الحضور الألمانيّ في الأدب العربيّ

الحضور الألمانيّ في الأدب العربيّ

قبل قرنين ونيِّف من الزمان، كان شاعر الألمان الأكبر يوهان ولفجانج جوته (ت. 1832م) يعالج تَدَاعي أقطار نفسه، عقب نهاية قصة حبٍّ كبيرة، بقصائد غزلية، تطوي ضرامَ وَجْده بالفنانة والشاعرة النمساوية مريان يونج، ويضمُّ القصيدة بعد القصيدة إلى «سِفر العشق» الذي يتوسّط قلب ديوانه الشرقيّ، وها هو يتخذ لنفسه اسم حاتم، ويسمّي صاحبته زليخا، ثم يهتف بها لتكون موكّلةً بعمامته الشرقية المَوصلية النسيج: 
«هذي عمامتي، ناصعة البياض، فضفاضة الأطراف،
فتعالي يا حبيبتي، واعصبي بها جبهتي
فما العظمة؟! ترمقني عيناكِ، فإذا أنا الملك العظيم الشأن!».

 

يدعو الولع بالشرق (موطن العمامة) جوته إلى التفلّتِ من أَسْر مريان ولطف شمائلها، ليعود الشاعر إلى استغراقه الأثير في ثقافة الشرق وأدبه، مواصلًا رحلته الروحية الجليلة القدر إلى عوالمه المتخيلة، وكما بدت في قراءاته، فلقد أقبل منذ صباه وحتى آخر أيامه على دراسة الشرق وآدابه، وتناول المعلّقات الشعرية، كما تناول الإسلام، وشخصية الرسول محمد [، وشعر حافظ الشيرازي في كثير من كتاباته تناولًا مستوعبًا حميدًا.
ولأن الرحلة لم تكن مادية، وإنما كانت روحية بعيدة الأغوار، انصرف فيها كبير أدباء الألمان بكل جوارحه، وفورة إحساسه، وطلاقة خياله إلى أجواء الشرق الساحر، وما يضم من بوادٍ وحواضر، فقد آب من الرحلة، أو بالأحرى من تلك الهجرة، بحصاد أدبي وفير، وبعض قصص الحب الواقعية والمتخيلة، وكان قد أظهر هذا الحصاد ديوانه الموسوم «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي»، كما سماه هو بهذه الصيغة العربية، وقد أتم نظمه في عام 1815م، عام وداع مريان، وتصدّرته قصيدة «الهجرة»، وفيها ينادي الناقمين على مدنية الغرب، وتوحش صراعاته وحروبه، الحالمين بالنقاء والصدق، يناديهم ليهاجروا إلى الشرق، وليستروحوا بالعود والطِّيب من الآباء الأوائل الطيبين.
لقد بلغت فتنة الشاعر بالشرق مبلغًا عظيمًا، وظل متعلق القلب واللبّ به، حتى أمل في دخول الجنة التي وعد بها المسلمون، وهو ما عبّرت عنه مقطوعة حوارية، يقف فيها الشاعر على باب الجنة محاورًا إحدى الحوريات:
«الحورية: اليوم أنا الموكلة بباب النعيم، ولا أدري ما العمل وأنت عندي ظنين، أتراك حقًا من معشر المسلمين؟... وهل استحققت دخول الجنة على جهادك؟ أحقًا أنت من المجاهدين؟ فاكشف إذن عن جراحك، لتشهد جراحك بما قدمت من المآثر إن كنت من الصادقين، فإني لأحب لك الدخول».
الشاعر جوته: فيم هذه المراسم كلها، دعيني أدخل الجنة على كل حال، لقد عشت رجلًا، أي أنني كنت من المجاهدين، ألا حددي طرفك، وأمعني النظر في فؤادي، اشهدي ما به من جراح الحياة المؤلمة، اشهدي ما به من جراح الحب المستعذبة، ومع هذا فما برحت مؤمنًا أتغنى بوفاء حبيبتي الهاجرة، وبمودة الدنيا الدائرة وقضائها في الآخرة حق المحسنين، لقد عملت مع صفوة العاملين، وجاهدت مع خيرة المجاهدين، وتألق اسمي - بحروف مشبوبة الأنوار - في قلوب الصالحين الأبرار».
(راجع: عبدالرحمن صدقي: الشرق والإسلام في أدب جوته، ص 114 و175).

لمحة وافية
أحسب أن هذه اللمحة من حياة شاعر الألمان الأعظم وافية، بوصفها مثالًا دالًا على ما بلغه الحضور الشرقيّ، والعربي منه على وجه الخصوص، في عمق الأدب الألماني، وأن أوربا - إبان نهضتها الحديثة - لم تنس الشرق، ولم تغفل عنه، بل نهلت من فنونه وعلومه التراثية أكثر مما يبدو في ظاهر نتاج نهضتها، وتتعمق هذه الدلالة إذا تذكّرنا أن جوته واحد من ثلاثة أعلام يعدهم الأوربيون مفاخر الأدب والفكر - إضافة إلى دانتي الإيطالي وشكسبير الإنجليزي - ليكبر الإدراك بأهمية عناية جوته بالثقافة الشرقية، وتأثره بها.
في اتجاه مقابل، وبعد ستة عقود تقريبًا من وفاة جوته، تحضر الثقافة الألمانية في الأدب العربي حضور نهضة وتقدم، وفي سياق من التطلع الحضاري لدى طلائع التنوير ورواده في العصر الحديث، فيذهب - هذه المرة - الشرقُ إلى الغرب ذهاب روح وجسد، وذلك حين اختارت وزارة المعارف المصرية الأديب الشيخ حسن توفيق العدل (1862 - 1904م)، وبعد تخرّجه في دار العلوم في عام 1887م بفترة وجيزة، ليكون معلمًا للغة العربية بالمدرسة الشرقية في برلين، ويسجل الشيخ وقائع رحلته في كتاب مهم في باب أدب الرحلة، حمل عنوان «رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا في سنة 1889م»، إضافة إلى رسائل «الرحلة البرلينية» وتضم ثلاثة عشر جزءًا، موجهة إلى نظارة المعارف، وطبعت على الحجر بعنوان «رحلة حسن أفندي توفيق».

رؤى مستنيرة
تكمن القيمة النوعية لرحلة العدل في الوجهة التي اتجه إليها، وهي ألمانيا وسويسرا، وينضم صاحبها برؤاه التوفيقية المستنيرة، وسؤال النهضة والتقدم الذي ما ينفك يطرحه، إلى سلسلة رواد الاستنارة الذين عالجوا علاقة الشرق بالغرب، أمثال أحمد فارس الشدياق (ت. 1887م)، ورفاعة رافع الطهطاوي (ت. 1873م)، ومحمد أمين فكري (ت. 1899م)، وعلى الدرب نفسه سار العدل في «الرحلة البرلينية» وفي «رسائل البشرى»، وفي كتابه عن «البيداجوجيا»، يذكر سبب انصرافه عن ترجمة كتاب لأحد علماء التربية بألمانيا إلى أن أفكاره «موضوعة حسب عوائدهم وأديانهم، فما كان منها موافقًا ترجمته، وما كان مخالفًا رجعت فيه إلى العادات والآداب المشرقية وإلى الشرع الشريف».
ويشغل السرد الذاتي مناطق من «رسائل البشرى»، ليكشف عن شخصية السارد (العدل)، وطبيعتها في مواجهة مواقف الرحلة، ولهذا نجد العدل يتفاعل مع  ثقافة المجتمع الألماني، و«يشترك في احتفالاتهم ويغشى مجـامعهم العلمية ومنتدياتهم الريـاضية، بل يحرص على حضـور مجلس النـواب، ولم يكن ليفـوته أينما رحل أو حل أن يزور مـدارسهم ومعـاهدهم ويتحدث إلى نظـارها ومعلميها...، وعلى كل حـال يصور لك نفسه حيـن يفرح ويحزن، يبكى ويضحك، يغـار ويتحسر...، كل ذلك تجده مغلفًا بروح سمحة رهيـفة لا تعوزها الضحكة الخجـول، بله الابتسامة الدائمة». (رسائل البشرى... الدراسة لمحمد حسن عبدالعزيز، ص 55).

تربية وطنية
يمرُّ العدل بإحدى طرق برلين، فيسمع أصواتًا عالية صادرة من إحدى المدارس الأهلية، فيستأذن في دخولها؛ ليجد تلاميذها يعزفون، ويترنمون بشعر ألماني، فيأخذه «الطرب حتى كاد يكون من الراقصين لا على توقيع النغمات، بل على توقيع المعنى، حيث كانت الأشعار موضوعة في حب الوطن»، وأسرع الشيخ فترجم الأبيات شعرًا عربيًا، لتكون نبراسًا لمن يريد أن يعرف الطريق إلى التربية الوطنية، وهذه هي الأبيات:
وإذا القلوبُ تصادقتْ وتآلفتْ
منّا وكان جميعُنا إخوانا
حتى نصونَ بلادنا ونشيدَ من
أركانها ونعزِّز الأوطانا
فنكون أرفعَ في الأنام مكانةً
وأعزَّ من بين الورى سلطانا
ما بين ماس وبلد إتش وميمل
وطن فلا زلنا به ألمانا
وفي البيت الأخير يسمي الحدود الألمانية، فهي ما بين نهر «ماس» على حدود هولندا وبلجيكا، ونهر «ميمل» على حدود مملكة روسيا، ونهر «إتش» الذي يفصلها عن إيطاليا، وبوغار «وهي بلد» عن الدنمارك. إن محاولة العدل توطين الأسماء الألمانية في نظم عربي، لا تُظهر استعراضًا ثقافيًا، بقدر ما تظهر استيعابًا واسعًا، وإصرارًا على تمثّل تلك الثقافة؛ فهي تأتي مصحوبة برؤى تنويرية، جعلت من رحلة العدل، علامة ثرية الدلالة في طريق التواصل الحيوي بين الذات العربية والآخر الغربي.

سائح علمي
وربما كان ذلك دافعًا؛ لانطلاق العدل سائحًا علميًا، إلى عدد من البلاد الأوربية، بعد أن قضى في برلين خمس سنوات، يزور المدارس والجامعات والمعالم الكبرى، يرى ويدوّن ويقارن؛ لينتهي به المطاف أستاذًا للعربية في جامعة كمبردج بإنجلترا، ولتشهد الجامعة اللندنية آخر أيامه في الحياة.
وعلى الرغم من القيمة النوعية لرحلة العدل؛ إلا أننا لا نستطيع أن نحسم مسألة الأولية، أو نجزم مع محقق «رسائل البشرى» أن العدل أول رحالة زار هذه البلاد (ألمانيا) وكتب عنها، وفي طريق الحقيقة، نجد أن شيخًا آخر هو علي الليثي (ت. 1896م) شاعر الخديوي، قد سبق العدل، وإن كانت رحلته لم تستغرق أكثر من 33 يومًا، لكنه دوّن أحداثَها بحسّ الطرافة المعهود لديه في سنة 1875م، وقد نشرت  هذه الرحلة بالكويت منذ سنوات قريبة تحت عنوان «رحلة الشيخ علي الليثي ببلاد النمسا وألمانيا»: بعناية الأديب فهد بن محمد الدبوس.
تتسع الصورة - صورة ألمانيا - وتتعدد روافدها في الأدب العربي، مع تعدد أسباب الاحتكاك الحضاري، وتقدم وسائل الاتصال، وسرعة طي المسافات، وتحضر ألمانيا - طوال القرن العشرين وحتى الآن - طبيعة وثقافة وبشرًا، وتتقلّب صورتها بين القبول والرفض، والرفع والحط، على الرغم من أن ألمانيا لم يكن لها تاريخ استعماري معروف في الجغرافيا العربية، وربما تركز الرفض - أكثر ما تركز - في شعر ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي الجانب السياسي منه إذا أردنا التحديد. نجد ذلك عند الشاعرين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي اللذين حملا على غليوم الثاني (امبراطور ألمانيا) منكرين عليه إثارته للحرب الكبرى (1914م)، وما ارتكبته فيها جيوشه من فظائع، والويل الذي أصاب البلاد التي استعمرتها، ومحذرين من الحلم العريض الطويل لغليوم و«الجرمان».

نظرية عنصرية
يشهد الشاعر عزيز فهمي (ت. 1952م) الهجوم المحموم للجيش الألماني على العاصمة الفرنسية باريس، وما خلّف من مآسٍ إنسانية، ثم نراه يحتفل بتحرر باريس، وسقوط النسر النازي الهتلري، بعدما أثار الرعب في كل مكان، وطار إلى «المانش» وأوغل في روسيا، وشارف النيل لاهثًا - لولا عناية الله - منطلقًا من نظرية عنصرية استعلائية؛ لذا يعنون الشاعر قصيدته «فتح برلين»، وبه «انجلى الليل وانجابت دياجره». وترتد الصورة إلى أفق جمالي عند الشاعر علي محمود طه (ت. 1949م)، وقد أوحت إليه ليلة قضاها على ضفاف نهر الرين، الذي يزدهي بجناته، وأشجاره الباسقة، وقصوره التاريخية، قصيدة عنوانها «خمرة نهر الرين»، يقول:
فجرُ أيامِك رفّافٌ على هذي المحاني
أيها الشاعرُ، هذا الرَّيْنُ، فاصدحْ بالأغاني
ثم توالت البعثات والرحلات إلى ألمانيا، واقعًا وتخييلًا، فيرتحل إليها صادق الحلواني في رواية «برلين 69» ليعمل صحفيًا، ويتقاسم مع المكان الأحداث والتفاصيل، وهي الرواية التي كتبها صنع الله إبراهيم، كما ترتحل طالبة البعثة نبيلة إبراهيم إلى بون للحصول على الدكتوراه في الأدب الشعبي، وتتجمع خيوط تجربتها في يوميات، أطلقت عليها عنوانًا دالًا هو «ذات الهمة في القرن العشرين»، ويغلب عليها التقدير الحسن، والإعجاب الشديد بتفوّق الشخصية الألمانية في التكوين والسلوك والتحدي والعلم والصناعة. 
إن الحضور الأدبيّ والفكري للآخر، على تعدد أشكاله وتنوع أبعاده، لا تتوقف مهمته عند الكشف عن الآخر، وانعكاس صورته المترددة بين القبول والرفض في مرآة شفيفة، هي مرآة الأدب، بل يمتد إلى استجلاء الذات العربية وأحوالها لكونها ناظرة ومنظورًا إليها في الوقت نفسه، والتأثير في إقامة الجسور الحضارية بين الشعوب ■