أوزبكستان حكاية من ألف ليلة وليلة في «جوهرة آسيا الوسطى»

أوزبكستان حكاية من ألف ليلة وليلة في «جوهرة آسيا الوسطى»

لم‭ ‬تخلع‭ ‬أوزبكستان‭ ‬زيّها‭ ‬الأحمر‭ ‬الذي‭ ‬ألبسها‭ ‬إياه‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬كاملاً،‭ ‬فما‭ ‬زالت‭ ‬تتحدث‭ ‬الروسية‭ ‬كلغة‭ ‬ثانية‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬الأوزبكية،‭ ‬وحينما‭ ‬تحررت‭ ‬‮«‬جوهرة‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى‮»‬‭ ‬من‭ ‬قبضة‭ ‬‮«‬الكرملين‮»‬،‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬كي‭ ‬جي‭ ‬بي‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تفلح‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬أبوابها‭ ‬أمام‭ ‬الحرية‭ ‬والسياحة‭ ‬والاستثمارات‭ ‬كما‭ ‬تستحقه،‭ ‬بل‭ ‬أبقت‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬المخاوف‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬ورثتها،‭ ‬خشية‭ ‬من‭ ‬الآتي‭ ‬المجهول،‭ ‬الانفتاح‭ ‬المرعب‭ ‬للأنظمة‭ ‬التقليدية‭. ‬ولم‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬الشجاعة‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لفتح‭ ‬النوافذ‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أمام‭ ‬هواء‭ ‬يختلف‭ ‬عمّا‭ ‬تسمح‭ ‬به‭ ‬الحكومة‭ ‬الجالسة‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬وهي‭ ‬تتحكم‭ ‬بنحو‭ ‬نصف‭ ‬العالم‭.‬

سرتُ‭ ‬إليها‭ ‬مأخوذًا‭ ‬بسحر‭ ‬الاكتشاف‭ ‬لبلد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مطروحًا‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬السياحة‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬أنه‭ ‬يتضمن‭ ‬مزارات‭ ‬دينية‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬سمرقند‭ ‬وبخارى،‭ ‬آملًا‭ ‬أن‭ ‬ألتقي‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يدلني‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬بلد‭ ‬معاصر‭ ‬احتكم‭ ‬إلى‭ ‬دستور‭ ‬علماني،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬حاضرة‭ ‬إسلامية‭ ‬مهمّة‭ ‬أخرجت‭ ‬علماء‭ ‬كبارًا،‭ ‬بينهم‭ ‬الزمخشري‭ ‬والبخاري‭ ‬والترمذي‭ ‬والخوارزمي،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬توارت‭ ‬خلف‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأعلام‭ ‬الذين‭ ‬حفظهم‭ ‬التاريخ،‭ ‬بينما‭ ‬غابت‭ ‬أسماء‭ ‬وأسماء‭ ‬في‭ ‬دهاليز‭ ‬النسيان،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تتسع‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأمم‭ ‬إلا‭ ‬لنخبة‭ ‬النخبة‭.‬

تقع‭ ‬جمهورية‭ ‬أوزبكستان‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬ولأنها‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬استراتيجي‭ ‬مهم‭ ‬فقد‭ ‬لقّبت‭ ‬بـ‭ ‬اجوهرة‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطىب،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أكبر‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬آسيا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬عدد‭ ‬السكان،‭ ‬إذ‭ ‬يربو‭ ‬عددهم‭ ‬على‭ ‬33‭ ‬مليون‭ ‬نسمة،‭ ‬يشكل‭ ‬الأوزبك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الثلثين‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬عاصمتها‭ ‬طشقند‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬ما‭ ‬يغري‭ ‬السياح،‭ ‬فإن‭ ‬سمرقند‭ ‬تتصدر‭ ‬اهتمامات‭ ‬الزوار،‭ ‬لكونها‭ ‬تمثّل‭ ‬تاريخًا‭ ‬حضاريًّا‭ ‬مهمًّا‭.‬

أوزبكستان‭ ‬أرض‭ ‬الاستكشاف‭ ‬العظيم،‭ ‬بلد‭ ‬سيضع‭ ‬قدمه‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬السياحة‭ ‬العالمية‭ ‬مستقبلًا،‭ ‬فمدن‭ ‬كطشقند‭ ‬وبخارى‭ ‬وسمرقند‭ ‬وخيوة‭ ‬ومرغلان‭ ‬وشهرسبز‭ ‬وترمذ،‭ ‬مستحقّة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حاضرة‭ ‬على‭ ‬أجندة‭ ‬السائح،‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬دولنا‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬ليقرأ‭ ‬صفحات‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬حضارته‭ ‬المسافر‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬البلاد،‭ ‬واضعًا‭ ‬بصمة‭ ‬إنسانية‭ ‬عظيمة،‭ ‬فبين‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭ ‬من‭ ‬تضرب‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬التاريخ‭ ‬آلاف‭ ‬السنوات،‭ ‬وشكّلت‭ ‬في‭ ‬منعطفات‭ ‬تاريخية‭ ‬عدة‭ ‬أهمية‭ ‬كبرى،‭ ‬فكانت‭ ‬حواضر‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬العظيم‭ ‬كنقطة‭ ‬التقاء‭ ‬القوافل‭ ‬والتجار،‭ ‬وبالطبع‭ ‬الحضارات‭ ‬الأخرى،‭ ‬مؤثرة‭ ‬ومتأثرة‭ ‬بها،‭ ‬صانعة‭ ‬نسيجًا‭ ‬خاصًّا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬اللقاءات‭ ‬والحوارات،‭ ‬وكانت‭ ‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬محفوفة‭ ‬بأساطير‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬التاريخ،‭ ‬حافظة‭ ‬لنكهات‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬ترويها‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وثقافة‭... ‬وأزياء‭.‬

رحلة‭ ‬مرهقة

حملتني‭ ‬إلى‭ ‬أوزبكستان‭ ‬رحلة‭ ‬مرهقة‭ ‬عبر‭ ‬مطار‭ ‬دبي،‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬طشقند‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تغفو‭ ‬شمسها،‭ ‬وصفّق‭ ‬ركاب‭ ‬الطائرة‭ ‬بما‭ ‬ذكّرني‭ ‬بتلك‭ ‬العادة‭ ‬القديمة‭ ‬حينما‭ ‬تهبط‭ ‬طائرة‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬ما‭ ‬بسلام،‭ ‬كأنما‭ ‬هي‭ ‬فرحة‭ ‬الوصول‭ ‬أخيرًا،‭ ‬كانت‭ ‬وجوه‭ ‬المكان‭ ‬تحيطنا‭ ‬بسعادة‭ ‬دالّة‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬البلاد،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الوجبة‭ ‬اللذيذة‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬الطائرة‭.‬

كان‭ ‬الطقس‭ ‬يميل‭ ‬لمصلحتنا،‭ ‬إذ‭ ‬الربيع‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬بداياته،‭ ‬وساعة‭ ‬التوقيت‭ ‬تتقدم‭ ‬واحدة‭ ‬عن‭ ‬مسقط،‭ ‬والمطار‭ ‬صغير،‭ ‬حيث‭ ‬اكتفينا‭ ‬ببضع‭ ‬خطوات‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬الجوازات،‭ ‬لكن‭ ‬علينا‭ ‬انتظار‭ ‬ساعة‭ ‬كاملة‭ ‬نترقب‭ ‬وصول‭ ‬موظف‭ ‬التأشيرات‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬الوحيد‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬عمله،‭ ‬كي‭ ‬يفتح‭ ‬لنا‭ ‬بوابات‭ ‬المرور‭ ‬إلى‭ ‬حقائبنا‭ ‬التي‭ ‬كنّا‭ ‬نراها،‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬خطوات‭ ‬منا،‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬االسيرب‭ ‬بانتظار‭ ‬أن‭ ‬نحملها،‭ ‬ونمضي‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬المدينة‭.‬

 

عروس‭ ‬نهر‭ ‬جيحون

كانت‭ ‬المفاجآت‭ ‬المرهقة‭ ‬تتوالى،‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬طشقند‭ ‬بعد‭ ‬مشوار‭ ‬نحو‭ ‬ساعة،‭ ‬رأينا‭ ‬فيه‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬المدينة،‭ ‬وحيثما‭ ‬كنا‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الاحتماء‭ ‬بسرير‭ ‬نرمي‭ ‬إليه‭ ‬حمل‭ ‬تعبنا،‭ ‬إذا‭ ‬بمستقبلينا‭ ‬يرشدوننا‭ ‬إلى‭ ‬مطعم‭ ‬نتناول‭ ‬فيه‭ ‬وجبتنا‭ ‬والانتظار‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬أخرى‭ ‬ريثما‭ ‬يصل‭ ‬موعد‭ ‬الانطلاق‭ ‬إلى‭ ‬المطار‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬حيث‭ ‬مدينة‭ ‬ترمذ‭ - ‬وينطقونها‭ ‬ترمز‭ - ‬تترقب‭ ‬وصولنا،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬المبيت‭ ‬في‭ ‬اعروس‭ ‬نهر‭ ‬جيحونب،‭ ‬هناك‭ ‬يكون‭ ‬الحدث‭ ‬الذي‭ ‬جئنا‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬مهرجان‭ ‬فنون‭ ‬باخشي‭. ‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬المسافة‭ ‬طويلة‭ ‬بين‭ ‬طشقند‭ ‬وترمذ،‭ ‬لكن‭ ‬فترات‭ ‬الانتظار‭ ‬تتمدد،‭ ‬فالوقت‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬تلك‭ ‬الحساسية‭ ‬التي‭ ‬اعتدناها،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الـ‭ ‬اخمس‭ ‬دقائقب‭ ‬التي‭ ‬طلبوا‭ ‬منا‭ ‬الانتظار‭ ‬خلالها‭ ‬أمام‭ ‬شباك‭ ‬موظف‭ ‬التأشيرات،‭ ‬فتكاثرت‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬نحو‭ ‬60‭ ‬دقيقة،‭ ‬لكن‭ ‬لطف‭ ‬البشر‭ ‬وابتساماتهم‭ ‬ينسيان‭ ‬المرء‭ ‬كل‭ ‬تعب،‭ ‬أو‭ ‬تأخير،‭ ‬حيث‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬ترمذ‭ ‬محفوف‭ ‬ببهجة‭ ‬منتظرة‭.‬

على‭ ‬الجانبين،‭ ‬أمام‭ ‬بوابة‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬المطار،‭ ‬كانت‭ ‬الصبايا‭ ‬والشباب‭ ‬يعزفون‭ ‬ويغنّون،‭ ‬ويغمروننا‭ ‬بمحبة‭ ‬الاستقبال‭ ‬الجميل،‭ ‬ووصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مقاعد‭ ‬الباصات‭ ‬الأنيقة‭ ‬المنتظرة،‭ ‬وفي‭ ‬يد‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬وردة،‭ ‬وقطعة‭ ‬خبز،‭ ‬كأنما‭ ‬صار‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭: ‬خبز‭... ‬وورد‭.‬

قيل‭ ‬لنا‭ ‬إنه‭ ‬معكم‭ ‬فاروق،‭ ‬أحد‭ ‬المرشدين‭ ‬الذين‭ ‬توزعوا‭ ‬بالعشرات،‭ ‬وبملابس‭ ‬مميزة،‭ ‬على‭ ‬الوفد‭ ‬الزائر‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬البلدان،‭ ‬فاروق‭ ‬طالب‭ ‬جامعي‭ ‬يجيد‭ ‬الهدوء،‭ ‬كان‭ ‬رفيقًا‭ ‬هادئًا،‭ ‬يغمرنا‭ ‬بلطفه،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنك‭ ‬تتمنى‭ ‬لو‭ ‬يتركك‭ ‬قليلًا‭ ‬لترى‭ ‬البلاد‭ ‬دون‭ ‬الشعور‭ ‬بذنب‭ ‬أنك‭ ‬ترهق‭ ‬أحدًا‭ ‬معك‭.‬

 

مهرجان‭ ‬عالمي

المدينة‭ ‬تعيش‭ ‬بهجتها‭ ‬بوجود‭ ‬مهرجان‭ ‬عالمي‭ ‬للفنون،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬رؤية‭ ‬أزياء‭ ‬مختلفة‭ ‬التصاميم‭ ‬والألوان،‭ ‬ومن‭ ‬أمكنة‭ ‬عدة‭ ‬تتوزع‭ ‬على‭ ‬أقاليم‭ ‬البلاد‭ ‬التسعة‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬بفنونها‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬الواسعة‭ ‬المحتضنة‭ ‬فعاليات‭ ‬مهرجان‭ ‬فنون‭ ‬باخشي،‭ ‬في‭ ‬نسخته‭ ‬الأولى‭. ‬

بدأنا‭ ‬صباحنا‭ ‬بجولة‭ ‬تعرّفنا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تضمه‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬حضاري‭ ‬تجمّله‭ ‬تلك‭ ‬الحقول‭ ‬الخضراء‭ ‬على‭ ‬ضفتي‭ ‬الشارع‭. ‬بعد‭ ‬خروجنا‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬أحد‭ ‬الآثار‭ ‬التاريخية‭ ‬قابلتنا‭ ‬شرطية‭ ‬حسناء،‭ ‬كدليل‭ ‬على‭ ‬رغبة‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬الانفتاح‭ ‬سياحيًّا،‭ ‬تقدم‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬شرطة‭ ‬السياحة،‭ ‬وبلغة‭ ‬إنجليزية‭ ‬شبه‭ ‬نادرة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬تطلب‭ ‬أخذ‭ ‬صورة‭ ‬تذكارية‭ ‬معنا،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬أتخيل‭ ‬أنها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬ملكة‭ ‬جمال‭ ‬حقيقية،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عمّا‭ ‬تمثله‭ ‬هيبة‭ ‬مرتدي‭ ‬الزي‭ ‬الشرطي،‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الدول‭ ‬المعروفة‭ ‬بنظامها‭ ‬الأمني‭ ‬الحازم‭.‬

جميلة‭ ‬ترمذ،‭ ‬ونظيفة،‭ ‬ورائقة،‭ ‬يقطنها‭ ‬نحو‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬نسمة،‭ ‬وتقع‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬الأفغانية‭. ‬أشاروا‭ ‬إلى‭ ‬بالخ،‭ ‬أقرب‭ ‬بقعة‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬وهي‭ ‬المعروفة‭ ‬بأنها‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي،‭ ‬ويمر‭ ‬على‭ ‬الشريط‭ ‬الحدودي‭ ‬نهر‭ ‬أمودريا‭ ‬الذي‭ ‬يبلغ‭ ‬طوله‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2500‭ ‬كلم،‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬يطلقون‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬اجيحونب،‭ ‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬القديم‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬اليونان‭ ‬والرومان‭.‬

وبينما‭ ‬تكون‭ ‬ترمذ‭ ‬باردة‭ ‬جدًا‭ ‬شتاء،‭ ‬فإن‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬صيفًا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الخمسين‭ ‬مئوية،‭ ‬وعلى‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الخط‭ ‬الحدودي‭ ‬سرنا‭ ‬نتأمل‭ ‬البيوت‭ ‬البسيطة‭ ‬بالحقول‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬أمامها‭ ‬وحولها،‭ ‬تعطيها‭ ‬من‭ ‬خيرات‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬يضمن‭ ‬اقتصادًا‭ ‬أسريًّا،‭ ‬حيث‭ ‬التربة‭ ‬والماء‭ ‬والأيادي‭ ‬الكادحة،‭ ‬وأغلبهن‭ ‬للنساء‭ ‬اللاتي‭ ‬يتوزعن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المساحات‭ ‬الممتدة‭.‬

 

وصف‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة

يشير‭ ‬المرافق‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬شرابات،‭ ‬مثلًا،‭ ‬التي‭ ‬تشتهر‭ ‬بالرمان،‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬بضعة‭ ‬أشجار‭ ‬منه،‭ ‬تعود‭ ‬بدخل‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬ستة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬سنويّا‭.‬

وحين‭ ‬وصلها‭ ‬الرحالة‭ ‬الشهير‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة،‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬امدينة‭ ‬كبيرة‭ ‬حسنة‭ ‬العمارة‭ ‬والأسواق،‭ ‬تخترقها‭ ‬الأنهار،‭ ‬وبها‭ ‬البساتين‭ ‬الكبيرة‭ ‬والعنب،‭ ‬والسفرجل‭ ‬بها‭ ‬متناهي‭ ‬الطيب،‭ ‬واللحوم‭ ‬بها‭ ‬كثيرة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الألبانب،‭ ‬ووصف‭ ‬أهلها‭ ‬بأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬ايغسلون‭ ‬رؤوسهم‭ ‬في‭ ‬الحمام‭ ‬باللبن‭ ‬عوضًا‭ ‬عن‭ ‬الطفل،‭ ‬ويكون‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬صاحب‭ ‬حمام‭ ‬أوعية‭ ‬كبيرة‭ ‬مملوءة‭ ‬لبنًا،‭ ‬فإذا‭ ‬دخل‭ ‬الرجل‭ ‬الحمام‭ ‬أخذ‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬إناء‭ ‬صغير‭ ‬فغسل‭ ‬رأسه،‭ ‬وهو‭ ‬يرطب‭ ‬الشعر‭ ‬ويصقلهب‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الصحراء‭ ‬قادنا‭ ‬المشرفون‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬متهالك،‭ ‬يدعى‭ ‬فاياز‭ ‬تيبا،‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬معبد‭ ‬بوذي‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬تيمور‭ ‬لنك‭ ‬دمره،‭ ‬ذلك‭ ‬البناء‭ ‬الطيني‭ ‬بقي‭ ‬أطلالًا‭ ‬وسط‭ ‬صحراء‭. ‬

جلنا‭ ‬قليلًا‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬غرفًا‭ ‬للعبادة‭ ‬ومساكن‭ ‬للرهبان‭ ‬والزوار‭ ‬الذين‭ ‬يحجون‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬أمكنة‭ ‬شتى،‭ ‬وتوجد‭ ‬غرف‭ ‬أخرى‭ ‬للطبخ‭ ‬وتخزين‭ ‬المؤونة‭. ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬عمره‭ ‬نحو‭ ‬ألفي‭ ‬عام،‭ ‬ومثّل‭ ‬مركزًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬البوذية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬الهند،‭ ‬ثم‭ ‬انتشرت‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى‭ ‬كالصين‭ ‬وكوريا‭ ‬واليابان‭. ‬القش‭ ‬المخلوط‭ ‬مع‭ ‬الطين‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬بتاريخية‭ ‬المكان‭ ‬يمنحه‭ ‬أفقًا‭ ‬هائلًا‭ ‬للتأمل‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬الدنيا‭ ‬والحياة‭.‬

 

جامع‭ ‬السلطان‭ ‬سودت

من‭ ‬ذلك‭ ‬الأثر‭ ‬البوذي‭ ‬إلى‭ ‬أثر‭ ‬ديني‭ ‬آخر،‭ ‬حيث‭ ‬الـ‭ ‬اكوكلدورب‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬أثرًا‭ ‬له‭ ‬دلالات‭ ‬عدة،‭ ‬هو‭ ‬رجل‭ ‬صالح‭ ‬بشعر‭ ‬طويل‭ ‬بقي‭ ‬يصلي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬حتى‭ ‬دفن‭ ‬فيه،‭ ‬وحوله‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬قبرًا‭ ‬تقول‭ ‬الحكاية‭ ‬إنهم‭ ‬آمنوا‭ ‬بقدرة‭ ‬المكان‭ ‬الروحية،‭ ‬وطالما‭ ‬وجدت‭ ‬قبورهم‭ ‬بجوار‭ ‬ضريح‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬فإن‭ ‬مثواهم‭ ‬الجنة‭.‬

ومن‭ ‬ذلك‭ ‬المقام‭ ‬إلى‭ ‬جامع‭ ‬السلطان‭ ‬سودت،‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬للميلاد،‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬ترمذ،‭ ‬حيث‭ ‬عاش‭ ‬ودفن‭ ‬فيها،‭ ‬الجامع‭ ‬بمعماره‭ ‬الجمالي‭ ‬البديع،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مزار‭ ‬هناك‭ ‬حديقة‭ ‬جميلة‭ ‬تحف‭ ‬السائر‭ ‬بأشجارها‭ ‬على‭ ‬الجانبين،‭ ‬ليكون‭ ‬المكان‭ ‬متضمنًا‭ ‬مسجدًا‭ ‬وأبنية‭ ‬عدة‭ ‬حوله،‭ ‬روعة‭ ‬عمرانية‭ ‬مكثنا‭ ‬في‭ ‬تأمّلها‭ ‬حينًا‭ ‬من‭ ‬الوقت‭.‬

وفي‭ ‬المساءات‭ ‬كنا‭ ‬نأخذ‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬المهرجان،‭ ‬موسيقى‭ ‬بألوان‭ ‬تراثية،‭ ‬ووجوه‭ ‬يعلو‭ ‬محيّاها‭ ‬الفرح،‭ ‬ترقص‭ ‬لتروي‭ ‬حكاية‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬منه،‭ ‬ابتسامات‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬الضيوف،‭ ‬ودعوات‭ ‬لمشاركتهم‭ ‬رقصاتهم‭ ‬التراثية‭ ‬وتذوّق‭ ‬مأكولاتهم،‭ ‬يبدون‭ ‬محبة‭ ‬للعرب،‭ ‬كأنه‭ ‬الوفاء‭ ‬لما‭ ‬تركه‭ ‬الرحالة‭ ‬القدامى‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬بنت‭ ‬عليه‭ ‬أوزبكستان‭ ‬مجدها‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وكان‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬يطلبون‭ ‬التصوير‭ ‬معنا،‭ ‬وكنا‭ ‬نشاركهم‭ ‬هذا‭ ‬الفرح‭ ‬الجميل‭.‬

 

أسطورة‭ ‬الـ40‭ ‬فتاة

‭ ‬أخذنا‭ ‬التجوال‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬طيني‭ ‬فخم‭ ‬رغم‭ ‬تهالكه‭ ‬تحت‭ ‬سياط‭ ‬التغيرات‭ ‬المناخية‭ ‬والزمنية،‭ ‬يسمى‭ ‬اقورقسب،‭ ‬حيث‭ ‬عاش‭ ‬نحو‭ ‬40‭ ‬فتاة،‭ ‬فتشير‭ ‬الأسطورة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬بلغت‭ ‬جافهار‭ (‬بنت‭ ‬ملك‭ ‬سمرقند‭) ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬والدها‭ ‬أن‭ ‬يشيّد‭ ‬لها‭ ‬قلعة‭ ‬حصينة،‭ ‬وجمعت‭ ‬حولها‭ ‬أربعين‭ ‬فتاة‭ ‬شجاعة،‭ ‬أقمن‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القلعة،‭ ‬لكن‭ ‬الأعداء‭ ‬هاجموها‭ ‬بشراسة‭ ‬وبدأوا‭ ‬بتحطيم‭ ‬أسوارها،‭ ‬وقادت‭ ‬جافهار‭ ‬فتيات‭ ‬سمرقند‭ ‬ليدافعن‭ ‬ببسالة‭ ‬لأيام‭ ‬طويلة‭ ‬عن‭ ‬القلعة‭ ‬ضد‭ ‬الأعداء‭.‬

لقي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬جنود‭ ‬الأعداء‭ ‬حتفهم،‭ ‬كما‭ ‬قتل‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفتيات،‭ ‬ولم‭ ‬ينج‭ ‬سوى‭ ‬جافهار‭ ‬وعدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬اللاتي‭ ‬أصررن‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬التصدي‭ ‬للعدو‭ ‬وحماية‭ ‬المدينة‭.‬

أضرمت‭ ‬النيران‭ ‬في‭ ‬القلعة‭ ‬وتعالت‭ ‬الصيحات‭ ‬وارتفع‭ ‬العويل‭ ‬والأنين،‭ ‬وبدأت‭ ‬الفتيات‭ ‬بفقدان‭ ‬الأمل‭. ‬لكن‭ ‬جافهار‭ ‬جمعت‭ ‬قواها‭ ‬وهاجمت‭ ‬الأعداء،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬عدتها‭ ‬من‭ ‬السهام‭ ‬نفدت،‭ ‬وتعرضت‭ ‬لإصابات‭ ‬بالغة‭ ‬أوشكت‭ ‬أن‭ ‬تودي‭ ‬بها،‭ ‬واضطرت‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬القلعة‭. ‬

جنود‭ ‬الأعداء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لتقطيع‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬القلعة‭ ‬إربًا،‭ ‬وقفوا‭ ‬صامتين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينبسوا‭ ‬ببنت‭ ‬شفة‭. ‬نهضت‭ ‬جافهار‭ ‬ببطء‭ ‬وسقطت‭ ‬خوذتها‭ ‬الملطخة‭ ‬بالدماء‭ ‬وانسدلت‭ ‬ضفائرها‭ ‬البديعة‭ ‬على‭ ‬متنها،‭ ‬ورفعت‭ ‬سيفها‭ ‬عاليًا،‭ ‬وقالت‭ ‬وهي‭ ‬تشرق‭ ‬بالدموع‭: ‬اأنا‭ ‬جافهار‭. ‬لقد‭ ‬مات‭ ‬جميع‭ ‬فتياتي‭ ‬المحاربات‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬النزال،‭ ‬وإنني‭ ‬أدعو‭ ‬قائدكم‭ ‬للمبارزةب‭. ‬رد‭ ‬القائد‭ ‬قائلًا‭: ‬القد‭ ‬رأيت‭ ‬الجمال‭ ‬والشجاعة‭ ‬في‭ ‬سمرقند،‭ ‬وقد‭ ‬اقتنعت‭ ‬بما‭ ‬رأيت‭. ‬دعونا‭ ‬نغادرب‭... ‬ولبّى‭ ‬الفرسان‭ ‬أوامره‭ ‬وامتطوا‭ ‬خيولهم‭ ‬واختفوا‭. ‬

ولم‭ ‬تغب‭ ‬النذور‭ ‬عن‭ ‬المكان،‭ ‬فكان‭ ‬طلب‭ ‬الصحة‭ ‬والإنجاب‭ ‬والبركة‭ ‬متوارثًا‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬وسمة‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬سائر‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض،‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الروحي‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الواقع‭ ‬الصعب‭.‬

 

في‭ ‬مقام‭ ‬الحكيم

كانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬بعالِم‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬الإمام‭ ‬الترمذي‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه،‭ ‬فالأول‭ ‬هو‭ ‬
أبو‭ ‬عبدالله،‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬الترمذي‭ ‬الملقب‭ ‬بالحكيم‭ ‬الترمذي،‭ ‬أحد‭ ‬علماء‭ ‬أهل‭ ‬السنّة‭ ‬والجماعة،‭ ‬ومن‭ ‬أعلام‭ ‬التصوف‭ ‬السنّي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري،‭ ‬بينما‭ ‬الأشهر‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬الجامع‭ ‬اسنن‭ ‬الترمذيب،‭ ‬أبو‭ ‬عيسى‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى،‭ ‬تفقّه‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الإمام‭ ‬البخاري،‭ ‬وأصبح‭ ‬ضريرًا‭ ‬في‭ ‬كِبره‭ ‬بعد‭ ‬رحلته‭ ‬وكتابته‭ ‬العلم،‭ ‬توفي‭ ‬عام‭ ‬279‭ ‬هـ‭ ‬في‭ ‬ترمذ‭.‬

دخلنا‭ ‬إلى‭ ‬مقام‭ ‬االحكيمب،‭ ‬ووجدنا‭ ‬سراديب‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬غرف‭ ‬صغيرة‭ ‬تحت‭ ‬الأرض،‭ ‬توصل‭ ‬إليها‭ ‬سلالم،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬عبدالله،‭ ‬وربما‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأتباع،‭ ‬يعيشون‭ ‬أيامًا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الغرف‭ ‬للتأمل،‭ ‬والسكينة‭ ‬الروحية‭.‬

وخلال‭ ‬نهارات‭ ‬الربيع‭  (‬الترمذي‭) ‬تأخذنا‭ ‬تلك‭ ‬الحافلات‭ ‬الأنيقة‭ ‬والنظيفة‭ ‬في‭ ‬رحلات‭ ‬سياحية،‭ ‬كأنما‭ ‬نستكشف‭ ‬مكانًا‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬خارج‭ ‬الذاكرة‭ ‬لولا‭ ‬الانفتاح‭ ‬الذي‭ ‬يبديه‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬أوزبكستان‭ ‬بالدفع‭ ‬بعجلة‭ ‬السياحة‭ ‬خطوات‭ ‬جريئة‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬وفي‭ ‬بقاع‭ ‬عدة،‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يجذب‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالسياحة‭ ‬الدينية،‭ ‬فكانت‭ ‬لنا‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬مقام‭ ‬الإمام‭ ‬أبو‭ ‬عيسى‭ ‬الترمذي،‭ ‬ومن‭ ‬المدخل‭ ‬الرئيسي‭ ‬للمكان،‭ ‬ووصولًا‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬المبنى،‭ ‬كانت‭ ‬مقبرة‭ ‬على‭ ‬الجانبين،‭ ‬بعضها‭ ‬بتلك‭ ‬الشواهد‭ ‬الرخامية‭ ‬الأنيقة،‭ ‬وبينها‭ ‬قبور‭ ‬العامة‭ ‬والبسطاء،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬بقي‭ ‬الورد‭ ‬مزهرًا‭ ‬بربيع‭ ‬بديع‭.‬

في‭ ‬نهار‭ ‬تالٍ‭ ‬ذهبت‭ ‬بنا‭ ‬الحافلات،‭ ‬وعددنا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسين‭ ‬ضيفًا‭ ‬على‭ ‬مهرجان‭ ‬باخشي،‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬مينار،‭ ‬حيث‭ ‬تقع‭ ‬منارة‭ ‬جاركورجان،‭ ‬التي‭ ‬شيدت‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر،‭ ‬وكان‭ ‬بجانبها‭ ‬مسجد‭ ‬مشيّد‭ ‬من‭ ‬الطوب‭ ‬المحروق،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يصمد،‭ ‬وبقيت‭ ‬المنارة‭ ‬نقطة‭ ‬جذب‭ ‬سياحي‭ ‬حاليًّا،‭ ‬وقاعدتها‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬ثمانية‭ ‬أضلاع،‭ ‬يبلغ‭ ‬ارتفاع‭ ‬أقواس‭ ‬الداخل‭ ‬20‭ ‬مترًا،‭ ‬ويبلغ‭ ‬ارتفاع‭ ‬المنارة‭ ‬21‭.‬6‭ ‬مترًا،‭ ‬وعرضها‭ ‬في‭ ‬الأسفل‭ ‬5‭.‬4‭ ‬أمتار،‭ ‬والمنارة‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬السرخسي‭ ‬مطوقة‭ ‬بشريط‭ ‬من‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬تعلوه‭ ‬نتوءات‭ ‬كلسية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الجزء‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬المنارة‭ ‬انهار‭ ‬ولم‭ ‬يصمد،‭ ‬لكن‭ ‬الحكومة‭ ‬الأوزبكية‭ ‬أعادت‭ ‬ترميمها‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

 

طشقند‭... ‬الهدوء‭ ‬والنظافة

كأنما‭ ‬أبيات‭ ‬الشاعر‭ ‬الأوزبكي‭ ‬الكبير‭ ‬غفور‭ ‬غلام،‭ ‬رفيقة‭ ‬استكشافي‭ ‬لعاصمة‭ ‬هذه‭ ‬البلاد،‭ ‬حيث‭ ‬حطت‭ ‬الطائرة‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬في‭ ‬مطارها،‭ ‬يقول‭:‬

 

أأنت‭ ‬يتيم؟

اطمئن‭ ‬يا‭ ‬قريبي‭!‬

لهفة‭ ‬الشمس‭ ‬الطيبة‭ ‬تنحني‭ ‬فوقك،

عطف‭ ‬الأمومة‭ ‬العميق‭ ‬فياض،

يرعى‭ ‬البلد‭ ‬الكبير‭ ‬طفولتك

هنا‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬بيتك،‭ ‬هنا‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬هدوئك

نم،‭ ‬يا‭ ‬قطعة‭ ‬روحي،‭ ‬يا‭ ‬صغيري‭!‬

 

مدهشة‭ ‬طشقند،‭ ‬عدتُ‭ ‬إليها‭ ‬كأنما‭ ‬أقتص‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الساعات‭ ‬القلائل‭ ‬التي‭ ‬وصلتها‭ ‬إليها،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬آنس‭ ‬إليها‭ ‬ارتحلنا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬ترمذ،‭ ‬ومنذ‭ ‬لحظة‭ ‬أن‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬المطار،‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية‭ ‬خلال‭ ‬خمسة‭ ‬أيام،‭ ‬أردت‭ ‬استكشاف‭ ‬المدينة‭ ‬فورًا،‭ ‬شدتني‭ ‬تلك‭ ‬المساحات‭ ‬الخضراء،‭ ‬الشوارع‭ ‬المنظمة،‭ ‬المماشي‭ ‬المخصصة‭ ‬للسائرين‭ ‬على‭ ‬أقدامهم‭ ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬يقودون‭ ‬دراجاتهم‭ ‬الهوائية،‭ ‬المباني‭ ‬الناطقة‭ ‬بألوانها‭ ‬الحقيقية،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬شوائب‭ ‬عليها‭ ‬مما‭ ‬تذروه‭ ‬الرياح‭ ‬والأمطار‭ ‬من‭ ‬غبار‭ ‬وتأثيرات‭ ‬تأخذ‭ ‬من‭ ‬نصاعتها‭ ‬الأولى‭. ‬

سألت‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬النظافة،‭ ‬فأجابني‭ ‬أحدهم‭ ‬بأن‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬يخصص‭ ‬لتنظيف‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬الطلبة‭ ‬والموظفون،‭ ‬كل‭ ‬في‭ ‬موقعه،‭ ‬بتنظيف‭ ‬مبانيهم‭ ‬والشوارع‭ ‬المحيطة،‭ ‬وهذا‭ ‬نظام‭ ‬قديم‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬لينين‭ ‬استبقى‭ ‬عليه‭ ‬الأوزبك،‭ ‬والرسالة‭ ‬الأهم‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يرمي‭ ‬المخلفات‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬سيعود‭ ‬إلى‭ ‬جمعها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

طشقند‭ ‬تعني‭ ‬االحجارةب،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬أكبر‭ ‬مدن‭ ‬أوزبكستان‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬مدن‭ ‬وسط‭ ‬آسيا،‭ ‬بسكانها‭ ‬الذين‭ ‬يتجاوز‭ ‬عددهم‭ ‬الملايين‭ ‬الثلاثة،‭ ‬وتجمع‭ ‬في‭ ‬جبّتها‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬العاصمة،‭ ‬من‭ ‬سياسة‭ ‬واقتصاد‭ ‬وثقافة‭ ‬وعلوم،‭ ‬فالعاصمة‭ ‬مقسمة‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬مقاطعة،‭ ‬وتتمسك‭ ‬بإرث‭ ‬تاريخي‭ ‬عظيم،‭ ‬وتعد‭ ‬أبرز‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬أوربا،‭ ‬وتتنوع‭ ‬سماتها،‭ ‬بين‭ ‬المدينة‭ ‬المعاصرة‭ ‬إلى‭ ‬القرى‭ ‬القديمة‭ ‬والأضرحة،‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬تاريخي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬القرنين‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬والسادس‭ ‬عشر‭.‬

 

أكبر‭ ‬مقبرة‭ ‬في‭ ‬آسيا

من‭ ‬اللافت‭ ‬كثرة‭ ‬أضرحة‭ ‬الأولياء‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬ومازال‭ ‬الناس‭ ‬يعبّرون‭ ‬عن‭ ‬إجلالهم‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الزيارات‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬السعيدة‭ ‬والحزينة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬مقبرة‭ ‬شاهي‭ ‬زندا‭ (‬الملك‭ ‬الحي‭) ‬أكبر‭ ‬مقبرة‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬وبدأت‭ ‬بضريح‭ ‬القاسم‭ ‬بن‭ ‬العباس‭ (‬ابن‭ ‬عم‭ ‬الرسول‭) ‬،‭ ‬ويعتقد‭ ‬أنه‭ ‬استشهد‭ ‬خلال‭ ‬فتح‭ ‬سمرقند،‭ ‬وتوالت‭ ‬بعدها‭ ‬الأضرحة‭ ‬ترصّ‭ ‬عبر‭ ‬مستويات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬مع‭ ‬تزيينها‭ ‬بالنقوش‭ ‬والألوان،‭ ‬ومنذ‭ ‬القرن‭ ‬العاشر‭ ‬حتى‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬اتسعت‭ ‬المقبرة،‭ ‬وسميت‭ ‬ممراتها‭ ‬بشارع‭ ‬الموتى،‭ ‬والقيمة‭ ‬التاريخية‭ ‬لهذه‭ ‬الأضرحة‭ ‬كونها‭ ‬حفظت‭ ‬معمار‭ ‬كل‭ ‬حضارة‭ ‬وعصر‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬التاسع‭ ‬والثاني‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬بقيت‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬الهدم،‭ ‬لأن‭ ‬الغزاة‭ ‬لم‭ ‬يتجرأوا‭ ‬على‭ ‬المساس‭ ‬بها،‭ ‬خشية‭ ‬انتقام‭ ‬الأولياء‭ ‬منهم،‭ ‬حتى‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬قبورهم‭!‬

وبموازاة‭ ‬العناية‭ ‬بالجوانب‭ ‬الأثرية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬فإن‭ ‬العاصمة‭ ‬بها‭ ‬شواهد‭ ‬لا‭ ‬تحصى‭ ‬معبّرة‭ ‬عن‭ ‬حيوية‭ ‬بلد‭ ‬ينهض‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬إغلاقه‭ ‬خلال‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق،‭ ‬متخذًا‭ ‬درب‭ ‬الانفتاح،‭ ‬ومحاولًا‭ ‬تعويض‭ ‬تأخره‭ ‬عن‭ ‬الدول‭ ‬النافضة‭ ‬دكتاتورية‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬تحت‭ ‬الحكم‭ ‬السوفييتي‭.‬

في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الحافلة‭ ‬المكشوفة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ (‬الباص‭ ‬الكبير‭) ‬وفق‭ ‬تسمية‭ ‬الشركة‭ ‬المشغّلة،‭ ‬وللمرة‭ ‬الأولى‭ ‬ينصحني‭ ‬قاطع‭ ‬التذاكر‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬بأن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬الباص‭ ‬المنطلق‭ ‬بعد‭ ‬ساعتين،‭ ‬بسبب‭ ‬الزحام‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬انطلاقاته‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬صباحًا،‭ ‬وكانت‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوقت،‭ ‬خالفت‭ ‬النصيحة‭ ‬وتوجهت‭ ‬إليه‭ ‬لأجد‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬المقاعد‭ ‬فارغة،‭ ‬فنظامها‭ ‬مختلف،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬االباصب‭ ‬نفسه‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬جولته‭ ‬بالمواقع‭ ‬السياحية،‭ ‬وليس‭ ‬كما‭ ‬جرت‭ ‬العادة،‭ ‬إذ‭ ‬يمر‭ ‬أحدها‭ ‬كل‭ ‬ربع‭ ‬ساعة‭ (‬تقل‭ ‬أو‭ ‬تزيد‭) ‬على‭ ‬نقاط‭ ‬توقّف‭ ‬عدة،‭ ‬بإمكان‭ ‬السائح‭ ‬الصعود‭ ‬أو‭ ‬النزول‭ ‬متى‭ ‬أراد،‭ ‬واكتملت‭ ‬جولته‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البقعة‭.‬

تخيلت‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬مساحة‭ ‬طشقند‭ ‬خصصت‭ ‬للأشجار‭ ‬والورد،‭ ‬فحيثما‭ ‬تيمم‭ ‬وجهك‭ ‬ترى‭ ‬المتنزهات‭ ‬والممرات‭ ‬الممهدة‭ ‬بينها‭ ‬بإتقان،‭ ‬والزهور‭ ‬التي‭ ‬تزيّن‭ ‬جنبات‭ ‬الشوارع،‭ ‬مع‭ ‬المجسمات‭ ‬الجمالية،‭ ‬والاستفادة‭ ‬مما‭ ‬توفره‭ ‬البيئة‭ ‬من‭ ‬منتجات‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬البهجة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭. ‬

شارع‭ ‬الحب‭... ‬وتيمور‭ ‬لنك

في‭ ‬طشقند‭ ‬يمكن‭ ‬السير‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬مضايقات،‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬باعة‭ ‬جوالين‭ ‬يلحون‭ ‬عليك‭ ‬ببضاعتهم،‭ ‬ولا‭ ‬متسولين‭ ‬يستجدونك‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬االهداياب،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬آسيوية‭ ‬أخرى،‭ ‬أشار‭ ‬علينا‭ ‬مقيم‭ ‬يمني‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬نقصد‭ ‬شارع‭ ‬الحب،‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬أحد،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وصفه‭ ‬اهتدينا‭ ‬إلى‭ ‬بقعة‭ ‬جميلة‭ ‬لا‭ ‬تبعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬فندق‭ ‬أوزبكستان‭ ‬بمعماره‭ ‬المميز،‭ ‬وفي‭ ‬الليل‭ ‬تتحول‭ ‬واجهته‭ ‬كاملة‭ ‬إلى‭ ‬لوحة‭ ‬إعلانات،‭ ‬ساحة‭ ‬تتسع‭ ‬على‭ ‬مفردات‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬الجمال،‭ ‬يتنفس‭ ‬عبرها‭ ‬البشر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هواء‭ ‬نقي،‭ ‬فهي‭ ‬بقعة‭ ‬خضراء‭ ‬تحفّها‭ ‬بعض‭ ‬مجسمات‭ ‬القلوب‭ ‬وحولها‭ ‬بعض‭ ‬المقاهي‭ ‬والمطاعم،‭ ‬ومجمع‭ ‬تجاري،‭ ‬ورجل‭ ‬يرسم‭ ‬الوجوه،‭ ‬والإضاءة‭ ‬فوق‭ ‬الشوارع،‭ ‬كأنه‭ ‬مهرجان‭ ‬حقيقي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬به‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المرتادين،‭ ‬كأنهم‭ ‬أدمنوا‭ ‬رؤية‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬جمال،‭ ‬وعلينا‭ ‬مهمة‭ ‬تنفّس‭ ‬ما‭ ‬استطعنا‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الورد‭ ‬والمصابيح،‭ ‬والتقاط‭ ‬الصور‭ ‬أمام‭ ‬تمثال‭ ‬تيمور‭ ‬لنك،‭ ‬وكانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬مدهشة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمعلوماتي،‭ ‬لماذا‭ ‬تيمور‭ ‬لنك‭ ‬هنا؟‭ ‬وكانت‭ ‬المعلومات‭ ‬صادمة‭ ‬لأعرف‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬أوزبكستان،‭ ‬ودُفن‭ ‬في‭ ‬سمرقند‭.‬

تيمور،‭ ‬تعني‭ ‬االحديدب،‭ ‬ولنك‭ ‬االأعرجب،‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬أرعب‭ ‬العالم‭ ‬بفتوحاته‭ ‬وانتصاراته،‭ ‬وأيضًا‭ ‬وحشيته،‭ ‬حتى‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬الهند‭ ‬احتاجت‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬طوال‭ ‬لترمّم‭ ‬ما‭ ‬أحدثه‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خراب،‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬وهو‭ ‬مؤسس‭ ‬السلالة‭ ‬التيمورية‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬آسيا،‭ ‬واستمرت‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1506‭ ‬للميلاد‭.‬

هذا‭ ‬الأمير‭ ‬الأوزبكي‭ ‬احتل‭ ‬مساحات‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬فدانت‭ ‬له‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬دلهي‭ ‬الهندية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬دمشق،‭ ‬ومن‭ ‬بحيرة‭ ‬آرال‭ ‬إلى‭ ‬العراق،‭ ‬وعاد‭ ‬بغنائم‭ ‬غزواته‭ ‬إلى‭ ‬بلاده،‭ ‬لكن‭ ‬الصين‭ ‬هزمته‭ ‬بقسوة‭ ‬بردها،‭ ‬وعاند‭ ‬نصيحة‭ ‬أطبائه‭ ‬فأصيب‭ ‬بالحمى،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬توفي‭ ‬عاد‭ ‬جثمانه‭ ‬إلى‭ ‬بلاده،‭ ‬ليستقر‭ ‬في‭ ‬اكور‭ ‬أميرب،‭ ‬أي‭ ‬مقبرة‭ ‬الأمير‭ ‬في‭ ‬سمرقند‭.‬

 

الجمال‭ ‬يسير‭ ‬معك

تتجمّل‭ ‬بعض‭ ‬الممرات‭ ‬بإطارات‭ ‬لوحات‭ ‬تضيء‭ ‬ليلًا‭ ‬لتكسر‭ ‬حدة‭ ‬الرتابة،‭ ‬وبما‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬السائر‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬البهجة،‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬انتظار‭ ‬حافلات‭ ‬النقل‭ ‬العام‭ ‬يمكن‭ ‬معرفة‭ ‬كيف‭ ‬يفكر‭ ‬هؤلاء‭ ‬البشر‭: ‬المحطة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬غرفة‭ ‬زجاجية‭ ‬واسعة‭ ‬وأنيقة‭ ‬تحمي‭ ‬المنتظر‭ ‬من‭ ‬حر‭ ‬الصيف‭ ‬وقرّ‭ ‬الشتاء،‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬نحن‭ ‬العرب،‭ ‬بعضها‭ ‬به‭ ‬ركن‭ ‬لمكتبة‭ ‬أو‭ ‬لمقهى‭ ‬صغير،‭ ‬فيمضي‭ ‬وقته‭ ‬في‭ ‬فائدة،‭ ‬يحيطه‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬زاد،‭ ‬لعقله‭ ‬قبل‭ ‬بطنه‭.‬

ضمن‭ ‬جولة‭ ‬الحافلة‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬محطات‭ ‬التوقف‭ ‬ضريح‭ ‬احضرة‭ ‬الإمامب،‭ ‬ويعد‭ ‬ثاني‭ ‬أكبر‭ ‬ضريح‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬وشيّد‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬سيونج‭ ‬خواجه‭ ‬خان،‭ ‬ويتضمن‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الضريح‭ ‬مدرسة‭ ‬البراق‭ ‬خان،‭ ‬ومكتبة‭ ‬عامرة‭ ‬بنوادر‭ ‬المخطوطات‭ ‬الأصلية،‭ ‬أهمها‭ ‬مصحف‭ ‬الخليفة‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان،‭ ‬وهي‭ ‬أقدم‭ ‬نسخة‭ ‬مكتوبة‭ ‬للقرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬353‭ ‬رقعة‭ ‬مكتوبة‭ ‬بالنسخة‭ ‬الأصلية‭ ‬للقرآن‭ ‬بالحجم‭ ‬الكبير،‭ ‬محفوظة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مكتبة‭ ‬خاصة،‭ ‬وكانت‭ ‬قد‭ ‬حفظت‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬خزينة‭ ‬الخليفة‭ ‬لقرون‭ ‬عدة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تُرسل‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬أوزبكستان‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬تيمور‭ ‬لنك‭.‬

حاولنا‭ ‬إقناع‭ ‬حارس‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬حضرة‭ ‬إمام‭ ‬ليسمح‭ ‬لنا‭ ‬بالدخول‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬الخاصة،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬20‭ ‬دقيقة‭ ‬تبقت‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬فتح‭ ‬الأبواب،‭ ‬بينما‭ ‬مشرف‭ ‬االحافلةب‭ ‬لم‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬بالتجوال‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬معمارية‭ ‬مهمة،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل،‭ ‬بينما‭ ‬المحال‭ ‬التجارية‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬سور‭ ‬الجامع‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬أكثر،‭ ‬حيث‭ ‬الفنون‭ ‬التراثية‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬وتذكارات‭ ‬تشرق‭ ‬بحضارة‭ ‬المكان‭ ‬وآثاره‭ ‬العتيقة‭. 

كان‭ ‬اهيمو‭ ‬أريناب‭ ‬يبدو‭ ‬كاستاد‭ ‬كرة‭ ‬قدم،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬يضم‭ ‬مركزًا‭ ‬للتزلج‭ ‬على‭ ‬الجليد،‭ ‬ويعد‭ ‬أحد‭ ‬الصروح‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬طشقند،‭ ‬وتعود‭ ‬تسميته‭ ‬إلى‭ ‬طائر‭ ‬خرافي‭ ‬يسمى‭ ‬الهيمو‭.‬

وتتوافر‭ ‬المطاعم‭ ‬والمقاهي‭ ‬بكثرة‭ ‬في‭ ‬طشقند،‭ ‬وتعد‭ ‬أسعارها‭ ‬رخيصة‭ ‬مقارنة‭ ‬بمثيلاتها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى‭ ‬مجاورة،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬انفتاحها‭ ‬على‭ ‬السياحة‭ ‬بدأ‭ ‬حديثًا،‭ ‬وستغدو‭ ‬هذه‭ ‬الأسعار‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الذكريات‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬المقبلة،‭ ‬إذا‭ ‬تواصل‭ ‬انفتاحها‭ ‬سياحيًّا‭.‬

 

المساء‭ ‬الأخير

وبينما‭ ‬كانت‭ ‬الليلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬طشقند‭ ‬تسحب‭ ‬أذرعتها‭ ‬باردة‭ ‬وممطرة،‭ ‬كان‭ ‬المبنى‭ ‬الأبيض‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬يميننا‭ ‬باهرًا،‭ ‬ويشعرنا‭ ‬بالفخر،‭ ‬فهو‭ ‬مبنى‭ ‬معهد‭ ‬أبي‭ ‬الريحان‭ ‬البيروني،‭ ‬أكبر‭ ‬معاهد‭ ‬المخطوطات‭ ‬في‭ ‬أوزبكستان،‭ ‬مبنى‭ ‬جديد‭ ‬أقيم‭ ‬بأوامر‭ ‬من‭ ‬جلالة‭ ‬السلطان‭ ‬قابوس‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭ ‬المعظم،‭ ‬سلطان‭ ‬عُمان،‭ ‬ليكون‭ ‬رصيدًا‭ ‬عمانيًّا‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬الطيب‭.‬

وبينما‭ ‬كان‭ ‬الفجر‭ ‬يدعونا‭ ‬إلى‭ ‬مغادرة‭ ‬أرض‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬أوزبكستان،‭ ‬كان‭ ‬رصيد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬يملأ‭ ‬الذاكرة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬الحياة‭ ‬بسلام‭ ‬وأمان،‭ ‬ووجدت‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الأوزبكي‭ ‬شكر‭ ‬الله‭ (‬المولود‭ ‬عام‭ ‬1921‭) ‬ما‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭:‬

ماذا‭ ‬سيحصل‭ ‬للعالم‭... ‬في‭ ‬المستقبل؟

‭- ‬هل‭ ‬سيزدهرُ‭ ‬بالأمل‭ ‬والسلام؟

‭-  ‬قلْ‭ ‬لي،‭ ‬حقًّا،‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬ثمة‭ ‬حرب؟

‭-  ‬هل‭ ‬ذهبت‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬الأبد؟

نعم‭... ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الحرب‭ ‬قد‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭... ‬ويزهر‭ ‬على‭ ‬ربا‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬الأمل‭ ‬والسلام‭ .‬

بالخبز‭ ‬والورد‭ ‬أنسانا‭ ‬طيب‭ ‬الاستقبال‭ ‬تعب‭ ‬السفر

بوابة‭ ‬جامع‭ ‬السلطان‭ ‬سودت

حسناء‭ ‬تعمل‭ ‬ضمن‭ ‬شرطة‭ ‬السياحة،‭ ‬وجه‭ ‬يعكس‭ ‬ما‭ ‬تريده‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬مستقبل‭ ‬جاذب‭ ‬للسياح

زي‭ ‬أوزبكي‭ ‬يحكي‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬ترتديه‭ ‬المرأة