سمير درويش: الشاعر لا يقيِّم تجربته وجيلي هو الأكثر حضورًا

سمير درويش: الشاعر لا يقيِّم تجربته وجيلي هو الأكثر حضورًا

يعد سمير درويش، واحدًا من أبرز شعراء جيل الثمانينيات في مصر، وأحد أهم الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر في الوقت الراهن على المستوى العربي. ولد في 7 يناير 1960، وهو عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب المصري منذ مارس 2018، عمل رئيسًا لتحرير مجلة الثقافة الجديدة منذ سبتمبر 2016 حتى سبتمبر 2018، وهو رئيس تحرير سلسلة «الإبداع العربي» التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث تهتم بنشر الإبداع الأدبي من خارج مصر، وذلك منذ سبتمبر 2016 حتى الآن. 

 

صدرت له دواوين شعرية عدة: «قطوفها وسيوفي» (1991)، «موسيقى لعينيها» (1993)، «النوارس والكهرباء والدم» (1998)، «الزجاج» (1999)، «كأعمدة الصواري» (2002)، «يوميات قائد الأوركسترا» (2007)، «من أجل امرأة عابرة» (2009)، «نصطاد الشياطين» (2011)، «سأكون ليوناردو دافنشي» (2012)، «غرام افتراضي» (2012)، «الرصيف الذي يحاذي البحر» (2013)، «انهيارات بطيئة» (2014)، «أبيض شفاف» (2015)، «في عناق الموسيقى» (2015)، «مرايا نيويورك» (2016)، «ثائر مثل غاندي زاهد كجيفارا» (2018).
 شارك في كثير من المؤتمرات الأدبية بدول عديدة، كما تناولت أعماله مجموعة من الرسائل العلمية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه. ترجمت قصائده ودواوينه إلى لغات مختلفة، وحصل على جائزة أفضل ديوان شعر في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 47 عام 2016 عن ديوانه «أبيض شفاف».

ميل نحو السرد
في نصوصك نرى ميلًا واضحًا نحو السرد، فاللغة التي تستخدمها بسيطة، وقريبة من لغة الحيـــاة اليومية، بماذا تفسر انزياحك أنت والكثير من الشعراء صوب هذه الطريقة؟
- أرى أن شعراء قصيدة النثر عثروا - بقصد أو من دون - على جماليات الحالات الصغيرة والعادية التي تعرِّي الذات وتكشف المسكوت عنه، مقابل قرون طويلة كان الشعر خلالها شفاهيًّا استعراضيًّا وكذَّابًا إلى حد بعيد، فقدرة الشاعر العربي القديم وموهبته كانا يتجليان في تمكّنه من صنع صورة جميلة من مفارقة تتشكل باللغة، بصرف النظر عن علاقة هذه الصورة بالواقع، ففي المدح مثلًا كان الشاعر يقول في «زيد» ما يقوله في «عبيد»، وفي الفخر كان يقال عن «قبيلة ما» ما يُقال عن غيرها، رغم اختلافهما في العــدد والعــدة والتـاريخ والأنساب، وكذلك في الحماسة والهجــاء إلـى آخر الأغراض المعروفة.
 لذلك، وجد الشاعر الحديث ضالته في الكشف عن ذاته وما يشغله، من هنا، فإن اللغة البسيطة المباشرة هي التي تعبّر أكثر عن الجماليات الجديدة، وقد استعاض الشاعر عن المجاز القديم الذي يهتم بالمفارقة بين كل كلمتين متجاورتين، بالمجاز الكلي الذي يعوِّل على العلاقة بين «الأشياء» داخل النص ونفس الأشياء خارجه: الأشجار والبحر والشارع والميدان... إلخ، وعلى المفارقة التي يصنعها النص كوحدة كليّة مع الواقع حوله، وفي سبيل ذلك فقد ضاقت المسافة بين الأنواع الأدبية المختلفة، وبين الآداب والفنون، فأصبح الشاعر يستفيد من كل شيء، إيقاع السينما وحوار المسرح وألوان الفنون التشكيلية وسرد القصة القصيرة.

هاجس الأنثى
  هاجس الأنثى حاضر في تجربتك الشعرية بشكل دائم... أليس كذلك؟
- المرأة ليست حاضرة في تجربتي فقط، بل في حياتي نفسها، وهذا ما يجعل تجربتي تحتفي بها كشريك حقيقي في معظم الحالات، فأنا أرى أن الكون كله بُني على ثنائية الأنثى والذكر، السالب والموجب، وأن أحدهما يكتمل بوجود الآخر، وأن من يستطيع الاستغناء عن الآخر ثمة مشكلة عنده، وعليه اكتشافها، فالتطور لا يحدث إلا بتلاقي الطرفين. ولأن قصيدتي انعكاس لشخصيتي وأفكاري وهواجسي وانشغالاتي، فكان لزامًا أن تكون المرأة حاضرة في كل حين.
المرأة - في ظني - تكوين جمالي موازٍ للقصيدة، أو باعث عليها، على مستوى الشكل. ثمة انحناءات ودوائر وخطوط وضوء وظل وألوان ساخنة وأخرى باردة، فتناغم كل تلك المكونات يصنع لوحة جمالية في النهاية، إن استطاع الشاعر وصفها فقد أنجز، وعلى مستوى المضمون، فالمرأة إشكالية وجودية، لأنها تتحرك وفق عواطفها أكثر من الرجل، وتحتاج إلى فهم أعمق لطبيعتها وطريقة حساسة في التعامل معها، وهي إن أعطت تفوق المحيطات في انسيابها، وإن أمسكت تفوق الجبال في جمودها. 
كل امرأة قصيدة في ذاتها، والشاعر عليه أن يدخل عوالمها ليعرف أكثر، ويكتب أعمق، فكلما غاص فيها اكتشف أنه يحتاج إلى المزيد، وهذا سر جاذبيتها.

تعبير عن الذات
  صدر ديوانك الأول «قطوفها وسيوفي» عام 1991، بينما ديوانك الأخير «كامل الأوصاف» صدر عام 2019، الآن، وبعد 28 عامًا مع الشعر، كيف تقيّم تجربتك؟
- لا يستطيع الشاعر أن يقيِّم تجربته، وإن حاول سيفعل أحد أمرين؛ إما أن يبالغ في تقديرها، أو أن يحطّ من قدرها، وأنا من النـــوع الثاني، فمن حين إلى آخر أنظر إلى ما كتبت وأدخل في حالـــة اكتئاب طويلة لشعــوري أن الوقت ضاع في لا شيء، وأنه كان من الممكن أن أنجز ما هو أفضل. 
ربمـــا يساعــــد علــى هذا الإحساس محاولاتي المستمرة أن أتجدد، أن أهجر موقعي كلما استرحت فيه إلى موقع جديد... وهكذا، كما أن كثيرين من النقاد والناشرين ورؤساء تحرير المجلات لم يستوعبوا - بعد - النقلة الجماليـــة التـــي حدثت في الشعر، فلا يتعاطفون مع الأشكال الجـديدة ويـرونهــــا سهلـــة، لأن ذائـقـــاتهم تربّت على الشعر القديـم وجمالياته، ولأن الشكـل الجديــد أغــــرى كـثيــرين كـي يكتبــــوا، دون أن يطالبهم أحد بالمواصفات القديمة، خاصة الإيقـاع التراتبي، بل إن اللغـــة ذاتها لم تعد مهمة عند كثيـــرين منهــم، ويعتبــــرون من يلفت نظرهم إليهــا مــتزمتًا، فالمصــحح يمكــن أن يقوم بهذا الـــدور، من وجهـــة نظرهم، خاصة في غياب الإيقاع المنتظــم الذي كـــان يفرِّق قديمًا بين من يمتلك تلك الخاصية ومن يفتقدها. 
إنني أستطيع أن أقول لك: إن تجربتي ليست أكثر من محاولات للتعبيـــر عن ذاتي، دون أن تطمح إلى أكثر من ذلك.

يوميات شعرية
  ما الجديد الذي أضفتَه إلى قصيدة النثر، وهل تتفق مع من يقول إن أجمل الشعر الآن موجود فيها دون غيرها؟
- أتصور أن إضافتي الرئيسة هي شعرية «اليوميات»، أي تحويل اليومي إلى شعر. منذ عام 2001 بدأت في كتابة «يوميات» شعرية عن مواقف رأيتها في اليوم نفسه، وكان التاريخ هو العنوان: 1 يناير و2 يناير... وهكذا حتى 31 ديسمبر، وبعد انتهاء العام تجمعت لديَّ 365 قصيدة، لم يكن لديَّ الوقت للنظر فيها حال كتابتها، ففعلت ذلك في العامين التاليين، وفي النهاية اخترت مئة يومية فقط، ونشرتها في ديوان صدر عن هيئة الكتاب عام 2008 بعنوان «يوميات قائد الأوركسترا». 
بعد هذه التجربة الشاقة بدأت أكتب نصوصًا مكثفة، كل نص حالة في صفحة أو صفحتين تقريبًا، وأذيل كلًا منها بالتاريخ الذي كتبت فيه، وبالمكان إذا كان خارج مصر. أما فكرة «الشعر الأجمل»، فأتصور أن «قصيدة النثر» تعد خطوة للأمام في تاريخ تطور الشعر العربي، لأنها تقدم مفهومًا مغايرًا لبناء القصيدة وجمالياتها، كما كانت الرومانسية مثلًا خطوة، والواقعية والحداثة، التشبيه، فالاستعارة بأنواعها فالمجاز... إلخ، فإن كتب شاعر اليوم شعرًا باستخدام تشبيهات مباشرة ستجد من يقول له إنه بدائي، وإن عليه أن يستفيد من التطور الحادث، وهكذا قصيدة النثر، قد لا يعي الشعراء والنقاد ما حدث فيها الآن، لأنها لا تزال تتشكل، لكنهم سيعون مستقبلًا. مرة كنت ضيفًا في إحدى الندوات، وسألني شاعر شاب عن «التجاور»، فسألته: لماذا لا يحدث التجاور في القصة القصيرة بين ما كان يكتبه محمود البدوي مثلًا، ثم يوسف إدريس، مع ما يكتبه الشباب منذ نهاية التسعينيات حتى الآن؟!
كثيرون أساءوا لـ «قصيدة النثر» بكتابات خفيفة استغلت الانتشار الكاذب الذي تحققه الـ«سوشيال ميديا»، حيث يقاس «نجاح» القصيدة بعدد الإعجابات والتعليقات التي تحصل عليها، وهناك من يفتعل هذه الأشياء لامتلاكه الوقت والمعرفة بتلك الوسائط، كما أن سيئي النية من الشعراء القدامى والنقاد استخدموا خفة هذه النصوص معيارًا للحكم على «قصيدة النثر» عمومًا، ربما لأنهم لم يستوعبوا بعد جمالياتها، أو لأنهم لا يدركون أن الشعر السطحي هو الغالب في كل الأزمان وبكل الأنواع، وأن قليلين هم المتميزون، كما أنه ليس صحيحًا أن الشعر الجيد هو الذي يبقى، فقانون السوق يقول إن العملة الرديئة هي التي تطرد العملة الجيدة من التداول.

جيلي أكثر حضورًا
  أنت من جيل الثمانينيات المصري، كيف تنظر إلى شعراء هذا الجيل، ومن منهم تحب أن تقرأ له؟
- أعتقد أن جيلي هو الأكثر حضورًا على الساحة الشعرية في الوطن العربي عمومًا، وليس في مصر وحدها، وهو الجيل الوحيد الذي تستطيع أن تذكر عشرة شعراء جيدين منه على الأقل، وهو رقم كبير إذا قيس بالأجيال السابقة واللاحقة، كما أنه هو الذي أحدث النقلة النوعية من الشعر القديم إلى «قصيدة النثر»، ليس باعتبارها قصيدة تفعيلة غير موزونة كما تتجلى عند كثيرين من السبعينيين مثلًا، لكن باعتبارها لونًا شعريًّا جديدًا له جمالياته الخاصة التي ذكرتها لك.
 كما أنه «جيل الحلول الفردية» كما كتب إبراهيم داود في بداياتنا، فلم يتحزب في جماعات ولم يصرخ في وسائل الإعلام ولم يسبّ السابقين واللاحقين، بل اهتم ببناء مشروع شعري متنوع، من البساطة العميقة التي يكتب بها عاطف عبدالعزيز وإيمان مرسال مثلًا، إلى الصور المركبّة والعمق الذي يكتب به محمود قرني وفتحي عبدالله... إلخ. في المجمل أنا أحب تجارب إبراهيم داود وإيمان مرسال وعاطف عبدالعزيز وعلي منصور، كما أحب شعر عماد أبو صالح من اللاحقين، هذا لا ينفي أن أشياء كثيرة تعجبني عند شعراء آخرين، وأشياء ربما لا تعجبني في شعر مَن ذكرتهم، لكنني أتحدث عن عموميات.

دراسة معتبرة
  الحركة النقدية في الوطن العربي، أين هي الآن؟
- النقاد الموهوبون قليلون، مثل الشعراء والروائيين وكتّاب القصة والمسرح ومخرجي السينما والتلفزيون، كثيرون يكتبون «نقدًا» ليس سوى شرح للعمل الأدبي وإعادة حكايته بشكل مسطح رديء، وقليلون هم الذين يفهمون أن سؤال النقد الأساسي هو ماذا وكيف، ماذا أراد الكاتب أن يقول، وكيف قال، وهل الطريقة التي قال بها هي المناسبة لرسالته.
أول دراسة معتبرة كتبت عن شعري كتبها الناقد والمترجم السوري الكبير د. منذر عياشي في جريدة الرياض السعودية عام 1992، كان يتناول قصيدة لي اسمها «العرّافة والعطور السحرية»، على اسم موسيقى باليه لعمر خيرت، كانت نشرت قبل أسبوع واحد في المكان ذاته. 
اشتريت الجريدة ومكثت أسبوعًا أعيد قراءة المقال، وأعيد قراءة بعض الفقرات أكثر من مرة لأفهم ماذا يريد أن يقول، فالدكتور منذر أحد البنيويين العرب، وهؤلاء يجتهدون لتحويل النص إلى شبكة من العلاقات اللغوية، كأنه نسيج العنكبوت، كل كلمة فيه ترتبط مع الأخريات برباط ما قد لا يكون ملحوظًا، وبالفعل أعدت اكتشاف قصيدتي بهذا المقال، واستفدت منه كثيرًا... وعلى النقيض كتب الشاعر حلمي سالم دراسة طويلة عن ديواني «موسيقى لعينيها» صدرت مع الديوان نفسه عن هيئة الكتاب عام 1993، وضع خلالها يدي على بعض المشكلات في شعري مبكرًا، بشكل تقني، فاستفدت كثيرًا وتجنبت تلك المزالق. بشكل عام؛ إننا نعاني أزمة نقد، عرفت ذلك أكثر حين ترأست تحرير مجلة الثقافة الجديدة، فالأكاديميون لا يكتبون، والمبدعون يكتبون عن بعضهم قراءات انطباعية لا يرقى معظمها إلى النقد، والقليلون من النقاد الذين يكتبون يربكون أنفسهم بأسئلة هامشية أو شكلانية دون الغوص داخل النص وتقنياته.

قصائدي إنسانية
  تُرجمت لك مجموعة من الدواوين الشعرية إلى لغات عديدة، ما المعايير التي يجب توافرها في العمل كي يترجم، وإلى أي مدى ترى أن النص يفقد رونقه عندما ينقل إلى لغة أخرى؟
- مترجمتي إلى الإنجليزية هي اللبنانية سوسن الفقيه، قالت لي عند بدء تعاملها مع دواويني إن قصائدي إنسانية، ومن السهل التعاطي معها في كل مكان وزمان، وأنا أصدقها، لأن هذه هي فكرتي عن الشعر كما ذكرتها لك، أن تكون صادقًا أكثر، وأن تتوغل داخل ذاتك لتفهمها وتستخرج المسكوت عنه والمختبئ خلف طبقات من الموروث، الذي يقول لنا إن التعبير عن العواطف والرغبات حرام، وإن تصوير حالات الضعف ليس في مصلحة رجولتك، التي تستلزم أن تبقى قويًّا متماسكًا، وجبارًا إن لزم الأمر، وهذا - في تقديري - هو الذي جعل العرب يكتبون الشعر لأكثر من ألف وخمسمئة عام، من دون أن يساعدنا في معرفة أنفسنا، أو أن نستشف منه عاداتهم وخصالهم في زمن ما، فقد كانوا يكذبون ويضخمون الأمور كما ذكرت، وكانوا «برانيين» في الغالب، يتعاملون مع الشعر باعتباره حرفة، فمن يعرف نظم الموسيقى واللغة يستطيع أن يكتب شعرًا منمقًا، لكنه لا يستطيع أن يكون نفسه مع الأسف.
يا سيدي، ترجمة الشعر صعبة إذا قيست بترجمة القصة والرواية، لأن كل مفردة لغوية في القصيدة تكون مثقلة بحمولات معرفية حصَّلتها من تاريخ الشعر ومن القرآن الكريم والتراث بشكل عام، ومن التعامل اليومي. لذلك لم يمر يوم إلا وأرسلت لي المترجمة تسألني ماذا قصدت بهذه وبتلك، وكنت - ولا أزال - أجد مشقة في التوضيح، لأن هذه الأشياء تكون عصية على الشرح أحيانًا، لكنني أجتهد قدر استطاعتي، وهي تدرك ما أريد بحكم ثقافتها الواسعة ■