عندما بكى المتنبي تأمّلات في حياته وشِعره

عندما بكى المتنبي  تأمّلات في حياته وشِعره

البحث في التراث العربي وإعادة قراءته من جديد مهمة ضرورية بالنسبة لعملية التجديد الفكري والأدبي والفني، ذلك أنها تمنح فرصة لرؤية ذواتنا في مرآة جديدة هي مرآة الزمن.
فالزمن يغيّر الرؤية ويجعلها تعيد حساباتها وفق ما جد من أمور في العالم الكوني الحالي. كما أنها، وهي تقرأ هذا التراث، تقرأه بنقد مزدوج، وفق تعبير المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي. إنها تقرأه بالضرورة في زمنه أولًا، ثم تعيد قراءته مرة أخرى في صيرورته الزمنية. من هنا كانت عودتنا لتأمل عالم شاعر عربي كبير هو الشاعر أبو الطيب المتنبي. لقد قرأناه تبعًا لهذه الرؤية النقدية المضاعفة، وحرصنا على أن نكون قريبين جدًا من عالمه الشعري الثري.

 

للألفة طعم العسل، لكن هذا العسل قد يتحول إلى لحظة بكاء ساعة الفراق، إذا ما كانت هذه الألفة مبنية على المحبة. وهو ما وقع للمتنبي نفسه. فبملء كل كبريائه خانه دمعه، لأن قلبه كان صادقًا في المحبة، ولأنه قد خُلق ألوفًا. هنا تتحول الألفة إلى إحساس عميق بالصدق تجاه أناس بعينهم، تجاه فضاء بعينه، وتجاه زمان ينمحي بسرعة لا توصف. 
هنا يتحول البكاء إلى تعبير ينوب عن الكلمات. الكلمات تصمت في لحظة الألفة ولحظة الفراق. لقد خُلق المتنبي، كما يعلن هو في شعره، أَلوفًا إلى حدود أنه لو كتبت له العودة إلى زمن الصبا، لما فرح بهذه العودة، لأنه قد ألف حالة الشيب، وارتاح لها. هكذا هي الألفة تعتمد على العاطفة وعلى الصدق في العاطفة، وهي تنمّ عن خلق إنساني رفيع، وعن الإخلاص في الصداقة وعن كبرياء جميلة. هو كبرياء الإنسانية الراقية. 
ومثل المتنبي بكى نيتشه أيضًا. وكان في بكائه مرارة. بكى وعانق حصانًا طريح الشارع. كان في بكاء نيتشه حزن دفين، وكان في بكاء المتنبي كبرياء عميقة. نيتشه خانته دموعه أمام هشاشة الحصان المتعب بأثقاله، والمتنبي اعتبر أن هذه الدموع هي وليدة الألفة، فلولا هذه الألفة التي هي طبع متأصل فيه، لما بكى. الرجال يبكون أحيانًا، هم طبعًا لا يبكون أمام مواجهة الصعاب، وإنما يبكون أمام الكلمات الملأى بالمحبة، أمام المواقف الإنسانية المدثرة بالمعاني.

 ثمن الألفة
يمرّ الزمن سريعًا. كل الأشياء تنسى، لكن المحبة المغروسة في القلب لا تمحى. من هنا لا أحب لحظات الوداع، هي بالنسبة لي لحظات إعلان المحبة التي كنت أخفيها. إعلانها بكل صدق. وبما أني شبيه بالمتنبي في كونه قد خُلق ألوفًا، فقد يباغتني البكاء مثله تمامًا كذلك. وقد وقع لي هذا مرارًا وتكرارًا، إلى حدود أنني قد أصبحت أعتذر عن عدم حضور مثل هذه اللحظات التي يكون فيها اللقاء وداعًا. ولكن إصرار الأحبة عليّ لحضورها يكون سببًا لي لفعل ذلك، ولا أندم. فإعلان المحبة واجب رائع حتى ولو كان في لحظة وداع. 
الوداع هنا هو شكل من أشكال اللقاء، هو امتداد في لحظات إبداعية عميقة، تشكل الصداقة جسر محبة دائمًا لها. 
كان المتنبي في بيته الشعري المشار إليه صادقًا، وفي صدقه كان تميزه. وهو في ألفته الباذخة كانت الغربة صديقته، وكانت ألفته غرابة وكانت غرابته أدبًا رفيعًا. 
وحين افترض المتنبي رحيله مجددًا إلى عوالم الصبا كنى عن القوة وخلو البال بالصبا، وفضل بدلًا عنهما التعب والمشقة، لأنه رجل أَلوف. للألفة ثمن، وثمنها القدرة على التجدد، فاغترب تتجدد، على حد تعبير الشاعر الكبير الآخر أبي تمام.

المتنبي والقلق
يبدو المتنبي قلقًا في حياته وفي شعره. وقلقه مضاعف بطبيعته. قلق وجودي مفكر فيه، وقلق إنساني يومي ناتج عن حسد الحساد وكثرتهم. وهو في قلقه المضاعف يعيش وكأن هناك ريحًا قوية تهب به ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة أخرى. وهذا غالبًا ما يكون شأن كل مبدع مجدد في مجال اشتغاله ومختلف بتفكيره هذا عن الآخرين. إنه لا يكون مقبولًا بينهم، وحتى إن قُبل، فإن ذلك يتم على مضض.
ولكن من حُسن حظ هذا المبدع أيضًا، أنه قد يجد له أنصارًا في المقابل يقفون بجانبه ويساعدونه. وهم في معظمهم يكونون كبار النفوس وواثقين بذواتهم. هكذا وجد المتنبي من وقف بجانبه إعجابًا، كما هي حال ابن جني، العالم النحوي الكبير، على سبيل التمثيل لا الحصر.
إن قلق المتنبي هذا نابع، بكل تأكيد، من رغبته في التميز، فهو عكس ما ادّعاه في شعره لم يكن ينام ملء جفونه، بل كان يسهر الليالي قارئًا ومنقبًا في كتب الأولين فلسفة وفكرًا، شعرًا ونثرًا، في حين كان الآخرون ينامون ملء جفونهم منتظرين جديد أشعاره كي يشبعونها قراءة وتفكيكًا، نقدًا وتأويلًا.
إن المتنبي وهو يعيش قلقه، كان يعيشه بكل إحساسه الشعري إلى درجة مدحه في شعره والتغني بفضله عليه، رغم معاناته الشديدة معه. إنه، وفق رأيه فيه، كان قلقًا إبداعيًا ومحفزًا على الإبداع. من هنا فقد ظل كل واحد منهما وفيًا للآخر، وظلت صحبتهما صحبة مثمرة.
ومن هنا، فقد ارتبط قلق المتنبي بكتابة شعره، فقلما نجد في تاريخ الأدب العربي من احتفى بشعره داخل شعره كما فعل المتنبي. لقد عاش شاعرًا في حياته وشاعرًا في ثنايا شعره، وكان فيهما معًا نورًا مشعًا ومحققًا لنبوءة الشاعر الرائي.

مالئ الدنيا وشاغل الناس
إن هذا القلق الوجودي والإبداعي هو ما دفع المتنبي إلى تحقيق التفوق الشعري، وهو ما جعله محط الاهتمام الكبير، إلى حدود أنه قد ملأ الدنيا وشغل الناس في عصره وما بعد عصره، وهو ما دفع الكثير من الشعراء للسير على نهجه قديمًا وحديثًا، بدءًا من منافسيه أنفسهم وفي مقدمتهم أبو فراس الحمداني ذاته، ومرورًا بكل من المعري وابن هانئ بعد ذلك، وبكل من أحمد شوقي والجواهري في العصر الحديث، وليس انتهاء بكل من نزار قباني أو أدونيس أو البياتي أو سميح القاسم أو محمود درويش، أو سواهم في العصر الحالي.
بالنسبة لي كان شغفي بالمتنبي كبيرًا منذ يفاعتي، وقد لقّبني أصدقاء الدراسة آنذاك كما جرت العادة باللقب الذي اشتهر هو به وأصبح دالًا عليه، وذلك تشبيهًا لي به، وتشجيعًا لي على مواصلة السير في ذات الطريق الشعري العالي الذي حلّق فيه بعيدًا، قبل أن تجري مياه عديدة تحت جسر مساري الثقافي شعرًا ونثرًا. من هنا كثيرًا ما تأتيني مشاريع أدبية متعددة عنه، قد أحقق البعض منها إن حضرت الرغبة، وإن سمح لي وقتي بذلك، وقد تظل مجرد أمنيات حبيسة الوجدان، ومثلها كثير.
هكذا يعيش المتنبي داخل وجدان الشعراء العرب كما يليق بشاعر عظيم مثله، وهو في مقابل كل هذه العظمة الشعرية يظل في حاجة إلى مترجم كبير أو مترجمين كبار ينقلون شعره إلى لغات العالم أجمع كي يحتل المكانة الشعرية اللائقة به على المستوى العالمي.

المتنبي والكتابة
كان المتنبي منذ صغره مهووسًا بفعل الكتابة. كان يحب كتاباته إلى أقصى درجة، ومن هنا فقد كان قاسيًا في حبه لها على نفسه. كان يسهر الليالي في قراءة الشعر والفلسفة والتاريخ، بحيث نجد آثار قراءاته المتعددة والمختلفة واضحة في كل ما كان يكتبه وما كان يقوله أيضًا. ومما كان يُروى عنه أنه كان قارئًا جيدًا للشعر بوجه عام ولشعر كل من أبي تمام والبحتري بوجه خاص، وقد كان شعره نتيجة ذلك يجمع بين أحسن ما فيهما من صياغة ونسيج، وما يعتمل في كيانهما من أفكار وصور. 
كان المتنبي يمتدح شعره داخل شعره، وينوّه بقيمة ما يكتبه من أشعار، فقد كان يعتبر شعره جزءًا لا ينفصل عن ذاته، وكان بذلك جديرًا بلقب الشاعر وحده دون سواه، على حد ما ذهب إليه أبو العلاء المعري نفسه. فهذا الهوس بالشعر لم يسبقه إليه شاعر آخر في اللغة العربية. لقد حوّل كتابة الشعر إلى غاية في حد ذاتها، بالرغم من كونه تحت الظروف الحياتية التي كان يعيش في ظلها، كان وسيلته الوحيدة للحياة وللمجد الأدبي بعد ذلك. 
كان يعتبر أن ما يكتبه من شعر جديراً بالخلود، بحيث إن الدهر نفسه قد أصبح حافظًا لهذا الشعر ومنشدًا له، وقد اعتبر نفسه الطائر المحكي، واعتبر أن ما كان يكتبه الشعراء في عصره إنما هو مجرد أصداء - مهما كانت قوية ومجلجلة - لهذا الشعر ليس إلّا.
ولقد وصل به الافتتان بشعره إلى اعتباره أن هذا الشعر هو شعر مرئي حتى للذين لا يملكون القدرة على الإبصار، وأنه شعر حين ينشد يسمعه حتى الذين ليست لهم القدرة على السمع. ذلك أن هذا الشعر هو شعر غير عادي. هو شعر تمتلك كلماته فعل السحر في الذين يتلقونها بمحبة، وهو ماء مر المذاق بالنسبة لبعض القراء الذين لا يفقهون في تذوق الجمال، وفي المقابل، هو ماء زلال للعارفين بالشعر والمدركين لأسراره البعيدة.
إن الكتابة عند المتنبي هي مسألة غاية في الجدية، إنه يؤمن بما يقوله في شعره من أفكار إلى حدود أن هذا الأمر كان سببًا في موته، فقد دفع حياته ثمنًا من أجل أن يحافظ على ما جاء في شعره من كون أن الخيل والليل والبيداء تعرفه، كما السيف والأوراق والقلم، في بيته الشهير الذي تحوّل إلى توقيع شخصي خاص به.
يموت المتنبي الإنسان، ويظل المتنبي الشاعر حاضرًا في الذاكرة الشعرية العربية كأكبر شاعر عربي من دون منازع.

المتنبي والنساء
منذ البدء، كان المتنبي يكن احترامًا كبيرًا للنساء. وهو احترام جدير بشاعر فذ أن يصل إليه. هكذا فقد جعل الشمس التي تأخذ صفة الأنوثة في اللغة العربية أفضل من القمر الذي يأخذ في هذه اللغة نفسها صفة الذكورة. إن الشمس هي التي تمنح الضوء، وهي التي تجعل منه كائنًا مضيئًا، ولولاها لما عرفه البشر.
إنه يعلنها قوية هنا في شعره. إن التأنيث باسم الشمس ليس عيبًا، كما أن التذكير باسم الهلال ليس فخرًا له. لقد كان المتنبي في هذا البيت الشعري على الأقل، مدافعًا عن سمو النساء وعن قدرتهن على احتلال المراكز العليا بحُسن التدبير ورجاحة العقل، وهنّ في ذلك مثلهن مثل الرجل، وليس هناك مجال لإقحام مبدأ الذكورة والأنوثة في الموضوع. في نفس المنحى الشعري والرؤيوي الفاتن للمتنبي، نجده يتحدث عن جدته بكل فخر واعتزاز، جاعلًا منها منارة إنسانية جديرة بكل تقدير واحترام. 
وهو في رثائه لها يجعل منها صورة للأم الكبرى في كل رمزيتها الجميلة المتعالية. الأم تتجاوز هنا الصورة التي يسعى المجتمع التقليدي إلى أن يضعها فيها. إنها تتحول في نظر المتنبي إلى رمز للشموخ والسؤدد، فهي التي تنشئ الأجيال الجديدة وتجعل منها بتربيتها العالمة لها قادرة على التأثير في الحياة بإيجابية فريدة.

هو وجدته
يصف المتنبي جدته بالحزم، وهي صفة دالة وقوية الرمزية في التاريخ والتراث، لأنها صفة تحيل إلى القدرة على التسيير والقيادة، وهو يمنحها عن حق لهذه المرأة التي استطاعت أن تقود سفينة بيتها بكل نجاح وتميز. إن المتنبي هنا يمنحنا صورة قيادية للمرأة، وهي رؤية صادقة وثاقبة منه، فهو كان يصف ما يقع في الواقع كما هو، وليس كما يراد له أن يكون.
الأمر نفسه قام به وهو يرثي خولة أخت سيف الدولة. لقد ركز على صفاتها الإنسانية، حيث ذكر أنها تتمتع برجاحة العقل والسمو والنُّبل، وبأنها كانت تحتفي بالمبدعين القاصدين رحابهم، وبأنها كنت تحب المجد والأدب. كما ركز على مستواها الاجتماعي والثقافي وتأثير ذلك في نوعية أخلاقها العالية، مثلها مثل أخيها سيف الدولة. 
ومن هنا يبدو لنا أن المتنبي كان شاعرًا رائيًا بامتياز، حكيمًا في رؤيته لما يحيط به، ومقدّرًا لدور المرأة الحازمة والمثقفة في تسيير الأمور، والوصول بها إلى مستوى رفيع.
هكذا يبدو لي أن القراءة المنفتحة للتراث العربي، عليها أن تركز على المحطات المضيئة فيه، وأن تربطها بالأفق الحداثي في عملية تطوره وامتداده التاريخي المستمر.

على سيبل الختام
هكذا منحنا المتنبي عالمًا شعريًا قويًا ومليئًا بالرؤية الإنسانية التي ظلت مصاحبة لشعره، واستطاعت أن تجعل من هذا الشعر علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي برمته، بل وجعلت مستشرقًا فرنسيًا كبيرًا هو ريجيس بلاشير يُفتن به ويهيئ كتابًا كبيرًا عنه. إن المتنبي قد استطاع أن يظل طوال حياته وبعد مماته مالئ الدنيا وشاغل الناس في عالم الآداب والفنون. وما استحضارنا له هنا إلا دليلًا واضحًا على أهميته وامتداد شعره في مكونات الثقافة العربية بشكل دائم ومستمر ومثمر ■