«اللون العاشق» لأحمد فضل شبلول هل هي سيرة غيرية لمحمود سعيد؟

«اللون العاشق» لأحمد فضل شبلول  هل هي سيرة غيرية لمحمود سعيد؟

تثير‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬اللون‭ ‬العاشق‭... ‬محمود‭ ‬سعيد‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬فضل‭ ‬شبلول‭ ‬إشكالات‭ ‬عدة،‭ ‬أولاها‭ ‬النوع‭ ‬الروائي،‭ ‬فقد‭ ‬قدّمها‭ ‬لنا‭ ‬المبدع‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬رواية،‭ ‬وهذا‭ ‬يجعلنا‭ ‬نسأل‭ ‬أنفسنا‭: ‬هل‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬أو‭ ‬سيرة‭ ‬غيرية‭ - ‬حيث‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفنان‭ ‬المصور‭ ‬الكبير‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ - ‬أم‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬غالبية‭ ‬السرد‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه،‭ ‬أم‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬سيرة‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬بنات‭ ‬بحري‮»‬؟‭ ‬إن‭ ‬إشكالية‭ ‬النوع‭ ‬تجعلنا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصل‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬السردي،‭ ‬كيف‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬النوع،‭ ‬وهناك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬تفاعل‭ ‬الفنون؟

لدينا‭ ‬خطاب‭ ‬سردي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الحكاية،‭ ‬وحركة‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وأوربا،‭ ‬والنقد‭ ‬التشكيلي،‭ ‬والسينما،‭ ‬والغناء،‭ ‬وفلسفة‭ ‬الفن‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬الفنان‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬المسرود‭ ‬عنه،‭ ‬واستبطان‭ ‬حركة‭ ‬الفن‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالفنون‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والأبواب‭ ‬الخلفية‭ ‬للحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والفنية‭ ‬والإبداعية‭ ‬آنذاك،‭ ‬فالرواية‭ - ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬271‭ ‬صفحة‭ - ‬فإنها‭ ‬تمثل‭ ‬وثيقة‭ ‬تؤرخ‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة‭.‬

‭ ‬أولًا‭: ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬حقيقي‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬الخيال،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يتحرى‭ ‬الكاتب‭ ‬الدقة‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬والحكايات‭ ‬المنقولة‭ ‬عن‭ ‬صاحب‭ ‬السيرة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬التسلسل‭ ‬الزمني‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭.‬

وبالطبع،‭ ‬فإن‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬أو‭ ‬الغيرية‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬الشائقة،‭ ‬فنحن‭ ‬نحب‭ ‬معرفة‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الفضول،‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نعرفه،‭ ‬أن‭ ‬يفصح‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬مكنون‭ ‬ذاته،‭ ‬كتابة‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬سهلة،‭ ‬لأن‭ ‬كاتبها‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬غيره،‭ ‬يقرر‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬ما‭ ‬يريد،‭ ‬لديه‭ ‬الحرية‭ ‬عبر‭ ‬منظوره‭ ‬هو‭ ‬ورؤيته‭ ‬هو،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يختار‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬ينتخب‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬والأحداث،‭ ‬ويغفل‭ ‬ذكر‭ ‬أخرى‭ ‬لسبب‭ ‬ما‭.‬

من‭ ‬السهل‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬غيرنا،‭ ‬لكن‭ ‬حينما‭ ‬نكتب‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬سنعاني‭ ‬الحرج،‭ ‬قد‭ ‬نكذب‭ ‬أو‭ ‬نتجمّل،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬نغفل‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق،‭ ‬بحجة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬كامل،‭ ‬أو‭ ‬يعطي‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬يومية‭.‬

 

السيرة‭ ‬الغيرية

السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬السيرة،‭ ‬يعرّفه‭ ‬محمد‭ ‬صابر‭ ‬عبيد‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬نمط‭ ‬سردي‭ ‬حكائي‭ ‬ينتظم‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬زمكاني‭ ‬محدد،‭ ‬يتولى‭ ‬فيه‭ ‬الراوي‭ ‬ترجمة‭ ‬حياة‭ ‬ذات‭ ‬خصوصية‭ ‬إبداعية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حيوي‭ ‬أو‭ ‬معرفي،‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬العمق‭ ‬والغنى‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يروى،‭ ‬ليقدم‭ ‬تجربة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تثري‭ ‬القارئ،‭ ‬وتخصب‭ ‬معرفته‭ ‬بالحياة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليها‭ ‬والإفادة‭ ‬منها‮»‬‭. (‬محمد‭ ‬صابر‭ ‬عبيد،‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الشعرية،‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬السيرة‭ ‬لشعراء‭ ‬الحداثة،‭ ‬عالَم‭ ‬الكتب‭ ‬الحديثة،‭ ‬إربد‭/ ‬الأردن،‭ ‬2008،‭ ‬ص‭ ‬109‭).‬

ويطلق‭ ‬عزالدين‭ ‬إسماعيل‭ ‬على‭ ‬المصطلح‭ ‬ترجمة‭ ‬الحياة،‭ ‬فيعرفها‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬هي‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬الأشخاص‭ ‬البارزين‭ ‬لجلاء‭ ‬شخصيته،‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬العناصر‭ ‬العظيمة‭ ‬فيها،‭ ‬وترجمة‭ ‬الحياة‭ ‬تتسع‭ ‬لتشمل‭ ‬جوانب‭ ‬العظمة‭ ‬وجوانب‭ ‬الانحطاط‭ ‬إن‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬الشخصية‭ ‬المترجم‭ ‬لها،‭ ‬فالترجمة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عملية‭ ‬تحليلية‭ ‬لكل‭ ‬مركز‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬كثيرة‭ ‬مختلفة،‭ ‬هو‭ ‬الشخصية‭. (‬عزالدين‭ ‬إسماعيل،‭ ‬الأدب‭ ‬وفنونه،‭ ‬دار‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬ط‭. ‬القاهرة،‭ ‬ص‭ ‬165‭).‬

‭ ‬تكتب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬بصيغة‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬المتكلم‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬تكتب‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬بصيغة‭ ‬الغائب،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السارد‭ ‬والشخصية‭ ‬الرئيسة،‭ ‬ففي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬تطابق‭ ‬بين‭ ‬السارد‭ ‬والشخصية،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬فتعتمد‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬الموضوعي،‭ ‬وعلى‭ ‬الوثائق‭ ‬والمدونات‭ ‬والمشاهدات‭ ‬والملاحظات‭ ‬والقراءات‭ ‬والشهادات‭ ‬واليوميات‭ ‬والرحلات‭ ‬والأفلام‭ ‬التسجيلية‭ ‬إن‭ ‬وجدت‭.‬

 

قراءة‭ ‬مستفيضة

كاتب‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الرؤية‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬بينما‭ ‬كاتب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬لديه‭ ‬رؤية‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ (‬يحيى‭ ‬عبدالدايم،‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬ص‭ ‬26،25‭).‬

إن‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬حياة‭ ‬الشخصية،‭ ‬بل‭ ‬تقترب‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬المحيط‭ ‬بالشخصية،‭ ‬أي‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬مرجعيتها،‭ ‬فتتداخل‭ ‬عناصر‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬في‭ ‬النسق‭ ‬الروائي‭ ‬والقصصي،‭ ‬لأن‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬وطيدة‭ ‬الصلة‭ ‬بالتاريخ،‭ ‬فهي‭ ‬جزء‭ ‬منه،‭ ‬لأن‭ ‬موادها‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬وتزداد‭ ‬هذه‭ ‬الصلة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬السيرة‭ ‬تعرض‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬مجتمعه،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬فصل‭ ‬هذا‭ ‬الفرد‭ ‬عن‭ ‬مجتمعه،‭ ‬فإن‭ ‬صلتها‭ ‬بالتاريخ‭ ‬تكون‭ ‬ضعيفة‮»‬‭.‬

 

لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬القراءة‭ ‬المستفيضة،‭ ‬وحشد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬حولها،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلــــى‭ ‬خلق‭ ‬إحساس‭ ‬عالٍ‭ ‬بها،‭ ‬يساعده‭ ‬فــــي‭ ‬تلمّس‭ ‬الخفايا‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬البواطن،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬الشخصية‭ ‬إلى‭ ‬نموذج‭ ‬ضاغــــط‭ ‬يبعد‭ ‬الراوي‭ ‬عن‭ ‬الروح‭ ‬الموضوعية‭ ‬للسرد،‭ ‬إذ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عنصر‭ ‬التوازن‭ ‬والشفافية‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬العناصر‭ ‬المشتغلة‭ ‬والفاعلة‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬بناء‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‮»‬‭ ‬.

يصعب‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬على‭ ‬‮«‬اللون‭ ‬العاشق‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬أمانة‭ ‬النقل‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬والبيانات‭ ‬والمرجعيات،‭ ‬وما‭ ‬يستمده‭ ‬الروائي‭ ‬منها،‭ ‬معلومات‭ ‬دقيقة‭ ‬تكفي‭ ‬لأن‭ ‬يقدم‭ ‬رواية،‭ ‬فالمتخيل‭ ‬حاضر‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭.‬

 

دوائر‭ ‬متداخلة

لدينا‭ ‬ثلاث‭ ‬دوائر‭ ‬متداخلة،‭ ‬تتقطع‭ ‬تارة‭ ‬وتتجاور‭ ‬تارة،‭ ‬وتنفصل‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬وتتطابق‭ ‬رؤية‭ ‬الكاتب‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬المسرود‭ ‬عنه‭ ‬الفنان‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭.‬ قرأ‭ ‬شبلول‭ ‬عن‭ ‬الفنان،‭ ‬وشاهد‭ ‬معارضه،‭ ‬وقرأ‭ ‬عن‭ ‬إبداعه،‭ ‬وأدرك‭ ‬موقع‭ ‬الفنان‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الحركة‭ ‬الفنية،‭ ‬وتقمّص‭ ‬روحه‭ ‬وهو‭ ‬يكتب‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭.‬ ولا‭ ‬شك‭ ‬بأن‭ ‬المتخيّل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تجاوز‭ ‬الواقع،‭ ‬فلا‭ ‬الكاتب‭ ‬ولا‭ ‬نحن‭ ‬عشنا‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬الفنان‭.‬

إن‭ ‬التقليدية‭ ‬هي‭ ‬السمة‭ ‬الغالبة‭ ‬على‭ ‬الحكي،‭ ‬والتقليدية‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬انتقاصًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الروائي،‭ ‬لكنها‭ ‬تضعنا‭ ‬أمام‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬التقنيات،‭ ‬فندرك‭ - ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التقليدية‭ - ‬أن‭ ‬المبدع‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬نصّه‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬التقنيات،‭ ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬السارد‭ ‬العليم،‭ ‬ثمة‭ ‬الأصوات‭ ‬المتعددة،‭ ‬والسارد‭ ‬المشارك‭ ‬في‭ ‬الحدث‭ ‬الذي‭ ‬يروي‭ ‬عن‭ ‬الشخصية،‭ ‬والشخصيات‭ ‬المروي‭ ‬عنها‭ ‬وهي‭ ‬غائبة‭ ‬عن‭ ‬متن‭ ‬الحكاية،‭ ‬والتنقل‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬بحساب،‭ ‬فلا‭ ‬قفزات‭ ‬متباعدة‭ ‬سرديًّا،‭ ‬لكن‭ ‬ثمة‭ ‬الاستدعاءات‭ ‬المرفقة‭ - ‬غالبًا‭ - ‬بتنوعات‭ ‬فعل‭ ‬التذكر،‭ ‬واستخدام‭ ‬المونتاج‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬مواضع‭.‬

إذا‭ ‬تنقلنا‭ ‬للمكان‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬تنوّع‭ ‬هائل،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬الإسكندرية؛‭ ‬حيث‭ ‬الفيلا‭ ‬ومرسم‭ ‬الفنان‭ ‬السابق‭ ‬والحالي،‭ ‬وعمل‭ ‬الفنان،‭ ‬و«ديليس‮»‬‭ ‬وشيكوريل،‭ ‬والرمل‭ ‬وجناكليس‭ ‬وسيدي‭ ‬بِشْر،‭ ‬وسعد‭ ‬زغلول،‭ ‬والمنشية،‭ ‬وسان‭ ‬استيفانو،‭ ‬والبوريفاج،‭ ‬والمنتزه،‭ ‬والسينما‭ ‬وحلقة‭ ‬السمك،‭ ‬والأنفوشي،‭ ‬ومقاهي‭ ‬الأنفوشي،‭ ‬وشارع‭ ‬إسماعيل‭ ‬صبري،‭ ‬وميدان‭ ‬المرسي‭ ‬أبوالعباس‭ ‬ومسجده،‭ ‬وحي‭ ‬غربال‭... ‬إلخ‭.‬

 

كشف‭ ‬الملامح

كما‭ ‬نلحظ،‭ ‬فإن‭ ‬المكان‭ ‬ينقسم‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬بين‭ ‬الطبقتين‭ ‬الراقية‭ ‬والشعبية‭. ‬وفي‭ ‬القاهرة‭ ‬هناك‭ ‬جروبي،‭ ‬ومحطة‭ ‬مصر،‭ ‬وميدان‭ ‬النهضة‭ ‬والسينما‭. ‬ونتابع‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬أسفاره‭ ‬منذ‭ ‬كان‭ ‬طالبًا‭ ‬تعددت‭ ‬أسفاره‭ ‬إلى‭ ‬روما‭ ‬وباريس‭ ‬ولندن،‭ ‬وزار‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتاحف‭.‬

يهتم‭ ‬الكاتب‭ ‬بالشخصية‭ ‬والتفاصيل‭ ‬الدقيقة؛‭ ‬سواء‭ ‬الخارجية،‭ ‬أو‭ ‬التكوين‭ ‬النفسي‭ ‬الداخلي،‭ ‬يتأتى‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬المقابلة‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬الشخصية‭ ‬والفنان،‭ ‬أو‭ ‬ملاحظة‭ ‬الفنان‭ ‬للشخصية‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬التصوير‭ ‬والرسم،‭ ‬أو‭ ‬تعليق‭ ‬الفنان‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬الشخصية‭ ‬وأقوالها،‭ ‬والعكس‭ ‬كذلك‭ ‬حينما‭ ‬تبدي‭ ‬الشخصية‭ ‬رأيها‭ ‬في‭ ‬الفنان‭ ‬وعمله،‭ ‬وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬تباين‭ ‬وتنوع‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬حرص‭ ‬الروائي‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬بعين‭ ‬الفنان‭ ‬المشرّح،‭ ‬والذي‭ ‬يعتمد‭ ‬إبداعه‭ ‬على‭ ‬كشف‭ ‬الملامح‭ ‬الخارجية،‭ ‬وأثرها‭ ‬وتأثرها‭ ‬بالمكنون‭ ‬الداخلي،‭ ‬والنوازع‭ ‬النفسية‭ ‬الدفينة،‭ ‬فنحن‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬أمام‭ ‬ملاحظات‭ ‬الفنان‭ ‬على‭ ‬الشخصية،‭ ‬عبر‭ ‬تحليله‭ ‬الفني‭ ‬لنوازعها،‭ ‬وكيف‭ ‬أبان‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬الحركة،‭ ‬والألوان،‭ ‬والخطوط،‭ ‬والظلال،‭ ‬والضوء‭.‬

تتداخل‭ ‬حكايات‭ ‬الشخصيات‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بضياع‭ ‬الخط‭ ‬الرئيس،‭ ‬وهو‭ ‬الفنان‭ ‬ولوحته‭ ‬الخالدة‭ ‬‮«‬بنات‭ ‬بحري‮»‬‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الفنان‭ ‬من‭ ‬خواطر‭ ‬وسرحات‭ ‬وشطحات‭ ‬فنية‭ ‬وفلسفية‭ ‬واستعادة‭ ‬مشاهدات‭ ‬لأعمال‭ ‬فنية‭ ‬عالمية،‭ ‬بل‭ ‬وزيارة‭ ‬المتاحف‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الخارج‭.‬

كل‭ ‬شيء‭ - ‬تقريبًا‭ - ‬موظف‭ ‬لهذه‭ ‬اللوحة‭ ‬وصاحبها‭ ‬الفنان،‭ ‬فمن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬وعالَمه‭ ‬الفني‭ ‬سيعرفه‭ ‬جيدًا‭ ‬بعد‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬السردي‭.‬

 

عائلة‭ ‬الأحجار

تذكرت‭ ‬كتابًا‭ ‬لأحمد‭ ‬شبلول‭ ‬هو‭ ‬‮«‬عائلة‭ ‬الأحجار‮»‬‭. ‬كان‭ ‬كتابًا‭ ‬ماتعًا‭ ‬للأطفال،‭ ‬احتشد‭ ‬له‭ ‬الكاتب‭ ‬بالقراءة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬مسيرة‭ ‬الحجر‭ ‬في‭ ‬حضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الخليقة،‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬عاودني‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬‮«‬اللون‭ ‬العاشق‮»‬‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬فإن‭ ‬الكاتب‭ ‬قرأ‭ ‬عن‭ ‬الألوان‭ ‬المفضلة‭ ‬لدى‭ ‬محمود‭ ‬سعيد،‭ ‬وكيفية‭ ‬تكوين‭ ‬باليتته‭ ‬اللونية،‭ ‬ومميزات‭ ‬هذه‭ ‬الألوان،‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الفنية‭ ‬التشكيلية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ها‭ ‬أنا‭ ‬أضبط‭ ‬نفسي‭ ‬وأنا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الفني‭ ‬للنص،‭ ‬فهو‭ ‬جزء‭ ‬أصيل‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إغفاله‭.‬

سنرجئ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬العنوان،‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬عتبات‭ ‬أخرى‭ ‬للنص‭ ‬وهي‭ ‬عتبة‭ ‬الإهداء،‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬صديقي‭ ‬المثّال‭ ‬العظيم‭ ‬محمود‭ ‬مختار‮»‬،‭ ‬يستعير‭ ‬شبلول‭ ‬شخصية‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬ليُهدي‭ ‬روايته‭ ‬إلى‭ ‬المثّال‭ ‬والنحات‭ ‬محمود‭ ‬مختار،‭ ‬الذي‭ ‬سيحتفي‭ ‬به‭ ‬النص‭ ‬‮«‬السيري‮»‬‭ ‬بسيرته،‭ ‬والحديث‭ ‬عن‭ ‬عمله‭ ‬الفذ‭ ‬‮«‬تمثال‭ ‬نهضة‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬وأعماله‭ ‬الأخرى،‭ ‬كتمثال‭ ‬‮«‬الخماسين‮»‬‭ ‬و«الفلاحة‮»‬‭ ‬و«عروس‭ ‬النيل‮»‬‭ ‬و«حارس‭ ‬الحقول‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬وآراء‭ ‬من‭ ‬عاصروه‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭: ‬العقاد‭ ‬والمازني‭ ‬والشيخ‭ ‬محمود‭ ‬محمد‭ ‬شاكر،‭ ‬ووجهة‭ ‬نظر‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬التمثال،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعزز‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬السردي‭ ‬يتماسّ‭ ‬بشدة‭ ‬مع‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭.‬

ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬شبلول‭ ‬واجهته‭ ‬مشكلة‭ ‬كيف‭ ‬يكتب‭ ‬سيرة‭ ‬غيرية،‭ ‬إنه‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬مذكرات‭ ‬أو‭ ‬يوميات‭ ‬أو‭ ‬حوارات‭... ‬إلخ‭. ‬فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬سيرة‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬الخالدة‭ ‬‮«‬بنات‭ ‬بحري‮»‬،‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬مشكلة‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تجميع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمتّ‭ ‬بصلة‭ ‬لهذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬واستبطان‭ ‬واكتشاف‭ ‬مشاعر‭ ‬وأحاسيس‭ ‬الفنان‭ ‬واستعداده،‭ ‬وطرق‭ ‬الرسم،‭ ‬والإفادة‭ ‬من‭ ‬خبراته‭ ‬السابقة،‭ ‬وتأهّبه‭ ‬لرسم‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬وتهيئة‭ ‬الجو‭ ‬لاستكمال‭ ‬اللوحة‭... ‬إلخ‭.‬

 

نقلة‭ ‬سردية

لكن‭ ‬ستواجهنا‭ ‬إشكالية‭ ‬أخرى‭ ‬مع‭ ‬الصفحة‭ ‬الأولى‭ ‬للنص‭ ‬‮«‬جلس‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬فيلته‭ ‬بجناكليس‭ ‬على‭ ‬الفوتيه‭ ‬المحبب‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬لويس‭ ‬الخامس‭ ‬عشر،‭ ‬‮«‬كان‭ ‬يتأمل‭ ‬لوحاته‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬الصالة‭ ‬الكبرى‭ ‬بالفيلا‮»‬‭.‬

‮«‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬يستعيد‭ ‬ذكريات‭ ‬زياراته‭ ‬لمتحف‭ ‬اللوفر‭ ‬في‭ ‬باريس‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬تأتي‭ ‬البداية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬السارد‭ ‬الراصد‭ ‬لسكنات‭ ‬الشخصية‭ ‬وحركاتها،‭ ‬ورصد‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬المحيط‭ ‬بلحظة‭ ‬السرد،‭ ‬ثم‭ ‬استعادة‭ ‬الذكريات،‭ ‬يلي‭ ‬ذلك‭ ‬القفز‭ ‬إلى‭ ‬نقلة‭ ‬سردية‭ ‬مع‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬قال‭ ‬لي‮»‬؛‭ ‬فقد‭ ‬تنحى‭ ‬السارد‭ ‬لكي‭ ‬تعتلي‭ ‬شخصية‭ ‬الفنان‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬مسرح‭ ‬الأحداث،‭ ‬ويكون‭ ‬محرّكها،‭ ‬وتتوالى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬جمل‭ ‬فعلية‭ ‬قصيرة،‭ ‬ويستمر‭ ‬نهر‭ ‬السرد‭ ‬مستمرًّا‭ ‬في‭ ‬جريانه،‭ ‬حتى‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬التذكر‭ ‬والاستدعاءات،‭ ‬‮«‬أتذكر‭ ‬أنني‭ ‬منذ‭ ‬سنتين‭ (‬عام‭ ‬1933‭) ‬رسمت‭ ‬لوحة‭ ‬لصيادي‭ ‬الأسماك‭ ‬أطلقت‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الصيد‭ ‬العجيب‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬التذكر‭ ‬له‭ ‬ميزتان،‭ ‬الأولى‭ ‬أنه‭ ‬حدد‭ ‬لنا‭ ‬زمان‭ ‬السرد‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1935،‭ ‬ثم‭ ‬حدّد‭ ‬لنا‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬أنجزها‭ ‬الفنان،‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالبحر‭ ‬والصيادين‭ ‬والسمك،‭ ‬وما‭ ‬ينوي‭ ‬أن‭ ‬يفعله،‭ ‬رسم‭ ‬اسكتشًا‭ ‬لثلاث‭ ‬من‭ ‬جميلات‭ ‬بحري،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كيفية‭ ‬تعامل‭ ‬الفنان‭ ‬مع‭ ‬لوحاته‭ ‬وإنجازها،‭ ‬ثم‭ ‬نرى‭ ‬ما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬أمر‭ ‬الفن‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

‮«‬هذا‭ ‬الاسكتش‭ ‬الذي‭ ‬أقصد‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬أنتهي‭ ‬إلى‭ ‬لوحة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬أتركه‭ ‬ناقصًا،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬يجعلني‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انفعال‭ ‬وحماس‭ ‬مستمر،‭ ‬وأظل‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬الفرح‭ ‬باكتشاف‭ ‬الحلول‭ ‬أثناء‭ ‬تصوير‭ ‬اللوحة‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬يبدو‭ ‬الفنان‭ ‬مشغولًا‭ ‬بفنه‭ ‬وحلّ‭ ‬مشكلاته،‭ ‬والاستعداد‭ ‬لعمله‭ ‬الجديد،‭ ‬إذن‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬صلب‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬الغيرية‭ ‬لأحمد‭ ‬شبلول،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬الهدف‭ ‬الرئيس‭ ‬للسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬للفنان‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬أمامنا‭ ‬لوحة‭ ‬منجزة‭ ‬بالفعل،‭ ‬فالأمر‭ ‬هو‭ ‬استدعاء‭ ‬للماضي‭ .