الرجل المغناطيسي

الرجل المغناطيسي

أن‭ ‬تتجمد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مرآة،‭ ‬كأنك‭ ‬لقطة‭ ‬كاميرا‭ ‬فوتوغرافيا‭ ‬ثابتة،‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬محطة‭ ‬قطارات‭ ‬قديمة،‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬يتمناه‭ ‬مسافر،‭ ‬قضى‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلاً‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬السفر،‭ ‬والتوقف‭ ‬أمام‭ ‬المرايا،‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬وعمله،‭ ‬وفي‭ ‬محطات‭ ‬المترو‭ ‬والقطارات‭ ‬والمطارات،‭ ‬ودورات‭ ‬مياه‭ ‬الفنادق‭ ‬والمطاعم،‭ ‬يطمئن‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬جاذبيته‭ ‬التي‭ ‬اشتهر‭ ‬بها،‭ ‬لم‭ ‬تتركه‭ ‬وتغادره‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬آخر‭.‬

كأنه‭ ‬تمثال،‭ ‬لكن‭ ‬حواسه‭ ‬تشتغل‭ ‬بكفاءة،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬انتبه‭ ‬لصوت‭ ‬امرأة‭ ‬غنوج،‭ ‬تضحك‭ ‬لرفيقيها‭ ‬الجالسين‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬حجري،‭ ‬وذلك‭ ‬الرجل‭ ‬العجوز‭ ‬الذي‭ ‬يمشي‭ ‬ببطء،‭ ‬المنعكسة‭ ‬صورته‭ ‬على‭ ‬المرآة‭. ‬

يحرك‭ ‬قدمه،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع،‭ ‬حتى‭ ‬أصابع‭ ‬يديه،‭ ‬التي‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬وهي‭ ‬تعدل‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكرافت‮»‬،‭ ‬يا‭ ‬الله‭! ‬حتى‭ ‬رموش‭ ‬عينيه،‭ ‬صار‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬المحطة‭ ‬تمثالًا‭ ‬أنيقًا،‭ ‬يمسك‭ ‬بشنطة‭ ‬سفر‭ ‬أنيقة،‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬المسافرون‭ ‬ويتخطونه،‭ ‬دون‭ ‬الالتفات‭ ‬إليه،‭ ‬لعن‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬قرر‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬أمامها،‭ ‬ليطمئن‭ ‬على‭ ‬أناقته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬القطار‭ ‬الفخم‭.‬

سمع‭ ‬صفارة‭ ‬القطار‭ ‬القادم،‭ ‬وبدأ‭ ‬المسافرون‭ ‬على‭ ‬المحطة،‭ ‬يجهزون‭ ‬حقائبهم،‭ ‬لرحلة‭ ‬سفر‭ ‬طويلة،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتخيل‭ ‬الخجل‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬رجل‭ ‬اشتهر‭ ‬بين‭ ‬أصدقائه‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬المغناطيسي‮»‬،‭ ‬لجاذبيته‭ ‬الشديدة‭.‬

هو‭ ‬دائم‭ ‬الكلام‭ ‬عنها،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ببساطة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تعقيد،‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬المغناطيسي‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬وتطور‭ ‬حالته،‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بعض‭ ‬الغيورين‭ - ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ - ‬بأنها‭ ‬حالة‭ ‬مرضية،‭ ‬قد‭ ‬مغنط‭ ‬نفسه،‭ ‬عندما‭ ‬وقف‭ ‬أمام‭ ‬المرآة،‭ ‬والشيء‭ ‬الثابت‭ ‬والمؤكد،‭ ‬ولا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬نظريات‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬أنه‭ ‬يقف‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬المحطة،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬نفسه‭. ‬

الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬لنا‭ ‬جليًّا،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬نبدأ‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬تفكيك‭ ‬الموقف‭ ‬إلى‭ ‬عناصره‭ ‬الأوّلية،‭ ‬أن‭ ‬حل‭ ‬المشكلة‭ ‬الذي‭ ‬طرأ‭ ‬في‭ ‬ذهنه،‭ ‬ذلك‭ ‬الذهن‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بالذكاء،‭ ‬وقدرته‭ ‬الخارقة‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬المشكلات‭ ‬المعقدة،‭ ‬التي‭ ‬تواجهه‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬وفي‭ ‬بيته‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬الكائن‭ ‬الهلامي،‭ ‬وطفليها‭ ‬اللذين‭ ‬ورثا‭ ‬الهلامية‭ ‬منها،‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬شخص‭ ‬بكسر‭ ‬المرآة‭ ‬فتختفي‭ ‬صورته،‭ ‬فيتوقف‭ ‬عن‭ ‬مغنطة‭ ‬نفسه،‭ ‬لكن‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬فعل‭ ‬ذلك،‭ ‬وليس‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يقترح‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬المسافرين،‭ ‬الذين‭ ‬يمرون‭ ‬به‭ ‬غير‭ ‬عابئين‭ ‬بثباته،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬منتبهين،‭ ‬لأن‭ ‬شفتيه‭ ‬لا‭ ‬تستطيعان‭ ‬الحركة‭ ‬والتكلّم،‭ ‬فكان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يبقى،‭ ‬حتى‭ ‬يأتي‭ ‬الشخص‭ ‬الذكي،‭ ‬الذي‭ ‬يفطن‭ ‬إلى‭ ‬الحل‭ ‬ويكسر‭ ‬المرآة‭.‬

توقف‭ ‬القطار،‭ ‬التقم‭ ‬حمولته‭ ‬من‭ ‬المسافرين،‭ ‬وعادت‭ ‬صفارته‭ ‬للعمل،‭ ‬معلنةً‭ ‬الانطلاق،‭ ‬وتاركة‭ ‬الرجل‭ ‬المجمد‭ ‬أمام‭ ‬المرآة،‭ ‬منتظرًا‭ ‬الشخص‭ ‬الذكي،‭ ‬الذي‭ ‬ينقذ‭ ‬المغناطيسي‭ ‬من‭ ‬ورطته‭ ‬المحرجة‭.‬

لماذا‭ ‬تجمد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المحطة‭ ‬القديمة‭ ‬بالتحديد؟‭ ‬سؤال‭ ‬مرق‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬كأنه‭ ‬يسخر‭ ‬منه،‭ ‬لقد‭ ‬دخل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المحطات‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وكل‭ ‬محطة‭ ‬يدخلها‭ ‬يشتبك‭ ‬مع‭ ‬مرآتها‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬ينتهي‭ ‬بابتسامة‭ ‬رضا‭ ‬تملأ‭ ‬وجهه،‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬ينتبه‭ ‬المسافرون‭ ‬إليه؟‭ ‬لقد‭ ‬مروا‭ ‬به‭ ‬كأنه‭ ‬غير‭ ‬موجود،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬السؤال‭ ‬الكارثة‭ ‬الذي‭ ‬سينسف‭ ‬كل‭ ‬الأسئلة‭ ‬السابقة،‭ ‬لماذا‭ ‬دخل‭ ‬محطة‭ ‬القطارات‭ ‬القديمة‭ ‬هذه؟‭ ‬ومن‭ ‬أين‭ ‬أتى‭ ‬وإلى‭ ‬أين‭ ‬سيذهب،‭ ‬أي‭ ‬قطار‭ ‬كان‭ ‬سيستقله؟‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬المتجمد‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬إجابات‭ ‬سريعة‭ ‬أو‭ ‬بطيئة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬كلبًا‭ ‬يشم‭ ‬حذاءه،‭ ‬ثم‭ ‬يلعقه‭.‬

رأى‭ ‬أن‭ ‬الموقف‭ ‬عبثي،‭ ‬بل‭ ‬شديد‭ ‬العبثية،‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سيعجز‭ ‬‮«‬يونسكو‮»‬‭ ‬نفسه،‭ ‬أن‭ ‬يختلقه‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مسرحية‭ ‬من‭ ‬عبثياته‭ ‬الشهيرة،‭ ‬ارتاح‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يتعرض‭ ‬له،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسميه‭ ‬وهو‭ ‬مستقر‭ ‬اليقين،‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العبثية،‭ ‬هنا‭ ‬فقط‭ ‬جاءت‭ ‬الفكرة،‭ ‬يالله‭... ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يخبط‭ ‬كفه‭ ‬بدماغه‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المصريين،‭ ‬عندما‭ ‬تأتي‭ ‬إليهم‭ ‬الفكرة‭ ‬بغتة،‭ ‬لم‭ ‬يستطع،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬فكرته‭ ‬التي‭ ‬أشرقت‭ ‬في‭ ‬ذهنه،‭ ‬كما‭ ‬الخيط‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الشمس،‭ ‬الذي‭ ‬أنار‭ ‬ظلمة‭ ‬عقله،‭ ‬هذه‭ ‬قصة‭... ‬يا‭ ‬الله‭! ‬أنا‭ ‬أعيش‭ ‬داخل‭ ‬قصتي‭ ‬التي‭ ‬أكتبها،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬مُختلق‭.‬

صفارة‭ ‬قطار‭ ‬قادم،‭ ‬تنبهه‭ ‬إلى‭ ‬الموقف‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العبثي،‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬فيه،‭ ‬يحاول‭ ‬الابتسام‭ ‬للكلب‭ ‬الذي‭ ‬يلعق‭ ‬حذاءه‭ ‬اللامع،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع،‭ ‬يمعن‭ ‬النظر‭ ‬بصورته‭ ‬في‭ ‬المرآة،‭ ‬مركّزًا‭ ‬في‭ ‬لون‭ ‬الكرافت،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتسق‭ ‬بشكل‭ ‬مثالي‭ ‬مع‭ ‬لون‭ ‬الجاكت،‭ ‬ثم‭ ‬قرر‭ ‬أنه،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬الشخص‭ ‬الذكي‭ ‬الذي‭ ‬سيكسر‭ ‬المرأة‭ ‬كي‭ ‬يتحرر‭ ‬جسده،‭ ‬سيشغل‭ ‬نفسه‭ ‬بالتفكير‭ ‬بعمق،‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العبثية‮»‬،‭ ‬سيجعل‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬محور‭ ‬المقالة،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬أزمته‭ ‬الحالية‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬جسده،‭ ‬الذي‭ ‬تجمّد‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬ثابتة‭ ‬تأبى‭ ‬الحركة،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مرآة،‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬قطارات‭ ‬قديمة،‭ ‬متماهيًا‭ ‬مع‭ ‬مقالات‭ ‬أخرى‭ ‬قرأها‭ ‬عمّا‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية،‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬التفكيكية‭ .‬