الفَضاءُ في القَصِيدَة مِعمَاريةُ النّص الشّعرِي

الفَضاءُ في القَصِيدَة  مِعمَاريةُ النّص الشّعرِي

كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬طرحتْ‭ ‬خصوصيات‭ ‬المقروء‭ ‬والمرئي‭ ‬وتشكيل‭ ‬الفضاء‭ ‬أو‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الإشكالات‭ ‬النظرية‭ ‬والدلالية،‭ ‬سواء‭ ‬ضمن‭ ‬مستوياتها‭ ‬وإمكاناتها‭ ‬التعبيرية‭ ‬والجمالية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬هنا،‭ ‬ضمن‭ ‬أشكال‭ ‬تَمظهُر‭ ‬الكلمة‭ (‬كعلامة‭ ‬مكتوبة‭ ‬أو‭ ‬مرسومة‭) ‬على‭ ‬حامل‭ ‬ما،‭ ‬وانتقال‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬ودلالتها‭ ‬من‭ ‬المقروء‭ ‬إلى‭ ‬المرئي،‭ ‬ومن‭ ‬اللساني‭ ‬إلى‭ ‬البصري،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬ضمن‭ ‬إقامتها‭ ‬في‭ ‬المنطقتين‭ ‬معًا،‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬إشكالات‭ ‬القراءة‭ ‬أو‭ ‬أوجه‭ ‬هذا‭ ‬التمظهر‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬إذ‭ ‬يواجهنا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التبادل‭ ‬الدلالي‭ ‬والوظيفي‭ ‬للخطّي‭ ‬والتصويري‭ ‬معًا،‭ ‬ويكون‭ ‬بوسع‭ ‬الكلمات‭ ‬المكتوبة‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬صورة‭ ‬أو‭ ‬أيقونة،‭ ‬وبمقدور‭ ‬الصورة‭ ‬أن‭ ‬تتشكل‭ ‬أيقونيًّا‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭.‬

ثمة‭ ‬أيضًا‭ - ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الاستعمال‭ ‬المتحول‭ ‬والمتكيف‭ ‬للمكتوب‭ ‬مع‭ ‬المجال‭ ‬البصري‭ ‬والدلالي‭ ‬الذي‭ ‬توضع‭ ‬فيه‭ ‬الكلمات‭ - ‬أسلوب‭ ‬آخر،‭ ‬أو‭ ‬طريقة‭ ‬أخرى‭ ‬للّعب‭ ‬بالكلمات،‭ ‬ضمن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التورية‭ ‬المعتمدة‭ ‬في‭ ‬بنائها‭ ‬وخطابها‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المزج‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬اللساني‭ ‬والبصري‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭. ‬هي‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬استعملها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬الغربية‭ ‬والعربية،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الاستعمال‭ ‬بمنزلة‭ ‬مكوّن‭ ‬بصري‭ ‬وتصويري‭ ‬آخر‭ ‬للكتابة‭ ‬المعتمدة‭ ‬على‭ ‬اللعب‭ ‬البصري‭ ‬بالكلمات‭ ‬أو‭ ‬بالحروف،‭ ‬وتكرارها‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬الأسطر‭ ‬الشعرية،‭ ‬لتشير‭ ‬إلى‭ ‬أرقام‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى،‭ ‬تشكّل‭ ‬بدورها‭ ‬إيقاعًا‭ ‬بصريًّا‭ ‬وصوتيًّا‭ ‬للكلمات‭ ‬وعناصرها‭ ‬الخطية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الصورة‭ ‬تمتح‭ ‬معناها‭ ‬من‭ ‬النظرة،‭ ‬كما‭ ‬يمتح‭ ‬المكتوب‭ ‬معناه‭ ‬من‭ ‬القراءة‮»‬‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬ريجيس‭ ‬دوبري‭ - ‬فإن‭ ‬العين‭ ‬‮«‬تتربى‭ ‬بالكلمات،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أسماء‭ ‬الألوان،‭ ‬وملونة‭ ‬palette‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬والأوصاف‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬تمييز‭ ‬أفضل‭ ‬بين‭ ‬النبرات‭. ‬إن‭ ‬الشعراء‭ ‬الجيدين‭ ‬يدربوننا‭ ‬على‭ ‬النظر‭ ‬أفضل،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كلماتهم‭ ‬عمياء‭ (...)‬،‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬‮«‬يطوّر‮»‬‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬تسعى‭ ‬اللغة‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬إظهار‭ ‬الصورة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬قدراتها‭ ‬التأثيرية‭. ‬هكذا‭ ‬يتحقق‭ ‬المرئي‭ ‬إذن‭ ‬في‭ ‬المقروء،‭ ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬أدبًا‮»‬‭.  ‬ثم،‭ ‬لطالما‭ ‬‮«‬أثار‭ ‬البصري‭ ‬انتباه‭ ‬نخب‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬تقليديًّا‭ ‬بإعراضها‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭. ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬تجلّى‭ ‬واضحًا‭ ‬وبشكل‭ ‬أفضل‭ ‬لدى‭ ‬محترفي‭ ‬الكلمات،‭ ‬الأبعد‭ ‬بمهنتهم‭ ‬وتقاليدهم‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬العرض‭ ‬الصوري‭. ‬ففي‭ ‬سنة‭ ‬1960‭ ‬التقى‭ ‬شخصان‭ ‬مثقفان‭ ‬للعشاء،‭ ‬وتجاذبا‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬عمّا‭ ‬قرآه،‭ ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬1990‭ ‬تحدث‭ ‬الشخصان‭ ‬نفسيهما‭ ‬عمّا‭ ‬شاهداه‮»‬‭.‬

ذلك‭ ‬‮«‬مكتوب‮»‬‭ ‬أسود‭ ‬على‭ ‬أبيض‭: ‬‮«‬تتضمن‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬الشهيرة‭ ‬والمسكوكة‭ - ‬والتي‭ ‬تستعملها‭ ‬أو‭ ‬تلجأ‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬الكتابية،‭ ‬وجلّ‭ ‬الثقافات‭ ‬الإنسانية‭ (‬العالمة‭ ‬منها‭ ‬وغير‭ ‬العالمة‭)‬،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تثبيت‭ ‬شرعية‭ ‬الأشياء‭ ‬ومنحها‭ ‬صفتها‭ ‬القانونية‭ ‬والرسمية‭ - ‬تأكيدًا‭ ‬قاطعًا‭ ‬لقانونية‭ ‬الكتابة‭ ‬وشرعيتها،‭ ‬إذ‭ ‬‮«‬يقوم‭ ‬المرئي‭ - ‬هنا‭ - ‬بتأكيد‭ ‬وضمان‭ ‬وجود‭ ‬المقروء‭. ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الأسود‭ ‬والأبيض‭ ‬ينتميان‭ ‬إلى‭ ‬المجال‭ ‬الرمزي،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأسود‭ ‬أزرقًا،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬الأبيض‭ ‬ورديًّا،‭ ‬ومصحوبًا‭ ‬برسومات‭ ‬لأزهار‭ ‬صغيرة؛‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬البطاقات‭ ‬الخاصة‭ ‬بمراسلات‭ ‬المراهقين‭ ‬أو‭ ‬اليافعين‭. ‬إن‭ ‬الأسود‭ ‬والأبيض‭ ‬هما‭ ‬العلامة‭ ‬البصرية‭ ‬للحقيقة‭ ‬الإبلاغية‭ ‬أو‭ ‬الإخبارية‭. ‬

مِنْ‭ ‬ثَمّ،‭ ‬تكون‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المرئي‭ ‬والمقروء،‭ ‬في‭ ‬أصلها‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬متناقضة،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬هي‭ - ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ - ‬اتفاقية‭ ‬وتاريخية،‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬المرئي‭ - ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ - ‬داخل‭ ‬الكتابة،‭ ‬إلا‭ ‬لينصهر‭ ‬داخل‭ ‬الدلالة‭. ‬وفي‭ ‬اللغة‭ ‬يعمل‭ ‬المقروء‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬المرئي‭ - ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬طبيعته‭ ‬الخاصة‭ - ‬لا‭ ‬مرئيًّا‭. ‬وللتعبير‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى،‭ ‬فإن‭ ‬مرئي‭ ‬الكتابة‭ ‬باعتباره‭ ‬لغة،‭ ‬هو‭ ‬مرئي‭ ‬خاضع‭ ‬للتوجيه‭ ‬ولنوع‭ ‬من‭ ‬الشرطية‭ ‬كذلك‭. ‬إنه‭ ‬مرئي‭ ‬بصيغة‭ ‬المقروء،‭ ‬وبشكل‭ ‬غير‭ ‬منفصل‭ ‬بتاتًا،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬اللغة‭ ‬أبدًا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬مرئية‭ ‬ومنظورة،‭ ‬لكن‭ ‬كلغة‭ ‬مقروءة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‮»‬‭. ‬

 

الفضاء‭ ‬الأيقوني‭ ‬والشعري

إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفضاء‭ - ‬هنا‭ - ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالنص‭ ‬الشعري‭ ‬البصري،‭ ‬هو‭ ‬حديث‭ - ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ - ‬عن‭ ‬تجسيد‭ ‬مادي‭ ‬ومرئي‭ ‬لهذا‭ ‬النص‭ ‬داخل‭ ‬الفضاء،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬في‭ ‬ملمحه‭ ‬النصي‭ (‬حين‭ ‬يشكل‭ ‬النص‭ ‬المكتوب‭ ‬تمظهره‭ ‬البصري‭ ‬الأساسي‭ ‬على‭ ‬الصفحة،‭ ‬ويكون‭ ‬بإمكاننا‭ ‬قراءته‭ ‬قراءة‭ ‬خطية‭ ‬وفق‭ ‬تركيب‭ ‬لفظي‭ ‬ودلالي‭ ‬معيّن‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ملمحه‭ ‬الصوري‭ -  ‬التصويري‭ (‬ حين‭ ‬تشكّل‭ ‬هيئة‭ ‬النص‭ ‬المكتوب‭ ‬أو‭ ‬صورته‭ ‬على‭ ‬الصفحة‭ ‬كذلك‭ ‬تمظهره‭ ‬البصري،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضرورة‭ ‬توافر‭ ‬شرط‭ ‬القراءة‭ ‬الخطية‭ ‬للنص‭ ‬وفكّ‭ ‬دلالته‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ملمحه‭ ‬الأيقوني‭ ‬كذلك‭ (‬ حين‭ ‬تأخذ‭ ‬هيئة‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬الصفحة‭ ‬شكل‭ ‬أيقونة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عمليات‭ ‬المماثلة‭ ‬أو‭ ‬المشابهة،‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬أو‭ ‬هيئة‭ ‬أو‭ ‬شكل‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬كأن‭ ‬يأخذ‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬ترسيمه‭ ‬الخطي‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬شكل‭ ‬شجرة‭ ‬أو‭ ‬مزهرية‭ ‬أو‭ ‬كرسي،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬الخصائص‭ ‬البصرية‭ ‬لأشكال‭ ‬الفضاء‭ ‬التي‭ ‬أتينا‭ ‬على‭ ‬ذكرها‭ ‬هنا،‭ ‬هي‭ ‬خصائص‭ ‬مشتركة‭ ‬ومفارقة‭ ‬لهذه‭ ‬الفضاءات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه؛‭ ‬إذ‭ ‬تكون‭ ‬خصائصها‭ ‬البصرية‭ ‬جميعها‭ ‬مشتركة،‭ ‬فإنها‭ ‬تخضع‭ ‬كلها‭ ‬لعملية‭ ‬الرؤية‭ ‬والإبصار،‭ ‬ومعالجتها‭ ‬كمعطيات‭ ‬أو‭ ‬كمعلومات‭ - ‬ضمن‭ ‬عملية‭ ‬الإدراك‭ ‬والإبصار‭ - ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المخ‭ ‬والجهاز‭ ‬البصري‭. ‬ثم‭ ‬مفارقة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬بعضها‭ ‬يكون‭ ‬قابلاً‭ ‬للقراءة‭ ‬كدالّ‭ ‬خطي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لهذه‭ ‬العملية‭ ‬بتاتًا،‭ ‬وتكون‭ ‬دلالته‭ ‬غير‭ ‬لفظية،‭ ‬بل‭ ‬خاضعة‭ ‬لقراءة‭ ‬بصرية‭ ‬بالأساس،‭ ‬ثم‭ ‬لتأويل‭ ‬تنتسب‭ ‬أدواته‭ ‬إلى‭ ‬القراءة‭ ‬‮«‬السيميولوجية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬السيميوطيقية‮»‬‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتفكيك‭ ‬خطاب‭ ‬الصورة‭ ‬وعلامتها‭ ‬أو‭ ‬عناصرها‭ ‬غير‭ ‬اللسانية،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالقراءة‭ ‬‮«‬السيميائية‮»‬‭ ‬الموكول‭ ‬لها‭ - ‬أساسًا‭ - ‬تأويل‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬كدليل‭ ‬أو‭ ‬كعلامة‭ ‬لسانية‭.‬

بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬أيضًا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الفضاء‭ ‬النصي‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬‮«‬الممنوح‭ ‬للقراءة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬الفضاء‭ ‬الصوري‭ ‬أو‭ ‬التصويري‮»‬‭ ‬و«الفضاء‭ ‬الأيقوني‮»‬‭ ‬بمنزلة‭ ‬فضاءين‭ ‬‮«‬ممنوحين‭ ‬للمشاهدة‮»‬‭ ‬وللنظر،‭ ‬وهكذا‭ ‬يكون‭ ‬للفضاء‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬نماذجه‭ ‬التجسيمية،‭ ‬دور‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬استخلاص‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬والنتائج،‭ ‬و«هذا‭ ‬أمر‭ ‬ليس‭ ‬بدعًا،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬المألوف‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭ ‬واستكناه‭ ‬دلالاته‭ ‬وأبعاده‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشعراء‭ ‬المحدثين‭ ‬والمعاصرين،‭ ‬وبعض‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تجعله‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬الشعرية‭ ‬الأساسية‭ ‬بعدما‭ ‬أغفلته‭ ‬الدراسات‭ ‬البنيوية‭ ‬المعتمدة‭ ‬على‭ ‬النماذج‭ ‬أو‭ ‬المتبنية‭ ‬للمعجمية‭ ‬لاعتمادها‭ ‬على‭ ‬المكتوب‭ ‬وإغفال‭ ‬البياض‮»‬‭. ‬ولنعرض‭ ‬الآن‭ ‬بعض‭ ‬التعريفات‭ ‬المركّزة‭ ‬للفضاءات‭ ‬الثلاثة‭ ‬السالفة‭ ‬الذكر،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البحوث‭ ‬والدراسات‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬بالخصوصيات‭ ‬الشكلية،‭ ‬والبصرية،‭ ‬والوظيفية،‭ ‬والدلالية‭ ‬لهذه‭ ‬الفضاءات‭.‬

 

الفضاء‭ ‬النصي

يقدم‭ ‬محمد‭ ‬الماكري‭ ‬تعريفًا‭ ‬للفضاء‭ ‬النصي‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يحتوي‭ ‬الدال‭ ‬الخطي،‭ ‬وبذلك‭ ‬يبقى‭ ‬المعطى‭ ‬المقدم‭ ‬في‭ ‬إطاره‭ ‬مجرد‭ ‬نص‭ ‬مقدم‭ ‬للقراءة‭. ‬إنه،‭ ‬وفق‭ ‬تعريف‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الفضاء‭ ‬الخطي‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬مساحة‭ ‬محدودة،‭ ‬وفضاء‭ ‬مختارًا‭ ‬ودالَّا‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬حرية‭ ‬الاختيار‭ ‬للشخص‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭. ‬والمعروف‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬لا‭ ‬يتوافر‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الاستعمال‭ ‬الذي‭ ‬ينجزه‭ ‬بفضائه‭ ‬الخطي‭. ‬فأبعاد‭ ‬الحروف،‭ ‬وتنضيد‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬الصفحات‭ ‬والهوامش‭ ‬والفراغات،‭ ‬تخضع‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬لقواعد‭ ‬تواضعية،‭ ‬والحرية‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬الكاتب‭ ‬للتحرك‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬تتم‭ ‬في‭ ‬حيز‭ ‬ضيق‭ ‬جدًا،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يصير‭ ‬معه‭ ‬اختياره‭ ‬اختيارًا‭ ‬دالًّا‮»‬‭. ‬

ثم‭ ‬يستطرد‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬للفضاء‭ ‬النصي‭ - ‬معتمدًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬فرانسوا‭ ‬ليوتار‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مدخل‭ ‬كتابه‭ ‬Le‭ ‬parti‭ ‬Pris‭ ‬du‭ ‬figural،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الخطاب‭ ‬والصورة‮»‬‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬ينطلق‭ ‬ليوتار‭ ‬من‭ ‬مقولة‭ ‬أن‭ ‬المعطى‭ ‬ليس‭ ‬نصًّا،‭ ‬وأن‭ ‬بداخله‭ ‬يوجد‭ ‬سُمْك،‭ ‬أو‭ ‬بالتالي‭ ‬اختلاف‭ ‬تكويني،‭ ‬ليس‭ ‬معطى‭ ‬للقراءة‭ ‬ولكن‭ ‬للرؤية‮»‬‭.‬

وبناء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المُسَلّمة‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬فضاءين‭ ‬هما‭ ‬الفضاء‭ ‬النصي‭ ‬والفضاء‭ ‬التصويري،‭ ‬وعن‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الفضاءين‭ ‬ينتج‭ ‬فرق‭ ‬أنطولوجي،‭ ‬لأن‭ ‬الفضاءين‭ ‬المذكورين‭ ‬يمثّلان‭ ‬مرتبتين‭ ‬متميزتين‭ ‬من‭ ‬المعاني،‭ ‬فهما‭ ‬يشتركان‭ ‬في‭ ‬التبليغ،‭ ‬لكنهما‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬منفصلان‭.‬

إن‭ ‬الفضاء‭ ‬النصي،‭ ‬حسب‭ ‬ليوتار‭ - ‬يضيف‭ ‬الماكري‭ - ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬فيه‭ ‬تسجيل‭ ‬الدال‭ ‬الخطي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الفضاء‭ ‬الصوري‭ ‬الذي‭ ‬تُعَرّفه‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬تصويري‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬‮«‬غير‭ ‬تصويري‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬المجرد‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬النقد‭ ‬المعاصر‭ ‬والتشكيل،‭ ‬والخاصية‭ ‬المناسبة‭ ‬لهذه‭ ‬المقابلة‭ ‬هي‭ ‬مماثل‭ ‬الممثِّل‭ (‬بكسر‭ ‬الثاء‭) ‬للممثَّل‭ (‬بفتح‭ ‬الثاء‭) ‬في‭ ‬الإمكانية‭ ‬الممنوحة‭ ‬للمشاهد‭ ‬كي‭ ‬يتعرف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأول‭. ‬وهذه‭ ‬الخاصية‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬حاسمة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للشكل‭ ‬الذي‭ ‬يطرحه،‭ ‬فالتصويرية‭ ‬خاصية‭ ‬تهمّ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الموضوع‭ ‬التشكيلي‭ ‬وما‭ ‬يمثله،‭ ‬وهي‭ ‬تنمحي‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬للوحة‭ ‬وظيفة‭ ‬تمثيل،‭ ‬أي‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬موضوعًا‭. ‬لذلك‭ ‬يقترح‭ ‬الانصراف‭ ‬بالاهتمام‭ ‬إلى‭ ‬التنظيم‭ ‬الدال‭ ‬فقط‭. ‬والتنظيم‭ ‬الدال‭ ‬يتمحور‭ ‬حول‭ ‬قطبين‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬هما‭: ‬الحرف‭ ‬والسطر‮»‬‭.‬

 

الفضاء‭ ‬التصويري‭ ‬

‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬هو‭ ‬مخالف‭ ‬للفضاء‭ ‬الأول‭ (‬النصي‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬‮«‬يعتبر‭ ‬مكملاً‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نتلقاه‭ ‬لنقرأه‭ ‬بصريًّا‭ ‬ليس‭ ‬نصًّا،‭ ‬فبداخله‭ ‬يوجد‭ ‬سُمْك،‭ ‬وبالتالي‭ ‬اختلاف‭ ‬تكويني،‭ ‬ليس‭ ‬معطى‭ ‬للقراءة،‭ ‬لكن‭ ‬للرؤية،‭ ‬وهذا‭ ‬الممنوح‭ ‬للرؤية‭ ‬داخل‭ ‬النص‭ ‬هو‭ ‬فضاؤه‭ ‬الصوري،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الفضاء‭ ‬النصي‭ ‬هو‭ ‬الممنوح‭ ‬للقراءة‭ (...) ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الفضاء‭ ‬النصي‭ ‬يمنح‭ ‬أدلته‭ ‬للعين‭ ‬المسترسلة‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬ومسح‭ ‬المكتوب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬مكونات‭ ‬الفضاء‭ ‬الصوري‭ ‬تستدعي‭ ‬توقّف‭ ‬هذا‭ ‬الاسترسال،‭ ‬وتستلزم‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬أطول‭ ‬للإدراك‭. ‬والسطر‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬مكونًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬النصي‭ ‬الخطي،‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عنصر‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الصوري‭ ‬بمجرد‭ ‬ما‭ ‬يصير‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للتعرف،‭ ‬أي‭ ‬للقراءة‭. ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬السطر‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬مكونًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الصوري‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يتلبس‭ ‬دلالة‭ ‬لسانية‭ ‬ممنوحة‭ ‬للقراءة‭. ‬فهو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الفضاء‭ ‬النصي‭ ‬عنصر‭ ‬كتابة،‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬الفضاء‭ ‬الصوري‭ ‬عنصر‭ ‬تشكيل‮»‬‭.‬

 

الفضاء‭ ‬الأيقوني

أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتعريف‭ ‬بـخصائص‭ ‬‮«‬الفضاء‭ ‬الأيقوني‮»‬،‭ ‬كثالث‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الفضاءات‭ ‬التي‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنها‭ ‬سابقًا،‭ ‬والتي‭ ‬شكّلت‭ ‬أيضًا‭ ‬ملمحًا‭ ‬بصريًّا‭ ‬أساسيًّا،‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬التعبيري‭ ‬والجمالي،‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬التدوينات‭ ‬النصية‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الشعرية‭ ‬البصرية‭ ‬العربية‭ ‬وغير‭ ‬العربية،‭ ‬فيمكن‭ ‬الاستئناس‭ - ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ - ‬بما‭ ‬قدمته‭ ‬‮«‬جماعة‭ ‬مو‮»‬‭ ‬من‭ ‬اشتغالات‭ ‬أساسية‭ ‬وعميقة‭ ‬على‭ ‬العلامة‭ ‬الدالة،‭ ‬وبلاغة‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬البصري،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابها‭ ‬Traité‭ ‬du‭ ‬signe‭ ‬visuel‮ ‬‭:‬Pour‭ ‬une‭ ‬rhétorique‭ ‬de‭ ‬l’image،‭  ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬مقاربة‭ ‬مسألة‭ ‬الأيقونية‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬والفضاءات‭ ‬الدالة‭ ‬بصريًّا،‭ ‬بهذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحتها‭ ‬‮«‬جماعة‭ ‬مو‮»‬‭ ‬نفسها‭: ‬

‭- ‬متى‭ ‬تكون‭ ‬واقعة‭ ‬أو‭ ‬عملاً‭ ‬بصريًّا‭ ‬ما‭ ‬أيقونة؟‭ ‬وهل‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬هي‭ ‬بمنزلة‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المنبهات‭ ‬البصرية؟‭ ‬ما‭ ‬يقود‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬والتباسًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أي‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يثير‭ ‬سيرورة‭ ‬الترابط‭ ‬بهذه‭ ‬المنبهات‭ ‬الخاصة‭ ‬بمرجع‭ ‬ما،‭ ‬وبصنف‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬علامة؟‭ ‬سؤال‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬ضروريًّا‭ ‬وسابقًا‭ ‬للتجربة‭: ‬بحيث‭ ‬إذا‭ ‬التقيت‭ ‬بقطّ،‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭ ‬عمومًا‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬أيقونة‭ ‬لصورة‭ ‬قط‮»‬،‭ ‬مثلما‭ ‬أورد‭ ‬ذلك‭ ‬لوسيان‭ ‬غولدمان‭. ‬

ذلك‭ ‬يقودنا‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬مسألة‭ ‬الأيقونية،‭ ‬أو‭ - ‬بالأحرى‭ - ‬إلى‭ ‬‮«‬نقد‭ ‬فكرة‭ ‬أو‭ ‬مفهوم‭ ‬الأيقونية‮»‬‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬المشَكّل‭ ‬بصريًّا‭ ‬وفي‭ ‬خطاب‭ ‬الصورة‭ ‬وبلاغتها‭ ‬البصرية‭ ‬بشكل‭ ‬أساس،‭ ‬إذ‭ ‬طالما‭ ‬‮«‬طرح‭ ‬مفهوم‭ ‬الأيقونية‭ ‬مسائل‭ ‬عدة‭: ‬بعضها‭ ‬منطقي‭ ‬وإبستيمولوجي،‭ ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬تقني‭. ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬المسائل‭ ‬مجتمعة‭ ‬ظلت‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة‭ ‬تُرسخ‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الأيقنة‮»‬‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬شك،‭ ‬وأنه‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬إخلاؤه‭ ‬من‭ ‬التنظير‭. ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬فإن‭ ‬أمبرتو‭ ‬إيكو‭ - ‬يضيف‭ ‬تحليل‭ ‬‮«‬جماعة‭ ‬مو‮»‬‭ - ‬هو‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬وبالطريقة‭ ‬الأكثر‭ ‬والأشد‭ ‬برهنة‭. ‬إذ‭ ‬يعود‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭. ‬وقد‭ ‬انصب‭ ‬نقده‭ ‬على‭ ‬الأفكار‭ ‬والمفاهيم‭ ‬الساذجة‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬التعريفات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالعلامة‭ ‬الأيقونية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كلمات‭ ‬أو‭ ‬عبارات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬تشابه،‭ ‬تناظر،‭ ‬بواعث،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬تلحّ‭ ‬وتشدد‭ ‬على‭ ‬تشابهات‭ ‬الشكل‭ ‬أو‭ ‬المظهر‭ ‬الخارجي‭ ‬للعلامة‭ ‬والشيء‭ ‬الذي‭ ‬تمثّله‭.‬

‭ ‬

الفضاء‭ ‬الشعـري

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للفضاء‭ ‬الشعري،‭ ‬فيمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭ - ‬ضمن‭ ‬الخصوصيات‭ ‬الفضائية،‭ ‬والتعبيرية،‭ ‬والجمالية‭ ‬نفسها‭ ‬للنص‭ ‬الشعري‭ ‬البصري‭ - ‬حين‭ ‬يصير‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬المكتوب‭ ‬أساسًا‭ ‬‮«‬تتابعًا‭ ‬لعلامات‭ ‬بصرية‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬معيّنة،‭ ‬وهذه‭ ‬العلامات‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬نطاق‭ ‬الأدلة‭ ‬اللغوية‭. ‬وبمجرد‭ ‬ما‭ ‬يباشر‭ ‬القارئ‭ ‬اتصاله‭ ‬بالنص‭ ‬المكتوب،‭ ‬تحتوي‭ ‬عينه‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬هيئته‭ ‬البصرية‭ ‬تلك،‭ ‬وفي‭ ‬كليته‭ ‬التي‭ ‬يضبطها‭ ‬توزعه‭ ‬الفضائي‭. ‬هذه‭ ‬المباشرة‭ ‬الأولى‭ ‬تحدد‭ ‬الرغبة‭ ‬أو‭ ‬العزوف‭ ‬عن‭ ‬تحلّي‭ ‬تفاصيل‭ ‬التنظيم‭ ‬المكتوب‭ ‬أو‭ ‬المطبوع،‭ ‬وذلك‭ ‬باعتبار‭ ‬المظاهر‭ ‬التالية‭: (‬السعة‭ - ‬التنظيم‭ - ‬التناسق‭ - ‬نسبة‭ ‬السواد‭ ‬والبياض‭). ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬المباشرة‭ ‬لا‭ ‬تحدد‭ ‬فقط‭ ‬الرغبة‭ ‬أو‭ ‬العزوف،‭ ‬بل‭ ‬تقدم‭ ‬للمتلقي‭ ‬مداخل‭ ‬متعددة‭ ‬لقراءة‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ .‬