هو.... هي

هو..هي

أريدني حيث ذكرياتي

أنا حزينة، حزينة لست على استعداد لتحمل ضغوط مضافة إلى تلك المتولدة عن حزني. لقد توفي زوجي منذ شهرين، خلال هذه الفترة لم أتوقف عن البكاء، أبكيه كلما وقع نظري على أي ركن في منزلي، أبكيه كلما فتحت عيني صباحا، أبكيه وأنا أشرب فنجان شاي أو قهوة، أبكيه كلما نظرت إلى أحد أبنائي. ولم تتوقف دموعي.

زوجته منذ عشر سنوات، لم أكن أعرفه، جاءت إحدى صديقات والدتي وأخبرتها أن لجيرانها ابنا شابا خريج جامعة، وأنه التحق بوظيفة محترمة لها مستقبل جيد، وأن جيرانها يبحثون له عن عروس. اقترحت الصديقة أن أذهب مرة لزيارتها على أن تنظم هي لقاءنا أثناء تلك الزيارة. إذا حدث الإعجاب سرنا في مشروع الزواج، إذا لم يحدث إعجاب عادت الأمور وكأن شيئا لم يحدث.

هبت دون علم مني. هناك وجدت شابا رقيقا، تعامل معي بكل احترام وتقدير وتعاملت معه بالاحترام والتقدير نفسه، كان حديثا عاما جدا، لم يتطرق إلى أي تفصيلات.

بعد عودتي من الزيارة بعدة أيام، اتصلت صديقة والدتي مرة أخرى وأبلغتها بأن العريس أبدى إعجابه بي، حتى هذه اللحظة لم أكن أعرف أي شيء كل الذي علق بذهني أن إنسانا مهذبا قابلني في بيت صديقة والدتي. فاتحتني والدتي، قالت لي: هل تتذكرين الشاب الذي رأيته عند صديقتي فلانة؟ أجبت: نعم سألت: ما رأيك:؟ إنه يريد التقدم إليك.

عبرت لها عن تقديري لرقته في التعامل معي، ثم طلبت أن نتقابل مرة ثانية وثالثة حتى تتاح لنا فرصة تكوين رأي نهائي، وحدث ما أردت، ثم وافقت على الزواج وتزوجنا.

خلال السنوات العشر أنجبنا ولدين، طارق وهشام وخلال هذه السنوات لم يقع خلاف حاد يفرق بيننا، كانت خلافاتنا من تلك الخلافات البسيطة السهلة الحل، بل أستطيع أن أؤكد أنه بعد كل خلاف بسيط كنا نزداد تقاربا وتفاهما. استمر تعامله معي بالرقة ذاتها وبالاحترام ذاته الذي أظهره لي في أول لقاء عند صديقة والدتي، كان يساعدني في عمل المنزل وفي مواجهة متطلبات الولدين عندما كانا صغيرين وبعد أن كبرا، كان يقدر أني أعمل في الصباح وأني مجهدة طوال اليوم، فكان يقف بجانبي في عملي وفي بيتي ومع جهدي الموجه لأبنائي.

لم يكن زوجا أنانيا بل كان زوجا عطوفا وحنونا، لذلك قربت السنوات بيننا بالرغم من أننا تزوجنا بشكل تقليدي، فلم نتزوج بعد قصة حب أو لقاءات غرامية. لذلك أبكيه ليلا ونهارا، ومنذ أن توفي وأنا فاقدة لقدرتي على التركيز في عملي، لكن زملائي ورؤسائي يقدرون وضعي وظروفي.

منذ يومين جاءني أخي الأكبر وطلب مني أن أنتقل للحياة مع والدي في البيت الكبير، قال: لا يصح أن تعيش شابة أرمل مع ابنين صغيرين بمفردهم في بيت بعيد عن بيت والدها. قال: هذه هي التقاليد.

قلت: لا أستطيع أن أترك بيتي وذكرياتي، أنا امرأة عاملة تملك كل القدرة على الاستمرار في الحياة بمفردها ومع ذكريات زوج عزيز جدا. زادت أحزاني بعد زيارة أخي لي..

هي..

لن نتخلى عنها..

حزني عليه لا يساوي حزن أخر. لقد كان نعم الأخر ونعم الصهر، لم يكن عبد الله مجرد زوج أخت لي، كان صديقا وكان أخا ثالثا لي ولأخي محمود.

كنا نعلم تماما أن لاختنا ليلى زوجا حنونا يقدرها ويحبها ويرعى شئونها وشئون بيتها. لكن ما العمل، وقد توفاه الله وهو في ريعان الشباب، في الثامنة والثلاثين، خرج صباحا إلى العمل، وهناك على مكتبه أصيب بأزمة، لم يعد بعدها إلى أحضان أهله وذويه، ترك عبدالله أسرتنا وهي تبكيه ليلا ونهارا، ننظر إلى الشقيقة العزيزة ليلى ونبكيها حية ونبكيه راحلا، رحمه الله وساعدها على إكمال مشوار طويل مع ولديها طارق وهشام.

بعد أن تخرجت ليلى في كلية الآداب عملت مدرسة، ثم تزوجت من عبد الله بطريقة تقليدية، لم تكن تعرفه، ولم يكن يعرفها، ولكنهما استطاعا أن يؤسسا أسرة صغيرة وسعيدة، لم تحطمها المشاكل أو النزاعات، تميزت الأسرة بالهدوء والسكون، وكنا جميعا سعداء بها.

لم يمتلكها الدخل الوفير، عاشا على راتبيهما، فكانت حياتهما بسيطة متواضعة يشملها الستر، كان والدي يتجه إليهما دائما عارضا المساعدة، فكانت ليلى ترفض بشكل مستمر وبعناد لا يلين، كانت تقول إنها تملك كل شيء وإن بيتها يضم كل ما في البيوت الأخرى من أدوات وحاجيات، كانت تؤكد أن مائدتها عامرة دائما.

كان أبي يصمم على أن يقدم لها بعض المساعدة في المناسبات، مع حلول شهر رمضان أو الأعياد أو عندما ترزق بطفل أو في أعياد ميلاد الولدين طارق وهشام. في إحدى المرات أحست ليلى أن الهدية المالية تتجاوز حدود المناسبة، رفضتها واعتذرت عنها، لذلك تعود أبي على التواضع في هداياه المالية حتى لا تقابلها ليلى بالرفض، كنا على يقين أن عبدالله يحمل مشاعر ليلي ذاتها وأن له أخلاق الرجال المسئولين غير الطامعين في مال أصهارهم. لذلك بكيناه وحزنا عليه حزنا دفينا.

ذهبت إلى أبي بعد وفاة عبد الله وتحدثنا معا في أمر ليلى ومستقبل أسرتها، طلب مني أبي أن أذهب إليها بصفتي أقرب الإخوة إلى قلبها وأن أفاتحها في أمر انتقالها مع ولديها للعيش في أحضان أسرتها وبيتها الكبير. عبرت لأبي عن مشاعري، قلت له أعرف أن ليلى سترفض، قال: اشرح لها ظروف الأسرة العامة والتقاليد المحيطة بنا. طلب مني والدي ألا أشرح لها وبشكل مباشر قلقنا على ظروفها المالية وخوفنا من عدم قدرتها على مواجهة متطلبات الولدين بعد أن تحول راتب عبدالله إلى مجرد معاش فلم يعد لليلى إلا راتبها ومعاش عبدالله.

ذهبت إليها وشرحت لها وجهة نظري ووجهة نظر الأسرة، قلت لها: لا يمكن أن نقبل أن تعيش شابة أرمل وولداها بمفردهم، ماذا سيقول الناس، ربما طعنوا رجال الأسرة لأنهم تركوا شابة توفي زوجها تواجه الحياة بمفردها. بكت المسكينة ورفضت. مازلنا نصر، وسوف نضمها إلينا مهما كلفنا ذلك. نعلم أن هذا هو الحل، لا يمكن تركها فريسة لأحزان كبيرة.

ما أبشع أن يصبح عبدالله.. الراحل عبد الله.

هو..