البشير الدامون وعوالمه الروائية نساء ينتفضن ويَتذكرن حكاياتهن ويُربين الأمل

البشير الدامون وعوالمه الروائية  نساء ينتفضن ويَتذكرن حكاياتهن ويُربين الأمل

يقول الأديب الإسباني إدواردو مينديكوتي في نص له بعنوان «ذاكرة شخصية، شهادة جماعية»: «تهمني، باعتباري قارئًا، أعمال كتّاب يستعملون ذاكرتهم الشخصية، مع كل ما يعنيه ذلك من حسّ إبداعي ومن تصرُّف لا يمكن تجنّبه. 
وهم يهدفون بذلك إلى تقديم كشف بماض يعنينا جميعًا، متكئين على تجربتهم لتقديم صورة جزئية، ولكن ذات مدى كوني، عن معيشهم». وهذا التوصيف، الذي يكاد يكون برنامجًا إبداعيًا، يصلح في نظري لأن يكون مدخلًا لمساءلة أعمال الروائي المغربي البشير الدامون الذي يبدو جليًا أنه يعتمد في رواياته على خبرته وعلى مواقف عاينها، ويقدم لنا «كشفًا»، بتعبير مينديكوتي، بخلاصات تجاربه وتجواله في الحياة وبين الكتب، وينقل تلك الخلاصات، عند تقييدها أدبيًا، من بُعدها المحلي فتصبح حالات ذات بُعد إنساني.

 

يجد القرّاء أنفسهم، منذ روايته الأولى «سرير الأسرار» (2008)، إزاء عمل يتبنى تصورًا يجعل الأدب يمتح من الذاكرة ويحرص على صونها ويتوق في الآن نفسه إلى التخلص من بعض أعبائها فيُحور بعض مكوناتها. ولن نفاجأ حينما تخبرنا الجملة الاستهلالية من الرواية، بما يلي «أن تنسى مهمة صعبة الإتقان» (ص 8)، وحتمًا سنتأرجح طوال العمل ما بين حدّي التذكر والنسيان.
 و«سرير الأسرار» تستحق، في تقديري، وقفة خاصة، فهي رواية ذات جاذبية ولها موقع مركزي في المسار الإبداعي لكاتبها؛ إذ يمكن اعتبارها الحاضنة التي انبثقت منها تباعًا بقية روايات البشير الدامون، الذي فاجأ قراءه بنبرته الصادقة وصنعته المُحكمة، وبكون روايته الأولى هاته جاءت ممهورة باعتراف دار نشر عريقة، هي دار «الآداب».
لقد رحّب كثيرون بهذا العمل واندهش البعض وتساءل آخرون: من أين أتى هذا الكاتب الذي لم تتداول وسائل الإعلام والجمعيات الثقافية اسمه من قبل؟ ومن أين استمد الجرأة على اقتحام عالم الأدب والكتابة؟ وكان جواب الدامون عمليًا، تمثّل في إصداره مزيدًا من الروايات، ليبرهن بذلك على أن الكتابة بالنسبة إليه كانت دومًا أمرًا جديًا وحيويًا، وأن القرّاء العديدين الذين وثقوا به وانتصروا لعوالمه منذ البداية، قد راهنوا على فارس أصيل في جعبته العديد من الحكايات الممتعة التي يرغب في اقتسامها مع متلقيه ليصالحهم مع الحكي ومتعه الأصيلة والمتجددة، معتمدًا على أسلوب عفوي أو يريد أن يوهم بأنه كذلك. 
وتنبني رواية «سرير الأسرار» على حكاية بطلتها طفلة صغيرة تمردت على وضع قاهر بدار كبيرة سيئة السمعة، تقع بإحدى الحارات العتيقة لمدينة تطوان، حارة تتميز بشخصياتها الغريبة الأطوار والمتباينة الطبائع، وبأجوائها السحرية رغم تواضعها. وتصور الرواية، عبر استعادة مطولة، الملاحم اليومية لأناس بسطاء ولأمنياتهم الصعبة التحقيق وتعبهم الدفين عبر محكيات تهيمن عليها رؤية رومانسية ومأسوية، تجد تمظهراتها في حضور الطبيعة بشكل طاغٍ، وفي الاستنجاد بمختلف عناصرها وتحولاتها للتعبير عن الأحاسيس والعواطف، وفي سيادة الأحزان والآلام، وفي جعل المنطق الموجّه للوقائع محكومًا بالمواجهة بين الخير والشر، وفي اتساع دائرة العنف وتعدد حالات الجنون والتشرد، كما تحكي ذلك ساردتها التي أصبحت، بتطور الوقائع، تجسد فكرة المقاومة الناعمة والتشبث بالكبرياء.
وتلتقي بقية روايات الدامون مع روايته الأولى في الملمح الرومانسي وفي سيادة قدر لا بأس به من الفجائع والمأسوية، وتلتقي أساسًا في أن صوتًا أنثويًا هو من يقوم بسرد الحكايات وتعرجاتها. 
ذلك ما نجده في رواية «أرض المدامع» (2012)، مع شخصية «مرجانة» التي تحكي قصة بحثها عن كنز روماني مدفون تحت قصر فخم، وتربط مصيرها بمصائر أناس عاشوا قرونًا عدة قبلها. ونعاين كيف أن زهرة في رواية «زهرة الجبال الصماء» (2017)، تحاول أن تضيء سر غياب ملغز، وتلجأ إلى الترحال والشدو والغناء كشكل من أشكال المقاومة.

أوضاع ضاغطة
 أما «السيدة الحرّة» في رواية «هديل امرأة حرة» (2015)، فهي تقتسم معنا تجربتها، باعتبارها امرأة أبيّة وحازمة، حُوربت ووجدت نفسها مجبرة، بمعنى من المعاني، على أن تلج في مرحلة تاريخية مبكرة مجالات، كانت تبدو حكرًا على الرجال، هي مجالات السلطة السياسية والمؤامرات وقيادة الحروب.
 في حين تنقل لنا شخصية «أسماء» في رواية «حكاية مغربية» (2015) معاناتها، وهي تصارع الفساد السياسي والأخلاقي والمجتمعي، مثلما يصارع الدون كيخوتي طواحين الهواء، وتروي لنا كيف أصبحت، دون سابق ترتيب، طرفًا في عديد المغامرات والملاحقات العنيفة. ولا يمكننا حينما نربط الحكي بامرأة إلا أن نحيل على شهرزاد، أشهر ساردة في تاريخ الأدب العربي والعالمي؛ شهرزاد التي أنقذت حياتها وحياة مئات النساء عبر اقتراحها على السلطان شهريار، في «ألف ليلة وليلة»، حكايات مغرية ومؤثرة أصبحت سلاحًا وشَرَكًا وترياقًا في معركة كانت تبدو في البدء غير متكافئة. وقد تكون هذه هي حالة الشخصيات النسائية الساردة في روايات الدامون، التي وجدت بعض خلاصها من أوضاع قاتمة وضاغطة في اقتسام قصصها وتجاربها، وفي تربية الأمل الذي يساعد على رؤية بعض الضوء في آخر النفق.
 وهكذا نجد إحدى شخصيات رواية «حكاية مغربية» تقول للساردة «احكي حكايتك! إنها جديرة بأن تُسمع». والحال أن الحكايات المضمنة في بقية روايات الدامون تستحق هي أيضًا أن تُحكى، وأن يتم الاستمتاع بها، بعد مرورها عبر مصفاة الحكي الأنثوي المرهف. والكاتب بذلك إنما يعلي من قيمة النساء ويعلن ثقته في ذكائهن، ويرفع إسهاماتهن ومعاناتهن إلى النور، من دون أن يحتاج إلى هتافات ومن دون تحريض، لأن الرؤية المهيمنة في أعماله، هي رؤية لا تؤمن بالصدام أو الصراع المباشر، وتسعى إلى العثور على حلول ليست بالضرورة حلولًا جذرية. 

فضاءات مألوفة
في عوالم الدامون الروائية، تتقاطع المحكيات والقصص المستقلة بنفسها والمتداخلة في الآن نفسه، قليلها فيها مرح وأكثرها فجائعي. ونسجل أن هنالك حرصًا على تسجيل أحداث يمكن التحقق من وقوعها وأماكن يمكن التأكد من وجودها، مثل تصوير حي السوق الفوقي الشهير بالجزء العتيق من مدينة تطوان الذي جعله المؤلف سوقًا سفليًا ليستضيف أحداث رواية «سرير الأسرار» وشخصياتها، ومثل استحضار الصراع الدموي بين حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال، أو الوقوف عند المتحف الأثري الذي انطلقت منه أحداث رواية «أرض المدامع»، وكذا أماكن وفضاءات مألوفة بمدينة تطوان أو شخصيات ذائعة الصيت، مثل شخصية «تحيا النسا» أو شخصية «سرطحا» أو شخصية «السيدة الحرة» التي فتنت مجايليها وعبرت فتنتها القرون، لنتأكد نحن أن من بين مهام الأدب، حفظ ما يتهدده الاندثار والعياء والتلف. 
ويمكن، هنا، تسجيل أن أغلبية الشخصيات الروائية في أعمال الدامون، هي شخصيات هامشية، تعيش على هامش المجتمع، خصوصًا أن أغلب هذه الشخصيات هي نسائية، وهو بذلك يسلط نوره على المناطق المعتمة في العوالم التي يشيدها، وعلى ما هو مسكوت عنه وما قد يزعج. إنه يصرخ بهدوء ويندد بتعقل بظواهر مَرضية (الفساد، الرشوة، التحرش، الظلم بجميع تلويناته)، ويفضح ما يجب فضحه، فضلًا عن أن عوالمه، هي عوالم بينية وحدودية تتأرجح بين الفضيلة والرذيلة، وتصور صراعات ما بين دار الإسلام ودار الكفر، وما بين الأمل وأقصى درجات الخنوع، وما بين الحرمان القاسي والعيش في رفاهية ظالمة، بما هي عوالم تصادفنا فيها كذلك موضوعة البحث عن الهوية، كما في رواية «هديل سيدة حرة»، حيث نجد الشخصية الرئيسة «السيدة الحرة» تصارع من أجل التدبير الأمثل لهويتها الموزعة بين انتمائها للإسلام والمسيحية، أو ساردة «سرير الأسرار» التي تبحث  عن نسب واضح الملامح، أو حالة أسماء في «حكاية مغربية» التي تهفو إلى الانتقال من حالة العوز إلى جو من الاطمئنان، ترعى فيه أسرتها وتشعر فيه أن الدولة لم تتخلّ عنها وأخذت بعين الاعتبار تكوينها وشواهدها الجامعية. 

بُعد خفي
في روايات الدامون بُعد سياسي خفي يتسرب بين التفاصيل، والكاتب، لكي يضمن لفت انتباه قرائه وشدهم، يستعير أحيانًا بهارات روايات المغامرات، ويختلق قصة يتم فيها البحث عن كنز محتجب، أو يقوم بتحريات لكشف سر ما، أو يتساءل عن لغز غياب غامض لشخصية من الشخصيات. كل ذلك ليبرهن على أنه حكاء من الطراز الرفيع. 
والملاحظ، أن الروائي الدامون لا يتهيب اللغة التي يستعملها، فهو يقترب منها باحترام، لكن من دون انحناء، ويبتكر العديد من التعابير التي تكاد تكون خاصة به ويروّض بعضها.  كل ذلك، دون أن ينسى أنه أولًا - وقبل كل شيء - كاتب مهمته الأساس هي أن يمتع قراءه ويشدهم ويجعلهم بين الفينة والأخرى يرفعون رؤوسهم ليتساءلوا عن مغزى وخلاصات ما اقترحه عليهم من عوالم وشخصيات ووقائع، هي بالتأكيد مزيج من عناصر من الواقع ومن الخيال، التقى فيها الإبداع برغبة أكيدة في إيصال رسالة محددة، مفادها أن اقتسامنا للحكايات هو رديف لاقتسامنا للمحبة، وأن فرحنا بتفاعلنا وانفعالنا بالعوالم التخييلية نفسها، مردّه إلى أننا نكتشف مجددًا أن جوهرنا واحد، وأن قدرنا هو أن نجعل هذا السفر المسمى حياة سفرًا ممتعًا ومغريًا ■