الروائي المصري محمد العشري: ألهو بالكتابة كي أنجو من فخ الواقع
الكاتبُ والروائي المصري محمّد العشري عنوان الإخلاص للكتابة، المعادل المــوضــــوعـــي للـــــحياة! وإبداعه الروائي والقصصي صورة واقع يراهُ تحت ميكروسكوب الكلمات فخًّا، ووفق ترمومتر الروح الظامئة هو واقع بعدَ الخيال، ووسيلته الأرقى والأعظم لمراوغة الواقع، ومقاومتهُ، والسخرية من مفارقاته بكل إيقاعها الغرائبي هي الكلمات - الكتابة جمر جسدٍ متشظٍ، يلهو بها، وهي «لعبة» برأي بورخيس الذي سبقهُ إلى كيميائها... وكل حرف في أبجديتها متنفس، وخلاص، وحرية!
أول ألعاب الكتابة لدى العشري الرواية - الكيمياء الإلهية بتعبير ميلان كونديرا، وهي الملاذ لهُ، بكل ما تمتلك من سلطة
احتواء شتى الفنون، وهي ضالته لأنها حياة مكتملة!
والعشري والصحراء حكاية، أيقــــونة حكاياته الممتعة بلذة جوهر الجمال في نصّه، لا يخفي علينا أمومتهــا، وهـــي ترضعه حليب وعسل الصبر على الكتابة/ الحياة، والواقع/ الفخ... وهو يرى الروايــــة عالمًا متكــــاملًا، بل هـــي (سؤال العالم بكليته) - كما يقول هرمن بروخ.
والرواية مغامرة، ليست تسلية، وهي برؤاه: (دأب، وخيال، وبحث، وتنقيب، وتقصٍ)، يضاف إلى كلّ ذلك المخزون المعرفي والتاريخي والحياتي... وهو بهذا يستهجن - بأسلوبه المهذب - الكتابات السريعة التي لا يصلح أن يكتب على أغلفتها البراقة غير «ثرثرة»...! وروايته «تفاحة الصحراء» أيقونة التعب والمغامرة، وعنوان السرد المتقن والكتابة الجادة والهادفة... ولدى هذا الكاتب الكبير التأملي الحالم الكثير مما يقول في إيقاع حميميّ خلاصة عطر روحه ووجدانه.
صدر للعشري من الروايات؛ غادة الأساطير الحالمة: (القاهرة - 1999) و(بيروت - 2009)، ونبع الذهب (القاهرة - 2000)، وتفاحة الصحراء: (القاهرة - 2001) و(بيروت - 2007)، وهالة النور: (القاهرة - 2002) و(بيروت - 2012)، وخيال ساخن: (القاهرة والجزائر 2008)، كما كتب قصصًا للأطفال، وحصل على عديد الجوائز الإبداعية والأدبية.
-إذا أردتَ أنْ تقدمَ نفسَكَ إبداعيًا، بلغةٍ مقتصدة مكثّفة، كيف يُمكن أن ترسمَ «بورتريهًا» سهلَ القراءة للروائي والمبدع الكبير محمّد العشري؟
- رسم صورة للذات مهمة صعبة، لكن يمكن التعرف إلى بعض الملامح من خلال الكتابة. أنا ألهو بالكتابة، لأتسلى، وأنجو بروحي من فخ الواقع الأليم، الذي نحياهُ الآن في بلادنا المشتعلة بلا مبرر أو منطق. أومنُ بأن التفكير العلمي مهم جدًا، حتى بالنسبة إلى كتابة الأدب، كما أومنُ بأن الحياة روايات تكتبنا على هواها، لذلك عشقت كتابة الرواية، وصارت الكتابة الروائية مشروعي، وهدفي.
الرواية حياة مكتملة
-قارئ سيرتك الإبداعية، سيُذهلُ أمام هذا الكمّ من الروايات المثيرة.. هل الروايــــة حياة، كما يقولُ البعض أمْ أنّها موسيقى كونية، كما يرى ميلان كونديرا، أمْ ماذا؟ ولماذا الرواية معشوقة العشري الأسمى دونَ غيرها من فنون الإبداع؟
- ميزة الرواية أنها أتون مشتعل، يصهر كل الفنون في داخله، ويعيد إنتاجها بشكل روائي. لقد بدأت بكتابة الشعر، والقصة القصيرة، والنثر، وانتهيت إلى الرواية، التي وجدت فيها ملاذي، لترجمة انفعالاتي، ورؤيتي للحياة والكون.
ببساطة يمكن اعتبار الرواية حيوات مكتملة، يعيشها الإنسان، دون أن يحتاج إلى عمر إضافي.
الرواية تفوز بمنجزها وكونِها الشعريّ
-يقولُ جان سكاسيل في إحدى مقطوعاتهِ الشعرية الجميلة:
«لا يخترعً الشعراءُ القصائدَ،
فالقصيدة موجودة في مكانٍ ما، هناك!
منذ زمن ٍ طويل ٍ جدًّا، هيَ هناك!
ولا يفعلُ الشاعرُ شيئًا سوى أنْ يكشفَ عنها»!
قلْ لي: هلْ الرواية كذلك، أمْ أنها مخزونٌ تراكمي، ما الذي يجمعُ بينَ الشعر والرواية، وما مدى التأثير، وهل تفوزُ الرواية بكونها الشعري، أمْ ماذا؟
- لا، الرواية ليست كذلك، لأنها تحتاج إلى دأب، وخيال، وبحث، وتنقيب، وتقصٍّ، تحتاج إلى أن تبني الهيكل الإنساني، وأن تكسوه لحمًا، في انتظار أن تحييه الروح.
وبالتأكيد كل ذلك يحتاج إلى مخزون معرفي، وتجارب حياتية بشكل ما، يمكن الاتكاء عليها في البدء، ثم التحامها بالخيال للتحليق إلى آفاق أوسع.
الشعر ومضة، يمكن الإمساك بها، واقتناصها، وكتابتها في وقت زمني قصير، مقارنة بما تحتاج إليه الرواية من زمن ممتد، حتى تدب فيها الروح. نعم، تفوز الرواية بمنجزها وكونها الشعري، بما يمكن أن تحققه على مستويات كثيرة، منها الشعري، والنثري، والفني، وكل الفـــنون الأخرى.
ألم تلاحظ أخيرًا هجرة الشعراء إلى كتابة الرواية؟ ولم نلحظ هجرة روائي واحد إلى الشِّعر. ربما يكون لديهم دوافعهم غير المعلنة، مثل تعاظم الاهتمام بالرواية، إعلاميًا، وماديًا، وتجاهل الشعر، لكن في النهاية ينعكس ذلك ويرسخ لمنجز الرواية.
-يُؤكدُ تولستوي في مجمل أعمالهِ الروائية أخلاقية الرواية، وقد تجاوزتْ الرواية الحديثة، الأمريكية اللاتينية والأوربية والعربية المكتوبة في شمال إفريقيا على وجه الخصوص، ذلك بكثير، وأنتَ سيّد العارفين، قلْ لي: هلْ يشكلّ الثالوث المحرّم (الجنس، الدين، السُّلطة) إضافة كبيرة للرواية، أمْ التكنيك هو الأهم، كما يقول صنع الله إبراهيم؟
- في رأيي أن الغرض أو الغاية في تناول ذلك الثالوث هو الأهم، وإلا تصبح كتابة فجّة، رخيصة، لا نفع فيها. ليست ضد تناول المحرمات والمسكوت عنه في الكتابة، ولكن لابد أن يأتي ذلك بشكل فني، يشكّل امتدادًا طبيعيًا في داخل السرد، كما هي في الحياة بشكل عام.
الرواية الأخلاقية بمفهوم تولستوي، فعلًا كما ذكرت أنت، تم تجاوزها، لكن يبقى الإنسان هو الإنسان في كل عصر وزمان، التغييرات التي يعيشها، هي التي تصنع أولوياته، لذلك على الرواية أن تلاحق ذلك، وأن تتماشى مع العصر، ومنجزه العلمي، وأن تعيد إنتاج تاريخه وفق ما يتوافر من معلومات ومعطيات جديدة.
واقع يتجاوزَ الخيال
-كتبَ أندريه مالرو في «الإنسان العابر والأدب» يقول: (صارَ أحد طموحات الرواية هو الإمساك بالخبرة الإنسانية من خلال الخيال)، أي تأمّل يقودك إليه هذا القول الموضوعي الجميل؟ أهو خيال/ الواقع، أمْ الواقع/ الخيال؟ أهو شرط أن يُبنى السرد على خيالٍ منتج؟ ماذا ترى؟
- علينا أن نعـــــترف أولًا بأن الواقع قد تجاوز الخيال بمراحل، وأصبح على الخيال أن يسعى إلى اللحاق به، أو أن يتعاظم بمقدرات خيالية أكبر، حتى تكــــــون هناك روافد تنهل منها الرواية الخيالية في الكتابة، أن مع الاتكاء على الواقع في بناء أول شذرات السرد، ثم إطلاق عنان الخيــــال لها، وتركـــــها لتأخذك إلى مداراتها الكونية الخيــــالية والواسعة، مع الحفاظ على روح السرد، حتى لا تصبح كـــــتابة في المطــــلق، وبعيدة عما بدأت به.
كتابة الرواية كرحلة في النيل
-منذ روايتك الأولى «غادة الأساطير» (1999) بطبعتيها المصرية واللبنانية، ومرورًا بـ «نبع الذهب» (2000)، و«تفاحة الصحراء» (2001)، و«هالة النور» (2012)، وحتّى «خيال ساخن» (2013)، قلْ لي: أيّ مغامرة ورحلة شاقة/ عذبة هذهِ؟ ماذا أخذت منك؟ وماذا أعطتك؟
- لم أتأمل ذلك من قبل، لكن يمكن تأمله الآن معك في هذا الحوار. يبدو الأمر أشبه برحلة في نهر النيل، وعلى فترات أركن القارب إلى الشاطئ، وأنزل أتجول في أرض، أو غابة، أو صحراء، لرواية من الروايات، أعيش في تفاصيلها بكل زخمها، مغامراتها، ألهو كثيرًا، وأستمتع أكثر، ثم أعود إلى القارب وأكتب تلك الرواية، وبعدها أنطلق إلى محطة أخرى، ورواية جديدة.
وأحاول في كل مرة أن أتفادى الأخطاء التي ارتكبتها فيما قبلها. سأسرد لك تجربتي مع روايتي «تفاحة الصحراء»، التي دفعتني إلى المشي في حقل ألغام من مخلفات الحرب العالمية الثانية في منطقة العَلَمين، بالصحراء الغربية المصرية، ومع كل خطوة كنت أتحسس نفسي، وأنا متأهب لانفجار لغم، قد يحدث في أي لحظة، وجعلتني أقرأ كثيرًا في أحداث وخلفية الحرب العالمية، وتفاصيلها، قبل أن أبدأ في كتابتها.
ربما أعطتني شجاعة أن أعرّي نفسي، وأن أقرأها دون مواربة أو خجل، وأن أخلص إلى أن الإنسان في رحلة بحثه الطويلة في الحياة يحاول أن يمسك بأطراف روحه وأن يتعرف إليها، رغم أنه يعيش معها وبها، لكنه في حاجة دائمة إلى أن يتعرف إليها من جديد.
الكتابة للطفل تجربة ممتعة
-دخلتَ عالمَ الكتابة للطفل في «الحذاء الطائر» (بيروت 2013)، كيف رأيت الكتابة للأطفال كلون أدبي؟ وكيف تفسّر قلّة مَن يكتبون فيه، ويخوضون هذهِ التجربة التي لا تخلو من مسؤولية كبيرة؟ أهم عاشوا الطفولة المفقودة أوْ المغيبة التي عاشها عبقريّ الرواية نجيب محفوظ، أمْ لكيمياء الكتابة للطفل شروطها العسيرة التي يصعب توافرها في بعض المبدعين؟
- تجربتي مع الكتابة للطفل، وجدتها ممتعة للغاية، وذلك ما دفعني إلى الكتابة فيها مجددًا، وفي انتظار نشر عمل جديد، سيصدر أيضًا في بيروت قريبًا، لا أخفي عليك، رغم متعتها، ورغم أنها تبدو سهلة، لكنها كتابة السهل الممتنع، خاصة إذا حاولت أن تقدمَ شيئًا لطفل يعيش الحياة العصرية بكل منجزها في مجال الاتصالات والتكنولوجيا والمعلومات.
الأمر محفوف بالمخاطر، لكنها تجربة ممتعة أن تعيش في خيال طفل، وأن تكتب له، قصة تحفزه للقراءة، وتجعله متمسكًا بها. أعتقد أن الكتابة للطفل تحتاج إلى قدر كبير من المعلومات والاطلاع، والقدرة على التبسيط، لكي تستطيع أن تكتب له قصة تسليه، وتثقفه، وتساهم في بناء شخصيته.
جيش من النقّاد
-توّجتْ أعمالك الروائية بمقالاتٍ مهمةٍ، ولنقاد مصريين وعرب مهمين أيضًا، كيف ترى ما يُكتبُ اليوم من نقد؟ وهل لدينا حركة نقدية جادة؟ لمَن تشير بأصابعك للناقد الأمثل والأهم في ثقافتنا؟
- حجم وكم الإبداع والكتابة المطروحين الآن، يحتاج إلى جيش من النقاد لفرزه، ووضع الكتابة الإبداعية الحقيقية في مكانها الصحيح، أيضًا نحن في حاجة إلى نقاد شباب، من الجيل نفسه، يستوعب قفزات الحياة، والتكنولوجيا، ومعطيات الحياة الحديثة، حتى تصبح الرؤية النقدية أكثر التحامًا بالإبداع.
هناك أسماء كثيرة يمكن الإشارة إليها ممن يتابعون ويكتبون بشكل حيوي، وكذلك تروق لي تجربة مختبرات السرديات، وهناك مبدعون يتابعون ويرصدون الإبداع بشكل دؤوب، وعلى مستوى البلاد العربية الأسماء كثيرة يصعب حصرها هنا.
الصحافة الثقافية ضحية
-كيفَ يرى الروائي محمد العشري صحافتنا الثقافية؟ أهي بمستوى ما تنتجُ المؤسسات الثقافية ودور النشر من إبداع؟ ولماذا هي متهــــمة دائمًا بأنها صحافة علاقـــات نفعية، ومجامــــلات، وترميــــم أسماء معيّنة؟ ماذا تقتــــرح لصحافةٍ ثقافية مواكبة للإبداع المثير والجاد؟
- مع الأسف، على قلة وغياب المجلات والنوافذ الثقافية بما يوازي حجم الإبداع المطروح، نجد الصحافة الثقافية هي آخر ما يفكر فيه، رؤساء تحرير الصحف، وكلما احتاجوا إلى مساحة لإعلان ما، تكون الصفحة الثقافية هي الضحية، لا أنكر أن هناك صحفيين حقيقيين ينتصرون للإبداع الجيد، إلا أن الصحافة النفعية هي السائدة، تعلي من شأن الشللية والمجاملات، خاصة في كثير من الصفحات التي يشرف عليها كتّاب أو شعراء. ربما تبدو الانتهازية سمة العصر الثقافي الذي نعيشه، ولا أعفي نفسي أو الكتّاب الآخرين من ذلك، لأن ذلك أصابنا جميعًا، ولأن الثقافة في ذيل اهتمام أي مسؤول عربي، وربما حياة المواطن نفسها لا تعنيه بقدر ما يعنيه الحفاظ على السلطة ومكتسباتها.
الإصلاح يحتاج إلى منهج إصلاحي شامل، في التربية والتعليم والسياسة والثقافة، ربما يحدث ذلك حين يصبح الإنسان وكرامته هما مركز اهتمام المسؤول العربي. أعتقد أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل، خاصة بعد وأد الثورات التي خرجت تطالب بالحرية والمساواة والعدل والكرامة.
-بعدَ روايتك «خيال ساخن»... ماذا ينضج تحت أصابعك؟ وماذا ينتظر القارئ منك في الأيّام القادمة؟
- هناك رواية جديدة ستصدر قريبًا في بيروت، عنوانها «ماء إله منسي»، وكذلك قصة للأطفال بعنــــوان «كنتمـــاني... البركان الخامد».
عشت سنواتي الحالية، منذ عام 2013 في جنوب شرق آسيا، وتلك التجربة الحياتية أضافت لي الكثير، وفتحت لي نوافذ أوسع لرؤية أكثر شمولية، خاصة أنها بلاد يتوغل في تاريخها وتراثها الأساطير، لكنها لم تستسلم لها أو تعيش في تاريخها القديم، بل استطاعت أن تقفز إلى واجهة العصر، بالتعليم الجيد الحديث وبناء الإنسان، والاستفادة من التكنولوجيا، في بناء مجتمعات سليمة، تحافظ على الإنسان وحقوقه. وأعتقد أنها ستظهر حتمًا في كتاباتي ورواياتي القادمة .