الشاعر العراقي عيسى الياسري: مدن الغرب بكل جماليّاتها لم تستطع أن تنضوَ عنّي عباءة صوف غنمي

الشاعر العراقي عيسى الياسري: مدن الغرب بكل جماليّاتها لم تستطع أن تنضوَ عنّي عباءة صوف غنمي

شكلت‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬الستيني،‭ ‬عيسى‭ ‬حسن‭ ‬الياسري،‭ ‬أهميتها‭ ‬لدى‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد،‭ ‬لما‭ ‬تمتلكه‭ ‬من‭ ‬توظيف‭ ‬للبيئة‭ ‬العراقية‭ ‬عبر‭ ‬أهوار‭ ‬وقصب‭ ‬الجنوب،‭ ‬وأكواخ‭ ‬القرية،‭ ‬وعوالمها‭ ‬السحرية‭.‬

ولا‭ ‬تزال‭ ‬تلك‭ ‬الأجواء‭ ‬تهيمن‭ ‬عليه،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استقر‭ ‬به‭ ‬المطاف‭ ‬في‭ ‬كندا،‭ ‬رافضًا‭ ‬وجود‭ ‬المحتل‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الرافدين،‭ ‬وحاملا‭ ‬ثقل‭ ‬المدن‭ ‬العراقية‭ ‬والقرى‭ ‬الريفية‭ ‬في‭ ‬وجدانه‭ ‬أينما‭ ‬حلّ‭. ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬يتطرق‭ ‬لمعالم‭ ‬نصوصه‭ ‬الشعرية‭ ‬وسر‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالقرية،‭ ‬ولماذا‭ ‬عُدّت‭ ‬تجربته‭ ‬كأنها‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الشعراء‭ ‬العالميين‭ ‬الذين‭ ‬أخذوا‭ ‬على‭ ‬عاتقهم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بطبيعة‭ ‬الريف‭. ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬المغترب‭ ‬صوت‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نسيانه‭ ‬أو‭ ‬تجاهله،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اطّلعنا‭ ‬على‭ ‬منجزه‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬علامة‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬إحياء‭ ‬الجنوب‭ ‬العراقي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬ترجمت‭ ‬أعماله‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬وأستراليا‭ ‬ودول‭ ‬الغرب‭ ‬لتعرف‭ ‬بإنسانية‭ ‬نصوصه‭ ‬وثقلها‭ ‬المعرفي‭ ‬والوجودي‭. ‬

‭- ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬بداية‭ ‬معك‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬اهتمامك‭ ‬بأجواء‭ ‬الجنوب؟

‭- ‬ما‭ ‬تسأل‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬اهتمامًا‭ ‬بالجنوب،‭ ‬أن‭ ‬تهتم‭ ‬بشيء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تسميّه‭ ‬هواية‭ ‬اعتدت‭ ‬عليها‭. ‬مثلًا‭ ‬أن‭ ‬يثير‭ ‬إعجابك‭ ‬مكان‭ ‬ما،‭ ‬لذا‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬زيارته‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬أن‭ ‬تستهويك‭ ‬زراعة‭ ‬قطعة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬بالخضار‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬أن‭ ‬ترتبط‭ ‬بصداقة‭ ‬مع‭ ‬كتاب‭ ‬معيّن‭ ‬تعود‭ ‬لقراءته‭ ‬كلما‭ ‬مر‭ ‬ّ‭ ‬وقت‭ ‬على‭ ‬قراءته‭ ‬الأولى‭.‬

العلاقة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الجنوب‭ ‬تتخذ‭ ‬منحى‭ ‬مختلفًا‭ ‬تمامًا،‭ ‬ففي‭ ‬طفولتي‭ ‬الأولى‭ ‬كان‭ ‬يمثّل‭ ‬لي‭ ‬عالمًا‭ ‬من‭ ‬السحر‭ ‬والدهشة،‭ ‬حيث‭ ‬أجدني‭ ‬أتّحد‭ ‬مع‭ ‬جميع‭ ‬مكوناته‭ ‬الجغرافية؛‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الحقول‭ ‬والمراعي‭ ‬ونهر‭ ‬القرية‭ ‬الكبير‭ ‬وأشجار‭ ‬الغرب‭ ‬والصفصاف‭ ‬التي‭ ‬تحتضن‭ ‬ضفتيه،‭ ‬فوق‭ ‬أشرعة‭ ‬الزوارق‭ ‬وهي‭ ‬عائدة‭ ‬بحمولتها‭ ‬من‭ ‬السمك‭. ‬قوافل‭ ‬الجمال‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬البعيدة،‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬ظهورها‭ ‬غلّة‭ ‬القمح‭ ‬والشعير،‭ ‬مواسم‭ ‬الحراثة‭ ‬أو‭ ‬الحصاد،‭ ‬وما‭ ‬يرافقها‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬تقرّب‭ ‬من‭ ‬العبادات‭ ‬البدائية‭.‬

أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬مواسم‭ ‬الأمطار‭ ‬والفيضانات‭. ‬وموسيقى‭ ‬حفيف‭ ‬الأشجار‭ ‬وثغاء‭ ‬الماشية‭. ‬إنها‭ ‬تفاصيل‭ ‬قد‭ ‬تطول‭ ‬كثيرًا‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬ّ‭ ‬هذه‭ ‬الأهمية‭ ‬التي‭ ‬أتحدث‭ ‬عنها‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬الابتهاج‭ ‬الاحتفالي‭ ‬عند‭ ‬كثيرين‭ ‬ممن‭ ‬شاركوني‭ ‬طفولتي‭ ‬فوق‭ ‬أرض‭ ‬الجنوب،‭ ‬لكنها‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ‭ ‬كانت‭ ‬تعني‭ ‬شيئًا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬في‭ ‬مرحلتي‭ ‬الطفولية‭ ‬تلك‭ ‬أن‭ ‬أفكك‭ ‬سريّاته،‭ ‬التي‭ ‬تجعلني‭ ‬أتخلى‭ ‬عن‭ ‬يقظتي‭ ‬لأندسّ‭ ‬في‭ ‬اغطية‭ ‬هذا‭ ‬المكوّن‭ ‬اللامنكشف‭ ‬لمداركي‭ ‬الغضة،‭ ‬وأظل‭ ‬أحلم‭.‬

لقد‭ ‬شكّل‭ ‬الجنوب،‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬لينة‭ ‬من‭ ‬خطواتي‭ ‬لامست‭ ‬نعومة‭ ‬ترابه،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬وخزات‭ ‬أشواكه‭ ‬وعاقوله،‭ ‬تناغمًا‭ ‬فردوسيًّا‭ ‬يتخطى‭ ‬حضوري‭ ‬الفعلي،‭ ‬ليقودني‭ ‬نحو‭ ‬الغياب‭ ‬الجميل،‭ ‬وكما‭ ‬أنك‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬لغة‭ ‬توصلك‭ ‬لمخاطبة‭ ‬طفل‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تتعثر‭ ‬على‭ ‬شفتيه‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬دادا‮»‬،‭ ‬وجدتني‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تمكنني‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أعبّر‭ ‬عما‭ ‬يتركه‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬الباهر‭ ‬الذي‭ ‬يحاصرني‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭. ‬لغة‭ ‬بأبجدية‭ ‬طفولية‭ ‬تتجه‭ ‬لمخاطبة‭ ‬طفولة‭ ‬الجنوب،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنني‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭. ‬

‭- ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬المفقود‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الجنوب‭ ‬الذي‭ ‬عثرت‭ ‬عليه؟‭ ‬

‭- ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬أكثر‭ ‬شبهًا‭ ‬بحلم‭ ‬رومانسي‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أصنع‭ ‬منه‭ ‬لعبة‭. ‬أو‭ ‬طائرة‭ ‬ورقيّة‭. ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬حسّي‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬ألمسه،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬السماء‭ ‬قريبة‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نغمر‭ ‬أيدينا‭ ‬في‭ ‬زرقتها‭ ‬العميقة،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬الهواء‭ ‬نفسه،‭ ‬كنا‭ ‬نعتقد‭ ‬أننا‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬نجعله‭ ‬يصحبنا‭ ‬تجوالنا‭ ‬وليس‭ ‬وجوده‭ ‬الذي‭ ‬يملأ‭ ‬الفراغ‭.‬

كنا‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬يشغل‭ ‬كل‭ ‬فراغات‭ ‬المكان‭ ‬بحدسنا‭ ‬الطفولي‭. ‬وكبرت‭ ‬وكبر‭ ‬الجنوب‭ ‬وتحوّل‭ ‬من‭ ‬مكوَّن‭ ‬جغرافي‭ ‬جمالي‭ ‬معمّد‭ ‬بطفولتنا‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬معادل‭ ‬تعويضي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الإحباطات‭ ‬والخذلان‭ ‬وارتداد‭ ‬الأحلام‭ ‬إلى‭ ‬مخابئها،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكتشف‭ ‬وتقاد‭ ‬إلى‭ ‬الوأد‭. ‬تحوّل‭ ‬الجنوب‭ ‬فردوسًا‭ ‬مفقودًا‭ ‬وحرية‭ ‬مستلبة‭ ‬عذرية‭ ‬الحياة‭ ‬المنتهكة‭.‬

وأمام‭ ‬تلوث‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬وانهيار‭ ‬أعمدة‭ ‬حكمته‭ ‬ووقوفه‭ ‬عند‭ ‬حافات‭ ‬خرابه‭ ‬المروّع،‭ ‬ينهض‭ ‬الجنوب‭ ‬كأزمنة‭ ‬فردوسية‭ ‬تتجه‭ ‬نحوها‭ ‬أكثر‭ ‬الأحلام‭ ‬المحبطة،‭ ‬لتستعيده‭ ‬لا‭ ‬كحياة‭ ‬بديلة،‭ ‬وإنما‭ ‬كذكرى‭ ‬تحمل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواساة‭ ‬لأرواحنا‭ ‬المنكسرة‭. ‬

‭- ‬هل‭ ‬أفهم‭ ‬من‭ ‬كلامك‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬وطرازها‭ ‬البنائي‭ ‬أفسدا‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬جوّه‭ ‬الحسي،‭ ‬وعطّلا‭ ‬فيه‭ ‬التمسّك‭ ‬بخيار‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الطبيعة؟‭ ‬

‭- ‬المدينة‭ ‬ليست‭ ‬بهذا‭ ‬السوء‭ ‬حتى‭ ‬نهرب‭ ‬منها‭ ‬نحو‭ ‬صدر‭ ‬القرية‭ ‬المنفتح‭ ‬على‭ ‬الضوء‭ ‬والهواء‭. ‬فلو‭ ‬تصفحت‭ ‬قصائدي‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬كتبتها‭ ‬وأنا‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬قريتي‭ ‬لوجدتها‭ ‬تخلو‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ندر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬توظيف‭ ‬لعوالم‭ ‬القرية‭ ‬داخل‭ ‬نصي‭ ‬الشعري‭. ‬فما‭ ‬دمت‭ ‬أمتلك‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬فيها،‭ ‬سماءها،‭ ‬حقولها‭ ‬التي‭ ‬تحتشد‭ ‬بسنابل‭ ‬القمح‭ ‬والشعير،‭ ‬وعندما‭ ‬تهب‭ ‬الريح‭ ‬تتشكل‭ ‬لها‭ ‬أمواج‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬أمواج‭ ‬بحيرات‭ ‬الماء،‭ ‬مراعيها‭ ‬الخضر،‭ ‬موسيقى‭ ‬مزامير‭ ‬رعاتها،‭ ‬أغاني‭ ‬جامعات‭ ‬الحطب‭ ‬التي‭ ‬يكسر‭ ‬دفئها‭ ‬برد‭ ‬الشتاء،‭ ‬نهرها‭ ‬الذي‭ ‬نحتمي‭ ‬بمياهه‭ ‬الباردة‭ ‬من‭ ‬حر‭ ‬ظهيرات‭ ‬الصيف،‭ ‬ظلال‭ ‬أشجارها‭.‬

مادمنا‭ ‬نمتلك‭ ‬كل‭ ‬ّ‭ ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬ونحياه‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬فما‭ ‬حاجتنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬عنه؟‭ ‬ما‭ ‬نفتقده‭ ‬هو‭ ‬الموضوع‭ ‬الأكثر‭ ‬حضورًا‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬أحلامنا‭ ‬المنشورة‭ ‬على‭ ‬حائط‭ ‬الغياب‭.‬

لذا؛‭ ‬عندما‭ ‬فرض‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أُفطم‭ ‬عن‭ ‬ثدي‭ ‬قريتي‭ ‬وأبدأ‭ ‬ترحالي‭ ‬عنها‭ ‬نحو‭ ‬المجهول،‭ ‬وحيث‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرفني‭ ‬ولا‭ ‬أعرفها‭ ‬وجدتني‭ ‬أعيش‭ ‬حالة‭ ‬استرجاع‭ ‬حادة،‭ ‬تحملني‭ ‬على‭ ‬زخّة‭ ‬من‭ ‬مطر‭ ‬البكاء‭ ‬تارة،‭ ‬وأخرى‭ ‬عبر‭ ‬جولة‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬كتاب‭ ‬أقرأه‭ ‬أو‭ ‬قطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬لأمسك‭ ‬بها‭ ‬وأصنع‭ ‬منها‭ ‬رغيف‭ ‬خبز‭ ‬ساخنًا،‭ ‬أو‭ ‬أغنية‭ ‬ليلية‭ ‬يحملها‭ ‬هواء‭ ‬الجنوب‭ ‬اللين‭ ‬ليضعها‭ ‬على‭ ‬وسادة‭ ‬صبية‭ ‬أدركها‭ ‬النعاس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حدقت‭ ‬طويلًا‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬ليلة‭ ‬صيف‭ ‬مقمرة‭. ‬

المدينة‭ ‬أعطتني‭ ‬رؤية‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحًا‭ ‬لقريتي،‭ ‬وجعلتني‭ ‬أنتزعها‭ ‬من‭ ‬بنيتها‭ ‬المكانية‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬غنائيتها‭ ‬وأحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬معادل‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يؤنسن‭ ‬صلابة‭ ‬قلب‭ ‬المدينة‭ ‬ووحشية‭ ‬عسعسها،‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نمتلك‭ ‬مدنًا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الصحيح‭. ‬والعيب‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬مدننا‭ ‬حتى‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬وجهًا‭ ‬مفرغًا‭ ‬من‭ ‬الألفة‭ ‬والصداقة‭. ‬العيب‭ ‬فيمن‭ ‬أقاموا‭ ‬المدينة‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬المشوّه،‭ ‬فهي‭ ‬تشمخ‭ ‬بأبنيتها‭ ‬وأحيائها‭ ‬السكنية‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬مبهرة‭. ‬

طبعًا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬صرفنا‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الأحياء‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬المركز،‭ ‬والتي‭ ‬تشبه‭ ‬مستعمرات‭ ‬للأوبئة‭. ‬للمدينة‭ ‬تأثير‭ ‬إيجابي‭ ‬جدًا‭ ‬على‭ ‬تجربتي‭. ‬فهي‭ ‬جعلتني‭ ‬أشهد‭ ‬صدامًا‭ ‬يدور‭ ‬بين‭ ‬عالمين؛‭ ‬عالم‭ ‬مؤسس‭ ‬من‭ ‬الأسمنت‭ ‬والحديد،‭ ‬وآخر‭ ‬بسيط‭ ‬بساطة‭ ‬قصبه‭ ‬وبرديه‭ ‬وحقوله‭ ‬ومراعيه‭.‬

‭- ‬هل‭ ‬شكّل‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬صدامًا‭ ‬لك؟‭ ‬

‭- ‬نعم‭ ‬هذا‭ ‬التصادم‭ ‬التكويني‭ ‬أحدث‭ ‬عندي‭ ‬في‭ ‬المواجهة‭ ‬الأولى‭ ‬عودة‭ ‬مرتدةً‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬لكن،‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت،‭ ‬منحتني‭ ‬المدينة‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬لعالَم‭ ‬قريتي‭.‬

فبدلاً‭ ‬من‭ ‬الانبهار‭ ‬الخارجي‭ ‬الرومانسي‭ ‬المباشر‭ ‬الذي‭ ‬ألقى‭ ‬بظلاله‭ ‬على‭ ‬تجربتي‭ ‬الأولى،‭ ‬جعلتني‭ ‬المدينة‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬عالمي‭ ‬الأول‭ ‬نظرة‭ ‬يتآزر‭ ‬فيها‭ ‬الغنائي‭ ‬بالترميزي،‭ ‬والمنكشف‭ ‬بالمتخفي‭. ‬وأدخلت‭ ‬على‭ ‬قاموسي‭ ‬الشعري‭ ‬مفردات‭ ‬جديدة‭ ‬أعطته‭ ‬تميّزه‭ ‬الخاص،‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬شيدوا‭ ‬مدننا‭ ‬راعوا‭ ‬فيها‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬والخدمات‭ ‬العصرية‭ ‬المتطورة،‭ ‬ومنحوها‭ ‬شيئًا‭ ‬مما‭ ‬تتمتع‭ ‬به‭ ‬القرية‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭ ‬المفتوح،‭ ‬لشكّلت‭ ‬مدننا‭ ‬مصدرًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬الإبداع‭ ‬بكل‭ ‬أجناسه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المتحضر‭.‬

يبدأ‭ ‬المهندس‭ ‬المعماري،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬توضع‭ ‬آجرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬أسس‭ ‬المدينة‭ ‬المراد‭ ‬تشييدها،‭ ‬أولًا‭ ‬بشق‭ ‬الشوارع‭ ‬وتعبيدها،‭ ‬وإنشاء‭ ‬مشاريع‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي‭ ‬للمياه‭ ‬الثقيلة،‭ ‬ومياه‭ ‬الأمطار،‭ ‬وتأسيسات‭ ‬الماء‭ ‬والكهرباء‭ ‬والهاتف،‭ ‬وبعدها‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬البناء،‭ ‬مع‭ ‬توفير‭ ‬المتنزهات‭ ‬العامة‭.‬

وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬حضورًا‭ ‬للقرية،‭ ‬ولو‭ ‬بحدود‭ ‬ضيقة‭. ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬مصدرًا‭ ‬إيحائيًّا‭ ‬وملهمًا‭ ‬للشعر‭ ‬والكتابة‭ ‬والفن،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تفتقر‭ ‬إليه‭ ‬مدننا‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مستنقعات‭ ‬آسنة‭ ‬أمام‭ ‬أول‭ ‬زخّة‭ ‬مطر‭ ‬تهطل‭ ‬عليها‭.‬

وفي‭ ‬الصيف‭ ‬تتجول‭ ‬الأتربة‭ ‬الخانقة‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬التي‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬ظل‭ ‬شجرة‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ندر،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬تظل‭ ‬بغداد‭ ‬مصدرًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬تجربتي‭ ‬وإثرائها،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تتوفّر‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قمع‭ ‬السلطة،‭ ‬والنقص‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬الخدمات‭.‬

لقد‭ ‬رفعتني‭ ‬بغداد‭ ‬فوق‭ ‬أكثر‭ ‬شواهدها‭ ‬علوًّا‭ ‬لتريني‭ ‬كم‭ ‬هي‭ ‬جميلة‭ ‬وثريّة‭ ‬منابع‭ ‬تجربتي‭ ‬الأولى‭.‬

‭- ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬وأنت‭ ‬تلهج‭ ‬بمدينتك؛‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬تؤثر‭ ‬فيك‭ ‬العمارة‭ ‬وأنهارها‭ ‬والقصب‭ ‬والطيور‭ ‬المهاجرة‭ ‬فوق‭ ‬مستنقعاتها؟

‭- ‬مدينة‭ ‬العمارة‭ ‬تشكيل‭ ‬مكمل‭ ‬لبنية‭ ‬قريتي‭ ‬المكانية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬مراحل‭ ‬طفولتها‭ ‬إدهاشًا،‭ ‬كان‭ ‬السفر‭ ‬برفقة‭ ‬والدي‭ ‬من‭ ‬قريتنا‭ ‬إلى‭ ‬العمارة‭ ‬بمنزلة‭ ‬لعبة‭ ‬جميلة‭ ‬يقدمها‭ ‬لي‭ ‬عندما‭ ‬أتخطى‭ ‬امتحان‭ ‬نصف‭ ‬السنة‭ ‬أو‭ ‬الامتحان‭ ‬النهائي‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬القرية‭ ‬بتفوّق‭ ‬على‭ ‬أقراني‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬السفر‭ ‬طقسًا‭ ‬احتفاليًّا‭ ‬أشاهد‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أشاهده‭ ‬في‭ ‬قريتي،‭ ‬وأتذوق‭ ‬من‭ ‬المأكولات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أتذوقها،‭ ‬وألتقي‭ ‬ناسًا‭ ‬مختلفين‭ ‬بمظهرهم‭ ‬وأحاديثهم‭ ‬عن‭ ‬مظهر‭ ‬وأحاديث‭ ‬الفلاحين‭ ‬الذين‭ ‬تشبعت‭ ‬بلهجتهم‭ ‬المحببة‭ ‬إلى‭ ‬القلب‭.‬

كان‭ ‬ركوب‭ ‬السيارة،‭ ‬التي‭ ‬تسميها‭ ‬جدتي‭ ‬‮«‬الموتوكار‮»‬،‭ ‬يخيفني‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬يجعلني‭ ‬أتشبث‭ ‬بوالدي‭ ‬كلما‭ ‬تهتز‭ ‬وتتمايل‭ ‬أو‭ ‬تتسلق‭ ‬قناطر‭ ‬السواقي‭ ‬الكثيرة‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الطريق‭ ‬معبّدًا،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬طوله‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬خمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬كيلومترًا،‭ ‬فإنه‭ ‬يجعل‭ ‬السيارة‭ ‬تسير‭ ‬عدة‭ ‬ساعات‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭. ‬كنت‭ ‬زرت‭ ‬‮«‬العمارة‮»‬‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬برفقة‭ ‬والدي‭ ‬ولي‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام،‭ ‬كنا‭ ‬ننزل‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬الفر‭. ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يديره‭ ‬رجل‭ ‬ضخم‭ ‬الجثة‭ ‬اسمه‭ ‬عبد‭.‬

يقع‭ ‬هذا‭ ‬الفندق‭ ‬عند‭ ‬التقاء‭ ‬شارع‭ ‬بغداد‭ ‬مع‭ ‬شارع‭ ‬دجلة،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬أفضل‭ ‬فنادق‭ ‬المدينة‭.‬

حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وعندما‭ ‬تحدث‭ ‬لديّ‭ ‬حالة‭ ‬استرجاع‭ ‬نحو‭ ‬زمن‭ ‬‮«‬العمارة‮»‬‭/ ‬الطفل،‭ ‬أتذكر‭ ‬جيدًا‭ ‬كيف‭ ‬كنا‭ ‬نستيقظ‭ ‬مبكّرين‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬العربات‭ ‬ذات‭ ‬المظلات‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬تجرها‭ ‬الخيول‭ ‬وهي‭ ‬تضرب‭ ‬بحوافرها‭ ‬أسفلت‭ ‬الشارع‭. ‬نتناول‭ ‬أشهى‭ ‬إفطار‭ ‬أحبه‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬الكاهي‭ ‬والقيمر،‭ ‬ظهرًا‭ ‬ندخل‭ ‬مطعمًا‭ ‬يسمى‭ ‬مطعم‭ ‬الرافدين،‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الكبير‭ ‬ذي‭ ‬الطراز‭ ‬النادر‭.‬

نجلس‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬التجار،‭ ‬وهناك‭ ‬يلتقي‭ ‬والدي‭ ‬أصدقاءه،‭ ‬حيث‭ ‬يقدمهم‭ ‬لي‭ ‬بأسمائهم؛‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الندواني،‭ ‬وهذا‭ ‬الشاعر‭ ‬حسين‭ ‬وهج،‭ ‬وهذا‭ ‬الكاتب‭ ‬فيصل‭ ‬عمران‭ ‬القاضي،‭ ‬وهذا‭ ‬الشاعر‭ ‬أنور‭ ‬خليل،‭ ‬وغيرهم‭.‬

وكان‭ ‬أكثر‭ ‬المواقف‭ ‬إحراجًا‭ ‬لي‭ ‬عندما‭ ‬يطلب‭ ‬مني‭ ‬والدي‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬بعض‭ ‬أبيات‭ ‬الشعر‭ ‬التي‭ ‬أحفظها‭. ‬لقد‭ ‬علّمني‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سنتي‭ ‬الرابعة،‭ ‬وحبّب‭ ‬لي‭ ‬حفظ‭ ‬الشعر‭. ‬عصرًا‭ ‬كان‭ ‬يصحبني‭ ‬لزيارة‭ ‬الأستاذ‭ ‬خليل‭ ‬رشيد،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬القصة‭ ‬المهمين‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الدرس‭ ‬التحليلي‭ ‬من‭ ‬النقاد،‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬حلّاقًا‭.‬

وفي‭ ‬الليل‭ ‬يأخذني‭ ‬والدي‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الشاعر‭ ‬عباس‭ ‬شبر،‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬منتدى‭ ‬أدبيًا‭ ‬يجتمع‭ ‬فيه‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬ذكرتهم‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثيرون‭. ‬كما‭ ‬يأخذني‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬عبالرحيم‭ ‬الرحماني،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أصدقائه،‭ ‬ليشتري‭ ‬منه‭ ‬صحفًا‭ ‬ومجلات،‭ ‬مثل‭ ‬مجلات‭ ‬الرسالة‭ ‬والمصور‭ ‬وآخر‭ ‬ساعة‭ ‬والهلال‭ ‬وكتابي،‭ ‬وكتبًاً‭ ‬يضيفها‭ ‬إلى‭ ‬مكتبته‭ ‬الثرية‭ ‬بالكتب‭ ‬التراثية‭ ‬وبعض‭ ‬المخطوطات‭ ‬النادرة‭. ‬

‭-‬ما‭ ‬مصير‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬التي‭ ‬احتفظ‭ ‬بها‭ ‬بيتكم‭ ‬القروي؟‭ ‬

‭- ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬هذه‭ ‬المكتبة‭ ‬الثمينة‭ ‬التهمها‭ ‬الحريق‭ ‬الذي‭ ‬شبّ‭ ‬في‭ ‬قريتنا‭ ‬بنهاية‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬وكان‭ ‬حريق‭ ‬المكتبة‭ ‬صدمة‭ ‬كبيرة‭ ‬لوالدي‭.‬

مكتبة‭ ‬الرحماني‭ ‬آلت‭ ‬ملكيتها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬حيدر‭ ‬أبي‭ ‬سعد،‭ ‬وتحولت‭ ‬إلى‭ ‬ملتقى‭ ‬لأدباء‭ ‬‮«‬العمارة‮»‬،‭ ‬وحتى‭ ‬لنا‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬نسكن‭ ‬بغداد،‭ ‬فمتى‭ ‬زرنا‭ ‬المدينة‭ ‬الأم‭ ‬تكون‭ ‬مكتبة‭ ‬حيدر‭ ‬أول‭ ‬مكان‭ ‬نقصده‭ ‬لنلتقي‭ ‬فيه‭ ‬أصدقاءنا،‭ ‬ونحظى‭ ‬بكرم‭ ‬ضيافة‭ ‬صاحبها‭. ‬وعندما‭ ‬سكنت‭ ‬‮«‬العمارة‮»‬‭ ‬لأكمل‭ ‬فيها‭ ‬الدراسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬ودار‭ ‬المعلمين‭ ‬الابتدائية،‭ ‬كنت‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬زائرًا‭ ‬لا‭ ‬مقيمًا‭.‬

فعند‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬تقريبًا،‭ ‬عدا‭ ‬الأيام‭ ‬الممطرة،‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬قريتي،‭ ‬لأتناول‭ ‬طعام‭ ‬أمي،‭ ‬وأشرب‭ ‬أدعية‭ ‬وصلوات‭ ‬جدتي،‭ ‬وفي‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬النهار‭ ‬أتجول‭ ‬في‭ ‬الحقول‭ ‬وفي‭ ‬المراعي،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬صديقتي‭ ‬راعية‭ ‬الغنم،‭ ‬لأقضي‭ ‬معها‭ ‬وقتًا‭ ‬يعيدني‭ ‬إلى‭ ‬طفولتي‭ ‬الأولى‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تكون‭ ‬مدينة‭ ‬العمارة‭ ‬عنصرًا‭ ‬جماليًّا‭ ‬مؤازرًا‭ ‬لجماليات‭ ‬قريتي‭ ‬وبدائيتها‭ ‬العذراء،‭ ‬وقد‭ ‬أدخلت‭ ‬على‭ ‬قاموسي‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬في‭ ‬تكوّنه‭ ‬الأول‭ ‬وغير‭ ‬محصّن‭ ‬ضد‭ ‬التأثر‭ ‬ببعض‭ ‬علامات‭ ‬المدينة‭ ‬الدالة‭ ‬عليها‭ ‬وحدها؛‭ ‬مثل‭ ‬الشرفة،‭ ‬والشباك،‭ ‬والنافذة،‭ ‬وهي‭ ‬علامات‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬عليها‭ ‬أكواخ‭ ‬قريتي‭ ‬القصبية‭ ‬وتكون‭ ‬دخيلة‭ ‬على‭ ‬نصي‭.‬

حتى‭ ‬الآن‭ ‬تحضر‭ ‬العمارة‭ ‬حتى‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬مغتربي‭ ‬حضورًا‭ ‬مرادفًا‭ ‬لحضور‭ ‬الجنوب،‭ ‬لأنني‭ ‬خلقتُ‭ ‬منها‭ ‬قرية‭ ‬حُلمية،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬أقيم‭ ‬قريتي‭ ‬المفترضة‭ ‬على‭ ‬غرارها،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العمارة‭ ‬صارت‭ ‬تخلع‭ ‬عنها‭ ‬أردية‭ ‬غيابها،‭ ‬وتقف‭ ‬قبالتي‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬البعيدة‭.‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬كنت‭ ‬أتجول‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مونتريال‭ ‬القديمة،‭ ‬حيث‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يشبه‭ ‬العمارة،‭ ‬حتى‭ ‬رائحة‭ ‬روث‭ ‬الخيول‭ ‬التي‭ ‬تجر‭ ‬العربات‭. ‬هنا‭ ‬وضعت‭ ‬يدي‭ ‬على‭ ‬حجارة‭ ‬أحد‭ ‬الجدران،‭ ‬وكأنني‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتحسس‭ ‬نبض‭ ‬قلب‭ ‬العمارة‭ ‬المتخفي‭ ‬خلف‭ ‬حجارة‭ ‬هذا‭ ‬الجدار‭ ‬القديم،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أيقظتني‭ ‬يد‭ ‬وهي‭ ‬تربت‭ ‬على‭ ‬كتفي،‭ ‬عندما‭ ‬رفعت‭ ‬رأسي‭ ‬رأيت‭ ‬سيدة‭ ‬عجوزًا‭ ‬وهي‭ ‬تبتسم‭ ‬بوجهي،‭ ‬وهناك‭ ‬دموع‭ ‬توشك‭ ‬أن‭ ‬تنساب‭ ‬بين‭ ‬تجاعيد‭ ‬وجهها‭. ‬خاطبتني‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬إن‭ ‬لمدينتي‭ ‬رائحة‭ ‬تشبه‭ ‬تمامًا‭ ‬رائحة‭ ‬مدينتك‭ ‬التي‭ ‬ترشح‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجدران‭ ‬والشوارع‮»‬‭. ‬انحنيت‭ ‬عليها‭ ‬وقبّلت‭ ‬يدها‭ ‬وبين‭ ‬فجوات‭ ‬أوردتها‭ ‬البارزة‭ ‬استقرت‭ ‬بضع‭ ‬قطرات‭ ‬من‭ ‬دموعي‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬احتضنتني‭ ‬وضمّتني‭ ‬إلى‭ ‬صدرها‭. ‬كما‭ ‬أم‭ ‬تواسي‭ ‬طفلًا‭ ‬حزينًا‭.‬

‭- ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أطرح‭ ‬عليك‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننجح‭ ‬في‭ ‬وصفك‭ ‬بأنك‭ ‬يسنين‭ ‬العراق؟‭ ‬

‭- ‬لا‭... ‬لا‭ ‬أعتقد،‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬ليست‭ ‬دقيقة‭. ‬العالم‭ ‬ليس‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتكرر‭ ‬الشاعر‭ ‬الروسي‭ ‬القروي‭ ‬يسنين‭ ‬أو‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكان،‭ ‬وإذا‭ ‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬فسيعتبر‭ ‬استنساخًا‭ ‬لمخلوق‭ ‬هجين‭. ‬لكل‭ ‬شاعر‭ ‬محلّيته‭ ‬وثقافته‭ ‬وتجربته‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬نصه‭ ‬الشعري‭ ‬هويته‭ ‬المميزة،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬تنسَ‭ ‬أن‭ ‬بنية‭ ‬القرية‭ ‬الروسية‭ ‬مكانًا‭ ‬ومجتمعًا‭ ‬تختلف‭ ‬بالتأكيد‭ ‬عن‭ ‬بنية‭ ‬القرية‭ ‬العراقية،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يأتي‭ ‬التميز‭ ‬بين‭ ‬شاعر‭ ‬وآخر‭.‬

أنا‭ ‬لم‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬منجز‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬القروي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ترجم‭ ‬له‭ ‬شاعرنا‭ ‬الكبير‭ ‬حسب‭ ‬الشيخ‭ ‬جعفر،‭ ‬أعتقد‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات‭ ‬أو‭ ‬أوائل‭ ‬الثمانينيات‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬أنا‭ ‬أصدرت‭ ‬أربع‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬والقرية‭ ‬حاضنة‭ ‬لقصائدها‭. ‬إن‭ ‬تعاملي‭ ‬مع‭ ‬القرية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نتاج‭ ‬تأثّر‭ ‬بشاعر‭ ‬معيّن،‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬ثقل‭ ‬معرفي‭ ‬مجلوب‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬بعيدة،‭ ‬كما‭ ‬عند‭ ‬البعض،‭ ‬أو‭ ‬حالة‭ ‬أيقظتها‭ ‬أمكنة‭ ‬غريبة‭.‬

لقد‭ ‬استقبلت‭ ‬القرية‭ ‬العراقية‭ ‬ولادتي‭ ‬بيديها‭ ‬العشبيتين،‭ ‬عمّدتني‭ ‬بمياه‭ ‬نهر‭ ‬أبو‭ ‬بشوت‭ ‬المقدسة،‭ ‬نسجت‭ ‬مهدي‭ ‬وقمائطي‭ ‬من‭ ‬صوف‭ ‬غنمها‭. ‬وعندما‭ ‬بدأت‭ ‬أنقل‭ ‬خطواتي‭ ‬الأولى‭ ‬فوق‭ ‬أديم‭ ‬ترابها،‭ ‬انعقدت‭ ‬صداقة‭ ‬بين‭ ‬قدميّ‭ ‬الحافيتين‭ ‬وبين‭ ‬عاقولها‭ ‬وإبر‭ ‬أشواكها‭ ‬وحجارتها‭ ‬المسننة‭ ‬التي‭ ‬تركت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬أصابعي،‭ ‬ظللتني‭ ‬غصون‭ ‬أشجارها‭ ‬ورفوف‭ ‬سنبل‭ ‬حقولها‭ ‬وعباءات‭ ‬صبياتها‭ ‬حتى‭ ‬تحميني‭ ‬من‭ ‬الحر،‭ ‬وكان‭ ‬عشبها‭ ‬الطريّ‭ ‬فراشي‭ ‬الملكي،‭ ‬وأكتاف‭ ‬سواقيها‭ ‬وسائدي‭ ‬الناعمة‭.‬

وكثيرًاً‭ ‬ما‭ ‬يرخي‭ ‬قمر‭ ‬الليل‭ ‬إزاره‭ ‬الذهبي‭ ‬فوق‭ ‬جسدي،‭ ‬حتى‭ ‬حجارة‭ ‬شواطئها‭ ‬اتحدت‭ ‬بعناصر‭ ‬نمو‭ ‬جسدي،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أتلذذ‭ ‬بمضغها‭ ‬في‭ ‬فمي،‭ ‬والآن‭ ‬وأنا‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬الغرب،‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬كل‭ ‬جمالياتها‭ ‬أن‭ ‬تنضو‭ ‬عنّي‭ ‬عباءة‭ ‬صوف‭ ‬غنمي،‭ ‬أو‭ ‬تنتزع‭ ‬منها‭ ‬رائحتها‭ ‬المعمدة‭ ‬ببعر‭ ‬الماشية‭ ‬وروثها؛‭ ‬الرائحة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترقى‭ ‬لعذوبتها‭ ‬كل‭ ‬منتجات‭ ‬عطور‭ ‬العالم‭... ‬مع‭ ‬هذا،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬تسمية‭ ‬يسنين‭ ‬العراق،‭ ‬أو‭ ‬شاعر‭ ‬القرية،‭ ‬أو‭ ‬طائر‭ ‬الجنوب،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الألقاب‭ ‬التي‭ ‬شرّفني‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬نقادي،‭ ‬فإنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬يشددون‭ ‬على‭ ‬إنسانية‭ ‬تجربتي‭ ‬وإضفاء‭ ‬السمة‭ ‬الشمولية‭ ‬التي‭ ‬ترتفع‭ ‬بالبنية‭ ‬المكانية‭ ‬من‭ ‬محدوديتها‭ ‬الضيقة‭ ‬إلى‭ ‬انفتاحها‭ ‬على‭ ‬معاناة‭ ‬الكائن‭ ‬الإنساني‭ ‬وحريته‭ ‬المصادرة‭.‬

‭- ‬أتذكر‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬حاتم‭ ‬الصكر‭ ‬دوّن‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل؟‭ ‬

‭- ‬نعم‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬المهمة‭ ‬‮«‬شتاء‭ ‬المراعي‮»‬‭ ‬والشعر‭ ‬الرعوي‭ ‬الحديث،‭ ‬المنشورة‭ ‬بجريدة‭ ‬القادسية‭ ‬في‭ ‬18‭ ‬يونيو‭ ‬1992‭ ‬يعزل‭ ‬الأستاذ‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬حاتم‭ ‬الصكر‭ ‬الشّعر‭ ‬الرعوي‭ ‬في‭ ‬مجموعتي‭ ‬الشعرية‭ ‬‮«‬شتاء‭ ‬المراعي‮»‬‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬فرجيل‭ ‬أو‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬يتعامل‭ ‬معه‭ ‬كبديل‭ ‬رومانسي‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬المدينة‭ ‬الخانق،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬ناقدنا‭ ‬د‭. ‬الصكر‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬‮«‬شتاء‭ ‬المراعي‮»‬‭ ‬تميّزه‭ ‬عن‭ ‬الآخر،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬يتسلسل‭ ‬من‭ ‬حرفيته‭ ‬إلى‭ ‬إنسانيته‭.‬

أما‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬حسين‭ ‬سرمك،‭ ‬الذي‭ ‬خصّ‭ ‬تجربتي‭ ‬بكتاب‭ ‬نقدي‭ ‬قيّم‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬عيسى‭ ‬حسن‭ ‬الياسري‭... ‬شاعر‭ ‬قرية‭ ‬أم‭ ‬شاعر‭ ‬إنسانية؟‭... ‬دراسة‭ ‬تحليلية‭ ‬أسلوبية‭ ‬في‭ ‬شعره‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬إذ‭ ‬اعتبر‭ ‬القرية‭ ‬قناعًا‭ ‬يعرّي‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬كلّ‭ ‬الخراب‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬ببشرة‭ ‬حياتنا،‭ ‬ويكشف‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬المبدع‭ ‬من‭ ‬متغيرات‭ ‬مجتمعه‭ ‬العاصفة‭.‬

وعذابات‭ ‬الإنسان‭ ‬المسحوق،‭ ‬وفي‭ ‬دراسته‭ ‬القيّمة‭ ‬‮«‬كاف‭ ‬التشبيه‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬الأكواخ‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬آفاق‭ ‬عربية‭ ‬عدد‭ ‬يوليو‭/ ‬أغسطس‭ ‬1997،‭ ‬قرأ‭ ‬الأستاذ‭ ‬الناقد‭ ‬والمترجم‭ ‬د‭. ‬عبدالواحد‭ ‬محمد‭ ‬قصائد‭ ‬‮«‬صمت‭ ‬الأكواخ‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إجراء‭ ‬فحص‭ ‬لغوي‭ ‬دلالي‭ ‬وأسلوبي‭ ‬لجانب‭ ‬من‭ ‬الاستخدامات‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬المجموعة،‭ ‬وهو‭ ‬التشبيه،‭ ‬وقد‭ ‬تناوله‭ ‬تناولًا‭ ‬تطبيقيًّا‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬آليات‭ ‬علم‭ ‬اللغة‭ ‬بكل‭ ‬فروعه‭ ‬البنائية‭ ‬والأسلوبية‭ ‬والتفكيكية،‭ ‬ليكشف‭ ‬عن‭ ‬عناصر‭ ‬الحداثة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تطبيق‭ ‬قوانين‭ ‬النقد‭ ‬البنائي‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬أكثر‭ ‬علماء‭ ‬اللسانيات‭ ‬شهرة‭. ‬ولو‭ ‬أنني‭ ‬استعرضت‭ ‬جميع‭ ‬آراء‭ ‬النقاد‭ ‬الذين‭ ‬عالجوا‭ ‬موضوعة‭ ‬الجنوب‭ ‬والقروية‭ ‬والمرعى‭ ‬في‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعرية،‭ ‬لوجدنا‭ ‬أنهم‭ ‬يجمعون‭ ‬على‭ ‬خصوصية‭ ‬هذا‭ ‬التناول‭ ‬الذي‭ ‬يميّز‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬تناولوا‭ ‬هذه‭ ‬المفردات‭ ‬في‭ ‬قصائدهم؛‭ ‬عراقيين‭ ‬كانوا‭ ‬أم‭ ‬عربًا‭ ‬أم‭ ‬عالميين‭ ‬اطّلعنا‭ ‬على‭ ‬ترجماتهم‭ ‬الشعرية‭.‬

لذا،‭ ‬فإن‭ ‬تجربتي‭ ‬القروية‭ ‬تلتقي‭ ‬ظاهريًا‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء،‭ ‬وتختلف‭ ‬عنهم‭ ‬بناء‭ ‬ومعالجة‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬المجتزأ‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬آراء‭ ‬بعض‭ ‬نقادي‭ ‬وليس‭ ‬كلهم،‭ ‬وهم‭ ‬كثيرون،‭ ‬يؤكد‭ ‬عامل‭ ‬الافتراق‭ ‬بين‭ ‬تجربتي‭ ‬وتجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬الروسي‭ ‬يسنين‭ ‬القروية،‭ ‬وأنني‭ ‬لا‭ ‬أحمل‭ ‬سمة‭ ‬أي‭ ‬شاعر‭ ‬سوى‭ ‬سمتي‭ ‬أنا‭ ‬لغة‭ ‬وموضوعًا،‭ ‬حيث‭ ‬قصيدتي‭ ‬البسيطة‭ ‬والعفوية‭ ‬بساطة‭ ‬وعفوية‭ ‬قريتي‭ ‬وناسي‭ ‬الذين‭ ‬عشت‭ ‬بينهم‭ ‬وكأنني‭ ‬أتحدث‭ ‬بلهجتهم‭ ‬اليومية‭ ‬لشدة‭ ‬قرب‭ ‬نصوصي‭ ‬منهم‭.‬

‭- ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬يقودني‭ ‬إلى‭ ‬أمر‭ ‬آخر،‭ ‬أي‭ ‬الشعراء‭ ‬الغربيين‭ ‬رأيتهم‭ ‬يتحمسون‭ ‬لجذورهم‭ ‬الريفية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬مضيت‭ ‬متأثرًا‭ ‬بشعريتهم؟‭ ‬

‭- ‬جميع‭ ‬الشعراء‭ ‬مشدودون‭ ‬إلى‭ ‬جذورهم‭ ‬ليست‭ ‬الريفية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬المدينية‭ ‬إن‭ ‬كانوا‭ ‬ولدوا‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬المدينة،‭ ‬فمن‭ ‬لا‭ ‬جذور‭ ‬له‭ ‬لا‭ ‬أصالة‭ ‬له‭. ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شاعر‭ ‬في‭ ‬بداياته‭ ‬لم‭ ‬يتأثر‭ ‬بشعراء‭ ‬كبار‭ ‬سبقوه‭ ‬وقرأ‭ ‬لهم‭. ‬والتأثر‭ ‬غير‭ ‬التقليد،‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬اللاشعرية‭.‬

وأول‭ ‬شاعر‭ ‬تأثرت‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬وكان‭ ‬التأثر‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬أبنيته‭ ‬اللغوية‭ ‬الجمالية،‭ ‬وليس‭ ‬بنية‭ ‬نصه‭ ‬المكانية‭. ‬وكذلك‭ ‬التأثر‭ ‬بموضوعه‭ ‬الأثير‭ ‬الذي‭ ‬يخاطب‭ ‬فيه‭ ‬المرأة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يوقظ‭ ‬شهيتنا‭ ‬لقراءته‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تفتّحنا‭ ‬الأول،‭ ‬ويساعدنا‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬امرأة‭ ‬مفترضة‭ ‬نحبها‭ ‬ونكتب‭ ‬عنها،‭ ‬كما‭ ‬أنني‭ ‬تأثرت‭ ‬بصوفية‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬وكسره‭ ‬لرتابة‭ ‬اللغة‭ ‬وجمودها‭ ‬والانتقال‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬شرفات‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الخلق‭ ‬الفني،‭ ‬ولكي‭ ‬أكون‭ ‬دقيقًا‭ ‬في‭ ‬توصيفي‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬أفدت‭ ‬من‭ ‬التصويرية‭ ‬البنائية‭ ‬الفذة‭ ‬للغة‭ ‬عند‭ ‬نزار‭ ‬وجبران‭. ‬

لكن،‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أتخذ‭ ‬لي‭ ‬منطقة‭ ‬خاصة‭ ‬بي‭ ‬تحمل‭ ‬بصمتي‭ ‬الشخصية،‭ ‬وصار‭ ‬لي‭ ‬قاموسي‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬يتعرف‭ ‬إليه‭ ‬نقادي‭ ‬وقرائي‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬أغفلت‭ ‬كتابة‭ ‬اسمي‭.‬

وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1978‭ ‬و1982‭ ‬عملتُ‭ ‬محررًا‭ ‬ثم‭ ‬رئيسًا‭ ‬للقسم‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬ألف‭ ‬باء،‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬معي‭ ‬الصديق‭ ‬الشاعر‭ ‬أمين‭ ‬جياد،‭ ‬الذي‭ ‬جاءني‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬بجريدة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬كل‭ ‬شيء‮»‬،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أظن،‭ ‬وأراني‭ ‬نصًّا‭ ‬شعريًّا‭ ‬منشورًا‭ ‬فيها‭ ‬باسم‭ ‬شاعر‭ ‬نسيت‭ ‬اسمه،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬النص،‭ ‬وبما‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أحفظ‭ ‬شعري،‭ ‬فقد‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬نص‭ ‬جميل‭. ‬كان‭ ‬ناشر‭ ‬النص‭ ‬قد‭ ‬غيّر‭ ‬عنوان‭ ‬القصيدة‭ ‬فقط،‭ ‬ونشرها‭ ‬باسمه‭.‬

فقال‭ ‬لي‭ ‬الشاعر‭ ‬أمين‭ ‬جياد‭: ‬هذه‭ ‬إحدى‭ ‬قصائدك‭ ‬المسروقة،‭ ‬وأنا‭ ‬عرفتها‭ ‬من‭ ‬أسلوبك‭ ‬الشعري‭ ‬المتميز،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬مقالة‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬الجريدة‭ ‬نفسها،‭ ‬فضح‭ ‬فيها‭ ‬السارق‭. ‬

‭ - ‬نوقشت‭ ‬بعض‭ ‬الرسائل‭ ‬عن‭ ‬تجربتك‭ ‬الشعرية؛‭ ‬هل‭ ‬تعتقد‭ ‬أنها‭ ‬ولجت‭ ‬عوالمك‭ ‬الشعرية‭ ‬بطريقة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬الأكاديمي؟‭ ‬

‭- ‬البحث‭ ‬الأكاديمي‭ ‬ضرورة‭ ‬مهمة‭ ‬لكشف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬المضمرة‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر،‭ ‬والتي‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحايين‭ ‬عصيّة‭ ‬الانكشاف‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬منتج‭ ‬النص‭ ‬نفسه‭ ‬عندما‭ ‬يكتب‭ ‬عنك‭ ‬الناقد‭ ‬المحترف‭ ‬أو‭ ‬المتذوق،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لأي‭ ‬رقابة‭ ‬سوى‭ ‬رقابة‭ ‬أداته‭ ‬النقدية‭ ‬الذاتية‭ ‬ووعيه‭ ‬المتلقي‭.‬

الباحث‭ ‬الأكاديمي‭ ‬يكون‭ ‬خاضعًا‭ ‬لرقابة‭ ‬ذات‭ ‬محاور‭ ‬متعددة،‭ ‬فعليه‭ ‬أولًا‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬لعمادة‭ ‬كليّته‭ ‬ملخصًا‭ ‬بحثيًّا‭ ‬يبين‭ ‬فيه‭ ‬أهم‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬استهوته‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬وجعلته‭ ‬موضوع‭ ‬بحثه،‭ ‬وهناك‭ ‬مشرف‭ ‬يتابع‭ ‬رحلة‭ ‬الباحث‭ ‬الكشفية‭ ‬عبر‭ ‬تخوم‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬المدروس‭ ‬أولًا‭ ‬فأولًا،‭ ‬لذا‭ ‬فالباحث‭ ‬هنا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬لمشرفه‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬قدراته‭ ‬البحثية،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬ينقّب‭ ‬ويبحث‭ ‬في‭ ‬تلال‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬التي‭ ‬يجد‭ ‬فيها،‭ ‬مما‭ ‬يعزز‭ ‬منهجه‭ ‬البحثي‭ ‬ويدعم‭ ‬رؤيته‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تتشكل‭ ‬لديه‭ ‬عبر‭ ‬تحليله‭ ‬المستفيض‭ ‬لنصوص‭ ‬الشاعر‭ ‬المعالجة‭ ‬بحثيًا،‭ ‬ثم‭ ‬هناك‭ ‬لجنة‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬لمناقشة‭ ‬بحث‭ ‬الطالب‭ ‬وتقدير‭ ‬كشوفاته‭ ‬البحثية،‭ ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬تقييم‭ ‬رفيع‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الشاعر،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تتعزز‭ ‬لديه‭ ‬الثقة‭ ‬بمنجزه‭ ‬الذي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليه‭ ‬طويلاً‭.‬

لقد‭ ‬تعرضت‭ ‬البحوث‭ ‬الأكاديمية‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يتقدم‭ ‬بها‭ ‬عنّي‭ ‬للجامعات‭ ‬العراقية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دارس‭ ‬للقمع‭ ‬والتعطيل‭.‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬1998‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬د‭. ‬عباس‭ ‬اليوسفي‭ ‬من‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعرية‭ ‬موضوعًا‭ ‬لبحثه‭ ‬الذي‭ ‬تقدم‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بالجامعة‭ ‬المستنصرية،‭ ‬وقد‭ ‬واجه‭ ‬مشروعه‭ ‬هذا‭ ‬اعتراضًا‭ ‬شديداً‭ ‬من‭ ‬مدرس‭ ‬فلسطيني‭ ‬معروف‭ ‬بعمالته‭ ‬للنظام‭ ‬السابق،‭ ‬وغيّر‭ ‬مسار‭ ‬الباحث‭ ‬نحو‭ ‬شاعر‭ ‬فلسطيني‭ ‬ليس‭ ‬مهمًّا،‭ ‬وقد‭ ‬زارني‭ ‬صديقي‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬بيتي،‭ ‬وأبدى‭ ‬حزنه‭ ‬الشديد‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يحقق‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬منجزي‭ ‬الشعري‭.‬

دارس‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬د‭. ‬علي‭ ‬عبدالرضا‭ ‬الكناني،‭ ‬تقدّم‭ ‬بمشروع‭ ‬بحثي‭ ‬لنيل‭ ‬شهادة‭ ‬الماجستير‭ ‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬التربية‭ ‬بجامعة‭ ‬بغداد‭ ‬عام‭ ‬1999،‭ ‬وقد‭ ‬وافقت‭ ‬اللجنة‭ ‬على‭ ‬مشروعه،‭ ‬لكن‭ ‬ّ‭ ‬مدرسًا‭ ‬يدرس‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬الكلية،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬خدم‭ ‬النظام،‭ ‬اعترض‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬الرسالة‭ ‬الجامعية،‭ ‬بحجة‭ ‬أنني‭ ‬خارج‭ ‬العراق‭ ‬وأنني‭ ‬منضم‭ ‬إلى‭ ‬واحدة‭ ‬مما‭ ‬يسمى‭ ‬بفصائل‭ ‬المعارضة‭ ‬العراقية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد،‭ ‬لمعرفتي‭ ‬بعدم‭ ‬نظافتها‭ ‬وعمالتها‭ ‬للأجنبي،‭ ‬وهدد‭ ‬هذا‭ ‬المدرس‭ ‬اللجنة‭ ‬برفع‭ ‬تقرير‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬موافقتها‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬الرسالة‭!‬

وقد‭ ‬كتب‭ ‬الشاعر‭ ‬جواد‭ ‬الحطاب‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬زمن‮»‬‭ ‬الأسبوعية،‭ ‬التي‭ ‬يرأس‭ ‬تحريرها،‭ ‬موضوعًا‭ ‬شجاعًا‭ ‬بعنوان‭ ‬رسالة‭ ‬ماجستير‭ ‬موقوفة‭ ‬تبحث‭ ‬عمّن‭ ‬يطلق‭ ‬سراحها،‭ ‬هاجم‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬المدرس‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬تعطيل‭ ‬الرسالة،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬انفردت‭ ‬جامعة‭ ‬القادسية‭ ‬باحتضان‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعرية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رسالة‭ ‬الماجستير‭ ‬التي‭ ‬تقدمت‭ ‬بها‭ ‬الباحثة‭ ‬د‭. ‬آلاء‭ ‬محسن‭ ‬الحسني‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بكلية‭ ‬التربية،‭ ‬ونالت‭ ‬عليها‭ ‬درجة‭ ‬جيّد‭ ‬جدًّا‭ ‬عال‭. ‬وقد‭ ‬بذلت‭ ‬الباحثة‭ ‬جهدًا‭ ‬خلاقًا‭ ‬ومبدعًا‭ ‬في‭ ‬متابعتها‭ ‬تطور‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬عندي‭ ‬وتحولاته‭. ‬

وتم‭ ‬طبع‭ ‬الرسالة‭ ‬في‭ ‬كتاب،‭ ‬وصدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الكشاف‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬ومونتريال،‭ ‬وظهرت‭ ‬بعض‭ ‬الكتابات‭ ‬عنها‭.‬

ومع‭ ‬هذا،‭ ‬فإن‭ ‬الجامعات‭ ‬العراقية‭ ‬لم‭ ‬تمنح‭ ‬تجربتي‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬الأكاديمي؛‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تأخذ‭ ‬طريقها‭ ‬نحو‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ترجمتي‭ ‬للغات‭ ‬عديدة،‭ ‬وتظهر‭ ‬عنها‭ ‬كتابات‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الأجنبية،‭ ‬وصار‭ ‬لها‭ ‬قراء‭ ‬يحبونها‭.‬

‭- ‬كتبت‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬قرية‭ ‬المحسنة‮»‬‭... ‬هل‭ ‬هي‭ ‬المكمل‭ ‬للشعر،‭ ‬وخاصة‭ ‬خطك‭ ‬في‭ ‬الانتماء‭ ‬الريفي‭ ‬وتوظيف‭ ‬الطبيعة‭ ‬والأهوار‭ ‬والتغني‭ ‬بالعودة‭ ‬إليها؟‭ ‬

‭- ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982‭ ‬تعرّضت‭ ‬لصدمة‭ ‬نفسية‭ ‬من‭ ‬النظام،‭ ‬اضطرتني‭ ‬لفرض‭ ‬عزلة‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬امتدت‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬كنت‭ ‬ممنوعًا‭ ‬خلالها‭ ‬من‭ ‬النشر،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬احتُجزت‭ ‬في‭ ‬معتقل‭ ‬سجن‭ ‬قلعة‭ ‬التسفيرات‭ ‬الرهيب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفوا‭ ‬أنني‭ ‬أبشّر‭ ‬بديانة‭ ‬المحبة،‭ ‬واعتبروا‭ ‬هذا‭ ‬التبشير‭ ‬احتجاجًا‭ ‬على‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عنها،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والكتّاب‭ ‬النفعيين‭ ‬الذين‭ ‬راحوا‭ ‬يمجّدونها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نيل‭ ‬مكارم‭ ‬السلطة‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬الصعبة‭ ‬توقفت‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬صعب‭ ‬جدًا‭ ‬أن‭ ‬تعتقل‭ ‬لأنك‭ ‬تحب‭. ‬كنت‭ ‬أعيش‭ ‬وضعًا‭ ‬مأساويًّا،‭ ‬حتى‭ ‬زيارات‭ ‬الأصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬بيتي‭ ‬صارت‭ ‬تتباعد،‭ ‬وكأنني‭ ‬أشكّل‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يزورني‭.‬

وكما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬يدًا‭ ‬تمتد‭ ‬لغريق‭ ‬حتى‭ ‬تنتشله،‭ ‬تبرز‭ ‬قرية‭ ‬المحسنة‭ ‬من‭ ‬غيابها،‭ ‬وتدعوني‭ ‬أن‭ ‬أزيل‭ ‬عنها‭ ‬غبار‭ ‬انطفائها‭ ‬وإعادتها‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬بكل‭ ‬ناسها‭ ‬وحقولها‭ ‬ومراعيها‭ ‬وماشيتها‭ ‬وطقوسها‭ ‬السحرية‭. ‬وأبدأ‭ ‬الكتابة،‭ ‬وكلما‭ ‬توغلت‭ ‬في‭ ‬التجوال‭ ‬عبر‭ ‬زمنها‭ ‬لأتخذ‭ ‬منه‭ ‬ملاذًا‭ ‬من‭ ‬كابوسية‭ ‬الحاضر‭ ‬هدأ‭ ‬زئير‭ ‬عاصفة‭ ‬عزلتي‭ ‬وانكساري‭ ‬الروحي‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬محاولة‭ ‬لخوض‭ ‬تجربة‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭.‬

ففي‭ ‬بداياتي‭ ‬الشعرية‭ ‬تعرضت‭ ‬للإحباط‭ ‬المتكرر،‭ ‬كنت‭ ‬أرسل‭ ‬نصوصي‭ ‬إلى‭ ‬الصفحات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬اليومية‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬عملي‭ ‬الصغيرة‭ ‬‮«‬شيخ‭ ‬سعد‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬أفضل‭ ‬رد‭ ‬أحظى‭ ‬به‭ ‬هو‭: ‬‮«‬إلى‭ ‬السيد‭........ ‬وصلتنا‭ ‬قصيدتك‭... ‬ننتظر‭ ‬أن‭ ‬تصلنا‭ ‬منك‭ ‬قصيدة‭ ‬أفضل‮»‬‭. ‬

لذا‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أتجه‭ ‬نحو‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬فربما‭ ‬وجدتني‭ ‬فيها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سدّ‭ ‬محررو‭ ‬الصفحات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬أبواب‭ ‬النشر،‭ ‬وأبدأ‭ ‬بكتابة‭ ‬رواية‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬البصرة،‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أزرها،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬معالمها‭ ‬المهمة‭ ‬من‭ ‬أصدقائي‭ ‬الذين‭ ‬يزورونها‭ ‬باستمرار‭.‬

استمرت‭ ‬كتابتي‭ ‬للرواية‭ ‬سنة‭ ‬كاملة،‭ ‬وحال‭ ‬أن‭ ‬انتهيت‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتركها‭ ‬فترة‭ ‬لأعود‭ ‬لمراجعتها‭ ‬ثانية،‭ ‬وضعتها‭ ‬في‭ ‬مظروف‭ ‬وأرسلتها‭ ‬بالبريد‭ ‬إلى‭ ‬صديقي‭ ‬الروائي‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬المطلبي،‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬العمارة‭ ‬آنذاك،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭.‬

بعد‭ ‬مضي‭ ‬شهر‭ ‬أعاد‭ ‬لي‭ ‬الرواية،‭ ‬وكان‭ ‬يؤشر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصولها‭ ‬بملاحظات‭ ‬سلبية‭ ‬جدًّا،‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ندر،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭ ‬وجدت‭ ‬ردًّا‭ ‬منه‭ ‬ينصحني‭ ‬فيه‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر،‭ ‬فهو‭ ‬الأقرب‭ ‬لي،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتردد‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة،‭ ‬وضعت‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬فرن‭ ‬الحمام‭ ‬النفطي‭ ‬وأشعلت‭ ‬فيها‭ ‬النار،‭ ‬وفيما‭ ‬بعد‭ ‬ندمت،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬أعيد‭ ‬كتابتها‭ ‬بشكل‭ ‬أفضل‭ ‬عندما‭ ‬تنضج‭ ‬تجربتي،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬قراءتها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬لأستمتع‭ ‬بشطحات‭ ‬الكتابة‭ ‬الأولى‭.‬

المهم‭ ‬استمر‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬قرية‭ ‬المحسنة‮»‬‭ ‬6‭ ‬سنوات،‭ ‬حيث‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬كتابتها‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬مجموعتي‭ ‬الشعرية‭ ‬‮«‬صمت‭ ‬الأكواخ‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1996‭.‬

في‭ ‬البداية‭ ‬غطت‭ ‬مساحة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬أربعمئة‭ ‬صفحة‭ ‬كنت‭ ‬كلما‭ ‬راجعتها‭ ‬أجد‭ ‬فيها‭ ‬ترهلًا‭. ‬وفصولًا‭ ‬لا‭ ‬أهمية‭ ‬لها‭ ‬كنتُ‭ ‬أشذّبها‭ ‬باستمرار‭ ‬حتى‭ ‬استقرت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬على‭ ‬مئة‭ ‬وسبعين‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬الحجم‭ ‬الكبير‭ ‬فولسكاب،‭ ‬وتقدمت‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬دار‭ ‬الشؤون‭ ‬الثقافية‭ ‬لطبعها‭.‬

كنتُ‭ ‬قلقًا‭ ‬جدًّا‭ ‬مخافة‭ ‬ألا‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬الخبير‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬نشرها،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كنتُ‭ ‬أمارس‭ ‬كتابة‭ ‬العرائض‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬بداءة‭ ‬الأعظمية‭. ‬

ذات‭ ‬يوم،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬عملي‭ ‬توجهت‭ ‬نحو‭ ‬دار‭ ‬الشؤون‭ ‬الثقافية،‭ ‬وعندما‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬مكتب‭ ‬مدير‭ ‬النشر،‭ ‬الصديق‭ ‬خضير‭ ‬اللامي،‭ ‬لم‭ ‬أجده،‭ ‬بل‭ ‬وجدت‭ ‬مكانه‭ ‬سيدة‭ ‬نسيت‭ ‬اسمها،‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬كانت‭ ‬تعرفني‭ ‬ورحّبت‭ ‬بي،‭ ‬وهنأتني‭ ‬بأن‭ ‬خبير‭ ‬روايتي‭ ‬الأستاذ‭ ‬د‭. ‬عبدالإله‭ ‬أحمد‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬طبعها،‭ ‬وناولتني‭ ‬تقرير‭ ‬الخبرة‭ ‬بخط‭ ‬يده،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭.‬

وقد‭ ‬أدهشني‭ ‬تقريره‭ ‬الرائع‭ ‬عنها،‭ ‬فالمعروف‭ ‬عن‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬عبدالإله‭ ‬تشدده‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬الكتب‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬التي‭ ‬تحال‭ ‬إليه،‭ ‬كنتُ‭ ‬فرحًا‭ ‬جدًّا‭ ‬ذاك‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬شخوص‭ ‬روايتي،‭ ‬لأنني‭ ‬استطعتُ‭ ‬أن‭ ‬أنتشلهم‭ ‬من‭ ‬مخلب‭ ‬الموت‭ ‬وأجعل‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬المحسنة‭ ‬تنهض‭ ‬ثانية‭ ‬من‭ ‬رقادها،‭ ‬وهنا‭ ‬مجتزأ‭ ‬من‭ ‬تقرير‭ ‬الخبرة‭ ‬ظهر‭ ‬على‭ ‬الغلاف‭ ‬الأخير‭ ‬للرواية‭ ‬طبعة‭ ‬دار‭ ‬فضاءات‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬كتبت‭ ‬بنفَس‭ ‬روائي‭ ‬واضح‭. ‬وبرزت‭ ‬فيها‭ ‬صفحات‭ ‬روائية‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬النواحي‭ ‬الإنسانية‭ ‬المرهفة‭ ‬والنغمات‭ ‬الشاعرية‭ ‬ما‭ ‬يرقى‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الأدب‭ ‬القصصي‭ ‬الرفيع‭ ‬حقًّا،‭ ‬وهي‭ ‬صفحات‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬صورته‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬موغلة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الريف‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما،‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬بلُغة‭ ‬قصصية‭ ‬مشرقة‭ ‬يندر‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬مثيلها‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العراقية‮»‬‭.‬

والمحزن‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬منعت‭ ‬من‭ ‬النشر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1998،‭ ‬لكن،‭ ‬بعد‭ ‬الاحتلال،‭ ‬انتشلت‭ ‬من‭ ‬معتقل‭ ‬الكتب‭ ‬الممنوعة‭ ‬بجهود‭ ‬الصديقين‭ ‬جمال‭ ‬العتابي‭ ‬وخضير‭ ‬اللامي،‭ ‬حيث‭ ‬نشرت،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬توزع‭ ‬على‭ ‬المكتبات،‭ ‬وظلت‭ ‬حبيسة‭ ‬مخازن‭ ‬الدار،‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬وليمة‭ ‬للفئران‭. ‬لكن‭ ‬أعيد‭ ‬طبعها‭ ‬ثانية‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬وصدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬فضاءات‭ ‬في‭ ‬الأردن‭. ‬

والمؤسف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬المهمة‭ ‬لم‭ ‬تحظَ‭ ‬باهتمام‭ ‬النقاد،‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬كثيرين‭ ‬منهم،‭ ‬والدراسة‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬تناولتها‭ ‬كانت‭ ‬بقلم‭ ‬د‭. ‬رُلى‭ ‬الجردي،‭ ‬وقد‭ ‬نشرت‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬نوفمبر‭ ‬2013‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬الجديد‭ ‬الأمريكية‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬شيكاغو‭.‬

وكذلك‭ ‬مقالة‭ ‬كتبها‭ ‬د‭. ‬صبري‭ ‬مسلم،‭ ‬ونشرها‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬خليجية،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬قرية‭ ‬المحسنة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬ريفية‭ ‬بامتياز،‭ ‬فإنها‭ ‬غنية‭ ‬برموزها‭ ‬واستعاراتها‭ ‬وسرديتها‭ ‬التي‭ ‬تهتم‭ ‬بتفكيك‭ ‬الشخصية‭ ‬الريفية‭ ‬ذات‭ ‬التكوّن‭ ‬الوجودي‭ ‬والعبثي‭ ‬الفطري‭ ‬بأعلى‭ ‬مستوى‭ ‬له‭. ‬لقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬الشخصية‭ ‬الريفية‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬شخصية‭ ‬مسطحة‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬للمعالجة‭ ‬الروائية،‭ ‬بخلاف‭ ‬الشخصية‭ ‬المدنية‭ ‬المركّبة‭. ‬

رواية‭ ‬أيام‭ ‬قرية‭ ‬المحسنة‭ ‬كسرت‭ ‬هذا‭ ‬الزعم‭ ‬الخاطئ،‭ ‬وقدمت‭ ‬شخصية‭ ‬روائية‭ ‬ريفية‭ ‬تحتمل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التأويل‭ ‬والإحالات‭ ‬التي‭ ‬تعري‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الممارسات‭ ‬القمعية‭ ‬للسلطة،‭ ‬وبمقدوري‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أفكك‭ ‬رموز‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬لكنني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنتزع‭ ‬من‭ ‬الناقد‭ ‬أو‭ ‬القارئ‭ ‬ممارسة‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬الذاتي‭ ‬لسرديات‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬رواية‭ ‬مقاومة‭ ‬ذات‭ ‬بناء‭ ‬فنّي‭ ‬لا‭ ‬يعطي‭ ‬مفاتيحه‭ ‬بسهولة‭ ‬ويُسر،‭ ‬ولو‭ ‬قيّض‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية‭ ‬أن‭ ‬تترجم‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭ ‬لنالت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬الدارسين‭ ‬والقراء‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬سواء‭ .‬