حوادث التاريخ بين أنف كليوباترا وملاريا الإسكندر

حوادث التاريخ  بين أنف كليوباترا وملاريا الإسكندر

قد‭ ‬تكون‭ ‬حوادث‭ ‬التاريخ‭ ‬الكبيرة‭ ‬ووقائعه‭ ‬العظيمة‭ ‬خاضعة‭ ‬لقوانين‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منها،‭ ‬لكن‭ ‬المصادفات‭ ‬والحوادث‭ ‬العرضية‭ ‬والنزوات‭ ‬البشرية‭ ‬والحماقات‭ ‬والالتواءات‭ ‬والانحرافات‭ ‬لها‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬مكانتها‭ ‬وآثارها،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأفراد‭ ‬أو‭ ‬الجماعات،‭ ‬وربّ‭ ‬مصادفة‭ ‬أشقت‭ ‬رجلًا‭ ‬وحطّمت‭ ‬أملاً،‭ ‬ورب‭ ‬نزوة‭ ‬من‭ ‬النزوات‭ ‬أو‭ ‬حماقة‭ ‬من‭ ‬الحماقات‭ ‬أثّرت‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬أمة،‭ ‬وأخّرت‭ ‬تقدّم‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الأجيال،‭ ‬وحمّلته‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬من‭ ‬الخطوب‭ ‬والأرزاء،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬مجموعه‭ ‬مزيج‭ ‬غريب‭ ‬من‭ ‬الجبر‭ ‬والحرية‭ ‬والضرورة‭ ‬والاختيار‭.‬

‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬كان‭ ‬مصير‭ ‬أمة‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬معلّقًا‭ ‬بيد‭ ‬رجل‭ ‬واحد،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬تسعد‭ ‬إن‭ ‬أحسن‭ ‬الاختيار‭ ‬وأجاد‭ ‬التفكير،‭ ‬وتشقى‭ ‬إذا‭ ‬أساء‭ ‬الاختيار‭ ‬وركب‭ ‬رأسه‭ ‬وطاوع‭ ‬نزواته‭!‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬بروز‭ ‬عاملي‭ ‬الاختيار‭ ‬والمصادفة‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬التاريخية‭ ‬يجعل‭ ‬دراسة‭ ‬الحوادث‭ ‬التاريخية‭ ‬نافعة،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬وجه‭ ‬للانتفاع‭ ‬بتجارب‭ ‬التاريخ،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنه‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬حوادث‭ ‬التاريخ‭ ‬محتومة‭ ‬ولا‭ ‬متحول‭ ‬عن‭ ‬وقوعها‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬ضير‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ننفض‭ ‬أيدينا‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬ونكتفي‭ ‬بترقّب‭ ‬الحوادث،‭ ‬ولكن‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬غير‭ ‬متغيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬الظروف‭ ‬تتشابه‭ ‬في‭ ‬إقبالها‭ ‬وإدبارها‭ ‬وشدتها‭ ‬ولينها،‭ ‬فقد‭ ‬نستطيع‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬أخطاء‭ ‬الأمس‭ ‬ونكبات‭ ‬الأيام‭ ‬السوالف‭.‬

ومما‭ ‬يزيد‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬قيمة‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬الحاسم‭ ‬المرجح‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬أو‭ ‬أزمة‭ ‬من‭ ‬الأزمات‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬شيئًا‭ ‬خفيّ‭ ‬الشأن‭ ‬غير‭ ‬واضح‭ ‬الأهمية،‭ ‬وقد‭ ‬يبدو‭ ‬زهيد‭ ‬القيمة‭ ‬ضئيلًا‭ ‬هزيلًا،‭ ‬لكنه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يحوّل‭ ‬مجرى‭ ‬التاريخ،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬يكون‭ ‬للصغار‭ ‬والتوافه‭ ‬أهمية‭ ‬وآثار‭ ‬بعيدة‭ ‬ترجح‭ ‬أهمية‭ ‬التفكير‭ ‬السديد‭ ‬والحساب‭ ‬الدقيق‭ ‬والنظر‭ ‬البعيد‭.‬

 

أنف‭ ‬كليوباترا

وقد‭ ‬تناول‭ ‬المؤرخ‭ ‬الإنجليزي‭ ‬هيرتشو،‭ ‬موضوع‭ ‬المحتملات‭ ‬التاريخية،‭ ‬وقدّم‭ ‬فيها‭ ‬أمثلة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المحتملات‭! ‬ومن‭ ‬الأمثلة‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬العالمي‭ ‬ذلك‭ ‬المثل‭ ‬الذي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يردده‭ ‬أنصار‭ ‬مذهب‭ ‬المصادفة‭ ‬وتأثيرها‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬وهذا‭ ‬المثل‭ ‬هو‭ ‬أنف‭ ‬كليوباترا،‭ ‬وقديمًا‭ ‬قيل‭ ‬إنه‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬أنف‭ ‬كليوباترا‭ ‬أكبر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬لتغيّر‭ ‬وجه‭ ‬التاريخ،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الأنف‭ ‬الضخم‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يُنقص‭ ‬من‭ ‬جمالها،‭ ‬فلا‭ ‬تظفر‭ ‬بالمكانة‭ ‬التي‭ ‬ظفرت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬يوليوس‭ ‬قيصر‭ ‬ومارك‭ ‬أنطوني،‭ ‬وبذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موقعة‭ ‬أكتيوم‭ ‬لتقع‭ ‬ويتغيّر‭ ‬تاريخ‭ ‬الرومان‭ ‬وتاريخ‭ ‬العالم‭ ‬تبعًا‭ ‬لذلك،‭ ‬ويقول‭ ‬هيرنشو‭ ‬تعليقًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬إني‭ ‬بريء‭ ‬من‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬أنف‭ ‬أي‭ ‬سيدة‭ ‬أو‭ ‬شكله‭ ‬ـ‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬تقديرها‭ ‬ـ‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الصغيرة‭ ‬التافهة،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬باعتبارها‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الحاكمة‭  ‬الفاصلة‭ ‬في‭ ‬مصائر‭ ‬الأمم‭  ‬عند‭ ‬القائلين‭ ‬بالعناية‭ ‬الإلهية‭ ‬أو‭ ‬القائلين‭ ‬بالجبرية‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬القابلة‭ ‬للمناقشة‭ ‬أن‭ ‬أنف‭ ‬كليوباترا‭ ‬لو‭ ‬اختلف‭ ‬قليلًا،‭ ‬ولو‭ ‬بمقدار‭ ‬قيراط،‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬لقضى‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬جمالها،‭ ‬ولما‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تفتن‭ ‬قيصر‭ ‬أو‭ ‬تسحر‭ ‬مارك‭ ‬أنطوني‭ ‬بجمالها‭.‬

 

الإسكندر‭ ‬المقدوني

وفلاسفة‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬بكل‭ ‬وأوجست‭ ‬كونت‭ ‬ومن‭ ‬إليهما،‭ ‬كانوا‭ ‬يحاولون‭ ‬أن‭ ‬يجعلوا‭ ‬التاريخ‭ ‬علمًا‭ ‬آليًّا،‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يواجهون‭ ‬من‭ ‬الحين‭ ‬إلى‭ ‬الحين‭ ‬بعض‭ ‬المظاهر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تفسرها‭ ‬الفلسفة‭ ‬المادية،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬وسع‭ ‬العقل‭ ‬البشري،‭ ‬التكهن‭ ‬بحدوثها،‭ ‬وليست‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الحوادث‭ ‬غير‭ ‬المنتظرة‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬صغيرة‭ ‬تافهة،‭ ‬لكنها‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تؤثر‭ ‬تأثيرًا‭ ‬بالغًا،‭ ‬فهناك‭ ‬أشياء‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬الخطورة‭ ‬والأهمية،‭ ‬وهي‭ ‬ظهور‭ ‬الإرادة‭ ‬البشرية‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬تطبع‭ ‬الحوادث‭ ‬بطابعها‭ ‬وتدفعها‭ ‬دفعًا‭ ‬إلى‭ ‬الناحية‭ ‬التي‭ ‬تريدها‭! ‬ويتجلى‭  ‬ذلك‭  ‬في‭  ‬ظهور‭ ‬أمثال‭  ‬قيصر‭ ‬ونابليون‭ ‬ولوثر‭ ‬وأضرابهم‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والقادة‭ ‬المبرّزين،‭ ‬ولا‭ ‬نزاع‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬أمثال‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬ثمرة‭ ‬زمانهم،‭ ‬لكنهم‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬يفرغون‭ ‬زمانهم‭ ‬في‭ ‬القالب‭ ‬الذي‭ ‬يختارونه،‭ ‬وهم‭ ‬رواد‭ ‬لما‭ ‬يسميه‭ ‬هنري‭ ‬برجسن‭ ‬‮«‬التطور‭ ‬المبدع‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬اختار‭ ‬هيرنشو‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬العظماء‭ ‬الإسكندر‭ ‬المقدوني‭ ‬ليتخذ‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬وموته‭ ‬دليلًا‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬الإرادة‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬التاريخ،‭ ‬وذكر‭ ‬أن‭ ‬الإسكندر‭ ‬ولد‭ ‬سنة‭ ‬356‭  ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وكانت‭ ‬المعركة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬على‭ ‬أشدّها،‭ ‬وقد‭ ‬ظلت‭ ‬مستعرة‭ ‬النيران‭ ‬نحو‭ ‬مئتي‭ ‬سنة‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬السادس،‭ ‬وكانت‭ ‬العبقرية‭ ‬اليونانية‭ ‬عبقرية‭ ‬أرضية،‭ ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬تنقصهم‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فاقتصرت‭ ‬اهتماماتهم‭ ‬على‭ ‬مدينتهم،‭ ‬وقد‭ ‬قدّر‭ ‬لفيليب‭ ‬المقدوني‭ ‬ولابنه‭ ‬الأعظم‭ ‬شأنًا‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الطريق‭ ‬لإنهاء‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬الطويل،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬فيليب‭ ‬العمل‭ ‬بإخضاع‭ ‬المدن‭ ‬اليونانية‭ ‬وضمها‭ ‬لدولته‭ ‬المقدونية‭.‬

ولما‭ ‬قتل‭ ‬فيليب‭ ‬سنة‭ ‬336‭ ‬تولى‭ ‬ابنه‭ ‬الإسكندر‭ ‬إنجاز‭ ‬الخطة‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬أبوه،‭ ‬وقد‭ ‬هزم‭ ‬الفرس،‭ ‬واستولي‭ ‬على‭ ‬إمبراطوريتهم،‭ ‬ومزج‭ ‬الغرب‭ ‬بالشرق،‭ ‬وساعد‭ ‬على‭ ‬توحيد‭ ‬آسيا‭ ‬وأوربا،‭ ‬وأنشأ‭ ‬مدنًا‭ ‬يونانية‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬آسيا،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬المراكز‭ ‬الثقافية‭ ‬تغلغلت‭ ‬اللغة‭ ‬والفلسفة‭ ‬والعلم‭ ‬اليوناني‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬وانبعثت‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬ذلك‭ ‬حضارة‭ ‬جديدة‭ ‬بلغت‭ ‬الازدهار‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬امتزاج‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭.‬

وقد‭ ‬تم‭ ‬ذلك‭ ‬بفضل‭ ‬الإسكندر‭ ‬وفتوحه‭ ‬المظفرة،‭ ‬لكن‭ ‬حينما‭ ‬أصابته‭ ‬حمّى‭ ‬الملاريا‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬والثلاثين‭ ‬من‭ ‬عمره‭. ‬وختمت‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬333‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬أمامه‭ ‬أعمال‭ ‬كثيرة،‭ ‬فلو‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬الإسكندر‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب‭ ‬وعاش‭ ‬سنوات‭ ‬ليوطد‭ ‬دولته،‭ ‬ويتم‭ ‬برنامجه‭ ‬لتغيّر‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭.‬

 

وليام‭ ‬الفاتح

ويختار‭ ‬هرنشه‭ ‬مثلًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنجليز‭ ‬أنفسهم،‭ ‬وهو‭ ‬استيلاء‭ ‬وليام‭ ‬الفاتح‭ ‬على‭ ‬إنجلترا‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1066‭ ‬ووقوع‭ ‬معركة‭  ‬هاستينجز،‭ ‬وهذا‭ ‬الغزو‭ ‬النورماندي‭ ‬كان‭ ‬نقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنجليز،‭ ‬ويرى‭ ‬هيرتشو‭ ‬أن‭ ‬إقدام‭ ‬وليام‭ ‬على‭ ‬غزو‭ ‬إنجلترا‭ ‬كان‭ ‬مغامرة‭ ‬محفوفة‭ ‬بالخطر‭ ‬وغير‭ ‬مضمون‭ ‬النجاح،‭ ‬لأن‭ ‬هارولد‭ ‬جودو‭ ‬إيتان‭ ‬كان‭ ‬محاربًا‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الأول،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬جيشه‭ ‬مجاهدون‭ ‬أقوياء‭ ‬مجرّبون،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬أسطول‭ ‬قوي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يشل‭ ‬حركة‭ ‬جيش‭ ‬وليام‭ ‬الفاتح،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬تغلّب‭ ‬وليام،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭ ‬عادية‭ ‬مألوفة‭ ‬لما‭ ‬استطاع‭ ‬وليام‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الجزر‭ ‬البريطانية؛‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬وليام‭ ‬هو‭ ‬العدو‭ ‬الوحيد‭ ‬لهارولد،‭ ‬لعرف‭ ‬هارولد‭ ‬كيف‭ ‬يتّقي‭ ‬شره‭ ‬بسهولة‭.‬

لكن‭ ‬هارولد‭ ‬كان‭ ‬له‭ - ‬لسوء‭ ‬حظه‭ - ‬عدوان‭ ‬آخران،‭ ‬أحدهما‭ ‬كان‭ ‬أخاه،‭ ‬والآخر‭ ‬ملك‭ ‬النرويج‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يستعيد‭ ‬ضم‭ ‬إنجلترا‭ ‬إلى‭ ‬إسكنديناوه،‭ ‬واضطر‭ ‬هارولد‭ ‬إلى‭ ‬ترك‭ ‬مراقبة‭ ‬الشاطئ‭ ‬الجنوبي‭ ‬والإسراع‭ ‬للقائه،‭ ‬وقد‭ ‬تغلّب‭ ‬عليه،‭ ‬وانتهز‭ ‬وليام‭ ‬الفرصة‭ ‬للنزول‭ ‬بإنجلترا،‭ ‬وأقبل‭ ‬هارولد‭ ‬في‭ ‬جموعه‭ ‬للقائه،‭ ‬وكانت‭ ‬جنوده‭ ‬قد‭ ‬نال‭ ‬منها‭ ‬الإعياء،‭ ‬فخسر‭ ‬المعركة،‭ ‬ولو‭ ‬أنه‭ ‬تمهّل‭ ‬وانتظر‭ ‬لاستطاع‭ ‬أسطوله‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬اتصال‭ ‬جيش‭ ‬وليام‭ ‬بقواعده‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية‭ ‬ويحرمه‭ ‬من‭ ‬موارده،‭ ‬ويمهّد‭ ‬بذلك‭ ‬السبيل‭ ‬لهزيمته‭ ‬وسحقه‭. ‬

وقد‭ ‬أراد‭ ‬هيرنشو‭ ‬بذلك‭ ‬أن‭ ‬يوضح‭ ‬أن‭ ‬انتصار‭ ‬وليام‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬المصادفات‭ ‬الصالحة،‭ ‬وهذا‭ ‬الانتصار‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬المصادفة‭ ‬أثّر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬إنجلترا‭ ‬تأثيرًا‭ ‬بعيد‭ ‬المدى‭. ‬

والواقع‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬منطقيًّا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬للقوانين‭ ‬الطبيعية‭ ‬والبواعث‭ ‬الاقتصادية‭ ‬أثرها‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬فإن‭ ‬للمصادفات‭ ‬والنزوات‭ ‬والصغائر‭ ‬والسخافات‭ ‬كذلك‭ ‬مكانها‭ ‬الملحوظ‭ ‬وآثارها‭ ‬الباقية‭ .