صورة الحج في السينما العربية

للحج مكانته السامية في قلب الفنان العربي، في كل مجالات الإبداع، وفي الحياة الخاصة، فإننا اعتدنا أن يسجّل الفنان رحلة الحج على الجدران، في رسوم أقرب إلى البدائية، لكنّها تلخّص الرحلة بأكملها منذ مغادرة الدار وحتى ساعة العودة، ومثلما سجّل الفنان الشعبي هذه الرحلة، فإن السينما - بدورها - صوّرت السفر إلى الأراضي المقدسة بأشكال متعددة.
بدت هذه الرحلة بشكل مبكّر منذ بدأت صناعة السينما، ولعل أولى تلك التجارب الفيلم التسجيلي «رحلة الحج»، الذي أنتجه استديو مصر عام 1936، في الشهور الأخيرة من عهد الملك فؤاد الأول، وأصدر للفيلم دفترًا بالغ الفخامة، على غلافه صورة للكعبة المشرّفة، وإلى جوارها صورة الملك.
يصوّر الفيلم دور المصريين خلال تلك الآونة في صنع كسوة الكعبة، بعد تصنيعها على أيدي أمهر المطرّزين والفنانين، ورحلتها إلى الكعبة عبر الصحراء والسفن، والدفتر يعتبر من أغلى وأندر الوثائق على الإطلاق في تاريخ السينما العربية.
أما الرحلة نفسها من البيوت العربية، فلا شك في أن السينما الروائية المصرية قدمت كل ما عندها، سواء كانت قصص السفر، وما وراءها، أو أداء الشعائر، وأيضًا الأغنيات، وتصوير كل ما يخص الحج، الذي يعتبر الأمر الأول فيه هوتالتطهّر.
المقصود بالحج هنا هو الرحلة والشعائر معًا، وفي الأفلام التاريخية التي أنتجتها السينما لم يكن هناك ارتحال إلى الكعبة لدى الشخصيات التي صوّرتها السينما،تومنهم رابعة العدوية،توالسيد أحمد البدوي، الذي ترجع جذوره إلى الجزيرة العربية، وكلاهما من أبرز أعلام التصوّف.
لكن الحج يبدو في الأفلام المعاصرة من خلال رغبة المسلم في أداء الفريضة الخامسة، وبما أن السينما صوّرت لنا فقط حجاج القرن العشرين، فإن الرحيل غالبًا كان يتم بالسفن.ت
الفيلم الأول الذي تم فيه تصوير رحلة الحج كان يحمل اسم اإلهامب، من إخراج بهاء الدين شرف (1950)، ثم توالت الأفلام، وهي محدودة العدد قياسًا بمكانة الحج في حياة المسلمين، ومن أهمها: االمصري أفنديب لحسين صدقي (1949)، ابنت الأكابرب، وادهبب، وكلاهما من إخراج أنور وجدي (1953)، واتوحةب إخراج حسن الصيفي (1958)، واالمرأة التي غلبت الشيطانب إخراج يحيى العلمي (1973)، واأين تخبئون الشمسب للمخرج المغربي عبدالله المصباحي (1981).
ومن بين التجارب الأولى التي لا تُنسى، تلك السيدة الشعبية التي جسّدتها زينات صدقي في فيلم ادهبب، التي لديها العديد من أطفال الشوارع الذين تبنّتهم، وصاروا يمارسون الشحاذة في الميادين والأماكن العامة، وتسكنت هذه المرأة في بيت فقير، هي مالكته، وفي غرفة بالدور الأرضي يسكن وحيد ألفونسو وابنته الصغيرة دهب، التي تعمل معه في التسوّل القانوني، فهو يعزف على الكمان في الشوارع والفتاة الصغيرة تساعده، وتشتبك الفتاة دومًا مع الصغار الذين يمارسون أعمالًا منافية للأخلاق، وعندما تعرف المرأة سرّ دهب، فإنها تذهب إلى أهلها الحقيقيين وتبلّغهم بالأمر، ونعرف منها أنها فعلت ذلك مباشرة قبل الذهاب إلى الحجاز، أي أنها تمارس أعمال الشماتة، والإيقاع بين أناس لا تعرفهم.
رحلة للتطهّر
لم تكن المرأة قد قامت بالتجربة بعد، وبدت كأنها تتصرف على السجيّة، إلا أنها عندما تعود من الحج تكون قد تطهّرت، وترى الحزن يسيطر على وحيد الذي ترك عالمه الثري في دنيا الفن، وعاد مجددًا إلى الغرفة الصغيرة في البدروم، ولأنها أصبحت اإنسانة جديدةب بفضل الحج، وصارت متطهّرة، فإنها تواسيتالرجل، وتذهب إلى المحكمة للإدلاء بشهادتها لمصلحة الأب الذي ربّى ابنته كأفضل ما يكون، بينما الأب الحقيقي تاجَر في أبوّته، وتعامل مع ابنته كسلعة.
وكما نرى، فإن رحلة الحجتتم التعامل معها بمصر في المقام الأول، ثم في بلاد أخرى، وكانت هناك مسافات غير قصيرة بين كل فيلم وآخر.
في هذه الأفلام ذهب المسلمون إلى الأرض المقدسة استجابة لتعاليم دينهم، باعتبار أنها الفريضة الخامسة، وبالتالي حبًّا في الذهاب لأداء الشعائر والطواف، والصعود إلى عرفة، ورمي الجمرات، وأيضًا زيارة قبر الرسول [،توالعودة بقلوب طاهرة مستغفرة، نقية تركت أدرانها، وعليها أن تبدأ حياة جديدة.ت
تفي هذه الأفلام، هناك الباشا الذي لديه القدرة على دفع تكاليف السفر، وأيضًا الفقراء، مثل شخصية الناسك في فيلم اإلهامب، فهو يذهب في رحلته مترجّلاً، متحملاً مشقة السفر، كما أن الكثير من الحجاج يسافرون بنيّة التوبة والاستغفار والتطهر، مثلما حدث للمعلّمة توحة، ولذا فإن الحج هو في الغالب نهاية رحلة، ويقوم به كبار السن، مثلما فعل الجد في ابنت الأكابرب، كما تقوم بها امرأة في منتصف العمر، والشيخ محمود الذي يمثّل الخير في فيلم اأين تخبّئون الشمسب.
السبحة وملابس الإحرام
أما في فيلم االمصري أفنديب، فإننا أمام رجل متوسط الحال، يؤدي كل ما يطلب منه الدين، فهو يؤدي الصلوات، ويدفع الزكاة، وهو متزوج من امرأة تنجب له كثيرًا من الأبناء، مما يجعله ناقمًا على كل هذه النعمة التي لم يكن يدري بها إلا بعد أن فقد الابن تلو الآخر، ولما صار كبير السن حقّق الكثير من الثروة التي لم يعرف لها مثيلاً، لكن بصره ضعُف كثيرًا، ولم ينتبه إلى أن الشاب الذي دخل حياته هو ابنه الذي تاه منه، وما إن تتضح الحقيقة حتى يقرر الذهاب إلى الحجاز، شاكرًا لله.
في هذه الأفلامت يبدو زيّ الإحرام علامة مميزة للحجاج من الرجال والنساء معًا، مثلما رأينا زينات صدقي في ادهبب، وتبدو المسبحة بين أصابعها سمة بالغة الوضوح، وهو أمر سنراه دومًا لدى العائدين من الرحلة المقدسة، مثلما رأينا وسنقدم من عوالم سجّلتها السينمـا، والغريب أنه في هذه الأفلام لجأ المخرجون وصنّاع الأفلام إلى استخدام اللقطات التسجيلية أكثر من الحيّة، ربما لصعوبة التصوير السينمائي وسط هذه الحشود الكبيرة، وهو أمر تغيّر كثيرًا في زمن الفضائيات، حيث نقلت الكاميرات الأحداث بتفاصيل شديدة الدقة،تولا أعتقد أن السبب كان رقابيًّا، فموقف السلطات من السينما كان بالغ التوافق منذ الفيلم التسجيلي االحجب الذي أشرنا إليه.
وفي بعض الأفلام، فإن الشعائر نفسها لم تكن موجودة، مثلما حدث في فيلم ابنت الأكابرب، حيث تغني الحفيدة ليلى مراد من النافذة للحج: ايا رايحين للنبي الغاليب، ويذهب الجد كي يعود إلى داره بعد فترة زمنية، وقد تغيّر موقفه من أشياء كثيرة، وبدا ذلك في فيلم اتوحةب، فالمرأة التي كان لها كثير من الضحايا، وتعرضت لكثير من الأخطار، تذهب مع زوجها الجديد رشاد إلى الأرض المقدسة، كي يستقبلها أهل المنطقةتبالاحتفالات المتعارف عليها في مثل تلك المناطق، وقد ارتدى الزوج وامرأته ملابس الإحرام.
المعنى الكبير
تعال نشاهد المعنى الكبير الذي يعنيه الحج في فيلم االهانمب، وهو من بطولة ماري كويني ويحيى شاهين، هذا الممثل الذي أسند إليه المخرجون دومًا دور الناسك المتعبّد أو شبه المتديّن في أفلام كثيرة، ومنها اجعلوني مجرمًاب لعاطف سالم (1954)، واشيء من الخوفب لحسين كمال (1969)، وفي فيلم اإلهامب، فإنه يؤدي دور الناسك الباحث عن جوهر الإنسان فيغادر قريته، ويتجه عبر الصحراء إلى مكة المكرّمة، وفي طريقه يعثر على امرأة مغمى عليهاتفي الصحراء، فيتولى مساعدتها، ويستمع إلى قصتها التي عاشتها في المدينة، ويقرر بعد ذلك استكمال رحلته إلىتالأرض المقدسة، لكنه يقرر أن يصحب إلهام معه كي تشاركه تطهُّره، ويتزوج منها بعد أن خرجت من عباءة تجاربها السابقة.ت
في عام 1952، رأينا الممثل محمود المليجي يقوم بدور آخر في فيلم االإيمانب، إخراج أحمد بدرخان. وهو واحد من أعظم أدواره على الإطلاق، فهو الخارج عن القانون الذي صاحب المجرمين وصار زعيمًا لهم، مما دفع أخاه الأكبر لمقاطعته، خاصة حين سافر إلى حرب فلسطين، ويجد الرجل نفسه مسؤولاً عن أولاد أخيه عقب وفاته في الحرب، ويشهد حالة من التحوّل والتطهُّر، خاصة بعد أن تخلّص من خصمه الذي حاول خداع ابنة أخيه الشابة، وينتهي الفيلم بالرحيل وهو في صحراء سيناء متجهًا على قدميه إلى الكعبة، وقد امتلأ بمشاعر الإيمان والتطهُّر.
نحن هنا لم نر الأرض المقدسة، لكن المشهد الختامي في الفيلم يوحي أنه الطريق إلى الخلاص من ماديات الدنيا إلى روحانياتها، وهو المعنى العظيم الذي قدمته القصص السينمائية دومًا عبر رحلة الحج.
أكثر من تجربة
كما نرى، فإن رحلة الحج غالبًا ما تكون فردية، لكنها تمس كثيرًا مَن هُم حول الشخص الذي يؤدي الشعائر، وكما شاهدنا فإن هناك أكثر من تجربة كانت الرحلة فيها اجتماعية، ومنها اإلهامب واتوحةب، وأيضًا اأين تخبئونتالشمسب.ت
فيلم االمرأة التي غلبت الشيطانب استوحى قصته توفيق الحكيم عن فكرة افاوستب في الفكر الغربي، حيث يعتمد الكاهن التائب على فكرة حرق الشيطان بالإيمان والصلاة، وفي الفيلم نرى شفيقة تبرم اتفاقًا مدة عشر سنوات مع الشيطان أدهم، وبعد أن كانت خادمة دميمة تحب الصحفي محمود من طرف واحد، فإن الشيطان يشتري روحها مدة عشر سنوات، تصير خلالها نجمة مشهورة جميلة وثريّة، لكنها لا تستطيع شراء مشاعر الحب من الرجل الذي تتمناه، وبعد أن يموت محمود تكون السنوات العشر قد انتهت، وعليها أن تسلّم روحها وجسدها إلى الشيطان لتموت في غياهب الجحيم، إلا أن المرأة تتوب إلى الله عن طريق حارس الحديقة، وتقرر الذهاب إلى الحجاز لأداء الشعائر، وترتدي ملابس التوبة، ويفاجأ بها الشيطان وهي تصلي في الدقائق الأخيرة من حياتها، فيقر بالهزيمة المنكرة.
الحج هنا، كان الوسيلة المؤكدة للخلاص، التطهُّر، وقد ظلت شفيقة ترتدي ملابس الإحرام بعد عودتها من الحج، وقررت أن تمنح قصرها إلى أعمال الخير العامة.ت
عادل أدهم هنا هو الشيطان، ومن الواضح أن المخرجين رأوه دومًا في هذا الدور في أفلام أخرى بأسماء توراتية غالبًا، ومن هذه الأفلام اخطيئة ملاكب إخراج يحيى العلمي أيضًا عام 1979.
بين التسجيلي والتمثيلي
وقد أسند المخرج المغربي عبدالله المصباحي إلى أدهم دور الشيطانت في فيلم اأين تخبئون الشمسب، وهو من تأليفه وإنتاجه، وهنا هو الملحد الذي يكنّ المزيد من المحبة لأخيه الأصغر، ويعرف أن الشيخ محمود كان وراء هِداية الأخ، الذي مات فيما بعد، ويقرر الانتقام منه، ويذهب خلفه إلى أرض الحجاز في موسم الحج، وقد رأينا هنا مشهدًا طويلاً مدته عشر دقائق فيه كثير من المشاهد التسجيلية لشعائر الحج من الطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، وأيضًا رمي الجمرات، حيث من السهل أن تلاحظ أن المخرج استعان بفيلم تسجيلي عن الحجت وقام بعمل تركيب بين التسجيلي والتمثيلي، فالمشاهد التسجيلية يغلب عليها الكادرات الواسعة، أو الكبيرة، والمشاهد التمثيلية هي في الغالب قريبة، ويبدو فيها الممثل مع شخصيات أخرى مقربين من الكاميرا، أي أن المخرج لم يكلف نفسه الذهاب إلى الحجاز في تلك الفترة، وقد صوّر إبراهيم أنه المقصود بالرمي، بعد أن أصابته الحجارة بجروح غائرة، وفي أثناء الشعائر، وسط البحث عن الشيخ محمود، فإن إبراهيم يحتك بالحجاج، ويستمع إلى الخطب الدينية التي يلقيها العلماء، ويشعر بالتطهر، ويبدأ في التحول في أيام الحج القليلة، وهنا تنزل عناوين الفيلم التي تسأل المتشككين: اأين تخبئون الشمسب، والمقصود بالشمس هنا، بالطبع، الحقيقة.
في زمن المجد الخاص للسينما الموسيقية غنت المطربات بشكل خاص للحج، وعلى رأس القائمة ليلى مراد في أغنية ايا رايحين للنبي الغاليب في فيلم ابنت الأكابرب، وسعاد محمد في فيلم اأنا وحديب، وهي تغني للرسول [ ايا حبيبي يا رسول اللهب، وأيضًا نور الهدى في فيلم اأفراحب إخراج أحمد بدرخان عام 1950، وهي تردد:
مبروك يا حاج وعقبالنا
نحجّها ويرتاح بالنا
مبروك يا حاج وعقبالنا
يا مسعدك زرت الكعبة
وطفت بالصفا والمروة
يا ريتنا معاك صحبة
ومن عيون زمزم تروى
وقفت فوق عرفات
يا حاج بيت الله
وفزت بالبركات
يا حاج بيت الله
وكما نرى هنا، فإن المطربات يقمن بالغناء للرجل الذي يذهب إلى الحج، لكن هذا لم يمنع أن المرأة شاركت الرجال في تلك المهمة المقدسة في أغلب أفلام السينما، حيث لم يكن الحج شعائر خاصة بالرجال وحدهم، بل بالجميع .