رحلة حج المفكّر التركي نجيب فاضل

للحج مكانة خاصة في نفوس المسلمين جميعًا، لكونه أحد أركان الإسلام، ولما يتضمنه من رموز كثيرة.
وعبر التاريخ انضم كثير من المسلمين إلى قافلة الحج، ونجحوا في أداء هذه الفريضة، وكان من بين مَن شدّوا الرحال إلى البيت العتيق الشعراء والأدباء والمفكرون من شتى أنحاء المعمورة، وكان هؤلاء الأدباء والشعراء يدوّنون مشاعرهم وأحاسيسهم إلى جانب مشاهداتهم في رحلة الحج، فظهر نوع أدبي يندرج تحت ما يسمى بأدب الرحلة، أُطلق عليه رحلة الحج. ولا تقتصر كتابة رحلة الحج على شعب من الشعوب أو أدب من الآداب، فقد ظهرت نماذج منها بين مختلف الشعوب التي تدين بالإسلام.
نالت رحلة الحج مكانة مهمة في الأدب التركي، فمنذ قيام الدولة العثمانية إلى أيامنا هذه، سجّل العديد من الأدباء الأتراك مشاهداتهم وانطباعاتهم شعرًا ونثرًا، ووصفوا الأماكن المقدسة والمشاهد التي مرّوا بها في طريقهم إلى الحجاز، والأحداث التي جرت في أثناء الرحلة.
ومن أهم الأدباء العثمانيين الذين دوّنوا رحلاتهم إلى الأماكن المقدسة الشاعر يوسف نابي، الذي توجّه من إسطنبول إلى الحجاز، مرورًا ببلاد الشام على رأس قافلة الحج عام 1089 هـ/ 1678م، ودوّن رحلته هذه بعد عودته من الحج بسنوات، وسمّاها اتُحفة الحرمينب، عبّر من خلالها عن مشاعره بصدق وبأسلوب فني رفيع، إلى جانب وصفه الأحداث التي جرت له، والأماكن التي رآها خلال الرحلة.
وفي القرن العشرين، زاد عدد من دوّنوا رحلاتهم إلى الحج من الأدباء والشعراء الترك، نذكر منهم الشاعر والطبيب جناب شهاب الدين في كتابه افي طريق الحجب، والشاعر نجيب فاضل في كتابه اخطوط وألوان وصور من الحجب عام 1973م.
نجيب فاضل أحد الشعراء والكتاب الذين برزوا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتركوا أثرًا كبيرًا في الحياة الفكرية والسياسية بتركيا.
ولد فاضل في إسطنبول عام 1905 ودرس الفلسفة فيها وفي باريس، ثم عمل في وظائف مختلفة، إلى أن تفرغ تمامًا للكتابة عام 1942، كتب عديدًا من المسرحيات والأشعار، وأصدر مجلات أدبية وسياسية، ونال عددًا من الجوائز.
تأشيرة مميزة
بدأت النزعة الدينية تظهر في كتاباته بتأثره بالشيخ عبدالحكيم الأرواسي الذي غيّر مجرى حياته، حتى أصبح من أهم الشعراء والمفكرين الإسلاميين في تركيا.
توفي فاضل عام 1983، مخلفًا وراءه عشرات الكتب، منها كتابه اخطوط وألوان وصور من الحجب، الذي صدرت الطبعة الأولى منه خلال عام 1973 في 159 صفحة، وأعيدت طباعته أكثر من مرة، ويتضمن الكتاب مشاهدات فاضل وانطباعاته والأمور التي جرت له، والمصاعب التي واجهته في أثناء أداء فريضة الحج.
قدّم فاضل أوراقه للحصول على تأشيرة الحج عام 1392هـ - 1973م، بيد أنه لم يُمنح التأشيرة، وطُلب منه مراجعة السفارة السعودية في أنقرة، وتبين له في السفارة - التي تلقّى فيها معاملة حسنة واحترامًا - أن سبب عدم منحه التأشيرة هو مهنته المدونة في الجواز (صحفي).
واقترح عليه المسؤول في السفارة أن يغيّر هذه المهنة، ليتمكن من منحه التأشيرة، لكن فاضل اعتذر عن عدم القيام بذلك، وتعاطف المسؤول في السفارة معه، بعد أن شعر بحالة الانكسار التي انتابت الشاعر الإسلامي المدافع عن قضايا المسلمين في تركيا على مدى عقود من الزمن، فأبرق إلى المملكة السعودية بشأنه، وجاء الجواب بمنحه تأشيرة حج بأمر من وزارة الخارجية هناك.
لقد كانت هذه التأشيرة - على حد تعبيره - بمنزلة جواز سفر دبلوماسي، وسهّلت عليه الكثير من الأمور في المملكة.
استقبال جيد
كانت المفاجأة في المطار، حيث ألغيت رحلة الطائرة التي كان سيستقلها، فركب طائرة كان على متنها السياسي نجم الدين أربكان، وعضو آخر في البرلمان التركي، وكانا مثله متوجّهين لأداء فريضة الحج.
عند وصوله إلى جدة نزل من الطائرة، وكان حريصًا على أن يطأ أرض المطار برجله اليمنى. في جدة استُقبل استقبالًا جيدًا من المسؤولين في وزارة الحج لمرافقته السياسيَّين، ولأنه يحمل تأشيرة مميّزة، غير أنه في جدة ترك السياسيين، وفضّل الذهاب إلى مكة منفردًا، لأنه كان يريد أن يحج كأي مسلم عادي.
وصف نجيب جدة بأنها االنقطة الأولى والأخيرة التي استطاع الأوربي والأميركي اقتلاعها في الحجازب لغلبة الطابع الغربي عليها، فهو يعتقد أن هذا الطابع لم يسمح له بالوصول إلى غيرها من مدن الحجاز.
فمنطقة الحجاز - على حد تعبيره - هي الأكثر صمودًا في وجه التأثيرات الغربية الخبيثة في الشرق.
حُرمة وطن
لقد بدا كل شيء لفاضل مختلفًا في الحجاز، فالجبال والهضاب والصخور ملأت قلبه بالخشية، وبدت كما لو أنها تحدّثه عن حُرمة وطن الرسول [ وخيّل إليه أن الرمال أيضًا نالت نصيبها من القداسة، لاحتمال أنها لامست أقدام الرسول الكريم وصحابته، حتى أنه تمنّى لو يستطيع تقبيل حبّات الرمل بدلًا من المشي عليها.
أثار إعجابه الطريق الواصل بين مكة والمدينة، ووصف أبنية مكة ذات الطراز العربي وشوارعها بشيء من التفصيل، ومن الأشياء التي لفتت انتباهه في مكة المكرمة قوة الإنارة الكهربائية فيها، فالإنارة في إسطنبول أضعف بكثير منها في مكة، فهي مضيئة طوال اليوم، وبدا له المسجد الحرام كشلّال من النور. وعندما رأى الكعبة للمرة الأولى امتلأ قلبه بالخشية، فتسمّر في مكانه، وبدأ بالتهليل والتكبير والدعاء.
وأبدى الكاتب رأيه في الحجاج القادمين من بلدان مختلفة، وبدا له أن الهنود منهم والباكستانيين هم الأكثر وقارًا وحساسية، والإيرانيين أكثر انتظامًا، أما العرب فقد صنّفهم صنفين؛ الأول أهل الحجاز، وهم طيبون ولطيفون، إذ أعجب بأخلاقهم وتعاملهم ورشاقتهم واحتشام نسائهم، وجمال أطفالهم اذوي الرموش السوداء الطويلة والأسنان البيضاء اللامعةب، فوصف عرب الحجاز بأنهم انجباء شرفاءب، وقد كان يستمتع بالتعامل والحديث معهم.
أما الصنف الثاني من العرب فوضعهم مع قومه الأتراك في خانة السيئين. كما أعجب أيّما إعجاب بلباس النساء في المملكة العربية السعودية، وشعر بالحزن عندما تذكّر لباس النساء في بلاده.
بين الجمال والجلال
بعد أداء الحج، انتقل إلى المدينة المنورة التي بدت له اضاحكة الوجهب، ويرى فاضل أن المدينة تجلٍ للجمال، أما مكة فتجلٍ للجلال، وكلاهما أشرف مدن العالم كلها.
في المدينة المنورة قام بزيارة الروضة الشريفة وجنّة البقيع التي عدّها من أقدس الأماكن على وجه الأرض، لأنها تضم أجساد الصحابة الذين كانوا أول من آمن بالنبي الكريم وآزروه.
في نهاية رحلته، قدّم نجيب مجموعة من المقترحات للارتقاء بالحج والتسهيل على الحجاج. ولم ينسَ الإشادة بجهود الملك فيصل بن عبدالعزيز المبذولة في سبيل تسهيل الحج وتقديم الخدمات للحجاج.
إن أدب رحلة الحج - كما تبيّن لنا من خلال رحلة فاضل - يحتوي على وصف لرحلة الحج والأماكن المقدسة والانطباعات عن سكان الحجاز والحجيج القادمين من مختلف أنحاء المعمورة، إضافة إلى الأحداث التي مرّ بها الحاج صاحب الرحلة.
ولا شك في أن دراسة هذه الرحلات التي كُتبت بلغات أجنبية ستكشف لنا أشياء كثيرة عن نظرة المسلمين لهذه الفريضة ولهذه الأماكن، ونظرتهم للعرب .