع‭ ‬الأرابيسك‭ ‬مرصّع‭ ‬بدبابيس‭ ‬برونزية،‭ ‬ارتفاعه‭ ‬2‭.‬70م‭ ‬وعرضه‭ ‬1‭.‬40‭ ‬متر،‭ ‬بينما‭ ‬يبلغ‭ ‬سُمكه‭ ‬40‭ ‬سم،‭ ‬ويذكر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬أمير‭ ‬القيروان‭ ‬المعز‭ ‬بن‭ ‬باديس‭ ‬الصنهاجي‭. ‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1913‭ ‬وسّع‭ ‬المسجد‭ ‬وأضيف‭ ‬فيه‭ ‬مكان‭ ‬مخصص‭ ‬للنساء،‭ ‬أما‭ ‬آخر‭ ‬عمليات‭ ‬الترميم‭ ‬فكانت‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1966م‭ ‬و1972م،‭ ‬لتدعيم‭ ‬الأعمدة‭ ‬والأقواس‭ ‬الأصلية‭ ‬بأخرى‭ ‬أكثر‭ ‬صلابة‭.‬

‮«‬هذا‭ ‬قبر‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‮»‬‭ ‬عبارة‭ ‬كتبت‭ ‬على‭ ‬لوحة‭ ‬الكتابة‭ ‬الكوفية‭ ‬المثبتة‭ ‬بجانب‭ ‬الضريح،‭ ‬وللفصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬قاعة‭ ‬المصلين،‭ ‬تم‭ ‬بناء‭ ‬حجرة‭ ‬صغيرة‭ ‬للقبر‭ ‬لها‭ ‬قبّة‭ ‬متواضعة‭. ‬أحب‭ ‬البسكريون‭ ‬الصحابي‭ ‬الجليل‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬بقدر‭ ‬منفعته‭ ‬لهم‭ ‬بالإسلام،‭ ‬فأطلقوا‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬أكبر‭ ‬دوائر‭ ‬ولايتهم‭ ‬‮«‬مدينة‭ ‬سيدي‭ ‬عقبة‮»‬‭. ‬

 

زوايا‭... ‬وزاوية‭ ‬علي

إن‭ ‬عزلة‭ ‬بسكرة‭ ‬وصحرائها‭ ‬القاحلة‭ ‬لم‭ ‬تكبح‭ ‬البسكريين‭ ‬عن‭ ‬العلم‭ ‬والتعلم‭ ‬والتفقّه‭ ‬بأمور‭ ‬الدين‭ ‬والدنيا،‭ ‬فمعالمها‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬لا‭ ‬تُعد‭ ‬ولا‭ ‬تُحصى،‭ ‬بل‭ ‬وتقف‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬واطّلاع‭ ‬سكانها‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭. ‬ومن‭ ‬تلك‭ ‬المعالم‭ ‬الزوايا،‭ ‬ومنها‭ ‬الزاوية‭ ‬العثمانية‭ ‬أو‭ ‬زاوية‭ ‬طولقة‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬طولقة‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬بُنيت‭ ‬بها،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬المدن‭ ‬البسكرية،‭ ‬أو‭ ‬زاوية‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬طولقة‭ ‬عام‭ ‬1122هـ،‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬معلمه‭ ‬وشيخه‭ ‬بن‭ ‬عزوز‭ ‬البرجي‭ ‬عام‭ ‬1780م‭.‬

عبر‭ ‬باب‭ ‬متواضع‭ ‬ولجنا‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬صفّت‭ ‬على‭ ‬جوانبها‭ ‬أحواض‭ ‬زراعية،‭ ‬وتوسطتها‭ ‬نافورة‭ ‬يتدفق‭ ‬منها‭ ‬الماء‭ ‬بسلاسة،‭ ‬كان‭ ‬الهدوء‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬الأجواء‭ ‬حتى‭ ‬يخال‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬الزاوية‭ ‬خاوية‭. ‬استقبلنا‭ ‬أحد‭ ‬المسؤولين‭ ‬الذي‭ ‬عرّفنا‭ ‬على‭ ‬الزاوية‭ ‬ودورها‭ ‬الحالي‭ ‬وأهميتها،‭ ‬خاصة‭ ‬لدى‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬محدودي‭ ‬الدخل،‭ ‬فهي‭ ‬مازالت‭ ‬تستكمل‭ ‬وظيفتها‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬والعقيدة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إيواء‭ ‬المحتاجين‭ ‬وعابري‭ ‬السبيل‭ ‬ومساعدتهم‭ ‬على‭ ‬أساسيات‭ ‬الحياة،‭ ‬كتوفير‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭ ‬والمسكن‭ ‬لهم‭.‬

وفي‭ ‬أثناء‭ ‬تجوّلنا‭ ‬لمحنا‭ ‬فتيانًا‭ ‬يحيطون‭ ‬بمعلمهم‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬القاعات،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬غرف‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬دورات‭ ‬المياه،‭ ‬استقر‭ ‬بها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرجال‭. ‬اتّضح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬الزاوية‭ ‬مليئة‭ ‬بالأنفس‭ ‬الهادئة،‭ ‬والدور‭ ‬الثقافي‭ ‬للزاوية‭ ‬تمثّل‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬قيّمة،‭ ‬أسسها‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬الشيخ‭ ‬الولي‭ ‬الصالح‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬عمر،‭ ‬تزخر‭ ‬بأمهات‭ ‬الكتب،‭ ‬والمخطوطات‭ ‬النادرة‭ ‬والمطبوعات‭ ‬القديمة‭ ‬بنسخها‭ ‬الأصلية،‭ ‬بمختلف‭ ‬المواضيع‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬ففيها‭ ‬قسم‭ ‬مختص‭ ‬بعلوم‭ ‬التفسير،‭ ‬والفقه،‭ ‬والسيرة‭ ‬والترجمة،‭ ‬والجغرافيا،‭ ‬والعلوم‭ ‬الدقيقة‭ ‬والثقافة‭ ‬العامة‭. ‬وقسم‭ ‬آخر‭ ‬يضم‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والعلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬وغيرها‭. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬كتب‭ ‬هذه‭ ‬المكتبة،‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬خطة‭ ‬قاضي‭ ‬مكة‮»‬،‭ ‬‮«‬الشيخ‭ ‬القضائي‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬كُتب‭ ‬على‭ ‬جلد‭ ‬غزال‭ ‬قبل‭ ‬1040‭ ‬عامًا،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬كتب‭ ‬المكتبة‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬وثائق‭ ‬ومخطوطات‭ ‬كُتبت‭ ‬بماء‭ ‬الذهب‭.‬

إن‭ ‬قيمة‭ ‬الكتب‭ ‬الأدبية‭ ‬والأثرية،‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬عرضها‭ ‬للإعارة،‭ ‬وبعض‭ ‬الكتب‭ ‬يتم‭ ‬تصفّحها‭ ‬بحذر‭ ‬شديد‭ ‬لرقّة‭ ‬الورق‭ ‬وقِدَمه‭. ‬ويشرف‭ ‬على‭ ‬الزاوية‭ ‬اليوم‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالقادر‭ ‬بن‭ ‬الحاج‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬عثمان،‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1966،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬بأعمال‭ ‬الترميم‭ ‬وإعادة‭ ‬البناء‭ ‬بهدف‭ ‬التوسيع،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬قيامه‭ ‬بمهامه‭ ‬التعليمية‭ ‬واستقبال‭ ‬الضيوف‭ ‬وطلبة‭ ‬العلم‭ ‬والباحثين‭. ‬ويجتهد‭ ‬أبناؤه‭ ‬في‭ ‬مساعدته‭ ‬بهذه‭ ‬المهام‭ ‬لكِبر‭ ‬سنّه،‭ ‬وصعوبة‭ ‬حركته،‭ ‬فهم‭ ‬يستقبلون‭ ‬ضيوف‭ ‬الزاوية،‭ ‬ويراعون‭ ‬نزلاءها‭ ‬بحفاوة‭ ‬بالغة‭. ‬

 

في‭ ‬غوفي‭... ‬المدينة‭ ‬الغافية

خلال‭ ‬فترة‭ ‬إقامتنا‭ ‬في‭ ‬بسكرة‭ ‬صادفتنا‭ ‬موجة‭ ‬هوائية‭ ‬باردة،‭ ‬وقبيل‭ ‬مغادرتنا‭ ‬بيوم،‭ ‬حلّ‭ ‬دفء‭ ‬نسبيّ‭ ‬على‭ ‬الأجواء،‭ ‬فأصر‭ ‬الإخوة‭ ‬المرافقون‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬اصطحابنا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬غوفي‮»‬‭ ‬في‭ ‬صباحه‭ ‬الباكر،‭ ‬لقد‭ ‬كانوا‭ ‬حريصين‭ ‬على‭ ‬رؤيتنا‭ ‬لتلك‭ ‬المدينة،‭ ‬وذلك‭ ‬لكونها‭ ‬قرية‭ ‬أثرية‭ ‬صغيرة‭ ‬بأوراس،‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬المؤدي‭ ‬من‭ ‬بسكرة‭ ‬إلى‭ ‬آريس‭ ‬بولاية‭ ‬باتنة،‭ ‬فوق‭ ‬تلة‭ ‬ترتفع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬500‭ ‬و1500‭ ‬متر‭ ‬عن‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬وتضم‭ ‬سلاسل‭ ‬جبلية‭ ‬تخترقها‭ ‬الينابيع‭ ‬والوديان،‭ ‬والتي‭ ‬لايزال‭ ‬بعضها‭ ‬جاريًا،‭ ‬ومنها‭ ‬الوادي‭ ‬الأبيض‭ ‬‮«‬إغزر‭ ‬إملال‮»‬‭ ‬كما‭ ‬ينطق‭ ‬بالأمازيغية‭.‬

حدثونا‭ ‬عنها‭ ‬كثيرًا،‭ ‬واستعرضوا‭ ‬شروحاتهم‭ ‬المختلفة‭ ‬حول‭ ‬سبب‭ ‬تسميتها‭ ‬بذلك‭ ‬الاسم،‭ ‬والأجمل‭ ‬كان‭ ‬عرضهم‭ ‬لتاريخها‭ ‬ودورها‭ ‬المهم‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬سكانها‭ ‬الذين‭ ‬بنوها‭ ‬واستوطنوها‭ ‬في‭ ‬عقود‭ ‬ماضية‭.‬

كان‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬غوفي‭ ‬طويلًا،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالأماكن‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬زيارتها،‭ ‬ووجودنا‭ ‬في‭ ‬الباص‭ ‬بصحبة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والأكاديميين‭ ‬العرب‭ ‬وفضاء‭ ‬الصحراء‭ ‬الشاسعة،‭ ‬كلّف‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬الملتقى‭ ‬عنايةً‭ ‬خاصة‭ ‬رافقتنا‭ ‬حتى‭ ‬العودة،‭ ‬لقد‭ ‬انتشرت‭ ‬نقاط‭ ‬الشرطة‭ ‬طوال‭ ‬خط‭ ‬الرحلة،‭ ‬لما‭ ‬اقتضته‭ ‬الدواعي‭ ‬الأمنية‭ ‬لحماية‭ ‬وحفظ‭ ‬أمن‭ ‬وسلامة‭ ‬الصحراء‭ ‬ومَن‭ ‬سكنها‭. ‬كلما‭ ‬ابتعدنا‭ ‬عن‭ ‬بسكرة‭ ‬كانت‭ ‬الأماكن‭ ‬الحضرية‭ ‬تقلّ،‭ ‬وتبرز‭ ‬مرتفعات‭ ‬ترابية‭ ‬وصخرية،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬مررنا‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬الجبال‭ ‬‮«‬أحمر‭ ‬خدو‮»‬‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬حمرة‭ ‬صخوره،‭ ‬أبلغنا‭ ‬بخروجنا‭ ‬من‭ ‬بسكرة،‭ ‬رافقنا‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬جغرافيا‭ ‬صحراء‭ ‬الجزائر‭ ‬النابض‭ ‬بالحياة،‭ ‬فبين‭ ‬رمال‭ ‬كثيفة‭ ‬تمازجت‭ ‬ألوانها‭ ‬بين‭ ‬الأصفر‭ ‬والأحمر‭ ‬والبنّي‭ ‬تطل‭ ‬علينا‭ ‬واحات‭ ‬غنّاء‭ ‬اكتست‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر،‭ ‬قابعة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الصحراء،‭ ‬وكأنها‭ ‬تجبرها‭ ‬على‭ ‬النبض‭ ‬والاستمرار‭ ‬بالحياة،‭ ‬تعج‭ ‬بالنخيل‭ ‬وثماره،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬دقائق‭ ‬حتى‭ ‬يمر‭ ‬عليك‭ ‬منظر‭ ‬لراعٍ‭ ‬وأغنامه‭ ‬يتجه‭ ‬إليها،‭ ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فهي‭ ‬تنعم‭ ‬بالينابيع‭ ‬والوديان‭ ‬الجارية‭. ‬

 

تختلف‭ ‬مسمياتها‭... ‬وتعود‭ ‬إلى‭ ‬أمازيغ

ناهز‭ ‬المسير‭ ‬إلى‭ ‬غوفي‭ ‬قرابة‭ ‬الساعتين،‭ ‬وخلالها‭ ‬توقفنا‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬للاستراحة،‭ ‬وكان‭ ‬سائق‭ ‬الحافلة‭ ‬متأنيًّا‭ ‬جدًّا‭ ‬في‭ ‬قيادته،‭ ‬ليستمتع‭ ‬من‭ ‬معه‭ ‬بتلك‭ ‬اللوحات‭ ‬الناطقة‭ ‬بجمال‭ ‬الصحراء‭ ‬البكر،‭ ‬وإلا‭ ‬فالطريق‭ ‬عادة‭ ‬يستغرق‭ ‬ساعة‭ ‬وربع‭ ‬الساعة‭. ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬حديثنا‭ ‬متواصلًا‭ ‬حول‭ ‬سبب‭ ‬تسمية‭ ‬غوفي،‭ ‬فأهلها‭ ‬يوعزون‭ ‬بناءها‭ ‬إلى‭ ‬ملكة‭ ‬البربر،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬ديهيا‭ ‬أو‭ ‬الكاهنة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬والمغرب‭ ‬العربي‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬680‭ ‬إلى‭ ‬712م،‭ ‬ولكثرة‭ ‬المعارك‭ ‬مع‭ ‬الرومان‭ ‬والعرب‭ ‬والبيزنطيين‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬شيّدت‭ ‬مساكن‭ ‬لحماية‭ ‬جيشها‭. ‬وآخرون‭ ‬ومن‭ ‬ترجع‭ ‬أصولهم‭ ‬إلى‭ ‬الأمازيغ‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬اسم‭ ‬المنطقة‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬أفلوس،‭ ‬وهو‭ ‬يعني‭ ‬بلغتهم‭ ‬الفج‭ ‬العميق،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬ثمرة‭ ‬الجوز‭ ‬وفصّيها‭ ‬المتقابلين‭ ‬داخل‭ ‬القشرة‭ ‬الخارجية‭ ‬الصلبة‭. ‬والبعض‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬أفلوس‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬العائلات‭ ‬التي‭ ‬بنت‭ ‬غوفي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الغالبية‭ ‬أشاروا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اسم‭ ‬غوفي‭ ‬منبثق‭ ‬من‭ ‬روفي،‭ ‬وهو‭ ‬مستوطن‭ ‬فرنسي‭ ‬بنى‭ ‬فندقًا‭ ‬سياحيًّا‭ ‬لاستقبال‭ ‬السياح،‭ ‬لأنه‭ ‬بمنزلة‭ ‬منتجع‭ ‬يستقطب‭ ‬الأوربيين‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالصحراء‭ ‬الجزائرية‭. ‬

والشاهد‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬يلتمس‭ ‬تديّن‭ ‬سكانها،‭ ‬أو‭ ‬آخر‭ ‬قوم‭ ‬استوطنوها‭ ‬عندما‭ ‬يلمح‭ ‬المئذنة‭ ‬التي‭ ‬اعتلت‭ ‬مسجدًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬كما‭ ‬بدا‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬علوّ‭.‬

لقد‭ ‬حرص‭ ‬سكان‭ ‬غوفي‭ ‬على‭ ‬التعبّد‭ ‬وممارسة‭ ‬عباداتهم‭ ‬في‭ ‬المسجد،‭ ‬رغم‭ ‬محاولاتهم‭ ‬في‭ ‬التخفي‭ ‬من‭ ‬المستعمر‭. ‬

وما‭ ‬إن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬قمم‭ ‬غوفي‭ ‬حتى‭ ‬تجد‭ ‬دكاكين‭ ‬صغيرة‭ ‬تعرض‭ ‬منتجاتها‭ ‬من‭ ‬الصناعات‭ ‬التقليدية‭ ‬النسيجية‭ ‬كالبرانس،‭ ‬والألبسة‭ ‬التقليدية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القطع‭ ‬الفخارية‭ ‬والمصوغات‭ ‬الفضية‭ ‬من‭ ‬الحليّ‭ ‬والقطع‭ ‬التذكارية،‭ ‬والمصنوعات‭ ‬الجلدية‭ ‬للحقائب‭ ‬والآلات‭ ‬الموسيقية‭.‬

ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬حين‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬قمة‭ ‬مقابلة‭ ‬لتلك‭ ‬الدكاكين‭ ‬تستمتع‭ ‬برؤية‭ ‬شرفات‭ ‬غوفي‭ ‬الأربع‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬الوادي‭ ‬الأبيض،‭ ‬وبساتين‭ ‬التمور‭ ‬والتفاح‭ ‬والحوامض،‭ ‬وبذلك‭ ‬ميزة‭ ‬فريدة‭ ‬لغوفي،‭ ‬حيث‭ ‬تجمع‭ ‬ثمار‭ ‬المناخين‭ ‬الصحراوي‭ ‬والمتوسطي،‭ ‬بينما‭ ‬يعانق‭ ‬نظرك‭ ‬ما‭ ‬حفر‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬جبالها،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬مساكن‭ ‬أوى‭ ‬إليها‭ ‬أناسٌ،‭ ‬فارّين‭ ‬محتمين‭ ‬بقوة‭ ‬الجبال،‭ ‬وفي‭ ‬رحم‭ ‬الصحراء‭. ‬

 

تحفة‭ ‬معمارية‭ ‬نادرة

من‭ ‬بعيد‭ ‬تظهر‭ ‬تلك‭ ‬البيوت‭ ‬وكأنها‭ ‬نقوش‭ ‬وزخارف‭ ‬جدارية،‭ ‬ويخيل‭ ‬للرائي‭ ‬ظلال‭ ‬أحدهم،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تقترب‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬تجد‭ ‬هندسة‭ ‬معمارية‭ ‬فطرية‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬أيدي‭ ‬طوّعت‭ ‬الصخر‭ ‬لتخلق‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭ ‬لقومها‭. ‬

ومن‭ ‬أول‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬سلّم‭ ‬حجري‭ ‬عريض‭ ‬ذي‭ ‬درجات‭ ‬قصيرة‭ ‬الارتفاع‭ ‬تنساق‭ ‬نحو‭ ‬الأسفل‭ ‬وتمرُّ‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬المساكن‭ ‬الحجرية،‭ ‬والتي‭ ‬تجد‭ ‬نفسك،‭ ‬لوهلة،‭ ‬أمام‭ ‬مخطط‭ ‬بناء‭ ‬متطابق‭ ‬يكرر‭ ‬نفسه‭ ‬كلما‭ ‬جال‭ ‬نظرك‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬غوفي،‭ ‬إنها‭ ‬الشرفات‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬اسم‭ ‬شرفات‭ ‬غوفي‭.‬

إن‭ ‬تهالك‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬المساكن‭ ‬والسلالم‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬الوصول‭ ‬إليها،‭ ‬وما‭ ‬يثير‭ ‬التساؤل‭ ‬هو‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬أهل‭ ‬غوفي‭ ‬الأوائل‭ ‬يلجأون‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم؟‭ ‬قيل‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬السكان‭ ‬استعانوا‭ ‬بالسلالم‭ ‬يمدونها‭ ‬للانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬ويخفونها‭ ‬عند‭ ‬الدخول،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬وفّر‭ ‬لهم‭ ‬الحماية‭ ‬والأمن‭ ‬من‭ ‬الغزاة‭ ‬والمعتدين‭ ‬أيًّا‭ ‬كانوا‭. ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬تمكنّا‭ ‬من‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬الشرفات،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬واجهة‭ ‬لغرفة‭ ‬صغيرة‭ ‬جدًّا‭ ‬خاوية‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عرضها‭ ‬مترين،‭ ‬وكان‭ ‬البرد‭ ‬يتخلل‭ ‬أرجاءها،‭ ‬وطبيعة‭ ‬الصحراء‭ ‬القاسية‭ ‬دفعتنا‭ ‬إلى‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تعايش‭ ‬سكان‭ ‬المنطقة‭ ‬معها‭. ‬

وأشار‭ ‬المرافقون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬شرفات‭ ‬غوفي‭ ‬زوّدت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬بمداخن‭ ‬تقليدية‭ ‬تسمح‭ ‬بخروج‭ ‬الدخان‭ ‬فقط،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تتشبع‭ ‬جدرانها‭ ‬بحرارة‭ ‬النار‭ ‬الموقدة،‭ ‬ولكونها‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬الحجارة‭ ‬والطين‭ ‬فهما‭ ‬يحولان‭ ‬دون‭ ‬خروج‭ ‬الحرارة‭ ‬منها،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬يحتفظان‭ ‬ببرودة‭ ‬ارتفاع‭ ‬الجبال‭ ‬عن‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬ولا‭ ‬يسمحان‭ ‬بدخول‭ ‬الحرارة‭ ‬المرتفعة‭ ‬إليها‭. ‬

الإنهاك‭ ‬الجسدي‭ ‬اعترانا‭ ‬فور‭ ‬بلوغنا‭ ‬آخر‭ ‬درجة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السلالم‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬خطيرة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬المنحنيات،‭ ‬لكونها‭ ‬قديمة‭ ‬وتعرضت‭ ‬لعوامل‭ ‬التعرية‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وكما‭ ‬أثقلت‭ ‬بالاستخدام‭ ‬البشري‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عصور،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انتشينا‭ ‬بعذوبة‭ ‬الأجواء‭ ‬التي‭ ‬سادت،‭ ‬وخاصة‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الوادي‭ ‬الأبيض،‭ ‬فأنستنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المشقة،‭ ‬فقد‭ ‬انتشرت‭ ‬الخيام‭ ‬الملونة‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الوادي،‭ ‬والتي‭ ‬نصبت‭ ‬للتنزه‭ ‬وقضاء‭ ‬العطل‭ ‬فيها،‭ ‬وأطلت‭ ‬مساحات‭ ‬خضراء‭ ‬تمثّلت‭ ‬بمجاميع‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭ ‬التي‭ ‬تتدلى‭ ‬منها‭ ‬الثمار،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬اليسرى‭ ‬للوادي‭ ‬الأبيض،‭ ‬وتسمى‭ ‬بواحات‭ ‬مشونش‭.‬

تقضي‭ ‬الأسر‭ ‬والمجاميع‭ ‬المدرسية‭ ‬نهارًا‭ ‬ماتعًا‭ ‬في‭ ‬غوفي،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬المنطقة‭ ‬نقطة‭ ‬جذب‭ ‬للسائحين‭ ‬الأجانب‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬والأمريكتين‭ ‬وشرق‭ ‬آسيا،‭ ‬حتى‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬عام‭ ‬1992م‭.‬

على‭ ‬ذات‭ ‬السلالم‭ ‬سلّمنا‭ ‬أقدامنا‭ ‬للصعود‭ ‬وكأننا‭ ‬نتسلق‭ ‬الجبال،‭ ‬أنفاسنا‭ ‬تتلاحق‭ ‬ودقات‭ ‬قلوبنا‭ ‬تتسارع،‭ ‬نتوقف‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬السلّم‭ ‬لنرتاح،‭ ‬لكن‭ ‬يُفتح‭ ‬حديث‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬حول‭ ‬قدرة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬تطويع‭ ‬الطبيعة‭ ‬القاسية‭ ‬لخدمته،‭ ‬وإبداعه‭ ‬حين‭ ‬يخلص‭ ‬بعمله،‭ ‬فشرفات‭ ‬غوفي‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬الأثرية‭ ‬التي‭ ‬صنفتها‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬لتكون‭ ‬تراثًا‭ ‬عالميًّا‭ ‬محميًّا،‭ ‬كما‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يفتخر‭ ‬به‭ ‬لكونه‭ ‬معلمًا‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬شهد‭ ‬صمود‭ ‬وبسالة‭ ‬القبائل‭ ‬البربرية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العدوان‭ ‬الذي‭ ‬توالى‭ ‬عليها،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الغزاة‭ ‬الرومان،‭ ‬ثم‭ ‬البيزنطيين،‭ ‬والمستعمر‭ ‬الفرنسي‭.‬

لقد‭ ‬رحل‭ ‬سكان‭ ‬غوفي‭ ‬وتركوا‭ ‬شواهدهم‭ ‬تنطق‭ ‬على‭ ‬مهارتهم‭ ‬البنائية،‭ ‬وهندستهم‭ ‬المعمارية،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭.‬

غادرنا‭ ‬غوفي،‭ ‬وابتعدنا‭ ‬عن‭ ‬بسكرة،‭ ‬وودّعنا‭ ‬الجزائر،‭ ‬والحنين‭ ‬لايزال‭ ‬يلازمنا‭ ‬للصحراء‭ ‬الذهبية،‭ ‬ونختم‭ ‬بأبيات‭ ‬مختارة‭ ‬من‭ ‬‮«‬إلياذة‭ ‬الجزائر‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الجزائري‭ ‬مفدي‭ ‬زكرياء‭:‬

‭ ‬

يا‭ ‬قصةً‭ ‬بَثّ‭ ‬فيها‭ ‬الوجود

معاني‭ ‬السُّمو‭ ‬بروعِ‭ ‬الحياة‭ ‬

ويا‭ ‬صفحةً‭ ‬خَطّ‭ ‬فيها‭ ‬البقاء

بنار‭ ‬ونورٍ‭ ‬جهادَ‭ ‬الأُباة‭ ‬

ويا‭ ‬للبطولات‭ ‬تغزو‭ ‬الدُّنا

وتلهمها‭ ‬القيم‭ ‬الخالدات‭ ‬

ويا‭ ‬أسطورةً‭ ‬ردّدتها‭ ‬القُرون

فهاجت‭ ‬بأعماقنا‭ ‬الذكريات‭ .

الطريق‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬العاصمة‭ ‬إلى‭ ‬بسكرة

المدينة‭ ‬الغافية‭ ‬كما‭ ‬بدت‭ ‬لزوارها

الصناعات‭ ‬الفخارية‭ ‬والمنسوجات‭  ‬في‭ ‬غوفي

الواحات‭ ‬تزهو‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الأودية

مجلتا‭ ‬العربي‭ ‬والعربي‭ ‬الصغير‭... ‬وحضور‭ ‬لا‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬القارئ‭ ‬البسكري

محال‭ ‬صغيرة‭ ‬تستقبل‭ ‬السائحين‭ ‬في‭ ‬غوفي

المرأة‭ ‬الريفية‭  ‬في‭ ‬بسكرة‭ ‬وعطاء‭ ‬بلا‭ ‬حدود

من‭ ‬أصناف‭ ‬المخبوزات‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬البسكري