أوزبكستان حكاية من ألف ليلة وليلة في «جوهرة آسيا الوسطى»

لم تخلع أوزبكستان زيّها الأحمر الذي ألبسها إياه الاتحاد السوفييتي كاملاً، فما زالت تتحدث الروسية كلغة ثانية تضاف إلى الأوزبكية، وحينما تحررت «جوهرة آسيا الوسطى» من قبضة «الكرملين»، والخوف من الـ «كي جي بي»، لم تفلح في فتح أبوابها أمام الحرية والسياحة والاستثمارات كما تستحقه، بل أبقت على بعض من المخاوف القديمة التي ورثتها، خشية من الآتي المجهول، الانفتاح المرعب للأنظمة التقليدية. ولم تجد من الشجاعة ما يكفي لفتح النوافذ على الأقل أمام هواء يختلف عمّا تسمح به الحكومة الجالسة في موسكو، وهي تتحكم بنحو نصف العالم.
سرتُ إليها مأخوذًا بسحر الاكتشاف لبلد لم يكن مطروحًا على خريطة السياحة إلا من باب أنه يتضمن مزارات دينية معروفة في سمرقند وبخارى، آملًا أن ألتقي فيها ما يدلني على ملامح بلد معاصر احتكم إلى دستور علماني، وقد كان حاضرة إسلامية مهمّة أخرجت علماء كبارًا، بينهم الزمخشري والبخاري والترمذي والخوارزمي، وغيرهم من الأسماء التي توارت خلف هؤلاء الأعلام الذين حفظهم التاريخ، بينما غابت أسماء وأسماء في دهاليز النسيان، حيث لا تتسع ذاكرة الأمم إلا لنخبة النخبة.
تقع جمهورية أوزبكستان في قلب آسيا الوسطى، ولأنها في موقع استراتيجي مهم فقد لقّبت بـ اجوهرة آسيا الوسطىب، كما أنها أكبر دولة في وسط آسيا من حيث عدد السكان، إذ يربو عددهم على 33 مليون نسمة، يشكل الأوزبك أكثر من الثلثين تقريبًا، وبالرغم من أن عاصمتها طشقند بها من الجمال ما يغري السياح، فإن سمرقند تتصدر اهتمامات الزوار، لكونها تمثّل تاريخًا حضاريًّا مهمًّا.
أوزبكستان أرض الاستكشاف العظيم، بلد سيضع قدمه بقوة على خريطة السياحة العالمية مستقبلًا، فمدن كطشقند وبخارى وسمرقند وخيوة ومرغلان وشهرسبز وترمذ، مستحقّة أن تكون حاضرة على أجندة السائح، خاصة من دولنا العربية والإسلامية، ليقرأ صفحات من تاريخ حضارته المسافر إلى تلك البلاد، واضعًا بصمة إنسانية عظيمة، فبين تلك المدن من تضرب في عمق التاريخ آلاف السنوات، وشكّلت في منعطفات تاريخية عدة أهمية كبرى، فكانت حواضر على طريق الحرير العظيم كنقطة التقاء القوافل والتجار، وبالطبع الحضارات الأخرى، مؤثرة ومتأثرة بها، صانعة نسيجًا خاصًّا من كل تلك اللقاءات والحوارات، وكانت كل مدينة محفوفة بأساطير قادمة من عمق التاريخ، حافظة لنكهات القرون الوسطى، ترويها عادات وتقاليد وثقافة... وأزياء.
رحلة مرهقة
حملتني إلى أوزبكستان رحلة مرهقة عبر مطار دبي، ووصلت إلى طشقند قبل أن تغفو شمسها، وصفّق ركاب الطائرة بما ذكّرني بتلك العادة القديمة حينما تهبط طائرة إلى مطار ما بسلام، كأنما هي فرحة الوصول أخيرًا، كانت وجوه المكان تحيطنا بسعادة دالّة على هوية البلاد، كما هي الوجبة اللذيذة على متن الطائرة.
كان الطقس يميل لمصلحتنا، إذ الربيع لا يزال في بداياته، وساعة التوقيت تتقدم واحدة عن مسقط، والمطار صغير، حيث اكتفينا ببضع خطوات لنصل إلى نقطة الجوازات، لكن علينا انتظار ساعة كاملة نترقب وصول موظف التأشيرات الذي يبدو أنه الوحيد على رأس عمله، كي يفتح لنا بوابات المرور إلى حقائبنا التي كنّا نراها، على بعد خطوات منا، تدور على االسيرب بانتظار أن نحملها، ونمضي إلى حيث المدينة.
عروس نهر جيحون
كانت المفاجآت المرهقة تتوالى، وصلنا إلى فندق في العاصمة طشقند بعد مشوار نحو ساعة، رأينا فيه بعضًا من ملامح المدينة، وحيثما كنا على وشك الاحتماء بسرير نرمي إليه حمل تعبنا، إذا بمستقبلينا يرشدوننا إلى مطعم نتناول فيه وجبتنا والانتظار ثلاث ساعات أخرى ريثما يصل موعد الانطلاق إلى المطار من جديد، حيث مدينة ترمذ - وينطقونها ترمز - تترقب وصولنا، ولا بد من المبيت في اعروس نهر جيحونب، هناك يكون الحدث الذي جئنا من أجله، مهرجان فنون باخشي.
لم تكن المسافة طويلة بين طشقند وترمذ، لكن فترات الانتظار تتمدد، فالوقت هنا ليس له تلك الحساسية التي اعتدناها، كما هي الـ اخمس دقائقب التي طلبوا منا الانتظار خلالها أمام شباك موظف التأشيرات، فتكاثرت حتى أصبحت نحو 60 دقيقة، لكن لطف البشر وابتساماتهم ينسيان المرء كل تعب، أو تأخير، حيث الوصول إلى ترمذ محفوف ببهجة منتظرة.
على الجانبين، أمام بوابة الخروج من المطار، كانت الصبايا والشباب يعزفون ويغنّون، ويغمروننا بمحبة الاستقبال الجميل، ووصلنا إلى مقاعد الباصات الأنيقة المنتظرة، وفي يد كل منا وردة، وقطعة خبز، كأنما صار بيننا وبين أهل هذه البلاد: خبز... وورد.
قيل لنا إنه معكم فاروق، أحد المرشدين الذين توزعوا بالعشرات، وبملابس مميزة، على الوفد الزائر من شتى البلدان، فاروق طالب جامعي يجيد الهدوء، كان رفيقًا هادئًا، يغمرنا بلطفه، لدرجة أنك تتمنى لو يتركك قليلًا لترى البلاد دون الشعور بذنب أنك ترهق أحدًا معك.
مهرجان عالمي
المدينة تعيش بهجتها بوجود مهرجان عالمي للفنون، حيث يمكن رؤية أزياء مختلفة التصاميم والألوان، ومن أمكنة عدة تتوزع على أقاليم البلاد التسعة التي حضرت بفنونها الجميلة في الحديقة الواسعة المحتضنة فعاليات مهرجان فنون باخشي، في نسخته الأولى.
بدأنا صباحنا بجولة تعرّفنا على ما تضمه المدينة من عمق حضاري تجمّله تلك الحقول الخضراء على ضفتي الشارع. بعد خروجنا من بوابة أحد الآثار التاريخية قابلتنا شرطية حسناء، كدليل على رغبة البلاد في الانفتاح سياحيًّا، تقدم نفسها على أنها من شرطة السياحة، وبلغة إنجليزية شبه نادرة في البلاد تطلب أخذ صورة تذكارية معنا، كانت من الجمال بحيث لم أتخيل أنها يمكن أن تكون إلا ملكة جمال حقيقية، بعيدًا عمّا تمثله هيبة مرتدي الزي الشرطي، في واحدة من أكثر الدول المعروفة بنظامها الأمني الحازم.
جميلة ترمذ، ونظيفة، ورائقة، يقطنها نحو 200 ألف نسمة، وتقع بالقرب من الحدود الأفغانية. أشاروا إلى بالخ، أقرب بقعة في أفغانستان، وهي المعروفة بأنها مسقط رأس الشاعر العظيم جلال الدين الرومي، ويمر على الشريط الحدودي نهر أمودريا الذي يبلغ طوله أكثر من 2500 كلم، كان العرب يطلقون عليه اسم اجيحونب، وهو الاسم القديم ذاته الذي اشتهر في العالم الغربي في زمن اليونان والرومان.
وبينما تكون ترمذ باردة جدًا شتاء، فإن درجة الحرارة صيفًا تصل إلى الخمسين مئوية، وعلى مقربة من هذا الخط الحدودي سرنا نتأمل البيوت البسيطة بالحقول التي تمتد أمامها وحولها، تعطيها من خيرات الأرض ما يضمن اقتصادًا أسريًّا، حيث التربة والماء والأيادي الكادحة، وأغلبهن للنساء اللاتي يتوزعن في تلك المساحات الممتدة.
وصف ابن بطوطة
يشير المرافق إلى أنه في منطقة شرابات، مثلًا، التي تشتهر بالرمان، أمام كل بيت بضعة أشجار منه، تعود بدخل يصل إلى ستة آلاف دولار سنويّا.
وحين وصلها الرحالة الشهير ابن بطوطة، وصفها بأنها امدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق، تخترقها الأنهار، وبها البساتين الكبيرة والعنب، والسفرجل بها متناهي الطيب، واللحوم بها كثيرة، وكذلك الألبانب، ووصف أهلها بأنهم كانوا ايغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضًا عن الطفل، ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبيرة مملوءة لبنًا، فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه، وهو يرطب الشعر ويصقلهب.
في تلك الصحراء قادنا المشرفون إلى مبنى متهالك، يدعى فاياز تيبا، ما تبقى من معبد بوذي قيل إن تيمور لنك دمره، ذلك البناء الطيني بقي أطلالًا وسط صحراء.
جلنا قليلًا في داخل ما كان غرفًا للعبادة ومساكن للرهبان والزوار الذين يحجون إليه من أمكنة شتى، وتوجد غرف أخرى للطبخ وتخزين المؤونة. يقال إن عمره نحو ألفي عام، ومثّل مركزًا أساسيًّا في نشر البوذية التي جاءت من الهند، ثم انتشرت لاحقًا في بلدان أخرى كالصين وكوريا واليابان. القش المخلوط مع الطين في البناء مع ذلك الإحساس بتاريخية المكان يمنحه أفقًا هائلًا للتأمل في أحوال الدنيا والحياة.
جامع السلطان سودت
من ذلك الأثر البوذي إلى أثر ديني آخر، حيث الـ اكوكلدورب الذي ترك أثرًا له دلالات عدة، هو رجل صالح بشعر طويل بقي يصلي في هذا المكان حتى دفن فيه، وحوله نحو عشرين قبرًا تقول الحكاية إنهم آمنوا بقدرة المكان الروحية، وطالما وجدت قبورهم بجوار ضريح هذا الرجل فإن مثواهم الجنة.
ومن ذلك المقام إلى جامع السلطان سودت، الذي عاش في القرن السابع عشر للميلاد، جاء من شبه الجزيرة العربية إلى ترمذ، حيث عاش ودفن فيها، الجامع بمعماره الجمالي البديع، وفي كل مزار هناك حديقة جميلة تحف السائر بأشجارها على الجانبين، ليكون المكان متضمنًا مسجدًا وأبنية عدة حوله، روعة عمرانية مكثنا في تأمّلها حينًا من الوقت.
وفي المساءات كنا نأخذ طريقنا إلى أرض المهرجان، موسيقى بألوان تراثية، ووجوه يعلو محيّاها الفرح، ترقص لتروي حكاية المكان الذي جاءت منه، ابتسامات في وجوه الضيوف، ودعوات لمشاركتهم رقصاتهم التراثية وتذوّق مأكولاتهم، يبدون محبة للعرب، كأنه الوفاء لما تركه الرحالة القدامى من أثر بنت عليه أوزبكستان مجدها الإسلامي، وكان عدد كبير يطلبون التصوير معنا، وكنا نشاركهم هذا الفرح الجميل.
أسطورة الـ40 فتاة
أخذنا التجوال إلى مبنى طيني فخم رغم تهالكه تحت سياط التغيرات المناخية والزمنية، يسمى اقورقسب، حيث عاش نحو 40 فتاة، فتشير الأسطورة إلى أنه عندما بلغت جافهار (بنت ملك سمرقند) الرابعة عشرة من العمر طلبت من والدها أن يشيّد لها قلعة حصينة، وجمعت حولها أربعين فتاة شجاعة، أقمن معها في تلك القلعة، لكن الأعداء هاجموها بشراسة وبدأوا بتحطيم أسوارها، وقادت جافهار فتيات سمرقند ليدافعن ببسالة لأيام طويلة عن القلعة ضد الأعداء.
لقي كثير من جنود الأعداء حتفهم، كما قتل عدد من الفتيات، ولم ينج سوى جافهار وعدد قليل من الفتيات اللاتي أصررن على مواصلة التصدي للعدو وحماية المدينة.
أضرمت النيران في القلعة وتعالت الصيحات وارتفع العويل والأنين، وبدأت الفتيات بفقدان الأمل. لكن جافهار جمعت قواها وهاجمت الأعداء، إلا أن عدتها من السهام نفدت، وتعرضت لإصابات بالغة أوشكت أن تودي بها، واضطرت إلى الخروج من القلعة.
جنود الأعداء الذين كانوا على استعداد لتقطيع المدافعين عن القلعة إربًا، وقفوا صامتين دون أن ينبسوا ببنت شفة. نهضت جافهار ببطء وسقطت خوذتها الملطخة بالدماء وانسدلت ضفائرها البديعة على متنها، ورفعت سيفها عاليًا، وقالت وهي تشرق بالدموع: اأنا جافهار. لقد مات جميع فتياتي المحاربات في أثناء النزال، وإنني أدعو قائدكم للمبارزةب. رد القائد قائلًا: القد رأيت الجمال والشجاعة في سمرقند، وقد اقتنعت بما رأيت. دعونا نغادرب... ولبّى الفرسان أوامره وامتطوا خيولهم واختفوا.
ولم تغب النذور عن المكان، فكان طلب الصحة والإنجاب والبركة متوارثًا عبر القرون، وسمة مشتركة بين سائر شعوب الأرض، البحث عن الروحي في وجه الواقع الصعب.
في مقام الحكيم
كانت المفاجأة أن أعرف بعالِم آخر غير الإمام الترمذي الذي نعرفه، فالأول هو
أبو عبدالله، محمد بن علي بن الحسين الترمذي الملقب بالحكيم الترمذي، أحد علماء أهل السنّة والجماعة، ومن أعلام التصوف السنّي في القرن الرابع الهجري، بينما الأشهر هو صاحب كتاب الجامع اسنن الترمذيب، أبو عيسى محمد بن عيسى، تفقّه في الحديث على يد الإمام البخاري، وأصبح ضريرًا في كِبره بعد رحلته وكتابته العلم، توفي عام 279 هـ في ترمذ.
دخلنا إلى مقام االحكيمب، ووجدنا سراديب تقود إلى غرف صغيرة تحت الأرض، توصل إليها سلالم، حيث كان أبو عبدالله، وربما غيره من الأتباع، يعيشون أيامًا في تلك الغرف للتأمل، والسكينة الروحية.
وخلال نهارات الربيع (الترمذي) تأخذنا تلك الحافلات الأنيقة والنظيفة في رحلات سياحية، كأنما نستكشف مكانًا كان يمكن أن يبقى خارج الذاكرة لولا الانفتاح الذي يبديه نظام الحكم الجديد في أوزبكستان بالدفع بعجلة السياحة خطوات جريئة إلى الأمام، وفي بقاع عدة، هناك ما يجذب نحو ما يمكن تسميته بالسياحة الدينية، فكانت لنا رحلة إلى مقام الإمام أبو عيسى الترمذي، ومن المدخل الرئيسي للمكان، ووصولًا إلى باب المبنى، كانت مقبرة على الجانبين، بعضها بتلك الشواهد الرخامية الأنيقة، وبينها قبور العامة والبسطاء، في حين بقي الورد مزهرًا بربيع بديع.
في نهار تالٍ ذهبت بنا الحافلات، وعددنا أكثر من خمسين ضيفًا على مهرجان باخشي، إلى قرية مينار، حيث تقع منارة جاركورجان، التي شيدت مطلع القرن الثاني عشر، وكان بجانبها مسجد مشيّد من الطوب المحروق، إلا أنه لم يصمد، وبقيت المنارة نقطة جذب سياحي حاليًّا، وقاعدتها مكونة من ثمانية أضلاع، يبلغ ارتفاع أقواس الداخل 20 مترًا، ويبلغ ارتفاع المنارة 21.6 مترًا، وعرضها في الأسفل 5.4 أمتار، والمنارة التي بناها علي بن محمد السرخسي مطوقة بشريط من الخط الكوفي تعلوه نتوءات كلسية، إلا أن الجزء العلوي من المنارة انهار ولم يصمد، لكن الحكومة الأوزبكية أعادت ترميمها من جديد.
طشقند... الهدوء والنظافة
كأنما أبيات الشاعر الأوزبكي الكبير غفور غلام، رفيقة استكشافي لعاصمة هذه البلاد، حيث حطت الطائرة ذات صباح في مطارها، يقول:
أأنت يتيم؟
اطمئن يا قريبي!
لهفة الشمس الطيبة تنحني فوقك،
عطف الأمومة العميق فياض،
يرعى البلد الكبير طفولتك
هنا أنت في بيتك، هنا أحرص على هدوئك
نم، يا قطعة روحي، يا صغيري!
مدهشة طشقند، عدتُ إليها كأنما أقتص من تلك الساعات القلائل التي وصلتها إليها، وقبل أن آنس إليها ارتحلنا إلى مدينة ترمذ، ومنذ لحظة أن خرجت من المطار، للمرة الثانية خلال خمسة أيام، أردت استكشاف المدينة فورًا، شدتني تلك المساحات الخضراء، الشوارع المنظمة، المماشي المخصصة للسائرين على أقدامهم أو الذين يقودون دراجاتهم الهوائية، المباني الناطقة بألوانها الحقيقية، حيث لا شوائب عليها مما تذروه الرياح والأمطار من غبار وتأثيرات تأخذ من نصاعتها الأولى.
سألت عن سر النظافة، فأجابني أحدهم بأن يوم السبت يخصص لتنظيف المدينة، حيث يقوم الطلبة والموظفون، كل في موقعه، بتنظيف مبانيهم والشوارع المحيطة، وهذا نظام قديم منذ أيام لينين استبقى عليه الأوزبك، والرسالة الأهم فيه أن من يرمي المخلفات في الشارع سيعود إلى جمعها مرة أخرى.
طشقند تعني االحجارةب، وهي ليست أكبر مدن أوزبكستان فحسب، بل مدن وسط آسيا، بسكانها الذين يتجاوز عددهم الملايين الثلاثة، وتجمع في جبّتها كل عناصر العاصمة، من سياسة واقتصاد وثقافة وعلوم، فالعاصمة مقسمة إلى إحدى عشرة مقاطعة، وتتمسك بإرث تاريخي عظيم، وتعد أبرز المدن في طريق الحرير من الصين إلى أوربا، وتتنوع سماتها، بين المدينة المعاصرة إلى القرى القديمة والأضرحة، في عمق تاريخي يعود إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
أكبر مقبرة في آسيا
من اللافت كثرة أضرحة الأولياء في البلاد، ومازال الناس يعبّرون عن إجلالهم لها من خلال الزيارات التي تتم في المناسبات السعيدة والحزينة على السواء، ويقال إن مقبرة شاهي زندا (الملك الحي) أكبر مقبرة في آسيا الوسطى، وبدأت بضريح القاسم بن العباس (ابن عم الرسول) ، ويعتقد أنه استشهد خلال فتح سمرقند، وتوالت بعدها الأضرحة ترصّ عبر مستويات عدة في الهواء الطلق، مع تزيينها بالنقوش والألوان، ومنذ القرن العاشر حتى التاسع عشر اتسعت المقبرة، وسميت ممراتها بشارع الموتى، والقيمة التاريخية لهذه الأضرحة كونها حفظت معمار كل حضارة وعصر بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلادي، كما أنها بقيت بمنأى عن الهدم، لأن الغزاة لم يتجرأوا على المساس بها، خشية انتقام الأولياء منهم، حتى وهم في قبورهم!
وبموازاة العناية بالجوانب الأثرية والتاريخية، فإن العاصمة بها شواهد لا تحصى معبّرة عن حيوية بلد ينهض بعد سنوات من إغلاقه خلال عهد الرئيس السابق، متخذًا درب الانفتاح، ومحاولًا تعويض تأخره عن الدول النافضة دكتاتورية النظام الشيوعي تحت الحكم السوفييتي.
في مثل هذه المدن أبحث عن الحافلة المكشوفة، أو ما يسمى (الباص الكبير) وفق تسمية الشركة المشغّلة، وللمرة الأولى ينصحني قاطع التذاكر في المكتب بأن أذهب إلى الباص المنطلق بعد ساعتين، بسبب الزحام على أول انطلاقاته في العاشرة صباحًا، وكانت قاب قوسين أو أدنى من هذا الوقت، خالفت النصيحة وتوجهت إليه لأجد أن أغلب المقاعد فارغة، فنظامها مختلف، إذ إن االباصب نفسه يستمر في جولته بالمواقع السياحية، وليس كما جرت العادة، إذ يمر أحدها كل ربع ساعة (تقل أو تزيد) على نقاط توقّف عدة، بإمكان السائح الصعود أو النزول متى أراد، واكتملت جولته في تلك البقعة.
تخيلت أن نصف مساحة طشقند خصصت للأشجار والورد، فحيثما تيمم وجهك ترى المتنزهات والممرات الممهدة بينها بإتقان، والزهور التي تزيّن جنبات الشوارع، مع المجسمات الجمالية، والاستفادة مما توفره البيئة من منتجات يمكنها أن تصنع البهجة في الشوارع.
شارع الحب... وتيمور لنك
في طشقند يمكن السير من دون أدنى مضايقات، لا تجد باعة جوالين يلحون عليك ببضاعتهم، ولا متسولين يستجدونك في طلب االهداياب، كما يحدث في بلدان آسيوية أخرى، أشار علينا مقيم يمني فيها أن نقصد شارع الحب، لم يعرفه أحد، لكن من خلال وصفه اهتدينا إلى بقعة جميلة لا تبعد كثيرًا عن فندق أوزبكستان بمعماره المميز، وفي الليل تتحول واجهته كاملة إلى لوحة إعلانات، ساحة تتسع على مفردات عدة من الجمال، يتنفس عبرها البشر أكثر من هواء نقي، فهي بقعة خضراء تحفّها بعض مجسمات القلوب وحولها بعض المقاهي والمطاعم، ومجمع تجاري، ورجل يرسم الوجوه، والإضاءة فوق الشوارع، كأنه مهرجان حقيقي، ولم يكن به كثير من المرتادين، كأنهم أدمنوا رؤية مثل هكذا جمال، وعلينا مهمة تنفّس ما استطعنا من ألوان الورد والمصابيح، والتقاط الصور أمام تمثال تيمور لنك، وكانت المفاجأة مدهشة بالنسبة لمعلوماتي، لماذا تيمور لنك هنا؟ وكانت المعلومات صادمة لأعرف أنه ولد في أوزبكستان، ودُفن في سمرقند.
تيمور، تعني االحديدب، ولنك االأعرجب، القائد الذي أرعب العالم بفتوحاته وانتصاراته، وأيضًا وحشيته، حتى يقال إن الهند احتاجت إلى سنوات طوال لترمّم ما أحدثه فيها من خراب، ولد في القرن الرابع عشر، وهو مؤسس السلالة التيمورية في وسط آسيا، واستمرت في الحكم حتى عام 1506 للميلاد.
هذا الأمير الأوزبكي احتل مساحات هائلة في آسيا، فدانت له البلاد من دلهي الهندية وصولًا إلى دمشق، ومن بحيرة آرال إلى العراق، وعاد بغنائم غزواته إلى بلاده، لكن الصين هزمته بقسوة بردها، وعاند نصيحة أطبائه فأصيب بالحمى، وبعد أن توفي عاد جثمانه إلى بلاده، ليستقر في اكور أميرب، أي مقبرة الأمير في سمرقند.
الجمال يسير معك
تتجمّل بعض الممرات بإطارات لوحات تضيء ليلًا لتكسر حدة الرتابة، وبما يضفي على السائر نوعًا من البهجة، في محطات انتظار حافلات النقل العام يمكن معرفة كيف يفكر هؤلاء البشر: المحطة عبارة عن غرفة زجاجية واسعة وأنيقة تحمي المنتظر من حر الصيف وقرّ الشتاء، كما نقول نحن العرب، بعضها به ركن لمكتبة أو لمقهى صغير، فيمضي وقته في فائدة، يحيطه ما يحتاج إليه من زاد، لعقله قبل بطنه.
ضمن جولة الحافلة كانت إحدى محطات التوقف ضريح احضرة الإمامب، ويعد ثاني أكبر ضريح في البلاد، وشيّد هذا الأثر التاريخي في القرن التاسع عشر على يد سيونج خواجه خان، ويتضمن إضافة إلى الضريح مدرسة البراق خان، ومكتبة عامرة بنوادر المخطوطات الأصلية، أهمها مصحف الخليفة عثمان بن عفان، وهي أقدم نسخة مكتوبة للقرآن الكريم، تتكون من 353 رقعة مكتوبة بالنسخة الأصلية للقرآن بالحجم الكبير، محفوظة في غرفة مكتبة خاصة، وكانت قد حفظت من ضمن خزينة الخليفة لقرون عدة، قبل أن تُرسل من بغداد إلى أوزبكستان في عصر تيمور لنك.
حاولنا إقناع حارس في مسجد حضرة إمام ليسمح لنا بالدخول إلى تلك الغرفة الخاصة، لكنه كان يشير إلى 20 دقيقة تبقت على موعد فتح الأبواب، بينما مشرف االحافلةب لم يسمح لنا إلا بالتجوال مثل هذا الوقت في مكان مفتوح على آثار معمارية مهمة، كل ما فيها يدعو إلى التأمل، بينما المحال التجارية على جوانب سور الجامع تدعو إلى التأمل أكثر، حيث الفنون التراثية من لوحات وتذكارات تشرق بحضارة المكان وآثاره العتيقة.
كان اهيمو أريناب يبدو كاستاد كرة قدم، بينما هو يضم مركزًا للتزلج على الجليد، ويعد أحد الصروح الكبيرة في العاصمة طشقند، وتعود تسميته إلى طائر خرافي يسمى الهيمو.
وتتوافر المطاعم والمقاهي بكثرة في طشقند، وتعد أسعارها رخيصة مقارنة بمثيلاتها في بلدان أخرى مجاورة، ربما لأن انفتاحها على السياحة بدأ حديثًا، وستغدو هذه الأسعار من قبل الذكريات في السنوات المقبلة، إذا تواصل انفتاحها سياحيًّا.
المساء الأخير
وبينما كانت الليلة الأخيرة في طشقند تسحب أذرعتها باردة وممطرة، كان المبنى الأبيض يطل على يميننا باهرًا، ويشعرنا بالفخر، فهو مبنى معهد أبي الريحان البيروني، أكبر معاهد المخطوطات في أوزبكستان، مبنى جديد أقيم بأوامر من جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، سلطان عُمان، ليكون رصيدًا عمانيًّا لدى هذا الشعب الطيب.
وبينما كان الفجر يدعونا إلى مغادرة أرض الاكتشاف، أوزبكستان، كان رصيد هائل من الحروب يملأ الذاكرة، في حين أن في الأرض ما يستحق الحياة بسلام وأمان، ووجدت في شعر الأوزبكي شكر الله (المولود عام 1921) ما يعبّر عن الحالة:
ماذا سيحصل للعالم... في المستقبل؟
- هل سيزدهرُ بالأمل والسلام؟
- قلْ لي، حقًّا، ألا يكون ثمة حرب؟
- هل ذهبت الحرب إلى الأبد؟
نعم... نتمنى أن تكون الحرب قد ذهبت إلى الأبد... ويزهر على ربا هذه الأرض الأمل والسلام .
بالخبز والورد أنسانا طيب الاستقبال تعب السفر
بوابة جامع السلطان سودت
حسناء تعمل ضمن شرطة السياحة، وجه يعكس ما تريده البلاد من مستقبل جاذب للسياح
زي أوزبكي يحكي جانباً من الفنون ترتديه المرأة